الاثنين، 16 مايو 2011

ما من موهبة تمر بلا عقاب ..!





ما من موهبة تمر بلا عقاب ..!





" الرؤية العمانية "







للكلمات تاريخ طويل في تأثيرها العميق على الحس البشري مذ عرف الإنسان لغة الكتابة باختلاف أشكالها وألغازها المعبرة ، ولعل هذه الحكاية القصيرة عن رجل أعمى تؤكد لنا ذلك ، فقد جلس رجل أعمى على رصيف شارع ومعه لافتة مكتوب عليها : " أنا أعمى أرجوكم ساعدوني " ولكن المارة لم ترم إليه سوى بضعة قروش ، ومرّ أمامه شخص لم تنل إعجابه العبارة ، فأخذ لوح الأعمى دون استئذان منه وكتب عبارة أخرى وأعادها إلى مكانها ومضى في طريقه ، بعد قليل شعر الأعمى أن قبعته بدأت تمتلأ بالنقود وأدرك أن شيئا قد تغير ، فسأل أحدهم عن العبارة المكتوبة على اللوحة ، فقرأ المحسن العبارة التي كانت تقول : " نحن في فصل الربيع ، لكنني لا أستطيع رؤية جماله " ..




إنها حكاية كلمات أكثر من كونها حكاية رجل أعمى ، بضع كلمات جعلت من المتشرد في موضع الاحترام والتقدير والتعاطف من الآخرين ، ولهذا لم يفاجئني مطلقا حينما تناهى إلي حادثة " قطع اللسان " التي تعرض لها مؤخرا الشاعر اليمني " وليد الرميشي " بعد أن خطفته جماعات مجهولة ، أقدمت على احتجازه وقطع لسانه وإلقائه في شارع تعز وسط العاصمة صنعاء ، وذلك في حادثة تعد الأولى من نوعها في تاريخ اليمن ، في ظل تواصل مسلسل الاعتداءات ضد الشعراء والمثقفين اليمنيين ، حيث سبق وأن تعرض عضوا اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الشاعر " محي الدين جرمه " والقاصة " بشرى المقطري " للاعتداء بالضرب المبرح في إحدى الساحات بالعاصمة صنعاء ، كما تعرضت الأديبتان " هدى العطاس " و" أروى عثمان " للاعتداء في ساحة التغيير ، وهو ما دفع الأمانة العامة لاتحاد الأدباء إلى إعلان التضامن الكامل مع هؤلاء الكتاب ، وإدانة كل ما يتعرض له الأدباء والكتاب والصحفيين ..




هذه الاعتداءات التي لوحق بها الكتاب اليمنيون ، هي عينها التي لوحقت بها مئات بل آلاف الكتاب والشعراء والرسامين والصحفيين ، بل حتى حاملي كاميرات كحادثة المصور القطري التابع لقناة الجزيرة الذي لقي حتفه في ليبيا على أيدي كتائب القذافي ، وبتدوير الذاكرة سنجد حشدا من الأسماء في تاريخ الكتابة فقدوا أرواحهم في سبيل إعلاء كلمة الحق التي يريد جماعات معينة تواريها خلف قدر مدلهم ، فالفيلسوف " سقراط " الذي كان نصيبه سم الشكران الذي تشربه ومات ، ظنا من قاتليه أن بموته تموت الفلسفة ..! والكاتب " عبدالله المقفع " الذي ضربت أصابعه حتى تشنجت ، فلم تعد صالحة للكتابة ، والصحافي اللبناني " سليم اللوزي " الذي وجد مقتولا وقد دس القتلة أصابعه في فمه بعد اغتياله ، فالأصابع هي التي كانت تكتب .. ! اغتيال " غسان كنفاني " ؛ لأنه كان فحلا في الكتابة ..! والرسام الكاريكاتوري " ناجي العلي " وهو أول شهيد للكلمة المرسومة في العالم الأجمع ، وإلى هؤلاء يضاف أولئك الذين زجّ بهم في زنازين مجهولة لا يعرف الطريق إليها إلا الله وحده ..!




إن ظاهرة الاعتداءات في تاريخ الأدب والكتابة يضعنا أمام تساؤلات مهمة : هل بإبادة الجسد تبيد الكتابة ..؟! هل ينتهي مطاف الكلمات حين يفنى صاحبها شهيدا في سبيل قضية تبناها ..؟! هل كفّت المحابر عن النزيف في سبيل مطالبها المشروعة ..؟!




لم يحدث شيء كهذا ولن يحدث ، فمازلنا نتشرب تعاليم " سقراط " ومازالت روح عبارات " غسان كنفاني " تهيم في أراضيه المحتلة ، لكن ما حدث أن للكلمة أصبح ثمن ، ما حدث أن الكلمة ستظل ملاحقة من قبل كلاب عنيفة لتطمس حقائقها بوحشية ضارية ، والحقيقة المثلى هي أن قيمة الكلمة أصبح يوازي قيمة الخبز جنبا إلى جنب ؛ فكلاهما يحمل التأثير نفسه ؛ ولعل تاريخ الثورات العربية عزز هذا التوازي بشكل كبير عن طريق لغة الكتابة ورسم الشعارات والفن الكاريكاتوري التي غدت طعاما معنويا يغذي الفكر والروح كما يغذي الخبز الجسد تماما ..




و كما يلي الربيع الشتاء فلا شيء يمكن أن يتوقف ، وطريق المحارب بلا نهاية ، وبعد أن يصل إلى مراده فإنه يجد تحديا آخر ، ومن المهم البدء من جديد واستخدام كل شيء تعلمه في غمار تحديه للعالم ، واضعا نصب عينيه هدفه الأسمى مدينته العظمى تلك التي يسود فيها العلم والحرية والإخاء والعدل ؛ وهذا ما لم يدركه سفاحي الحروف والكلمات طوال تلك القرون ..!




نحن أمام حقيقة كبيرة وكاشفة بأبعادها كما أقرها الكاتب " محمد الماغوط " قائلا : " ما من موهبة تمر بلا عقاب ..! " ؛ لهذا يوم طولب بجلد الشاعر " والت ويتمان " أمام جمهرة الناس ؛ عقابا له على ديوانه " أوراق العشب " اكتفى ويتمان بالقول : " توقعت الجحيم ونلته " ..!




وعلى هذا ، فإن كل كاتب سيجر ضريبة عباراته خلفه ؛ وبحجم كلمات الكاتب تقدر حجم محاكمته ؛ وهذا أساس الاختلاف بين كل كاتب وكاتب عبر الحياة ، صراع الكتابة لاهث في بقاعات شتى ؛ أفلم تكلف رواية " آيات شيطانية " لسليمان رشدي رقبته في حقبة ما ، كما فعلت الكلمات مع الروائي الايطالي " روبيرتو سافيانو " ؛ ليكون مطاردا من المافيا في كل بقعة من العالم حتى الآن .. ؟!




الكتابة صراع جبار ، لا يطيقه إلا المؤمنون بحرية أنفسهم قبل إيمانهم بحرية الكتابة ؛ فلا إيمان حقيقي إن لم ينبثق من تربته الأصلية ، نحن لا نستعيد الإيمان من الآخرين كما الحرية تماما ؛ لهذا فالمطاردة تظل دائرة طالما ظلت مجتمعات تسحب أكسجين الحياة الكريمة من أفرادها ، المطاردة مستمرة طالما عالمنا خاصة - العربي - يقف على أرض هشة يحكمها مصاصي الحرية والعدالة والإنسانية قبل أن يكونوا مصاصي دماء بشرية ..!




والكاتب مناضلّ ، قدّره أن يدفع جسده ما صاغه بدم فكره وإيمانه بمبادئه في الحياة ، التي خلفت له جلادين - فارغي الوفاض - سوى من قلوب حاقدة وعقول متجبّرة لا تدين سوى بدين هواها المستبد وكل من يصفق لمنافعها الشخصية فقط ..!







ليلى البلوشي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق