الثلاثاء، 29 ديسمبر 2009

الأدب السوداني .. نضجته الشمس وغافلته الريح




الأدب السوداني
نضجته الشمس وغافلته الريح ..

اعترف بأنني كنت أطلّ على الأدب السوداني من نافذة ضيقة ، لم يتجاوز ذوقي في عبوره سوى على أعمال الطيب صالح ، وحين انتهيت من قراءة كل أعماله ، وذلك مذ سنوات اعتقدت وكم كنت قاصرة المدى باعتقادي ذاك أن الأدب السوداني انتهى عند الطيب صالح ..
وحين استوقف عبوري على حين صدفة قصة بعنوان : " ود أمونه متبلا " وذلك من فترة قريبة لكاتب سوداني كان مجهولا بالنسبة لي يدعى " عبدالعزيز بركة ساكن " ..
فإذا بود أمونه يقودني إلى " امرأة من كمبو كديس " والتي بدورها أحالتني إلى " فيزياء اللون " ثم إلى " دراما الأسير " ، فإذا بكل قصة تقودني إلى أخرى ، حتى وجدت أمامي غنيمة كبيرة للكاتب وهي رواية " الطواحين " تلك الرواية المدهشة التي طبخت على نار هادئة ..

" عبدالعزيز بركة ساكن " هذا الذي حين تتأمل صورته ، لا يمكن أن تسقط عن ذاكرتك ابتسامته المضيئة وهي متواطئة بطريقة مدهشة مع حكاياته ، فلا تكاد تغوص في عوالمه القصصية حتى تستشعر بالابتسامة ذاتها تضيء عقلك بلذة لا تضاهى على حين غرة .. هو صاحب قصص وروايات عدة ، و روايته " الجنقو _ مسامير الأرض " حازت مؤخرا على جائزة الطيب صالح الروائية في دورته الأخيرة ..

الصفة الاستثنائية التي يتمتع بها الأدب السوداني هي أنها متوالدة ، فما تكاد تفرغ من نص ما ، حتى تغوص في لهاث مستحكم لمتابعة نصوص أخرى للكاتب عينه ، ولا يهدأ اللهاث عند نقطة معينة بل يتجاوزها حين تتكشف حواراته عن أسماء أخرى في جغرافية البلد نفسه ، وكانت ذاكرة قارئها فقيرة حيال معرفتها ..
هذا القاص والروائي قادني بلذة الحكايات التي عجنها إلى تفتيش وتمحيص في ردهاته ، فإذا بي أرى أن النافذة التي كنت أطل عليها على الأدب السوداني ضيقة جدا ، لأن قصة عبدالعزيز بركة ساكن لم تكتف بكوة النافذة الضيقة ، بل شرعت أمامي أبوابا عديدة ، قصصا وروايات وأسماء شامخة في تاريخ الأدب السوداني ..
وتلاحظ أن نرجسية الأنا تخبو خلف ظل لا نكاد نتحسسه من خفوته ، فعلى سبيل المثال هذا الحوار الذي أجري للكاتب عبدالعزيز بركة ساكن ، يعدد فيها أسماء كتاب من المعين السوداني بطريقة تلقي الضوء على تجاربهم ، ويستقبلها القارئ كفلاشات وامضة : ( وتعلمت من النصوص السودانية، عمق عيسى الحلو في ذات الإنسانية، عذوبة سرد الطيب صالح، سحرية إبراهيم اسحق وجنون بشرى الفاضل ..وحاولت فوق كل ذلك أن احدد بصمتي الخاصة .. )
وحين سئل عن موقفه من المنجز الإبداعي السوداني استرسل قائلا :
( إذا تجاوزنا جيل الرواد في فترة الثمانينيات والتسعينيات ، فالرواية تتأرجح ما بين الضعف الفني والمغامرة ، فما بين الجدة والأصالة (أعني بالأصالة العمق) فهناك أسماء مثل : منصور الصويم وابكر أدم إسماعيل ، وحمد المك والحسن البكري ومحسن خالد .. هؤلاء استطاعوا أن يحفروا أنهراً كثيرة وان يشيدوا أعمالاً جميلة ..) .

والصفة الاستثنائية الأخرى هي إلمام الكاتب بنتاج بيئته المحلية ، فتجده متابعا له بشكل مكثف يكاد يكون أشبه بالإخطبوط ، وهي صفة لمستها عند معظم الكتاب السودانيين ، فيقول عبدالعزيز بركة ساكن عن كتاب أضافوا الجديد إلى صفحات الأدب السوداني : ( مغامرة أبكر آدم إسماعيل في استخدام الحوار الدارجي ، وتوظيفه بصورة جميلة ، وعالم أحمد المك الذي يشبه حكايات وأحاجي الحبوبات ، منصور الصويم أستطاع أن يكتب رواية مغايرة في موضوعها ، ومحمد خير عبد الله الذي كتب روايات يتولى البطولة فيها (المكان) وهي روايات ساخرة ، وهو نوع جديد في كتابة الرواية السودانية ، والحسن البكري له مساهمة جيدة في استلهام التاريخ في روايته " سمر الفتنة " .. ) ..
وسئل مرة الأديب " بشرى الفاضل " عن متابعته لما ينشر فاعترف قائلا : ( أنا متابع لما ينشر، وفي حقيبتي كتاب المبدعة الكاتبة استيلا من الجنوب، وكتاب آخرين التقيتهم هنا وفي مدني، وبعض كتابات أرسلت لي من قبل كاتبيها، ومتابع لما ينشر في الصحف، هنالك بالتأكيد كتاب لديهم مجوعات قصصية مدهشة بالنسبة لي، فمن الأنماط القصصية التي توقفت عندها، أن يكتب كاتب ما عن موته الشخصي، وتأكيداً تملك الأجيال الجديد رؤية أكثر تشعباً كنتيجة طبيعية لتضخم عدد السكان الذي يدفع للإجادة أكثر، أنا أعرف كل الروائيين الشباب ولي صله بهم، منهم حسن البكري، أبكر آدم إسماعيل، وغيرهم ...) .
فمن خلال تلك الحوارات يستطيع القارئ أن يلتقط عدة أسماء سودانية مبدعة ، فبجانب تلك القامات الأدبية الرفيعة نضيف محمود مدني ، مختار عجوبة ، علي مك ، طارق طيب ، نصار الحاج ، مأمون التلب ، محمد خلف الله ، فضيلي جماع ، زينب علي ، نفيسة الشرقاوي ، بثينة خضر مكي ، رانيا المأمون ، ملكة فاضل عمر..... والقائمة تطول ..

وحين تقرأ لكاتب سوداني قصة قصيرة أو مقطعا من رواية ، لا يتضاءل وهجها مع الأيام ، بل ترى نفسك قارئا متلبسا بها ، وأروع ما يميز هذا الأدب تلك اللغة المتآمرة مع واقع يتشكل فيه روح البيئة بطريقة خلاقة ، وفي الوهلة الأولى تكاد تبصم بالعشر أن ما كتب هو قطعة نثرية خلابة عرف جيدا صاحبها كيف يدير أدواته ، فيتماهى العمل مع القارئ محدثا دبيبا ما في نفسه ذات أثر صاخب ..

كثير من إبداعات الكتاب السودانيين وصلت إلى أوروبا ، واتسعت أفئدة الترجمة لها ، ولكن الدول العربية مازلت لا تكاد تحيط إلا بالقلة القليلة من تلك الأعمال التي انتخبها ذوق ما ..
ولا أكاد أجزم أن يحظى أحد أدبائها بجائزة عالمية ، ونقف حينها مشدوهين تجاه الكاتب وإبداعه المجهولين عن الذاكرة العربية ، كما حصل مع الروائية " هيرتا مولر" التي حازت مؤخرا على جائزة نوبل ، فشدق العرب حين أدركوا تقصيرهم عن ترجمة مؤلفاتها التي التهمها الغبار مذ زمن غابر .. !

فهل السبب أن ذوق القارئ العربي في أقطار الوطن العربي دجن في مدى سنوات على أسماء بعينها ، وكأن الأدب وقف عند تلك الأسماء ولم يتجاوزها .. ؟!
هذا إذا أضفنا أن بعض النصوص المبدعة للأدباء تكون سجينة سقف بيئتها المحلية ولا تكاد تتجاوزها ؛ بسبب سياسة التوزيع المجحفة في حقها ، إلا حين يقتنصها ناقد فذ أو حين تلقى جائزة ما بظلالها على عمل ما ..
أم أن غياب مؤسسات متخصصة في السودان هي السبب ، وفي حوار أجري للقاص والروائي محسن خالد في عام 2005م ، يقول محسن خالد في حواره بجسارة يحترمها القارئ : ( بخصوص الساحة – النقدية- في السودان، هي بالتأكيد لن تفاجئ الساحة العالمية بابتكار مباغت ، ربما معنا من النقَّاد العدد القليل، وهذه ليست الآفة ولا المشكلة، الآفة هي أنّ هذا العدد على قِلِّه يناقش كتاباً واحداً دون ملل، "موسم الهجرة إلى الشمال" إن أحببت أن أُسمّيه لك. هم بالطبع سينتظرون نُقّاد الخارج حتى يتناولوا أسماء جديدة مثل : ( أبّكر إسماعيل) أو (بركة ساكن) أو (محسن خالد) ، ليأتوا هم بعد ذلك كالبكتريا التي تعقب الطاعِم ، فلا يخرجون إلا بما يخرج به متسقِّط الفضلات، وإن كانوا أذكياء بالفعل ومظلومين من قبل شخص مستهبل ومتجنّي مثلي، فليلعبوا لعبة جديدة ومعاكسة لمرَّة واحدة في حياتهم .. ) ..
هذا الحوار يفتح أمامنا عدة تساؤلات عن الجهود الشخصية التي يتجشمها المبدع السوداني ؛ كي ينقل أدبه من مكان إلى آخر في غياب جهود النقاد والمؤسسات .. وقد يتساءل قارئها عن مدى تغير واقع الساحة السودانية مذ ذاك التاريخ ..
وحينما مر فضولي على عدة مقالات تناولت الأدب السوداني ، لمست أن كلها اتفقت ورغم التباعد الزمني لكل واحدة منها ، أن الأدب السوداني مهّمش وحبيس بيئته ، وكان آخرها مقالة كانت منشورة في مجلة نزوى تناول فيها الكاتب أحمد شريف دراسة معنونة بـ " حول الأدب السوداني " أشار فيها إلى أن الأدب السوداني لم يأخذ حظه من الانتشار واستثنى من ذلك الطيب صالح ومحمد الفيتوري ، ولكن الأسماء قبل وبعد هذين المبدعين لم تأخذ حقها حتى الآن ؛ واستنتج أن ذلك عائد إلى صعوبة نشر السودانيين لأعمالهم ؛ وذلك للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والسبب الثاني يتوافق مع ما أورده الروائي " محسن خالد " في الحوار الذي أجري معه في عام 2005م هو اكتفاء القراء والنقاد العرب بالاسمين سالفي الذكر ..

الأدب السوداني سواء كقصاصين أو روائيين الملاحظ أن الشمس أنضجت إبداعاتهم بشكل جيد ، وما الدور سوى على الريح الكسول أن تنثر عبقها الرائق إلى أقطار شتى في العالم العربي ، فهنالك نصوص مشبعة بالمتعة والإبداع والابتكار تستحق أن تقرأ حقا ، ومنحهم صك الاعتراف ليس فعلا جبارا ؛ لأننا بكبسة زر واحدة نجمع حصيلة لا بأس بها من قصص وروايات منشورة في خفايا الشبكة العنكبوتية ، وهذا هو غرض المقال في حد ذاته ..

الجمعة، 25 ديسمبر 2009

عناق



اللوحة للفنان البولندي " يشينيسكي "

الثلاثاء، 22 ديسمبر 2009

بحيرة بحجم شجرة الباباي


بحيرة بحجم شجرة الباباي / للقاصة السودانية استيلا قايتانو

كل شيءٍ فيها كان يذكرني بشجرة الباباي المنتصبة في فناء بيتنا الواسع .. طولها الفارع ، ووقفتها المستقيمة رغم شيخوختها .لا ألمس في جدتي أي جماليات ، كنت أراها قبيحة جداً مثل الغوريلا ، شفتاها غليظتان ، رأسها كبير يصلح للجلوس دون أي متاعب .. كان يزين شفتها السفلى ثقب هائل تسده بقطعةٍ من الخشب نحتتها لتكون صالحة لهذا الغرض . عندما تخرج تلك القطعة فإن لعابها يسيل عبره . أشهر شيءٍ قبيحٍ فيها أنفها الأفطس ، عندما تسمع تعليقاً عن فطاسة أنفها كانت تقول دون أيّ جهدٍ في التفكير:- يكفي أنني اتنفس به ..كنت أرى الأفق عبر ثقب أذنها الهائل أيضاً .. الذي أخذ مساحةً كبيرةً من حلمة الأذن ، و هناك أيضاً ثقبَ في أنفها الأفطس ثم تبرز مساحةَ كبيرةَ من لثتها في الفك الأسفل نتيجة لقلع أربعة أسنان .. أما عيناها فكانتا حمراوتان تجثم فوقهما جفونَ منتفخة ..الشيء الذي عرفته عن جدتي أن لها مقدرة فائقة في تحمل الألم .. ذات يومٍ ذهبت تقضي حاجتها في العراء ، عندما عادت تحك كعبها الذي أخذ يتورم شيئاً فشيئاً دون أن يبدو عليها الألم ، سألتها في براءةٍ عما بها فقالت :يبدو أن أفعى لدغتني ، ثم أخذت مشرطاً وفصدت اللدغة كانها تفصد شخصاً آخر أو كان المشرط يصنع أخاديده المؤلمة في جسم غير جسمها ازددت اضطراباً و انا أرى دماً أسود يخرج من تلك الأخاديد .. ليصنع بركةً سوداء .. بركة بلون سمّ ودم ، ثم أخذت ترياقاً مثل حجرٍ أبيض اللون و سحقته بقسوة.. ثم أخذت تملأ تلك الأخاديد بالحجارة الصغيرة ذات الأثر الحارق في الجروح .. حدث كل ذلك و أنا أبحث عن أثرٍ للألم بين خلجاتها .. فجأة نظرت إليّ .. كنت منكمشةً فازددت انكماشاً .. خفت .. أردت الهرب .. و أنا أتذرع بأعذارٍ واهية لأنهض من قربها لأني أعرف عادتها ، إذا أخذت دواء .. أياً كان نوعه فإنها كانت ترغمني على أخذه خوفاً من انتقال العدوى إليّ ، فشلت في الهرب لأنها كانت قد أطبقت قبضتها الفولاذية على معصمي .. و بالمشرط صنعت خطين على ظهر يدي و كذا على قدمي ، لم تعطني حتى فرصةً للصراخ ، أحسست بألمٍ يتسلل عبر دمي ثم قطرات من الدم تنساب عبر الفتحات الثماني .. أخذت الترياق و دعكته بنفس القسوة .. كأنها تريد إدخال تلك القطع الصغيرة عبر أوردتي ، و قالت راطنة وهي تمارس قسوتها عليّ بصوتها الذي بالكاد يشبه صوت النساء :- هكذا حتى لا تجرؤ تلك الحبائل المتحركة على لدغك .. إذا رأتك إحداها فإنها لا تقوى على الحراك حتى تذهبي مبتعدة .و هذا ما يحدث دائماً عندما أكون و حدي أو معها .. و منذ ذلك اليوم لم تلدغ أفعى أياً منا رغم أنها كانت تتحرك في كل مكان، حتى في فناء بيتنا الواسع المليئ بالأشجار و الخضروات و شجرة الباباي ذات الأثداء الكثر و الكبيرة .كانت غرفتنا من القش ذات جدارٍ دائري وبابٍ قصير بحيث يركع من أراد الدخول فيها على ركبتيه ، و عندما تدخل تلاقيك ثلاثة مدرجات لتنزل إلي عمق الغرفة فترى سقفاً مخروطياً بعيداً ، فتصعب عليك المقارنة بين خارج وداخل الغرفة .. وهناك في نهاية البيت حظيرة تضم أكثر من ثلاثين بقرة ، فتزدحم في فتحتي أنفك روائح الروث و الفواكه والخضروات .. ورائحة جدتي ..كنا أنا وهي ، في كل هذا الصخب ، عائلةَ تتكون من جدة وحفيدة .. توفيت أمي و هي تلدني .. وتوفى أبي في رحلةِ صيدٍ عندما سحقته جاموسةَ هائجةَ بقرونها ، أما جدي فقد أعدم عندما قتل أحد الإنجليز ممزقاً نحره بالرمح لأن نظرات الإنجليزي لم ترق له .. بقيت مع جدتي منذ عمر يوم ، أرضعتني حتى العاشرة من عمري .. كان ثدياها مثل ثمرة الباباي في الضخامة و ما تحوي من لبنٍ طازجٍ ذي طعمٍ غير مفهوم و لكنه جميل ، كنت أرضع قبل الذهاب بالأبقار إلي المرعى ، و بعد أن أعود فلا أشتاق إلا لثمرة الباباي الموجودة على صدر جدتي .. كنت حينها في الثامنة من عمري ، حضرت ذات يومٍ و لم أجدها في البيت .. أدخلت الأبقار في الحظيرة و أنا أناديها مراتٍ و لكن لم تجب .. أعماني إدماني عن رؤية أي شيئ و ناديتها بأعلى صوتي فردت عليّ من بيت جارتنا التي كان يفصل بيننا وبينها جدارَ من البوص و الأخشاب :نعم .. هل حضرتِ يا ابنتي؟رأتني في حالةٍ عصبيةٍ و الدموع واقفةَ على جفوني و أنا أقول لها في صوتٍ مخنوقٍ بالعبرة و الغضب :أسرعي أريد أن أرضع.قلتها في صوتٍ حازمٍ و في غيظ ، فتأتي و تجلس على الحصير ، أتناول ثديها في نهمٍ و لهفةٍ غريبين ، متجاهلة تعليق جارتنا و هي تضحك علينا و تؤنب جدتي على كيفية نهمي على الرضاعة و أنا في هذا العمر المتأخر.لم تكن جدتي ترتدي أي شيئٍ سوى جزءٍ ضئيلٍ من الجلد مكون من قطعتين ، معلق بحبل جلدي لفته تحت السرة يتدلى من الأمام و من الخلف ساتراً عورتيها ، أنا حتى ذلك العمر كنت أتساءل لم تضع جدتي تلك الفروة في هذه المواضع .. لم لا تكون مثلي؟عندما بلغت العاشرة من عمري حدثت تغيرات أثرت على مجرى حياتي ، صنعت لي جدتي شريحتين من الجلد لأغطي المواضع التي تسترها هي .. و منعتني من الرضاعة .. كانت أياماً صعبة ، كنت لا أنام الليل أشعر بلهفةٍ عارمة لأرضع كما أشعر بنفس الرغبة لأتعرى ، عشت أساماً لأتخلص من هذه المشاعر المخجلة ، كنت أعود إليها كلما سنحت لي فرصة ، مثلاً عندما تسكر جدتي بذلك الخمر البلدي مع صديقاتها العجائز ، كانت لا تدري من الدنيا شيئاً و لكنها كانت تتعبني جداً ، خاصة بعد ذهاب صديقاتها من بعد صخب من الرقص والغناء الفاتر ، كانت تتكلم مع الموتى ، مثلاً كانت تقول لأمي : أنتِ يا ربيكا يا ابنتي .. لولا خوفك من الولادة و ربطك للولادة بالموت لما مت .. و أنت يا ماريو فقد قتلك التحدي رغم خوفك ، أما أنت يا زوجي العزيز فقد قتلك جهلك ، ثم تلتفت إليّ قائلة و قد التوى لسانها في الحديث و عيونها أكثر احمراراً و جفونها متورمة لدرجة الانفجار ، وهي تحرك تلك القطعة الخشبية التي أصبحت جزءاً من شفتها المترهلة أكثر مما ينبغي بلسانها المتحرك في قلق :- أتعلمين قصة موت جدك؟- لا ياجدتيرغم أنني كنت أعرف القصة و أحفظها عن ظهر قلب ، إلا أن ردي لا يعني لها شيئاً سواء كان بلا أو نعم ، لأنها كانت ستسردها في الحالتين .. ثقل لسانها و أخذت الكلمات تخرج ملتويةً و مقطوعة ، كنت أسمعها كأنها محشورة في قلةِ كبيرة فيخرج صوتها بعيداً .. قوياً .. ومشوشاً .لقد قتل جدك أحد الإنجليز في زمن الاستعمار فحكمت عليه المحكمة بالاعدام و هو لا يدري ذلك ، كُتب الحكم في ورقة .. و كان عليه أن يقطع مسافة كبيرة لتنفيذ الحكم في مكانِ آخر .. كان جدك الغبي سعيداً لأن الانجليز أعطوه ورقة و قالوا له إذهب سوف يلقاك أناس هناك .. أعطهم هذه الورقة .. حمل الرسالة وقد حشرها بين شقي عودِ من البوص حتى لا تتسخ .فصنع لنفسه رايةً صغيرة وهو لا يدري أنها راية موته ، و عندما وصل .. نُفذ الحكم فمات و الدهشة مرتسمة على و جهه الغبيَ ..ثم تضحك في هستيريا و تعيد القصة مرة أخرى بعد السؤال ذاته ، و بعد دهر من الكلمات و الجمل الملتوية .. ثم تباعد بين الجمل .. و تباعد بين الكلمات .. يليه تباعد بين الحروف .. ثم صمت و انفاس ثقيلة و شخير مزعج يضج في انحاء بيتنا الواسع بعد أن تبكي على موتاها بنفس هستيريا ضحكها حتى تنحدر الدموع على صدرها .كنت أفرح ويرقص قلبي طرباً ، لأني سأمارس أشيائي التي حرمت منها دون أن اواجه عيوناً حمراء أو صوتاً رجالياً يأمرني بالابتعاد .. أنزع ذلك الغطاء الجلدي الساخن و ألقيه في أبعد مكان ، أقترب من جدتي التي نامت ملقاة أطرافها في كل مكان .. حتى الشريحتان لا تفلحان في تغطية شيئ من جسمها الضخم الممدد على أرضية غرفتنا العميقة .. أتناول ثديها و أشرع في ممارسة رضاعتي في نهم محموم ، عندما امس حلمتها للوهلة الأولى أتذوق طعماً مالحاً ، طعم دموعها .. رغم قبحها لم اكن أتقزز منها فأنا احبها ، أستمر في تلك الحالة و أنا أسمع صوت الرعد بالخارج و أمطاراً غزيرة تضرب السقف المصنوع من القش في إصرارٍ ثائر ، أتجاهل كل هذا الصخب .. صخب الطبيعة المفاجئة ، لأعيش عالمي ، عالم يتكون من بحيرة في حجم ثمرة الباباي ، بحيرة غزتها الشيخوخة فنضبت و ترهلت حتى وصلت السرة.ذات يوم و أنا أسير خلفها في طريقنا لجلب الماء من النهر ، و نحن نتخذ شريطاً من الطريق الذي صنعته أقدام البشر بين الحشائش التي تغطي نصفنا الأسفل ، بلغت حينها الخامسة عشر من عمري ، كانت تضع قلةً كبيرةً سوداء على رأسها ممسكة بها بيدها اليسرى فيظهر شعر ابطها الأحمر الذي احترق بالعرق ، و أنا ارى الأفق عبر ثقب أذنها ، و أعد خطوط الشيخوخة التي أصبحت واضحة في مشيتها السريعة المتعثرة ، و ترهل بطنها و ثدييها الذان عندما يصطدمان بالبطن يصدران صوتاً كالتصفيق في حالتي المشي و الرقص ..كانت كغير عادتها هائمة صامتة ، كنت أحاول اللحاق بها بين حين و آخر بهرولة خفيفة ، فجأة توقفت لأنَ هناك أفعى ملونة ترفرف حولها فراشاتَ تحمل ذات الألوان الطفيفة ، اندهشت لذلك و قلت مازحة : منذ متى تقف جدتي لرؤيتها أفعى؟ قالت بعد أن تنهدت بعمقٍ ولأول مرة ألمح خوفاً مخلوطاً بالحزن قد جثم على أخاديد و جهها الكثيرة و العميقة ، قالت: هذه الأفعى نذير شؤم .. تابعنا سيرنا دون أن نتحدث ، قالت جدتي بعد أن فقدتُ الأمل في أن تتحدث :- أتعلمين أني رأيت جدك قبل أيام؟في الحلم؟- لا .. بل في الواقع ..و لكن ياجدتي .. جدي قد مات كيف ترينه مرة أخرى؟- رأيته في صورة تمساح .. ضحكتُ و لكنني سرعان ما صمتّ عندما رأيت الجدية على وجهها .وكيف عرفتِ أنه جدي؟- من تلك العرجة التي كان مشهوراً بها و صفات أخرى أعرفها أنا فقط عرفت أننا لا نموت بل نتحول إلي أشياء أخرى تحمل الصفات التي كنا عليها ، نتحول و لكن دون ذاكرة فجدك لا يذكرني عندما تحول إلي تمساح ..و ماذا تريد أن تكون جدتي بعد عمر طويل؟لا أدري إلي ماذا سأتحول ، و لكني أتمنى أن أتحول إلي نسر .و منذ ان ماتت جدتي و علاقتي بالنسور قوية ، كلما ألمح واحداً أتأمله في تحليقه عسى أن أجد بعض صفات جدتي ، ثدياً بحجم ثمرة الباباي .. عيوناً حمراء .. جفوناً منتفخة .. أو لبناً بطعم الملح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

استيلا قايتانو :

ولدت ستيلا قايتانو عام 1978 في الخرطوم بالسودان ونشأت في أسرة بسيطة تكثر فيها الأميه وهي الوحيدة التي تعلمت ودخلت كلية الصيدله ولكن لها اهتمامات أدبية ، انضمت الى تنظيم سياسي سنة 2003 ومن أهم شعاراتها من "أجل وطن يسع الجميع" وتحاول إيجاد حلول من خلال تحليل المشكلة السودانية بواسطة جدلية المركز والهامش وهي ترمز الي توزيع الموارد بصورة متكافئة । تم التعرف علي الكاتبة من خلال كتاب دروب جديدة في عام 2002 والذي أصدره نادي القصة السوداني واشترك فيه كثير من الكتاُب الشباب ، هذا الكتاب يحكي عن مجموعة من القصص تناولت مواضيع مختلفة ، ومن أشهر قصص الكاتبة هي " بحيره بحجم شجرة الباباي " وتتحدث القصة عن علاقة بين جدة وحفيدتها وهذه العلاقه حميمة وقامت الجده برعاية الحفيده وإحتضانها حين مات أبواها وهي صغيرة وختمت القصة الاسطورية بتجسيد الكاتبة للإعتقاد بان الانسان الجنوبي لا يؤمن بالموت بل بالإنتقال من حياة الي حياة اخرى .من الأعمال الأخرى للكاتبة كل شي هنا يغلى وهي من جزأين في العامين2002 و2003 ، الغرض من هذه القصة تسليط الضوء على معاناة النازحين بأطراف المدينة وإصطدامهم بواقع لا يستوعبهم ولا يستوعب ثقافتهم . أغلب أبطال الكاتبة ستيلا هم نساء ، اذ تهتم لقضايا المرأة وتتعاطف معها لأنها أكثر الفئات تعرضاً للإنتهاك من مختلف تعددات المجتمع السوداني .



الخميس، 17 ديسمبر 2009

تنويم عاطفي


تنويم عاطفي (1 )

عاشقة تحت تنويم طبيب عاطفي :

* متى تبلغ قلوبكن سنها القانوني في الحب .. ؟!
- حين تبدأ ألسنتنا بإتقان فن الثرثرة ..
/

* لم العشق مرهون بقلوب الكبار فقط ..؟!
- لأن القلوب الأطفال لا تنافق ..

/

* هل الحب عذاب ..؟!
- لا ، إنها مجرد شائعة ..
/

* كيف يمكن أن تعبري عن مشاعرك تجاه من تحبّين ..؟!
- بسياسة التطنيش ..
/

* ما أكره شيء على المرأة حين تقع في الحب ..؟!
- نفسها ..

/

* لماذا يقال " الحب أعمى " ..؟!
- لأن كل منهما يسرق عينيّ الآخر ..

/

* أيهما أصدق في الحب المرأة أم الرجل ..؟!
- لا مصداقية في الحب ، كلاهما ينتعلان حذاء الكذب ويدوسان على مشاعر بعضهما بعضا ..

/

* ما رأيك بعبارة " أحبك حتى الموت " ..؟!
- فلسفة المغفلين ليس إلا ..
/

* هل تكلفين الوجود شيئا إذا ما كلفته رجلا واحدا تحبينه ..؟!
- قد تقوم حرب عالمية ثالثة نتيجة ذلك .. !


* ما الحب الوحيد الآمن في حياة المرأة ..؟!
- حب الأب ..!



تنويم عاطفي ( 2 )


الطبيب العاطفي تحت تنويم عاشقة :

* هل الحب يقتل العشاق ..؟!
- لا ، إنه فقط يعلقهم بين الحياة والموت.. !

/

* هل تؤمن بفتوى تحريم الحب ..؟!
- نعم ، عندما فشلت في الحب ..

/

* لم الحب يقتحم قلب الرجل دون استئذان ..؟!
- لا أدري ، فذلك هو مصيبتنا .. !

/

* يقال : إن الرجل يحب عبر عينيه والمرأة تحب عبر أذنيها .. ما مصداقية ذلك ..؟!
- لكنني أحببت عبر أنفي ..!
/

* الحب أوله هزل ............. كيف تسد فوّهة هذه العبارة ..؟!
- وآخره مصحّ عقلي ... !
/

* لماذا المرأة في نظرك تعشق الكلام في الحب ..؟!
- لأنها تجيد فن النميمة مذ نعومة قلبها ..


* من هي المرأة التي تستحق أن يحبها الرجل بصدق ..؟!
- الأمّ ..!



كتبت بتاريخ 2 / 1 / 2006 م

الجمعة، 11 ديسمبر 2009

حطام النافذة الوحيد


حطام النافذة الوحيد

" لا تأتني الليلة كخفاش حزين
حاشرا رأسك بين حاجبي
لقد أنكرنا بعضنا ساعات اليأس والاندحار
عبثا يرتطم الوجه بالوجه
أو القلب بالقلب
دع النار في رقادها ،
أو لتشتتها الريح حيث تشاء
لا شيء قادر أن يدفئ العينين الباردتين
جميع الجهات خانتني
ومتاعي ملوم تحت إبطي
تثاءب
تثاءب
عل ّ الليل يمضي "

سنية صالح

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2009

قصص للناشئة ( أوراق / من جديد ) للقاص حسن أحمد اللواتي


قصص للناشئة ( أوراق / من جديد ) للقاص حسن أحمد اللواتي *
بين صناعة الإبداع وصقل فلسفة المفاهيم /
ليلى البلوشي

سعدت أيما سعادة حين استقبل بريدي قصصا موجهة للأطفال ، وتضاعفت سعة فرحتي حين رأيت انتماءها لقاص عماني يخاطب فيها أطفالا صغارا ، أدب الطفل في سلطنة عمان الذي لا نكاد نلمس خطوطا واضحة عنه ، وعدد كاتبيه بالنسبة للمبدعين الذين يكتبون للكبار محبط جدا ويمكن عدّها على الأصابع ، ويستمر هذا الشعور بالإحباط حين لا نجد مجلة خاصة تخاطب الطفل العماني على مدى تلك السنوات ، وكأن الطفل العماني ليس كميثله من الأطفال في أرجاء الخليج والوطن العربي والعالم الأجمع ، فقد كان من المفروض وأنا أتناول هذه المجموعة بالدراسة أن أقارن بينها وما تحتويه مكتبة الطفل العماني من قصص ، ولكن كيف السبيل إلى ذلك والمفاهيم ما تزال غير واضحة وخطوط مبعثرة .. ولكن هذا لا يمنع من أن نتناولها كنقطة تحفيز لهذا الأدب الناشئ هو الآخر كالطفل الموجه له بالبحث والدراسة ؛ كي يجد ساعدا يقوده نحو إكمال درب الإبداع ..
فقد آن الأوان لرسم خطوط أولية لنهضة أدب خاص بالصغار ، وأنا شخصيا أعد هذا الكتاب وبعض الكتب المعدودة التي سبقته لبنة نحو ذاك التنهيض ، فعسى أن يكون غد الطفل العماني زاخرا بآمال كثيرة ..


* صناعة الإبداع في قصة ( أوراق ) :

من القراءة الأولى لكيلا النصين في مجموعة القاص حسن اللواتي قصص للناشئة ، يمكن أن يلاحظ المتلقي أن كل منها يندرج تحت فئة عمرية مختلفة عن الأخرى ، فالقصة الأولى ( أوراق ) في العمل القصصي تخاطب أطفالا ناشئة تتراوح أعمارهم ما بين ( 13 ـ 18 ) :
في هذه المرحلة يكون الطفل مهيئا لولوج مرحلة النضج على مستويات عدة تشمل النضج الجسدي والفكري والنفسي والعاطفي ، مع تلكم التغييرات تتفتق الطموحات لتواكب أحلاما جديدة نحو منطقات عدة تضع الطفل مكانه الصحيح في خانة المستقبل ..يؤكد هذا قول " فيشر " : ( إذا كان على أطفالنا أن يتوقعوا إشكالية التغيير ، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي ، وأن يتغلبوا عليها ويتعلموا مواجهتها ، فإنهم بالإضافة إلى حاجاتهم إلى تعلم كيفية التأقلم مع المستقبل ، فإن عليهم أن يتعلموا كيف يشكلون أيضا إذا كان إعداد الأطفال لمواجهة التغيرات السريعة هو أحد تحديات التفكير بإبداع يصبح حاجة ملحة ) .

وأهم ما يميز هذه المرحلة شعور الطفل بمواهبه ، فتظهر الهوايات وترجع أهميتها إلى كونها تعطي الفرد فرصة للتعبير عن فرديته وميوله واهتماماته ، وتعطي له الشعور بشخصيته ووجوده ، فيميل إلى كتابة قصص ذات طابع طفولي ، وإن كانت تعبر عن مكنون المشاعر طريق الكتابة تفجيرها ونشرها ، وهذا عائد إلى التغييرات المصحوبة التي تعايش معها الطفل ، فالنضج العاطفي يكون في أوج قمته ..

في قصة ( أوراق ) نجد أمامنا شابا محبطا يدعى ( طلال ) كل ما حوله يشي بهذا الإحباط ، بدءا من الشعور المؤرق الذي قبض على ليلته ، وأقض مضجعها تلك الأوراق الحبيسة في درج مكتبه مذ أكثر من ست سنوات ، نصوص وقصائد تلمست بعضا منها طريقها إلى النور حين نشرت في صفحات الصحف والمجلات وظلت بعضها حبيس ظلمتها ، ولوهلة نرى أن كل شيء حول طلال منغلق على نفسه ، فالنافذة التي يطل منها المرء على العالم الخارجي كانت مغلقة وحين فتحها تفاجأ بالهواء الساخن القوي الذي بعثر الأوراق في فناء غرفته المغلقة ، العالم الخارجي طاحن في حركة دائمة بينما طلال وأوراقه في عزلة عنها ، من تلك الأوراق التي تدلت مع الريح صفعت ورقة وجه طلال وكاد أن يرميها من النافذة لكن شيئا ما فيها لفت نظره ، كان جوفها يحوي كلمات مكتوبة بخط جميل ورشيق ، وتلبّس على ذاكرة طلال كاتبها وهذا يفغر عن المدة الزمنية للأوراق وهي حبيسة في درج المكتب ، تسري تنهيدة في صدر طلال ثم يجد نفسه يقرأ تلك السطور التي تتمحور حول مسمى المستحيل واليأس والفرق بينهما على مستوى المضمون ، وكما تقول الورقة أنهما يعطيان نتيجة واحدة والفارق بينهما هو أن المستحيل يقترن في البداية بعدم الإمكان لفقدان الوسيلة ولكنه يفاجئ بموانع غير متوقعة ، والمستحيل لا يشكل صدمة لأنه ينبثق عن أمل ، أما اليأس فالصدمة فيه تعني مصرع أمل ॥ ثم تختم الورقة قولها : ( عرفت في حياتي الكثير من الكتاب ولكن الذين أثبتوا وجودهم واستمروا حتى النهاية هم في العد لا يتجاوزون أصابع اليد ) .. هذه الجدلية هي التي تهيمن بقوة على كيان طلال ، فهو الآن وصل مرحلة متزعزعة ما بين اليأس والمستحيل والأمل جامد بينهما ..

ولعل هذا التضارب وفي حمية اليأس نجده يجمع تلك القصاصات القديمة ويضعها في كيس مهدا لحرقها ورميها وليمة للريح ، فلا جدوى من الاحتفاظ بها كما عبّر عن ذلك ..
وحين كوّمها في الكيس نرى أن دقة الساعة تنبهه إلى وضعه الخارجي حين ينظر في المرآة فتكشف المرآة التي لا تكذب عن جسم ضامر ووجه شاحب ، وفقد مضى عليه أكثر من شهر وهو لم يذهب للمزين .. وهذا شعور متحالف مع الركود الذي لزم طلال وأوراقه تلك ، وأكثر ما يشي بذلك الشعور الجامد ككل في مستوى حياته ..
لكن الجمود يتحرك ببطء السلحفاة يعزوه مشاعر أخرى ، نتعرف فيها على شخصية طلال من جوانب أخرى وهو في مواجهة العالم الخارجي ..

عندما حمل طلال معه الكيس الذي يحوي أوراقه وهو خارج من بيته ، لفحه هواء ساخن متواطئ مع الغبار أي أن الأفق والأرض في انشغال تجددي فرضته ظروف الطبيعة ، وأوراق أشجار النخيل تصدر أصواتا قوية تمتزج مع زقزقة العصافير ، وجوه كثيرة تشرق وتغرب ..كل هذه الدلالات الخارجية توحي بالحياة النابضة في الخارج بينما داخل طلال عالم ساكن يقود دفته اليأس ..

وها نحن نرى طلال وهو تائه في متاهة البيوت القديمة والجديدة والأزقة الملتوية والمتعرجة وهذا يكثف شعور الضياع المسيطر عليه مذ البدء .. ويستمر هذا الشعور حتى يجد نفسه أمام دكان المزين .. يدخل ويلقي التحية على الحضور ، ونرى تصوير القاص لسلوكه : ( جلس على مقعد صغير ، تصفح بعض المجلات ) .. في سلوكه هذا ما يزال طلال راكدا ، يقطع دروب الكلام المباشر مع الآخرين ، والحدث إلى هنا مجرد استرسالات نفسية تتخبط بها الشخصية ولوحدها وهكذا حتى نجد تصادما آخر ، فطلال عندما تفارق عينيه المتصفح تتسلق نظراته إلى المرآة أمامه ، ولوهلة رأى ابتسامة تترصده وباهتمام كبير ، شعر طلال بالاستغراب ؛ لأن صاحب الابتسامة غريب عنه ، وبعد فترة قصيرة وقف الشاب صاحب الابتسامة وألقى عليه التحية ثم صافحه بحرارة كبيرة ، حاول طلال أن يجد في ذاكرته ما يلوح عن معرفة بهذا الغريب ولم يعثر على شيء ، وقال له الشاب : ( اسمي نواف وقد شاهدت صورتك في الجريدة وأعجبني ما كتبته ، لقد مررت بعدة تجارب في الحياة واكتب منذ سنة تقريبا ... ) هذا التصادم قلب كيان طلال خصوصا حين طلب منه نواف أن يقرأ ما كتبه من خواطر ، فذهب نواف مسرعا إلى بيته القريب وأحضر أوراقه ووضعها في يد طلال ، تناولها طلال وسط إرباكه المفاجئ وقرأها ، ولكن لم تثر إعجابه وحاول أن يخفي شعوره ، بينما نواف متحير يريد أن يسمع رأيه مخاطبا طلال : ( قل لي بصراحة هل هذه الخواطر والأشعار صالحة للنشر ؟ إذا لم يعجبك ما كتبته فلن استمر في الكتابة ) ..
فكر طلال قبل أن يدلي بدلوه ثم نظر إلى نواف وقال له : ( سلم الكتابة طويل وقد وضعت رجلك على الدرجة الأولى ) ..
قاطعه نواف بدوره : ( هل سأتمكن من الوصول إلى ما هو أعلى من ذلك ؟ ) ووضح له طلال كيف أن وضع قدم على الدرجة الأولى انجاز جيد بحد ذاته عجز عنه الكثيرون ، ثم بحث عن إجابة أفضل ، فأدخل يده في الكيس واخرج منها قصاصة قديمة ، وأخبر نواف بأن المشرف على صفحة بريد القراء في إحدى المجلات كتب هذا التعليق له قبل ست سنوات : ( بداية جيدة في مجال الكتابة ، عليك بالمحاولات المتكررة والمران المستمر لكي تنضج تجربتك ) وضع القصاصة في يد نواف ثم خرج من دكان المزين وهو يعانق الكيس ، هبت ريح قوية اضطربت معها الأوراق في الكيس غير أن طلال احكم قبضته عليها ؛ كي لا يلتهمها الهواء ، داهمه شعور جديد بأنه لا يحمل قطعا جامدة من الورق وعاد إلى بيته وهو يحمل حياته وذاته معه ..

على مستوى الأعمال الأدبية الطفولية نجد أن معظم القصص في مضمونها تقف على قوائم ثلاث :
( فكرة القصصية / الحدث / الشخصية ) قد يأتي كل منها على حدا ، وقد يستبد عنصر على آخر وهذا عائد لطبيعة النص وماذا يريد منه الكاتب ؟
فقبل الكتابة يجب أن يعي الكاتب هذه المضامين ثم يخطط نصه وفق ما يلائمه ، في قصة أوراق نجد أن القاص حسن اللواتي ركز على بؤرة الشخصية ، فطلال هنا هو الذي تحكم في الأحداث وسيرها حتى نهاية القصة ، والشخصية هنا مرت بعدة مراحل نفسية على وجه الخصوص : ( فنجد طلال المحبط / طلال الضائع / طلال الحائر / طلال مع عزم التجديد ) ،
ولا نكاد نجد حدثا دون طلال ، بل الحدث هنا كان راكدا لركود الشخصية اليائسة ، وقد تعاون المكان في القصة مع الشخصية مع الحدث ، ونرى طلال في تمهيد القصة في غرفته والنافذة مغلقة ، الغرفة هنا رمز لفضاء ضيق ، والنافذة المغلقة رمز الانغلاق عن العالم الخارجي الزاخر بالهواء والأشخاص وأشجار النخيل وزقزقة العصافير فكل هذه الرموز تعبر عن تجدد المستمر في عالم عازل عن طلال ॥ يمر الحدث المكاني ويتوسط العالم الخارجي حين يخرج طلال من بيته معه كيس أوراقه ، ورغم الطبيعة المتحركة فإن طلال يساوره شعور بالضياع والتيه وسط تلك المكنونات الخارجية ، إلى أن يدخل إلى بيئة مكانية أقل ضيقا من غرفته دكان المزين ولا يحاول أن يحاور أحدا ويفضل تصفح مجلة عن ذلك ، إلى أن يظهر نواف ، ونواف هنا هو الذي كسر جليد الصمت والجمود المحاط بطلال ، جرى بينهما حوار ، حوارا كان يخفي في داخله استفهامات كانت منغلقة في جوف طلال الحائر ، ومن خلالها استطاع فك بعض رموز الغموض التي كانت تهيمن على شعوره بالضياع والإرباك ..

دخول نواف في وسط عالم طلال الشائك كان الحبل الذي سحب طلال نحو التغيير ، فمن خلاله شعر طلال وإن لم تعبر عنها القصة بشكل مباشر أهميته ككاتب يقرأه القارئ الآخر ويتابعه ويعجب بما ينقله له من نصوص ، وهو القارئ عينه الذي يريد أن يعرف سر نجاح كتاباته ونشرها في الصحف ، وهنا يتلمس طلال أولى خطوات نحو التغيير ونحو الخطوة التي كان يجب أن يقوم بها ، فنرى في الختام يقرر الاحتفاظ بقصاصاته ..


ما أبعاد هذه القصة على نفسية الأطفال ؟

عادة الأطفال الذين يرسم البلوغ علاماته عليهم ، يبدأ ذلك بالتخلي عن أشياء ينعتها بالطفولية كما يراها من معجمه الفكري الذي بدأ يعي ويعبر عن نضج ، فالبنت تتخلى عن الدمية ؛ لأن ثمة اهتمام آخر عوض عنها ، والولد يتخلى عن لعبته السيارة ؛ لأن لعبة أخرى حازت على اهتمامه ، و تلك الاهتمامات تندرج تحت مسمى الهوايات والإبداعات ومنها الكتابة والرسم والسباحة ...الخ .
معظم الهوايات كالكتابة والرسم تبدأ ضحلة ثم شيئا فشيئا مع الممارسة تتضح أكثر ، لكنها تأخذ صورتها الكلية وتغدو كاهتمام وشغل شاغل أو هدف في الحياة أو جزءا من الأحلام من خلال مثابرة الشخص ووجود يد تقوده نحو الأمام ..
مهم جدا على مستوى الهوايات أن ينمي الطفل هوايته وذلك لا يتأتى إلا بوجود بيئة وأشخاص ووسائل تساهم في عملية الدفع الإبداعي نحو ما يريده .. فكم من مواهب لم تجد طريقها الصحيح وسط جلبة المجتمع وطغيان اهتمامات أخرى أخذت الطفل تدريجيا نحوها ..
فعلى المجتمع والأسرة وملاحق الصحف التي تستقبل كتابات الناشئة تحديدا أن تعزز مفاهيم الثقة وتبني فيه الشعور بالأمل والاستمرارية الفعل الممارس نحو مستقبل كتابي يتجدد مع كل ممارسة ومثابرة ..
من هنا جاءت أهمية فكرة هذه القصة والحيرة التي تنتاب صاحبها في وسط مرحلة عمرية حساسة ومهمة جدا في حياة الناشئ ..

* صقل فلسفة المفاهيم في قصة ( من جديد ) :

وهي قصة يخاطب فيها القاص أطفالا أقل سنا من المرحلة السابقة لقصة أوراق .. ويمكن تقديرها ما بين عامي ( 5 ـ 10 ) سنوات ..
نجد أمامنا عجوز متكئ على عكازه رغم أن القاص لم يعبر عنه باللفظ تحديدا ، لكن الذي يلقي النظر على الصورة المرسومة يجد أمامه شيخا كبيرا بشعيرات بيضاء ووجه مجعد ..
كان العجوز يسير في الشارع يسترسل في حديث نفسي ويفكر في الريح التي تمحو خطواته فوق الرمل ، ثم فجأة يقفز في ذهنه سؤال : ( هل يمكن أن تعيد المآسي بناء الحياة من جديد ؟ ) لكن صراخ طفلة صغيرة قطعت فكرته تلك ،فإذا الطفلة تهتف : ( لا تدس على الرسم يا عماه ) ..

توقف العجوز ونظر إلى الأسفل ، فرأى فتاة صغيرة ترسم شمسا بألوان قوس قزح على الرصيف ॥ جلس بقرب الطفلة وسألها : ( هل الشمس تحرق ؟ ) وهتفت الطفلة بحماس بأنها تحرق ثم وضعت يدها على الشمس المرسومة وسحبتها بسرعة ، فأخذ العجوز يدها في راحته لفت نظره أصابعها البارزة والملونة بأصباغ ثم قال لها : ( آه ، هذا حرق خطير ) سحبت الفتاة يدها بسرعة وضحكت بمرح قائلة : ( لقد كذبت عليك يا عم ، وعادت إلى الرسم ) .. مرّ مجموعة من الناس وصرخت فيهم الطفلة لكنهم بلا مبالاة داسوا على الرسم وتابعوا السير ، نظرت الفتاة مبتسمة إلى العجوز وهي تقول : ( لا بأس يا عماه ، سأرسم الشمس من جديد ) ضغط العجوز على عكازه بقوة وغرق في تفكير أعاد التساؤل الذي طرحه في بداية القصة عن بناء الحياة من جديد ، فالشمس كما عبرت الطفلة الصغيرة يمكن رسمها من جديد وكذلك ستنمو نباتات الربيع على الأرض التي دفن فيها موتى وسيبني اليتامى والأطفال والأرامل والعجائز المدينة من جديد ..

القصة هنا رمزية ، ومن الرموز التي استخدامها القاص وتواطأت مع عنوان القصة :
1 ـ الريح : رمز للتجديد كما عبر العجوز فهي تمحو خطاه على الرمل .
2 ـ الشمس : رمز للتجديد كذلك ، فالشمس في كل يوم تنجب لنا يوما جديدا .
تمثلت أهمية الرمزية هنا في أن المفاهيم التي زعزعت نفسية العجوز كانت فوق مستوى الطفل ، فكان لا بد من وضعها على لسان حكيم كشخصية العجوز الذي عايش تجارب وخبرات عديدة في الحياة ، بينما وجود الطفلة الصغيرة مع رمزية رسم الشمس قد هيأ بداية تفسير للفلسفات التي طرحها العجوز وحاول الإجابة عنها أو كشف نقابها في نهاية القصة ..
تلك الجدلية الفلسفية التي شغلت العجوز عن إعادة المآسي بناء حياة جديدة ، هي بحد ذاتها تعبّر عن نفسية العجوز الطافحة بالحيرة مشوبة مع شعور الحزن واليأس ..

وحين يقابل الطفلة الصغيرة يتجدد في العجوز شعورا آخر قابل للتجديد والأمل ، فالشمس التي رسمتها الطفلة الصغيرة ومنعت العجوز من وطئه ثم وطأه آخرون وموقف الطفلة الصغيرة من ذلك لم يواكبها شعور باليأس ، بل على العكس ابتسمت في وجه العجوز عن إمكانية إعادة رسمه من جديد ..
وهنا تتضح صورة التساؤل الذي شغل العجوز في بداية القصة ، عن نمط التجديد في الحياة بعد المآسي التي تواكب عليه جيلا بعد جيل ..
وأهم ما يميز هذه القصة الحوار الحيوي ، الذي جرى على لسان العجوز والطفلة الصغيرة وكان ذكيا في حد ذاته ، عادة في القصص التي تخاطب أطفالا في مثل هذه السن يلعب فيه الحوار دورا حيويا مهّما ، يقضي فيه على رتابة السرد الطويل الذي لا يفضل أن ينفرد في عمل قصصي موجه للأطفال ، بل من الأجمل أن يتناوب كلا أسلوبين في الطرح ..

* على هامش النقد الفني :

في دراسة عن أدب الأطفال عبر الدكتور أحمد هيتي قائلا : " بأن الطفل قارئ غير متحيز ؛ فهو لا يبحث اسم الكاتب عندما يختار كتابا لنفسه ، كما يفعل الكبار بل إن اسم الكتاب وشكله وطريقة عرضه هي الأمور التي تشد الولد إلى كتابه " ..
إذن يمكن القول بأن الشكل الخارجي لكتاب الطفل موطئ مهم للنجاح بالنسبة لكاتبه ..
وجاءت مجموعة قصص للناشئة للقاص حسن اللواتي التي تحوي قصتين في شكل أنيق ، الغلاف متماسك وملائم لطبيعة الطفل ، والأوراق زاخرة بالرسوم التي يستطيع الطفل من خلالها رسم تصور واضح عن مضمون الأحداث ..

ثمة بعض الهنات ليس من شأنها تقليل من أهمية العمل ولكن يمكن أخذها بعين الاعتبار في المرات القادمة للكتابة الطفولية :

1 ـ مراعاة علامات الترقيم ، تكاد القصة الثانية تحت عنوان ( من جديد ) تخلو من أهم علامات الترقيم من فاصلة وعلامات الاستفهام والنقطتان الرأسيتان في حال كل حوار يعقبه استفهام .. مع عدم إغفال تشكيل الكلمات بالحركات ..
2 ـ تحديد الفئة العمرية ، في المجموعة قصتان وكلاهما ينتميان لمرحلة عمرية مختلفة ، من المهم على كاتب الطفل اعتبار أهمية هذا التحديد ، فمن خلالها تسهل على الطفل القارئ اختيار ما يلاءم وعمره ، ومن ناحية أخرى تقضي على حيرة الوالدين أثناء اختيار النمط القصصي المناسب لسن طفلهم الذي يريدان تثقيفه ..
3ـ حبذا لو كتبت العناوين القصتين في كل منهما في صفحة على حدا ، مع مراعاة فصل بين كل قصة وأخرى بصفحة يكتب فيها عنوان القصة الأخرى ؛ لأن الطفل سيخطر بعقله لوهلة أن قصة ( من جديد ) تابعة لقصة ( أوراق ) بينما هي منفصلة حدثيا وقصصيا عنها ..

تلك الهنات ما هي إلا خطوة نحو التجديد ، نحو الإبداع الطفولي ، نحو مزيد من الإنتاج الإبداعي من أجل عيون أطفالنا الصغار ، وقلوبهم النابضة بالحياة ، وعقولهم المتدفقة بالبراءة ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* قصص للناشئة ( أوراق / من جديد ) حسن أحمد اللواتي ، دار الإرشاد للنشر ، سوريا ..

الخميس، 3 ديسمبر 2009

ود أمونه متبلا




ود أمونه متبلا

عِطْرُ البَخُورِ الحَبشي يملأ القطيه، تأتي أصوات المكان مخترقة القش والأقصاب عَبْر الظُلمة للداخل، واستطعنا أن نميز غِناءً جميلاً رقيقاً يتلمس سِكَكَه عبر الليل نحونا، قال ود أمونه:
دِيَّ بوشاي.
ثم واصل في حكي تفاصيل السجن، تحدث بتلقائية وبساطة، بهدوء ورقة لا تتوفر في شخص غيره، ألم قِشي تقاسمني الوسادة البيضاء المستطيلة على طول عرض السرير، تخلف ساقيها مع ساقي، وبين وقت وآخر تتعمد حَكّ أخمصَ قدمي بأحد أظافر رجليها، مُثيرة شَبَقَاً وحشياً تؤجله دائماً حكايات ود أمونه المدهشة في السجن، الليل كعادته في هذه الشهور دافئ مَرِح، عَنّتْ فِكرةٌ لألم قِشِي، عبرت عنها بنهوض مفاجئ من حضني قائلة:
حَأعمل ليكمُ جَبَنَة-
هكذا يعبر الناس عن حبهم واهتمامهم بالآخر في هذه الأمكنة، بأن: يعملوا لك جَبَنة.
قال ود أمونه مواصلاً حكاية العازه، لم تستطع عازه أن تقنع أمه لكي تتركه معها عندما تخرج من السجن، وأرسلت لها الوسطاء من سجانين ومسجونين، وحتى مأمور السجن نفسه، ولم يقنعها سوى ما حدث لود أمونه في ذلك المساء: كنت في طريقي إلى عنبر النُسوان بعد أن عاد من مشوار كلفه به الشاويش خارج السجن، وعندما وصل ود أمونه الممر المؤدي إلى الزنازين وهو الطريق الأقصر إلى الجزء الغربي من عنبر النُسوان حيث مقام أمه، إذا بيد ناعمة قوية تُمسك بذراعه، وأخرى توضع في فمه، كانت تفوح منها رائحة البصل والثوم مما جعله يتعرف بسهولة على الطباخ، ثم همس في أذنه
. ما تخاف، دا أنا-
ثم سُحبت الكف عن فمه، قال له ود أمونه
- عايز مني شنو؟
قال الطباخ
- إنت بكره ماشي مع عازه، طبعاً حيطلعوها من السجن، وإنت حتمشي معاها، وأنا جيت عشان أقول ليك مع السلامة، طالما إنت ما بادرت بالوداع، مُشْ عيب عليك يا ود أمونه، ما تقو لي مع السلامة؟
قال ود أمونه متضايقاً
. كويس، مع السلامة، يَلاّ فك يدي-
قال الطباخ محاولاً أن يكون رقيقاً ومهذباً
- لا.... ما كدا.. مع السلامة دي عندها طريقة تانية، وفي حفلة صغيرة أنا عاملها ليك في مخزن المطبخ برانا، أنا وأنت.. جِبت شمع وعندي ليك هدية، ملابس جديدة وجزمه وكرة وحلاوة وحاجات حتعجبك.
قال ود أمونه وهو يحاول نزع يده
. إذا ما فكيت يدي حأصرخ وأمي تسمع وحتجي تقتلك-
فأدخل الطباخ يده في جيبه وأخرجها قابضة على نقود لها رنين
قال له ود أمونه
. أخير ليك تفكني-
بيد الطباخ الممسكة بالنقود، أعاد النقود إلى جيبه وبسرعة ومهارة فتح زرار بنطاله وأخرجه، شيء لم يستطع ود أمونه تمييز معالِمه في الظلام، ولكن عندما دفع به الطباخ إلى بطن و أمونه، أحس به ود أمونه قوياً وطويلاً، قال الطباخ:
. الموضوع بسيط، وما بِيَاخُدْ دقيقة واحدة، وأنا أدْيّك أي حاجة عايزها-
وعندما مَدّ فَمَه الذي تفوح منه رائحة الصعوط مختلطة بسجائر البرنجي، محمولة على عبق عَرَق العيش، بحركة رشيقة خاطفة أمسك ود أمونه بشيء الطباخ، كان مظلماً، كبيراً وأملس، أدخل ما يكفي في فمه وبين أضراسه الحادة نفذ وصية أمه بحذافيرها، الشيء الذي جعل كل من في السجن والذين يجاورونه والذين تصادف مرورهم في تلك الليلة بتلك الأنحاء، يقفزون رعباً في الهواء من جراء صرخة الطباخ العنيفة البائسة التي لم يسمع أحد في حياته مثلها ولن تتكرر في مقبل الأيام، صرخة أطارت العصافير الصغيرة النائمة في أشجار النيم في وسط السجن، جعلت السمبريات العجوزات الساكنات بالسنطة عند بِركة المياه جنوب السجن، تضرب بأجنحتها في ذعر، كانت الصرخات التي ألحقها بالصرخة الأولى، أقل أهمية، لأن أحداً لم يسمعها سوى ود أمونه، كانت أكثر بؤساً ورعباً. ثم سقط.
بصقت رأس الذكر من خشمي، كان شيء مقرف.-
قالت لي أمي بعدما صلينا صلاة الصُبح في الساحة
- إنت حتمشي مع عازه إلى بيتهم، أنا تاني ما حأخاف عليك، إنت بس حافظ على أسنانك، حأديك قروش تشتري بيها مساويك.
رائحة قلي البُن الحبشي تملأ رئتي عبقاً لذيذاً، وصوت بُوشَاي الحُلو يغني، فيأتي به الهواء الدافئ من حي العُمدة إلى قطيه أدّي شَهياً، قالت ألم قِشي:
بعد دا كله.. الطباخ شغال لِسَعْ في السجن، سمين زي البغل.-
كنت أعرف هذا السجان، وقد سمعت بقصته هذه من قبل ولكني لم أعرف التفاصيل إلا الآن، ولم أحس ببشاعة الحدث و فداحته بهذا القدر، لقد كان هذا السجان يسكن في ذات القشلاق الذي كانت أسرتي تسكنه، فأبي يعمل بذات السجن،ويعرف الناس عنه غرابة السلوك، ولو انه لم يتحرش بأي من أطفال القشلاق، فلقد كان له رفقاء في عمره، لم أقل لهم أنني أعرفه، ولم أقل لألم قشي أن ما قالته عن استمرار عمله بالسجن و سمنته ليسا حقيقة، فلقد مات الطباخ بعد هذه الحادثة بسنة واحدة، لدغَه ثُعبانٌ في مخزن البقوليات بالسجن، لم أقل لهم أن هنالك صِلة قرابة تربطني به .
تحركت ألم قِشي وهي تحمل المِقلاة تطوف بالقُطيه مقربة إياها من أنوفنا، فنستنشق المزيد.
قال ود أمونه
- طلعت من السجن وأنا عمري عشر سنوات، لكن تقول راجل كبير، كنت بعرف كل شئ، ما تفوت عليّ كبيرة ولا صغيرة.
أضافت ألم قِشي في زهو
. ما شاء الله.. ود أمونه دا... أصلو ما تقول كان طفل في يوم من الأيام -
صبّت البُن في الفُنُدك وأخذت تدق بتنغيم اتبعته بغناء بلغة الحماسين.
قال لي ود أمونه معتذراً
معليش شغلتك بحكايات السجن والأمور الفارغة دي، أنا حأخليك شوية مع ألم قِشي وحنتلاقى، أنا قاعد في قطيه ما بعيدة من هنا.
بالغرفة سرير واحد ولكنه ضخم، يساوي سريرين كبيرين، مصنوع من السنط، له قوائم ضخمة ثقيلة، عليه مُلاءة بيضاء مطرزة بالكروشيه في شكل طاووسين كبيرين متقابلين بالفم، ويبدو النهج الحبشي واضحاً في فن الحياكة والتطريز،من حيث استخدام اللون الأصفر و الأحمر و الأخضر، كانت ألم قِشي كعادة الحبشيات تبدو في بشرة حمراء ناعمة وساقين طويلتين نحيفتين منتظمتين جميليتين، عليهما نقوش حناء باهتة ووشم على القدم غريب، بدأ لي كصليب أو خاتم سليمان، أو ربما وردة سحرية، على كلٍ، كان شهياً وطيباً وطازجاً.
لا أفهم كثيراً في ممارسة الجنس، في صباي، أنا وغيري من صبية الحي، في أيام مراهقتنا الأولى، أتينا الأغنام والدحوش وحتى العُجول ولم يكن ذلك ممتعاً، ولكنه مهماً حيث تبدو كبيراً وفحلاً أمام أصحابك وإلا لُقبت بـ المرا، وهذا لا يجوز في حق أحدنا، ولكن، تجربة شريرة حدثت لي قبل ذلك أي قبل البلوغ، كانت الأكثر إدهاشاً وأكثر بقاء في ذهني وربما مازالت توجه بوصلة الجنس في ظلماء نفسي، اعتادت خالتي التَاية أن ترسلني إلى المِطحنة عند الصباح الباكر، قبل الذهاب إلى المدرسة، لكي أوصل جردل العيش إلى هناك ثم أعود لأخذه في نهاية اليوم وأنا عائد من المدرسة، أي بعد أن يتم طحنه حيث تقوم بإعداده لصنع كِسرَة يوم غد، التي تبيعها في السوق الكبير، صاحبة المطحنة امرأة شابة ليس لديها أطفال، يعمل زوجها في سوق الخضار، وكعادته لا يعود إلا عند المغرب، وهي سيدة معروفة في مجتمع المراهقين بصورة جيدة وكل واحد منهم له معها قِصة، ربما أغرب من قصتها معي، ولكن ربما الشيء الذي يميز حكايتها معي؛ هي أنها كانت تضربني ضرباً مبرحاً، لا أدري لماذا في ذلك الوقت، ولكني فهمت فيما بعد بعض الشيء، عندما أعود لأخذ الطحين كانت تأخذني إلى داخل المنزل عبر باب داخلي للمطحنة، وهناك تخلع ملابسها وملابسي، في أول مرة شرحت لي وأرتني إياه، وخفت خوفاً حقيقياً عندما رأيته لأول مرة، كان لا يشبه كل التصورات التي رسمتها له و أصحابي، كن نظن أنه شيئاً جميلاً، جذاباً مثل الوردة، ولكن هذا الشيء الذي أمامي شيئاً آخر، إنه أشبه بفأر كبير على ظهره شعر أسود مرعب،له فم كبير وربما أسنان أيضاً، بل له رائحةٌ كريهة،لا أدري كيف خُدعنا به طوال تلك السنوات، فلم آلفه أبداً،ولكنها بخبرة المرأة المجربة التي تعرف كيف تُثير، أزالت مخاوفي، ثم عرفتُ كل شيء، أو ما ظننت أنه كل شيء، ولكنها كانت تطلب مني غير الإيلاج أن أقذف، بالأحرى كانت تأمرني قائلة:
. بُول … بُول..... بُول -
وأنا لا أعرف كيف أبُول هناك، وليس لدي بُول في مثانتي، فكنت أقول لها ذلك فتغضب فتضربني قائلة:
؟ بُول، بُول الرُجال، إنتَ مَاكْ راجل-
ولم أعرف بُول الرِجال هذا إلا بعد سنوات كثيرة، عندما جاءتني في الحلم هي ذاتها عارية، وبَحلق فيّ فأرُها المتوحِشُ، وضربتني عندما اشتد بها الشبق.
. بُووووووووول -
فبللت ملابسي بسائل دافئ، له رائحة اللالوب الذي كنت أكثر من أكله في تلك الأيام، خرج البُول في لذة و ألم مُدهشين। ثم لم أبل في سيدة بالفعل أبداً، حيث لم تتح لي فُرصة لذلك، أو أنني كنت خجولاً أمام النساء، ولم تصادفني من هي في جُرأة تلك المرأة، أو لست أدري ما هي حكايتي بالضبط، كل ما امتحنت به جسدي، كانت لمسات أخت صديقي الدافئة البريئة، إذن بعد خمسة وثلاثين عاماً والآن ، وجهاً لوجه مع امرأة، ولأول مرة في حياتي: امرأة فعلية مجربة وخبيرة وأنا رجل كبير في السن راشد وبالغ ولا خبرة لي في النساء، ولا أدري كيف فَهِمَتْ ألم قِشي ذلك، ولكنها قامت بكل شيء بنفسها، بدءاً من لِبسِ الواقي؛ انتهاءً بالبُول، بُول الرُجَال، كانت تسحبه من أعماقي بِجُنونٍ ولذةٍ لا يوصفان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبدالعزيز بركة ساكن :

من مواليد مدينة كسلا شرق السودان عام 1963م، وهو صاحب رواية (الطواحين) ، ورواية (رماد الماء) وله مجموعة قصصية بعنوان (على هامش الأرصفة) ، وأخرى بعنوان (امرأة من كمبو كديس)، حقق جائزة الـ بي بي سي أكثر من مرة عن قصته (دراما الأسير) ثم عن قصته (فيزياء اللون)..

ترجمت بعض أعماله إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية، كتب أيضا عددا من النصوص المسرحية، صدر له مؤخرا عن (مكتبة الشريف الأكاديمية) كتاب (البلاد الكبيرة) في (552) صفحة من القطع المتوسط، متضمنا روايتيه:

الطواحين و رماد الماء، بالإضافة إلى روايته (زوج امرأة الرصاص) التي تنشر لأول مرة، ضمن هذا الكتاب .
روايته الجديدة- لم تنشر بعد (الجنقو- مسامير الأرض) حققت جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي في دورتها الأخيرة
.

الاثنين، 30 نوفمبر 2009

وأسقطتك سهوا..!


وأسقطتك سهوا ً !

كنت َ الحضور دوما
وكنتٌني الغياب أبدا
رسمت َ شخصك َ بأصابعي فيك
فأعلنت الدفوف عرسك
والطبول كفني ..

***
أنت الشمول في كل الفصول
وأنا الاختصار بعقدة فصلك
فأزهر عمرك ربيعا
وَيتُم عمري خريفا ..

***
تعود لترحل في مسكني الأبدي " قلبي "
وأرحل لأعود في مسكنك المؤقت " قلبك "
فتشتعل شبابا في ّ ،
وانطفئ شيبا فيك ..

***
ترتشفني قدحاً
ولا تكف عن عادة التخمة مذ عرفتك
ولا أكف عن محاولة رشفك
فيرتعش قدحي جوعاً مذ ..

***
تتلبسني ذنبا يغتفر
واتلبسك خطيئة تعفر وجهي التراب
فيدفع جسدي ثمن ديتك
وتدفع جسدك عني امرأة أخرى ثمنا ..

***
لفظت َيوما : أحبك ِ
ويقينكَ : أكرهك ِ
ولفظتُ يوما : أكرهك َ
ويقينيِ : أحبك َ
فكذّب السنين يقينك
وخمّنت السنون صدق يقيني ..

****
احتضننا موعد مع الكرز
قطفت لي وقطفت لك
هبت ريح فاصلة
كيت وكيت ....... ،
فأسقطتني عمدا وأسقطتك سهوا ً.. !


كتبت : 21 / 3 / 2006م

السبت، 28 نوفمبر 2009

لذة عابرة



لذة عابرة


" إنه يريد مني خمرة شفاه

ما الذي أقوله لقلبي المفعم بالأمل

إنه يبحث عن لذة عابرة

ولا يدري أنني أبحث عن حب يدوم "


فروغ فرخزاد

الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

UAE



العيد لا يتأخر عن مواعيده ..
لكن بعض المناسبات تضطر لنرجسية العيد أن تقدم مواعيدها ..
الشارع الإماراتي والهيئات العامة والمدارس ارتدت ملابس عيدها الوطني ..

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

الحذاء الضيّق



الحذاء الضيق

انتعلوا حذاء ضيقاً عند ذهابكم لطلب يد فتاة. ألبسوا حذاء ضيقاً بعض النمر عندما ستلتقون للمرة الأولى بمن سيصبح حماكم في المستقبل.تستطيعون الزواج من الفتاة التي تريدون عندما ترتدون حذاء ضيقاً. حتى لو رفضت تلك الفتاة فإن والديها سيجبرانها على ذلك وهذا مجرب لا محال.لقد تعلمت تلك الحقيقة قبل سنوات طويلة.عشق “سيرمت” فتاة حتى الجنون. وبسبب هذا العشق أهمل جميع أشغاله وأعماله. جميع أصدقائه كانوا يشفقون عليه وعلى حالته حتى أنني قلت له ذات مرة:- أتحبك الفتاة أيضاً؟

- وأي حب!!..

- إذن تزوجا.

- وكيف أتزوج يا أخي فأنا وحيد هنا في استنبول . أمي وأبي في أرظروم ولا أحد لي هنا. ومن سيطلب الفتاة من أمها؟.

- ياهوه..! تلك الأزمان ولت، اذهب مباشرة إلى والدها وقل له “توافقت واتفقت مع ابنتكم لذلك أرجوكم أن تمدوا لي يد المساعدة للزواج بها”.

- وأنا من أجل ذلك سأتزوج. والد الفتاة غني، وبغير هذه الوسيلة لا أستطيع ضمان حياتي. هيا لنذهب، والدا الفتاة في البيت اليوم.
- لا أستطيع يا عزيزي سرمت.

- ياهوه..! إنها خدمة أخوية. وبفضلها ستنقذ حياتي.وافقت لأنه كان على وشك البكاء. حذائي الذي انتعله مهترئ، أضحى مثل تمساح فاغر فمه، أيعقل أن نذهب إلى بيت الفتاة بهذا الحذاء. ولا نقود لدي لشراء حذاء جديد. طلبت سلفة من معلمي على الرغم من معرفتي ببخله وأنه يعتبر من أبخل من في ببيالي. قال لي يومها:

- هاه، تذكرت، عليك عشر ليرات هل سددتها؟أما مديرنا الإداري فهو رجل طيب، أنقذني وأعطاني خمس عشرة ليرة على أن يحسم المبلغ من راتبي. اتجهنا أنا وسرمت مباشرة إلى سوق الأحذية المحلية، هناك تباع أرخص الأحذية.تعتبر الأحذية ذات المقاسات دون السبعة والثلاثين، أحذية ولادية وتباع بأربع عشرة ليرة وسبعين قرشاً، وما فوق وحتى الستة وأربعين أحذية رجالية أغلى بعشر ليرات، مقاس قدمي ثمانية وثلاثين.إن هذه المفارقة تعتبر من أكثرها ظلماً في هذه الحياة. أيعقل أن أدفع عشر ليرات زيادة بسبب نمرة واحدة؟!.


عدا عن ذلك من غير المعقول أن يكون سعر الحذاء ثمانية وثلاثين بسعر الستة وأربعين. لم استطع شرح هذه المظلمة للبائع بأي شكل من الأشكال لذلك اتجهنا إلى المدير، أظهر تفهمه إلا أنه قال:

- ماذا نفعل إذا كانت الأنظمة السارية هكذا؟لم أستطع ضبط نفسي لذلك رحت ألقي كلمة قائلاً:

- سحقاً لجميع أنواع الظلم في العالم.
- اصمت وإلا فتحنا محضراً بذلك.جمعنا ولملمنا كل ما لدينا أنا وسرمت إلا أن ذاك لم يكف لشراء حذاء مقاسه ثمانية وثلاثين.قال لي سرمت
خذ سبعة وثلاثين.
- ضيق لا يناسب قدمي.
- تنتعله من أجل خاطري.

- ياهوه..! أي خاطر وماطر في الأحذية والأقدام؟قلت بيني وبين نفسي ماذا أفعل؟. من أجل خاطر الصداقة اشتريت الحذاء. أبرزت النوايا الحسنة لانتعال الحذاء، حقيقة حاول البائعان كثيراً مساعدتي، مسكين، سرمت، حبات العرق تنساب من جبينه، وأخيراً نجحا وربطا رباط الحذاء وقالا:

- هيا قم.قالا لي ذلك لأني كنت ملقى على الأرض. نهضت بعدما حملاني من تحت إبطي ، وحال نهوضي صرخت:- أغيثوني.أتمنى أن لا يحرم الله قدماً من حريتها، فحرية القدم لا تشبه حرية الصحافة ولا حرية الوجدان.
قال البائع:
- سيتوسع الحذاء عندما تسير عليه قليلاً.أي مسير فأنا لا أستطيع الحراك. خرجنا إلى الشارع وأنا أشعر أن شرايين مخي تنتفض لدرجة أن حبات العرق أخذت تنساب من أسفل ظهري، في هذه اللحظات قال لي سرمت:

- هل حضرت قصصك الساخرة التي سترويها لوالد الفتاة؟.ركبنا الترمواي.

- رجاء يا سرمت أزل هذه البلاء من قدمي.

- لا تخلعه سيتوسع بعد قليل.على ما يبدو أنه لن يتوسع ، وبسبب الألم قلت له:

- سأخلعها وعندما ننزل من الترمواي انتعلها ثانية.وأي حال وصلت إليها حتى أشفق على الركاب والمراقب والجابي، لذلك هبوا جميعاً لمساعدتي في خلعها، حاولوا كثيراً إلا أنهم فشلوا. أحد الركاب قال:

- لنقصهما وننقذه.قلت له:

- لا!!.كيف سيقصه وبألف يا ويلاه جمعنا ثمنه، لا سيما أن في أعماقي أملاً بتوسع الحذاء وانتعاله براحة.نزلنا من الترمواي وأنا أصرخ متألماً، أتأوه وأتأخأخ ولم أدر كيف مشينا.في الطريق سألني سرمت:

- هل حفظت القصص الساخرة التي سترويها، رجاء قل له ما تشاء وأضحكه، لأنه عندما يضحك سيلين وسيزوجني ابنته. رجاء أرو له نكات جحا ولا تنس قصصاً أخرى.عندما وصلنا إلى البيت لم أعرف كيف ألقيت بنفسي على الديوان وغطيت وجهي بيدي.

- سألنا والد الفتاة:

- ما سبب زيارتكما؟راح سرمت يستغيث بنظرات حتى كاد أن يبكي. أما أنا فلم أستطع التفوه بحرف واحد. كنت أتصبب عرق الموت، ووجهي محمراً كالشوندر. وكل قطعة من جسدي تلتهب من الحمى.لاحظ سرمت أن لا أمل مني بالمساعدة، لذلك انفكت عقدة لسانه وراح يثرثر ويروي الحكايات، بينما كنت أتصبب عرقاً.سألتني والدة الفتاة:

- لم لا تتحدث؟أجابها سرمت:

- إنه خجول جداً يا سيدي.يداي بين فخذي، وأنا أتقلب من الألم، أثناء ذلك أحضرت محبوبة سرمت القهوة. من ينظر في وجه الفتاة يهرب إلى آخر الدنيا، جازاك الله يا سرمت أمن أجل هذه الفتاة كل هذا.في النهاية نجح سرمت في رواية كل ما حفظ من قصص ساخرة كذلك نجح في إضحاك الرجل وزوجته حتى “طقت خواصرهما”، وجهي متغضن من الألم، وفي عيني أشعر بشرارة تشبه البرق.أخيراً عرض سرمت رغبته في الزواج من ابنتهم. أجابه والدها:

- لنفكر بالأمر.بينما قالت والدتها:

- خيراً إن شاء الله، إنها القسمة والنصيب.بعد ذلك سألني هل أنت أعزب؟عندها أجبتها مطأطئاً رأسي:

- نعم.كانت الكلمة الوحيدة التي تفوهت بها.بعد خروجنا من عندهم تركني سرمت غاضبا بعدما أنبني قائلاً:

- أي صديق أنت؟. يا خسارة.هكذا بقيت وحيداً وسط الزقاق، جلست على الرصيف، كنت سأمشي حافياً لو استطعت خلع حذائي. لكنه التصق بقدمي. فلم ينخلع وكأنه أصبح جزءاً من جسدي.لا أدري كيف وصلت إلى مركز الجريدة. وألقيت بنفسي على أريكتي متمدداً:

- أنقذوني يا أصدقاء!.حاولوا كثيراً دون جدوى:

- قطعوه، قطعوه.كل واحد منهم حمل سكيناً أو مشرطاً أو موس حلاقة.اقترح أحد الأصدقاء قائلاً:

- هذا اختصاص، لا بد من عمل جراحي.لقد التصق الحذاء بقدمي لدرجة أنهم قطعوه، ومع ذلك لم ينخلع، وأخيراً نجحوا بعدما قطعوه إرباً إرباً. وبذلك استطاعت قدميّ معانقة حريتهما. وأنتم تعرفون معنى ذلك.ثلاثة أيام لم أستطع المشي بتاتاً. وكل ما حدث تم بعد ذلك.سابقاً/ كنت أنتعل ثمانية وثلاثين لكن بعد ذلك، حتى الأربعين بات ضيقاً على قدمي، فقد كبرت قدماي بعدما عانقتا حريتهما، ألسنا هكذا نحن بني البشر عندما نتحرر من أي احتجاز ومهما طال أمده نتضخم ولا نستطيع الدخول من باب البيت.


بعد أربعة أيام قدم إلي والد الفتاة التي طلبها سرمت، وبعدما تحدثنا بموضوعات شتى قال لي:

- قررنا، أنا وزوجتي، تزويجك ابنتنا.ذهلت مما سمعت:

- لم؟ لم أفهم…
- لأننا أعجبنا بك كثيراً، لم نصادف طوال حياتنا شاباً خجولاً مثلك، لم نر شاباً ذا تربية عالية مثلك، يوم أتيت إلينا كنت تقطر عرقاً من شدة الخجل ووجهك مبقع حمرة، لم تتفوه بتاتاً وكنت مطأطئ الرأس، شرف لأي عائلة دخول صهر مؤدب إليها.

- وماذا عن صديقي.. ماذا سيحل به؟.

- أرجوك اتركه، فهو ثرثار أحمق، وقليل الحياة. تصرف بشكل غير عقلاني، حسب ظنه أنه كان يروي قصصاً ونكات . لا فتاة عندي كي أزوجه.راح الرجل يزورني مرة كل ثلاثة أيام ممتدحاً تربيتي وحيائي:

- أنا بحياتي.. مثلك مؤدب، ذو أخلاق عالية، وجهك يقطر حياء.. لا تدري أين تضع يديك..

- يا سيدي أنا لا أفكر بالزواج الآن.

- فكروا بالأمر.. سآتي ثانية ونتحدث في الموضوع.وهكذا أخذ الرجل يزورني كل يومين أو ثلاثة أيام ليتحدث ممتدحاً حيائي، تربيتي:

- لم أرد شاباً ذا تربية عالية، وأخلاق.. وجهك مبقع حياء.. لا تعرف أين تضع يدك..ذات يوم لم أستطع ضبط أعصابي، أخرجت من درج طاولتي قطع حذائي ذي السبعة والثلاثين ملفوفة بجريدة وألقيت بها أمامه وصرخت به:

-ها هي الأخلاق والتربية والخجل خذه وزوجه ابنتك!

تذكروا عندما تنوون الذهاب لطلب يد فتاة أن تنتعلوا حذاء ضيقاً..


_________________________________


عزيز نيسين (1915- 1995) :


اسمه الحقيقي محمد نصرت نيسين من مواليد تركيا عام 1915 في جزيرة قرب استانبول و استخدم اسم عزيز نيسن الذي عرف به فيما بعد كاسم مستعار كنوع من الحماية ضد مطاردات الأمن السياسي في تركيا و رغم ذلك فقد دخل السجون مرات عديدة يعتبر عزيز نيسن واحد من أفضل كتاب ما يعرف بالكوميديا السوداء في العالم أو ما تسمى بالقصص المضحكة المبكية و المضحك المبكي في حياته انه و برغم شهرته الواسعة في كل ارجاء العالم كمبدع فذ الا ان بلده الأم تركيا لم تعطه من حقه سوى القليل توفي عزيز نيسن في تموز عام 1995م


الجوائز التي نالها :


-جائزة السعفة الذهبية من إيطاليا عام 56، 1957
-جائزة القنفذ الذهبي من
بلغاريا
-جائزة التمساح الأولى من الاتحاد السوفيتي 1969م
-جائزة اللوتس الأولى من اتحاد كتاب
آسيا وأفريقيا 1975م
- الجائزة الأولى عام 1968م على كتابه (ثلاث مسرحيات أراجوزية)
- جائزة المجمع اللغوي التركي عام 1969م

السبت، 21 نوفمبر 2009

دمي قوس قزح ، ما هو لون دمائكم ؟




17


دمي قوس قزح ، ما هو لون دمائكم ؟

سرت في خاطري فكرة ، أنا التي همّشت نفسها في ركن ضيق من مقهى يلجه أخلاط كثيرون ولكنهم في النهاية مثلي بشكل أو بآخر ، مرتابون من كل شيء طارئ ، حذرون من الغرباء ، يطفحون بالفضول تجاه مكنوناتهم الخاصة بهم من هذا الكون الفسيح ، كل هذا لا يهم ..
الفكرة التي طرقت باب عقلي مريبة نوعا ما وربما شاذة بالمعنى الأدق لمفهوم المفردات ، الفكرة كانت تلح علي قائلة : ماذا لو تلون دمك بمزاج الحالة النفسية التي تمرين بها ؟
فغرت فاه لوهلة ، وحينما تنفست سؤال الفكرة على نحو خارج من الدهشة وبشيء من فضول حكيم قلت لها : ماذا تعنين بذلك ؟

أجابت الفكرة كحكيم كشف معضلة : سؤال جميل ، ما أعنيه هو أن لون دماؤكم أحمر كما هو معروف ، لكن ماذا لو تغير هذا اللون طبقا للحالة النفسية للفرد إلى ألوان مختلفة ، لنقل مثلا إذا ما كنت سعيدة فإن لون دمك سيكون أحمر وهو معدل لون طبيعي جدا للبشرية ككل ، لكن إن كنت حزينة فلون دمك يميل للأسود ، أما إذا ما كنت مرتاحة فإن لون دمك سيكون أخضر ، إذا ما كان ضميرك يؤنبك فإن لوم دمك سينزف أزرقا ، أما اللون الأبيض فيشير إلى النقاء الروحي والأصفر في حالة المرض والبرتقالي في حالة الغضب ، في حالة الحب اللون الزهري وفي حالة الإحباط رمادي وهلّم جرا ..


تنفسّت الفكرة على نحو واقعي ، ورأيت أن هذه الطريقة ستوفر عناء طويلا يهلك كاهل أطباء النفس والعلماء عموما ؛ لأنهم لن يضطروا إجراء تجارب وفحوصات للتشخيص ، فيكفي ملاحظة لون الدم ودرجاته وبالتالي الحالة التي ستصاحب صاحبها ..
مذ طرحت الفكرة علي هذا التفكير المغاير لتركيبة دمائنا هجمت عليّ أحاسيس غريبة ، وفي يوم من الأيام التي تلت نزفت لسبب ما ، فهالني ما رأته عيناي ............... !

الخميس، 19 نوفمبر 2009

متفرجة



احجز مقعدك وكن متفرجا على العالم ..

الاثنين، 16 نوفمبر 2009

فضل العشر




فضل العشر


" عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر .. قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : " ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء "

الجمعة، 13 نوفمبر 2009

أسأل ُعن حجر لي




اسأل ُعن حجر لي


" إني سعيد بأن أكون حجرا ..

الحجر من الخارج أحجية :

لا أحد يعرف حلها

أما من الداخل ، فلابد من أنه بارد وهادئ

مع أن بقرة تدوس عليه بكل ثقلها ،

ويرميه طفل في النهر ،

الحجر يغوص ببطء ورباطة جأش

إلى أعماق النهر

حيث تأتي الأسماك وتربيّه وتصغي "



الشاعر الأمريكي " تشارلز سيميك "

الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

صاحبة الابتسامة الساحرة



صاحبة الابتسامة الساحرة


يذوب معهن كل ليلة ورغباته تهطل بتدفق شلال.. وماؤه الآسن يكاد يغرق غرفته المظلمة وما فيها ..
أحيانا من حرارة رغباته المنصهرة يتوه كليا مع تلك المشاهد الفاضحة لنساء عاريات .. فيلعقهن بمحجريه كأنهن في أحضانه وبين فخذيه ، هكذا تنوس لياليه بين القنوات المشفرة والصور المتلاحقة في شبكة الانترنت وأشرطة الفيديو ..
وفي صباح يغادر بكسل إلى ( دوامه ) ورأسه دائخة من لياليه الحمراء وعيناه مرهقتان في غيمة من هالات سوداء أشبه بمتعاطي الهيروين ، يتصاعد تثاؤبه لاعنا في نفسه : " عليك لعنة الله يا محمود ، كل هذا بسببك " ..
محمود الموظف الذي اشتهر بترويج أشرطة فيديو الإباحية ومفاتيح القنوات المشفرة والمواقع التي تتعرى صورا فاضحة .. لطالما أغراه : " صدقني يا يحيى ، ستقضي أجمل لياليك مع أي امرأة يرغب بها مزاجك .. أمريكيات .. فلبينيات .. لبنانيات .. كل ما تشتهيه مخيلتك موجود .. ما عليك سوى كبسة زر " ..
وهاهو يقضي سهراته في البيت إما جامدا أمام التلفاز أو ساكنا أمام الانترنت .. وأمه المسكينة تعتقد أنه أصبح رزينا ولا يسهر خارج المنزل مع ( شلته ) الفاسدة تلك ، كم بعثرت نصائحها في وجهه ، وكم بصقت حسرتها في تعديل سلوكه ، لكن كبسة الزر السحرية جعلته طوع عيني أمه التي لا تعي ما يفعل في غرفته المظلمة دوما ..
يذكر أنها منذ أسبوع في يوم عيد ميلاده الثالث والثلاثون كم أهرقت دموعا وهي تستجديه أن يتزوج ؛ كي تسمع غطيط أحفادها الصغار وهم يلاعبونها وينادونها جدتي ..
منذ ذلك اليوم وسيرة الزواج تخاتل في ذهنه ، تحفر أخدودا في فراغ قابع في ذاته ، يستشعر معها أنه بحاجة إلى امرأة حقيقية يعجنها بين يديه ، يقبلها ، يعانقنها ، وأن تلك المواقع والصور الفاضحة قد همدت روحه وجسده وعمره ..
" نعم ، يجب أن أتزوج .. "
هكذا عزم .. وقرر أن يفاجئ أمه المسكينة التي لا تملك في الدنيا غيره ..
ولما توجه إلى المنزل .. دفق خجلا في وجه أمه برغبته في الزواج ، لم تصدق في بادر الأمر ، وهي التي كانت لسنوات تناشده ذلك ، وسرعان ما ارتفع زغرودتها نشوة به ..


* * *


قرر أن يتخلى عن أشرطة الفيديو وأن يلغي الانترنت نهائيا من حياته ، وغيّر موجة القمر الصناعي الذي كان يعرض قنواتٍ إباحية واستبدلها بقنوات دينية و ثقافية وفكرية ..
وذهب مع أمه والسعادة لا تسعه لخطبة ابنة عمه .. فأمه دوما تقول : " ابن العم لبنت العم " .. ولما فاتحوا العم وابنته بالموضوع ، ضربا قاعدة بنت العم لابن العم عرض الحائط .. بحجة أن حظه من التعليم لا يتكافأ مع ابنة العم حاملة شهادة دكتوراه بينما هو دون المستوى المطلوب ، خرج من بيت عمه وتعاسة تجره جرا ، لكن أمه سرعان ما بددت تلك الغيوم السوداء بأن الفتيات يملأن المنطقة كلها وما له سوى أن يشير كي تسجد إحداهن جارية تحت قدميه ..
فذهبوا إلى منزل جارتهم أم سناء ، لديها بنات كثر كالنمل ، ولابد أنهم سيرحبون به .. ويهللون لقدومه ، وقع اختيارهم على إحداهن ، ولكنها ألقت سياط رفضها في وجهه قائلة أنه أكبر منها بكثير فهي ما تزال في طالبة في مقاعد الدراسة ، ولما جاوزا الطلب لأي واحدة من أخواتها ، زعقن رفضا بأنه اختار أختهن السابقة دونهن في البداية ..
غادرهم وموجه من الغضب تموج في داخله : " إنهن فعلا ناقصات عقل ودين " ..

* * *


استفحل به شبح اليأس .. شهور وهو يدور مع أمه من بيت إلى بيت ومن منطقة إلى منطقة ، بل لم يتركوا بقعة واحدة من المناطق المجاورة ، والأبواب توصد في وجهه ، منهن من تقول أنه بدين ، وأخرى ترى أنه طويل أكثر من اللازم ، وبنت فلان تنعته بالجاهل ، وأخرى تطلب مهرا يقصم الظهر ، وفتيات المناطق الأخرى رفضن بحجة رفض فتيات منطقته الذي ترعرع معهن في سنن الطفولة ، حتى أمه المسكينة ما عادت تهرق دمعها طلبا لغطيط الأحفاد ..
غير أن بصيصا من النور ومض في داخله عندما اقترح عليه أحد أصحابه أن يتزوج من أجنبية ، فهن أرخص ولا يسببن وجع الرأس كبنات البلد ..
ولما توجه للجهات المختصة طلبا للإذن ، قذف العامل معاملته في وجهه وهو يذعن : " سنك القانوني لا يسمح بذلك ، عد عندما تكون مخرفا وإحدى رجليك في القبر وأخرى في الحياة " .. !
شق قدميه الثقيلتين بينما تناهى إلى أذنيه وهو يغادر بجسده صوت العامل وهو يضرب كفا بكف مع زملائه في المكتب قائلا : " لا حول ولا قوة إلا بالله ، بنات البلد مكدسات كالذباب في الوطن وهو يفتش في خارجه .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. اللهم ثبت عقول الشباب ..!"

* * *


قلّب الهاتف بين يديه .. وعزم على الاتصال بمحمود كي يأخذ منه أشرطة الفيديو ومفاتيح دخول القنوات والمواقع الاباحيه ، وينسف فكرة الزواج نهائيا من حياته ..
قهقه محمود الذي رحب به وبطلبه ، واتفقا أن يستلم ما طلبه منه في العمل ..
وعندما أطبق على أنفاس هاتفه النقال .. رأى أنه منتصب كالنخلة أمام إحدى محلات لبيع أقمشة نسائية ، كان محلا فاخرا يكتظ بالنساء من أشكال وأحجام مختلفة ، قذف لعانه في سره لهن وهو ينعتنهن بالبغايا ، غير أن منظر إحداهن على الواجهة المحل كان غريبا .. كانت تحدق فيه بابتسامة مغرية يشق شفتيها العليا والسفلى كرزتين مضمختين بحمرة قرنفلية ويسفر عن أسنان لؤلئية داخ معها بأحلامه وهو يجاريها بابتسامة أكبر ..
قرر أن يتجرأ ويقترب منها ، دفع الباب .. توجه نحوها مباشرة .. رغم أن صفا من النساء تكتلن حولها ، وكلهن غانيات .. غير أنها هي من خفق قلبه لها من أول نظرة ، كانت ترتدي بنطالا من الجينز مع قميص وردي مقلم باللون الذهبي اللامع ..
" يااااأالاه .. على تلك الجبال الشامخة في مقدمة صدريتها المكشوفة .. "
رأى أن ابتسامتها مشجعة على الاقتراب أكثر ، فاقترب منها حتى كادت أنفاسه تلامس وجهها الغض ببياض الزنبق النقي ..
هل يضع يده السمراء على يدها البيضاء ، سرعان ما تراجع عن هذه الفكرة الشيطانية .. خصوصا أن أنظار المارة الكاشفة بدأت تلتهمهما ..
وودعها حيث هي ، بعد أن تأكد أنها مرابطة في هذا المحل دوما ..


* * *


كل يوم وهو يرابط عند بوابة المحل الزجاجي اللامع والابتسامة الساحرة ذاتها تشرق بين شفتيها منفرجتين لذة ، مرة يراها بالجينز الأزرق الضيق ممزق عند حواف الكوعين يعلوه قميص من الشيفون الأحمر بلا أكمام تزين صدريتها حبات من الفصوص الفضية البراقة .. ومرة أبصرها في فستان ذهبي تتمايل فيها كخصر أفعى رشيقة ، يرتفع بانسيابية كنك يستر عنقها الطويل ممشوق البياض وينفرج بفتحة ضيقة بين النهدين الضاجين في حبسهما السافر ..


* * *


تعشش في داخلها ودارت أمانيه حولها غير قادر أن يتنفس امرأة أخرى ، ظلت لليال وهي تذرع في مخيلته بابتسامتها الطاغية ، وقرر أخيرا أن يمتلكها ..
جرى إلى أمه ليزف لها خبره ، ولما أخبر أمه لم تصدق أذنيها ، وظلت تهاجمه بسيل أسئلتها عن أهلها وفصلها ومن أي منطقة قطفها ..
خرج من عندها وهو يردد بحبور : " ستعرفين كل ذلك لاحقا " ..

* * *


جهزت أمه كل تفاصيل الحفل ، بعد أن بعثت بطاقات الدعوة لكل الناس ..
بينما توجه هو إليها ، وأقعدها إلى جانبه ، حتى أن مهرها لم يكلفها كثيرا ، وأخذا يجوبان معا المحلات التجارية لشراء مستلزمات الزواج من قمصان النوم والملابس الداخلية والأحذية والحقائب اليدوية .. الخ ..
ولما عانق جسدها ثوب الزفاف لم يصدق عيناه ، وظل يلقي على مسمعها وبيلا من كلمات الغزل ..
حتى وصلا إلى صالة الأفراح ، والناس تجمهروا من كل حدب وصوب ، ليتعرفوا على العروس الفاتنة ، هاتف أمه أنه وصل مع عروسه وأخبرها أنهما سينزلان معا ..
كانت القاعة مظلمة .. وأضواء الملونة الوامضة تتراقص بخفوت سافر ، وارتفع صوت موسيقى الزفة يفترش القاعة كلها في سكون هامد ، بينما الأعين كلها منتصبة على منصة النزول ، والبوابة تشرع كما الصدفة بهدوء يستفز فضول الحاضرين .. أمه بدأت تزغرد وتبكي في آن ..
دخلا معا .. والابتسامة الساحرة إياها على شفتيها المغريتين بحمرة ، والناس بعضهن شهقن وبعضهن غرقن في ضحكن متواصل ، وأخرى تحوقل بعجب الدنيا والناس ..
بينما هو يجر دمية ( المنيكان ) بابتسامتها الساحرة خلف وميض من أضواء الملونة الراقصة ..

السبت، 7 نوفمبر 2009

شروط الزواج




شروط الزواج / الكاتب الإيراني كيومرث صابري



حينما خرجت من الدائرة ، بدأ الثلج ينهمر حبة حبة ، حينما وصلت إلى الرصيف ، كانت الأرض قد اكتست ثوب البياض على مد البصر .
رفعت ياقة معطفي ، وأخذت الطريق أمامي ، لا يزال أمامنا من الشتاء الكثير ، قلت لنفسي إذا استمر البرد هكذا ، فسوف نرى الويل حتى آخر الشتاء . حينما دخلت البيت ، شاهدت والدتي في الباحة تجمع الغسيل عن الحبل ، منذ عدة أعوام ، وأنا أمازحها عند هطول الثلج :

_ أماه ، جاءنا برد يقتل العجائز ! واليوم حينما هممت أن ألهج بهذه العبارة ، بادرت هي للقول :

_ يبدو أنه برد يقتل العزّاب ، أليس كذلك ؟ لم يكن في بيتنا عازب غيري ، أطلقت الوالدة مزحتها بعد عدة سنوات ! ذهبت مباشرة إلى غرفتي ، أوقدت المدفأة ورحت أتملى الصقيع من خلف النافذة ، سئمت النظر للصقيع ، في عالم الأخيلة المجنحة ، سافرت نحو فتيات الأقارب :

_ زري ؟ سيمين ؟ عذراء ؟ مهوش ؟ بروين ؟ على فكرة ، ربما جالت فتاة في خاطر أمي ، دفعتها لمزحتها هذه ... نيران فتيات الأقارب لم تسخِّن لنا قدح الماء ، في عالم الأخيلة المجنحة أيضاً ، هششت بعصاي على غربان فتيات المحلة :_ سوسن ؟ مهري ؟ مرضية ؟ ابنة كربلائي تقي ؟ ابنة جم بناه ؟ ابنة...؟لو لم تدخل والدتي الغرفة ، لما علم إلا الله .. كم كنت سأسافر مع هذه الأوهام ، قالت وهي تدفئ يديها :

_ قل لي ، ما رأيك في زينب ، ها ؟ ابنة آقا بالاخان ؟! يقولون أن القلوب سواق تلتقي ، ولكن ثبت لي يوم ذاك أن الأدمغة أيضاً سواقٍ تلتقي .... يبدو أن والدتي شعرت أني أفكر بهن ...
قلت لها : اسمعي يا أماه ، لحد الآن لم أقل أي شيء ، ومن الآن فصاعداً لك أن تفعلي ما تشائين...ولكن بالله عليك لا تلقي بنا في بئر؟
قالت : أبي بئر يا ولد ... أنا التي ابيضت جدائلي في هذه المحلة ، لا أعرف بناتها ؟ ابنة أقا بالا خان أنسبهن لك ، كلما رأيتها في الزقاق تخيلت يداها في يدك ، لقد خلقتما لبعضكما !

_ لا اعتراض لدي ، ولكن ماذا عن والدها ؟ هل يزوج أقا بالاخان ابنته لموظف مسكين مثلي ؟

_ ولم لا ؟ ... إنها ابنة آقا بالا خان على كل حال ، ليست ابنة السلطان .
_ ولكن آقا بالا خان ليس بالقليل ، أولاً هو ( آقا ) (1) وثانياً (بالا) وثالثاً (خان) (3) ... أليس ثرياً .. ماذا يعوزه إذن ؟ لا داعي للتفكير في هذه الأمور . دعني أتصرف أنا ... هل أذهب ؟
_ نعم ، اذهبي وأعدي لنا الغداء ... أنا جائع جداً!
_ أذهب لأعد الغداء ؟
_ نعم ماذا إذن ؟
_ أردتُ أن أذهب لبيت آقا بالا خان لأتحدث في الأمر مع زوجته زرين(4) خانم ! .
_ بهذه السرعة ؟
_ ليس بهذه السرعة طبعاً ... أنتظر حتى العصر وأذهب .
تريثت قليلاً ثم قلت : _ حسناً , لا بأس !
انصرفت أمي فرحة نحو أعداد الغداء ، تمددت أنا على السرير لأفكر في زوجتي القادمة ...
البرد يشتد لحظة بعد أخرى ، برودة السرير تستفزني أكثر ، حقاً كأنه البرد قاتل العزاب الذي تحدثت عنه أمي !


********


حينما عادت ٍأمي من بيت آقا بالا خان كان الليل قد أرخى كل سدوله ، ولكن حتى في هذا الظلام ، يمكن رؤية فكها الأسفل ساقط لحاله وفمها فاغر من الوجوم .
_ ها ما الخبر ؟ وقفت في الغرفة كأنها ملك الموت أو من شاهد ملك الموت .
_ ألم أقل لك أن آقا بالا خان ليس قليلاً ؟ ... ماذا قال ؟
قالت بصوت مرتجف : لم يكن في البيت ، تحدثتُ مع زوجته ... وابنتها كانت أيضاً .
_لم يوافقوا ؟
_لا يمكن القول أنهم لم يوافقوا ، ولكن قالوا يجب على العريس أن يغير أصدقاءه .يرعى نفسه ومظهره أكثر ، ويعود في المساء باكرا إلى بيت ، ليتعود على ذلك من الآن .
_ ماذا قالوا أيضاً ؟ سألوا هل عنده بيت وسيارة ؟ قلت لهم : لديه ماكينة حلاقة ، وسيشتري السيارة لاحقاً إن شاء الله ! والبيت أيضاًً يمكن التفكير فيه ، أودع مائتي ألف تومان في المصرف ليضيف إليها قريباً ، والبيت أيضاً سيشتريه فيما بعد إنشاء الله !
_ ثم ماذا ؟ قالوا إن شهادته الدراسية جيدة ، لكن راتبه قليل ! وعليه أن يقدم قطعة ملك ضمن مهر العروس حتى لا يتحدث عنا الأقرباء بسوء .
_ ثم ماذا ؟
_ ثم إن ابنتي لا تجيد أعمال البيت ، لذلك عليه أن يستأجر لها خادمة وخادماً !
_ ثم ماذا ؟
_ ثم قالوا : فضلاً عن هذا أسمحوا لنا أن نفكر في الأمر ، ونتحدث مع والدها ، ونعلمكم الجواب بعد ثلاثة أشهر ! ... _ ودعتهم ورجعت ... وأنا أيضا ودعت أمي وذهبت لأقضي ليلتي مع الأصدقاء في لهو الشباب حتى لا يبقى اللهو حسرةً في النفس إذا تزوجت .
لم يخبرونا بشيء خلال الأشهر الثلاثة ، كانت الأيام الأخيرة من مهلة قانونية سبقت حكماً وزارياً بنقلي إلى الجنوب ، حينما كانت والدتي تحزم الأمتعة ، أوصت أقدس خانم زوجة جيراننا مرتضى خان ، أن تتصل في رأس نهاية الأشهر الثلاثة بزرين خانم وتكتب لنا النتيجة .


***********


وصلتنا رسالة أقدس خانم ونحن في الجنوب ، علمتُ أن زوجة آقا بالا خان بعثت في اليوم الأخير من الشهر الثالث خبراً : ( إذا لم يغيِّر العريس أصدقاءه فلا ضير , ولكن عليه أن ينفذ باقي الشروط ! ) بعد أشهر وصلت رسالة أخرى تقول :( قالت زوجة آقا بالا خان ، لا ضير إن لم يرع نفسه ومظهره ، لكن عليه أن ينفذ سائر الشروط . ) وبعد أشهر أخرى وصلت رسالة أخرى : ( لا مانع أن يعود متأخراً في الليل ، ولكن لا يتأخر كثيراً فتبقى ابنتي لوحدها ... وعليه طبعاً تنفيذ الشروط الأخرى !) الوقت ينقضي بسرعة ، بعد كل خمسة أو سته أشهر تصل رسالة من أقدس خانم تعلن عن إلغاء أحد الشروط السابقة : زوجة آقا بالا خان جاءت لبيتنا بنفسها وقالت : _لا داعي للسيارة أيضاً K لأن زحام الشوارع لا يشجع على اقتناء سيارة خاصة !... ولكن يجب أن ينفذ العريس باقي الشروط ! قالت لي زرين خانم في الحمام : قال آقا بالا خان البارحة : لدينا بيت ولا ضرورة لأن يفكر فيه ، لكنه يجب أن ينفذ سائر الشروط . ....آقا بالا خان وزوجته أخبروني البارحة :يمكن التنازل عن قطعة الملك في مهر العروس ، لكن الأمور الأخرى مهمة ! .
اليوم رأيت زينب نفسها في الزقاق ، المسكينة تملكها الهزال بشدّة...
قالت : أعيش حتى براتبه القليل ، ولكن لابد أن يستأجر لي خادماً وخادمة ! ...


***********


لا أدري بالضبط كم من السنين أنقضت ، لكنني أعلم أن ابنة آقا بالاخان بلغت السن الذي تسمى من تبلغه ( عانساً ). العوانس إذا كن واقعيات يجب أن لا يفكرن في الزوج ؛ لكيلا تنقبض قلوبهن كلما رنُّ جرس البيت !...شيئاً فشيئاً ، كدت أنسى الموضوع ... خصوصاً وأن أقدس خانم قطعت رسائلها ... حياتي كانت تجري في سياقها الطبيعي ، إلى أن وصلتني ذات يوم رسالة لم يكن لي عهد بالخط الذي طرز بياضها ، فتحت المظروف على عجل .
كُتب فيها : ( السيد برهان بور ) ... بعد التحية ، وددت أن أخبركم ، لأجل استئناف قضية زواجنا ، لا حاجة حتى للخادم والخادمة ، لأنني طوال هذه الفترة أتقنت في مدرسة بيتنا كل الأعمال المنزلية من طبخ وخياطة وتجميل وحلاقة وتطريز ، وحزت فيها على شهادة دبلوم . ( أنا بانتظار جوابكم , الجواب , الجواب , الجواب .... زينب ) .
في اليوم التالي ، حينما أفرغ ساعي البريد صندوق حارتنا كانت رسالتي ذات الأسطر المعدودة من جملة ما فيه من رسائل . كتبت لها : السيدة الفاضلة زينب خانم ! قرأت الرسالة التي بعثتها ، لكنني لم أفهم بالضبط من الذي تقصدينه من ( السيد برهان بور) ؟ إن كان قصدك أحمد برهان فهو يدرس حالياً في الصف الأول الابتدائي ولا شأن له بهذه الأمور ، وأنا والده ... ولا أعزب غيره في البيت ! أبلغي سلامي للوالد والوالدة ..... ( قربان علي برهان بور( . على فكرة ، نسيت القول أنني بعد شهرين من نقلي إلى الجنوب ، تعرفت على فتاة شيرازية سوداء الشعر والعينين ، لم يكن لديها أي تحفظ على أصدقائي أو مظهري أو تأخر عودتي إلى المنزل ، ولم تطالب بمنزل وسيارة وراتب ضخم أو قطعة ملك لمهرها ... فضلاً عن هذا ، كانت بارعة في الطبخ وأعمال المنزل ... والأهم من كل هذا إن والديها لم يكونا ( آقا بالاخان ) و( زرين خانم ) .


(1) بمعنى : السيد .

(2) بمعنى : الأعلى أو الرفيع .

(3) بمعنى : الإقطاعي .

( 4 ) بمعنى : عسجد أو ذهب .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كيومرث صابري :


يعتبر كيومرث صابري رائد السخرية في عصر الجمهورية الإسلامية، وُلد هذا الرجل الذي اشتهر بلقب شخصيته الساخرة (كل آقا) عام 1942م في منطقة صومعة سرا، عاش طفولة فقيرة، اشتغل معلما ثم حصل على ليسانس في الآداب من جامعة طهران، ولج عالم الكتابة الساخرة منذ أيام شبابه الأولى، ثم كتب في مجلة توفيق الساخرة التي لم تدم طويلا، مما شجعه على تأسيس مجلة (كل آغا) التي ستكون أول منبر ساخر في إيران عام 1960م إذ استقطبت أقلاما شابة، ومنها تخرج الكثير من كتاب السخرية في الأدب الفارسي الحديث، حظي كيومرث صابري بثقة رئيس الوزراء الإيراني شهيد رجائي في صدر الثورة فعينه مستشارا ثقافيا وإعلاميا عام 1982م، إلا أنه استقال بعد عامين واعتزل العمل السياسي متفرغا للكتابة الساخرة المنتقدة للحكومات المتعاقبة، وفي العام 1999م لقبه الرئيس محمد خاتمي باسم (كل آقا) الشعب الإيراني، وفي العام 2003م أوقف صابري صدور مجلته (كل آقا)، وبعدها بفترة قصيرة توفي نتيجة إصابته بمرض السرطان.