الموت سيرة متخمة ..!
في روايته " انقطاعات الموت " عن دار مسكلياني للنشر ، ترجمة " صالح علماني " يذهب السارد العظيم " ساراماغو " إلى حبس الموت في قمقم و إحكام السدادة عليه ؛ كي يكون حبيسا لفترة من الزمن لا يعرف تقديرها سوى السارد نفسه ..
هذا الموت الذي يكون موتا حياًّ ، متكلماً ، يعرف ما يفعله ، يعي بدوره تمام الوعي و فوق هذا ساخر بالوجود و أهله ، كاشف عن أكثر أقنعتهم زيفاً ..!
هذا الموت الذي يستقر في بلدة صغيرة يغدو راوياً ، مراوغاً ، يرى أهل تلك البلدة تتقلب مشاعرهم ما بين رغبة الخلود وما بين الشعور بعبء الآخرين الذين كبروا حتى ما عادوا يرغبون في الحياة ، أولئك العاجزين ، أولئك المرضى ، أولئك الذين تعبوا الحياة وجلّ رغبتهم تكمن في قبر ضئيل حتى قيامة الأحياء ..
الموت الذي تحبه وتبغضه في آن ، تقع في حبه ؛ لأنه عزم على أن يحررك من ثقل انتظاره ، وتبغضه لأنه في الوقت نفسه يبقي على أحياء أموات ، أحياء كان يجب أن يلفظوا أنفاسهم من مئات السنين ، أحياء أموات لا شيء فيهم صالح للنبض سوى قلوبهم العليلة بوجع العمر الثقيل ..!
ولأن الموت هو الراوي والحاكم و المتفرج ، لأنه قاضي كل الجماهير في تلك البلدة الغريبة التي اختارها الموت لاختبار قدراته ، فإنه يبدل خططه ويعتمد على ارسال بطاقات بنفسجية ، تغدو كنذير مسبق لصاحبها على أن يعد نفسه للرحيل الأبدي إلى قبره ، يمنحه سبعة أيام فحسب ؛ كي يعّد نفسه كميت بعد تلك المهلة القصيرة ، كي يودع أهله ، كي يسدد دينه ، كي يتخلى أو يستغني أو يعرض للبيع كل ما عاد يحتاجه كميت بعد أيام قليلة ..
لقد عاد الموت بطريقته إلى تلك البلدة بعد عبء الخلود المخيف في كل روح اعتقدت أنها خالدة أبدا ، لقد جاء بعد أن أصبح في مصاف الأمنية ، عاد بعد أن شاخت الأرواح المتعبة وأرهقها عبء الوجود ..
بعد قراءة الرواية تجد نفسك في عالم أشد الأمور حدوثا فيه هو " الموت " تلتفت من حولك ، تلتفت كبوم يدير رأسه كاملا جهات العالم ، إلى الشمال و الجنوب ، إلى الشرق و الغرب ، فلا تجد سوى الموت الأكثر حضورا و تأثيرا ..
الموت الذي يغدو العدو الأكبر لبشر يحلمون بالخلود ، بالشباب الدائم ، بأحلام كبيرة ، بثروات هائلة ، بأبناء وخدم وحشم ، كل هذه الأمور تتلاشى في غمضة عين إذا جاء الموت وسجل حضوره بينهم ..!
ربما أكثر الذين يهابون الموت هم من يعتقدون أنهم يملكون الحياة ، هم الذين امتلكوا كل شيء في هذه الحياة ، وحين يأتيهم الموت يُبهتون على كل الثروات التي سيخلفونها وراءهم ، يموتون مرتين بل مئات المرات لأن كل ما امتلكوه لا يمكنهم حملها معهم إلى حيز ضئيل في أرض جرداء تحوي عظامهم ، يموتون فزعين ، مرتعبين ، مكبوتين لأن الوجود خرج عن طوعهم وقطع صلته بهم ، هم الأشباح الأموات ..
الموت إنه الفعل الغامض الذي لم يستطيعوا يوما قهره ، لأنهم يدركون أنه وحده القادر على قبض أرواحهم ، أنه وحده الذي لا يقبل بالرشاوي ، ولا يطمع بالكنوز ، ولا يتباهى بامتلاك الأشياء ، لأنه وحده يخلص الآخرين من ممتلكاتهم ، وحده يفصلهم عن أشيائهم ، وحده قادر وقدير حين يأتيه النداء من أعلى السماوات السبع من المولى – عزوجل – الذي يقبض الأرواح و يحييها في الوقت نفسه في كلمتين سحريتين غاية في الرهبة والرغبة " كن فيكون " ..
الموت نفسه تختلف النظرة إليه ، تتفاوت الرهبة نحوه ، تلين إليه القلوب ، تتوقه العقول ، حين تكون في مواجهة كائن معدم ، الذي ولد وهو لا يملك سوى اسمه وجوارحه ، الذي ولد واضطر لتأجير جسده لأعمال شاقة ، تسحقه وتسحق روحه حتى حين يأتي الموت يجد راحته في حضورها البهيّ ..!
الموت الذي يأتي غزيرا ، متوحشا ، هجوميا ، مسلحًّا في كل من سوريا والعراق والصومال و اليمن و الأفغانستان و ميانمار ، و القائمة العربية الاسلامية تطول ، الموت في هذه الدول لا يأتي سوى محملا بقذائف و رشاشات حديثة الصنع و تصيب غايتها بدقة ، من ميزاتها أنها تقبض الأرواح بشكل جماعي ، موت كامل الدسم ، يتجشأ بعد كل وليمة دم ..!
الموت نفسه سيأتي ، وسيدرك بأننا ميتون ، ميتون ، في أدنى درجات الموت - موتى متفرجون - ميتون ويحكمنا الموتى ، الموتى الخائبون ..!
ليلى البلوشي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق