سمّي صاحب المعطف " غوغول " ..
أشار " ساراماغو " في روايته " كل الأسماء " إلى خصوصية اسم الإنسان قائلا : " أنت تعرف الاسم الذي أطلقوه عليك ، ولكنك لا تعرف الاسم الذي هو لك " ..
الاسم يشكل هوية الإنسان وهي هوية شخصية في طابعها لكنها غير حرة ؛ فالطفل حين يولد لا يختار اسمه ، وتبقى تلك الهوية حبيس صاحبها إلى أن يشب عوده فيمكنه حينئذ تبديل اسمه وتتبدل ربما أقداره مع الاسم المنتقى بعناية ، فالمثل العربي يقول : " لكل امرئ من اسمه نصيب " ، ها نحن أمام شخصية روائية يدعى بطلها " غوغول " عزم أن يغير اسمه الذي اختاره والده له ، فهل سيغير الاسم الجديد أقداره ..؟
" غوغول " بطل الروائية الأمريكية من أصل هندي " جومبا لاهيري " في روايتها البديعة " السمّي " .. الشاب البنغالي الذي ولد في أمريكا ، فترعرع وهو حامل جنسيتها ، وثقافتها ، ومثلها ، وأحلامه التي نكهت بنكهة أمريكية كما لو أنه مواطن من مواطنيها ، غير أن اسمه قلّب كل الموازين و حرفّها عن أصولها المتوارثة منذ ولادته بل بتقدير أدق قبل ولادته بأعوام طويلة ، مذ كان والده " أشوك " مراهقا في كلكتا ، محبا للكتب ، الكتب التي كانت ترافقه في كل مكان كظله ، حتى أن والدته اعتقدت أن نهاية ابنها ستكون وراءها هذه الكتب ، التي ما إن يقبض على صفحاتها وينكس رأسه في مكامن سطورها حتى يضيع في عالمها مهما كان وضعه مقعدا أو ماشيا ، كانت تخشى أن يتعّثر فيقع في حفرة أو تدهسه عربة قادمة ، لكن تنبؤها حدث على نحو غريب ، حين بعث " أشوك " إلى جده الذي يعيش في مكان يحتاج إلى ركوب قطار ، ذاك القطار هو مبعث تسمية " أشوك " ابنه بـــ" غوغول " ، القطار الذي انقلب وسط عتمة الليل ويد والده تبرز من النافذة ، صفحة مجعدة تتدلى من كتاب " غوغول " الكاتب الروسي الشهير الذي كان " أشوك " مغرما بكل حرف يكتبه لا سيما قصته " المعطف " ، تلك الصفحة هي التي لفتت انتباه لجان البحث عن الناجين بين ركام القطار ، هي التي انتشلته من تحت الأنقاض جسدا هزيلا كان على وشك مفارقة الحياة ؛ لذا حين ولد ابن " أشوك " و زوجته " أشيما " في إحدى مشافي أمريكا حيث كانا يترقبان رسالة جدتهما في كلكتا لتسمية الحفيد الجديد في العائلة الهندية وفق أصولها حتى و إن قدما أمريكا ويعيشا فيها ، كانا يعتقدان أن الوقت أمامهما مديد حتى تصل رسالة الجدة ، ولكن القوانين الصحة الأمريكية وضعتهما أمام الأمر الواقع لتسمية طفلهما قبل مغادرة المشفى ، في عمق الصدمة اختار " أشوك " اسم كاتبه المفضل " غوغول " نابع من شعوره السامي بأنه أنقذه كاسم مؤقت يطلقه على ابنه حتى موعد رسالة الجدة ، ولكن تبين بعد شهور أن الجدة على أعتاب الزهايمر وذهنها مشوش وفقدت رسالتها في فوضى المرض ، ظل كل من " أشيما " و أشوك " يطلقان على ابنهما اسم " غوغول " وكانا قد عزما أن يكون اسم دلع على أن يختارا اسما آخر كما هي عادة كل الهنود في الهند حين يدخل المدرسة ، ولكن الطفل " غوغول " في أول يوم دراسي له يرفض تماما الاسم الآخر " نيكيل " ، حتى أن مديرة المدرسة وجدت غرابة في الأمر ، ودعمت " غوغول " ؛ كي يحتفظ باسمه على كل سجلات المدرسة رغم معارضة الوالدين ..
" غوغول " الطفل الذي يكبر ليُعرف بـــــ" نيكيل " بناءً على رغبته بعد أن يتخلص من الاسم الغامض الذي التصق به وكان يبعث له الحرج طوال مرحلة طفولته ..
سرد آسر وأحداث ممتدة بصبر و أناة وتشويق في 467 صفحة تسحب الروائية " جومبا لاهيري " قراءها إلى عالم " غوغول " منذ اليوم الأول لولادته حتى يبلغ الثانية والثلاثين ، " غوغول " الذي تحيك تفاصيل حياته بدقة وبراعة فائقة دون رتابة ، دون أن يختل ذلك بحبكتها الروائية التي جاءت غاية في الإتقان ، دون أن يشعر القارئ بترهل الأحداث ، بل يجد نفسه في داخل فيلم بوليوودي بنكهة هوليوودية بإمتياز مع اهتمام دقيق بنفسيات الشخصيات وأنماط تفكيرهم ، فأحداث الرواية تصوّر حياة المهاجرين البنغال في أمريكا ، وسبل عيشهم ، وطريقة تعاطيهم مع الأشخاص الذين من أصولهم ، هنود تركوا وراءهم وطنا مزدحما بأشخاص يحبونهم إلى وطن غريب ، عابر ، لا يمت لهم بصلة ، وطن وجدوا أنفسهم فيه منعزلين ، وهي عزلة فرضها البنغال من جيل الآباء على أنفسهم ، الذين كانت أجسادهم وحدها تسعى للعمل فحسب وكسب الرزق ومطاردة الطموح ، أما قلوبهم فقد كانت معلقة في الهند ، على نقيض جيل الأبناء من " غوغول " و أخته " سونيا " و " موشومي " طليقة " غوغول " وحتى رفاقهم من البنغال كانوا مرتبطين بأرض أمريكا حتى النخاع ، لم يشعروا يوما بالغربة التي شعر بها جيل آبائهم ، بل كانت رحلاتهم إلى كلكتا حيث أجدادهم و عائلات آبائهم تفيض بالمرارة مع شعور بالملل يتفاقم متجسدا بحضورهم بينهم و الذي كان يتلاشى بمجرد ما تحلق بهم الطائرة إلى أرض التي ولدوا عليها ، هذه الأرض الغريبة التي طبعت بها طباعهم إلى حد النظرة اللامبالية لكل الأعراف والتقاليد التي ورثها آباؤهم عن أجدادهم في الهند ، فتأثير الأمركة فاض في دمائهم ..
467 صفحة من المتعة الكاملة يخوضها القارئ و يتنفّس انفعالاتها مع الروائية بحجم " جومبا لاهيري " التي سبق وترجم لها مشروع كلمة للترجمة مجموعتها القصصية " ترجمان الأوجاع " ترجمة " مروة هاشم " ناقشت أوضاع الهنود في الدول الغربية ..
هذه الثيمة التي تشغل بكل أبعادها وجذورها المترامية قلب الكاتبة ولبّها كأنها تسرد سيرتها هي وحدها وحنينها الفائض ككاتبة أمريكية من أصول هندية مستقرة في نيويورك حيث أقام بطل شخصيتها الروائية " غوغول " ، المجموعة القصصية التي حازت على جوائز مهمة وأجمع النقاد على أهمية فكر كاتبتها ، مازلت أتذكر النصيحة التي دونتها الناقدة آمي تان " على ظهر غلافها الخلفي " جومبا لاهيري من نوع من الكتاب الذين يجعلونك ترغب في أن تمسك بأول شخص تراه وتحثه على قراءة هذا الكتاب " ..
العبارة نفسها استعيرها بقوة ، ليسبر القارئ روايتها الملهمة بالتفاصيل الهندية في أرض الأحلام أمريكا " السمّي " في ترجمة أنيقة للدكتورة " سُرى خريس " ..
ليلى البلوشي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق