منبر الحكماء والبلهاء ..!
منذ وقت قريب أحدث الروائي الإيطالي الشهير برواية " اسم الوردة " " أمبرتو إيكو " ضجة هائلة في مواقع التواصل الاجتماعية الفيس بوك وتويتر ، حين نقد الموقعين نقدا قاسيا ، ففي مقابلة مع صحيفة لاستمبا الإيطالية ، قال مصرّحا بأن أدوات مثل تويتر و الفيسبوك " تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى ، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع ، وكان يتم إسكاتهم فوراً ، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل ، إنه غزو البلهاء" .
إذا كان كثير من الكتاب لا يطيقون مواقع التواصل الاجتماعية ، بل هم في عزلتهم الكونية خضعوا لها صاغرين من أجل مشاريعهم الكتابية ، فإن هناك فئة أخرى تظل متواصلة باستمرار مع هذه المواقع كما لو أنها فضاء كتابي آخر ، ليعبر عن رأيه حول المجتمع ، و الحياة و ذاته ، بل تعّد بالنسبة له منبرا ؛ لكي يتواصل مع جمهوره القراء إذا كان مؤلف كتب أو مع جمهوره المتابعين والمعجبين له إذا كان فنانا غنائيا أو ممثلا أو رياضيا لامعا وما إلى ذلك ، وعلى رأس هؤلاء الروائي البرازيلي الذي له شعبية واسعة على مواقع التواصل الاجتماعية " باولو كويلو" وقد أشار مرة مفاخرا بأن الجمهور الذي يتابعه في هذه المواقع تفوق متابعين الفنانة العالمية " مادونا " ، حتى أنهم أطلقوا عليه لقب " ناسك تويتر " ؛ نظرا لاستهلاكه ساعات من يومه في التواصل مع جمهوره العريض ، وفي عام 2010م وصفته مجلة " فوربس " بأنه ثاني أكثر المشاهير تأثيرا على موقع " تويتر " بعد النجم الشهير " جاستن بيبر " ، ويفسر الروائي البرازيلي مبعث إدمانه على مواقع التواصل الاجتماعية مشيرا : " الكتاب لم يعودوا يعيشون في عزلة ، و أنا بمجرد أن اكتشفت إمكانية استخدام موقع تويتر والفيس بوك ومدونتي للتواصل مع قرائي ، قررت أن أستخدمها للتواصل معهم وتبادل الأفكار التي لا يمكنني استخدامها في الكتب ، واليوم لدي ستة ملايين معجب على الفيس بوك " ..
والحقيقة التي لا يمكن نكرانها بأن مواقع التواصل الاجتماعية غدت اليوم منبرا لمن لا منبر له ، لا سيما في الدول العربية حيث افتقدت شعوبها منابرهم للتعبير عن آرائهم في كثير من تفاصيل الحياة ، ليس لأن الصحف و المجلات كانت خاضعة لجهات معينة أو أفراد معينين فحسب بل لأنهم كانوا يخضعون لأنظمة أغلقت عليهم كل أبواب التواصل والتعاطي لحقوقهم كمواطنين وكأفراد لهم حق التعبير عن متطلباتهم وآرائهم في عقر أوطانهم ، ولكن في ظل هذه المواقع الاجتماعية وجد الشباب العربي فرصة كبيرة للتعبير عن آرائهم ومتطلباتهم والانطلاق بحماس لعرض ما يريدونه بدون رقابة وقص وتلميع ، وأصبحت الكلمة تعيش عصرها الماسي من التحرر وتعبر عن نفسها بثقة كبيرة ، وعلى الرغم من ذلك كثير من الدول العربية التي اعتادت على إخضاع شعوبها وفقا لسياساتها اخترعت قوانينا و أنظمة لفرض حدودها في هذه المواقع الاجتماعية ؛ كي تعود الكلمة إلى سابق عهدها مطاردة و مكبّلة و تخضع لرقابة دقيقة من جهات أمنية ، وصلت إلى حد عقوبات السجن لكل من يخالف أنظمة استخدامها وفق تلك الجهات الأمنية ، ولعل أشهر هؤلاء السجناء هو الناشط السعودي " رائف بدوي " الذي تم اعتقاله عام 2012م بتهمة الإساءة للدين الاسلامي من خلال الانترنت ، وعوقب نتيجة لذلك بــ 1000 جلدة والسجن لمدة 10 أعوام بالإضافة لغرامة مالية ، ليكون تحت قائمة ما يسمى بـــ" سجين رأي " وهذه التسمية أو التهمة استحدثت مع مواقع التواصل الاجتماعية ، وقد اعتبرت منظمة العفو الدولية هذا الحكم قاسيا جدا في حق " سجين رأي " ؛ لأنه احتجز أثناء ممارسته لحقه في حرية التعبير عن رأيه بشكل سلمي ، وما أكثر سجناء الرأي في عالمنا العربي وما أتعسهم في ظل أنظمة ترعبها ظلالها ..!
في الوقت نفسه أصبحت هذه المواقع تنجب كثيرا من البلهاء كما وصفهم " إيكو " في عبارته ؛ هناك فئات من الشباب أصبحوا يستغلون هذه المواقع لطرح خصوصياتهم وأدق تفاصيل حياتهم متناسين أن جمهورا عريضا يشاهدون ويقرأون ما يعرضونه من تفاصيل ، بل غدت موضة الـــــ" سيلفي " تتحكم في أدق لحظات حياتهم ، لدرجة أن كل وجبة قبل أن يلتهمونها ، أو كل مشروب قبل أن يحتسونه ، أو ملابس يرتدونها ، أو هدايا يحصلون عليها ، أو أشياء يقومون باقتنائها ، يجب أن تخضع لجلسات تصوير هائلة مع صاحبها ؛ كي يتفرج عليه كل العالم الافتراضي ، بل يبالغ البعض لتلميع صورته ، لمزيد من الأبهّة الاجتماعية ؛ فالناس اليوم أصبحوا يتنافسون في عرض ولائمهم على شبكات التواصل الاجتماعية بكافة أنواعها ، وصار الفرد أشبه بمستعرض في سيرك ومروّج خاضع بكل حواسه لهاتفه الذكي ..!
هذه المواقع سلبت خصوصية الفرد ، غدت حياته معروضة كاللحم المكشوف ، بل من مخاطر الذين يعرضون تفاصيل بيوتهم أثناء موقع " السناب شات " و " الانستغرام " وغيرها فتحوا المجال لضعاف النفوس على استغلال ذلك للقيام بسرقات أثناء إعلان أصحابها في تلك المواقع على عزمهم على السفر إلى بلد معين ، فيكون البيت فارغا من أصحابه مما يسهل على لصوص زمن التواصل الاجتماعية القيام بمهامهم بلا خوف ، بل يعرف كل ما هب ودب عدد الأفراد في البيت ولون الجدران و ما تحويه كل غرفة من مفروشات وشكل المطبخ وتصميمه وهلم جرا ، فالبيوت ما عادت أسرارا البته بل تكاد تكون حيطانها من زجاج مرئية لكل عابر ..!
ببساطة نحن في عصر صار فيه الفرد - خشخاشة - في يد آلة ذكية إلا من رحم ربي ..!
ليلى البلوشي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق