الخميس، 27 أغسطس 2009

غبش الحي ّ


غبش الحيّ


حل ّ الليل .. توشح الحي بصمت رهيب يشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة ، ولج من بوابتها وأنفاسه تتصاعد شهيقا زفيرا ، إنه الحي القديم بزخارفه وطوبه القديم ، تفوح منه روائح البن والشاي والهال والزعفران ، كأنها ساكـن جسده وعقلـه ، إنه الحي الصاخب فـي النهار وما يلبث أن يكتسح بسواده العتيد فيرحل غارقا في سباته الليلي ، نائيا عـن الحياة بكل تفاصيلها المادية والمعنوية ، كل بقعة من مساحة هذا الحي تحكي قصة .. تلكم القصص المنطوية في جدرانها ، المخبئة بتفاصيلها الدقيقة في عقول الجدات و التي تنساب عفو اللحظة حينما يحكينها لأحفادهن ، " رحمة الله عليك يا جدتي " ..

كنت دائما تتحفينا بحكاياتك الجميلة عن البحر ، عن وحوش الليل ، عن" أم الدويّس " وملاحقاتها المرعبة للنساء والأطفال ، يالـ لذة الذكريات الحميمة القديمة التي تهزنا كبندول لا يكف عن الحركة ، انعطف يسارا حيث رائحة الذكريات المنعشة تنبعث من طرقاته الغائرة رمالا ، ونفسه تحدثه بجمالية تضاريس القديمة .. تابع سير أقدامه إلى أن أوصلته إلى مكان قد ألفه.. " مطعم السهرة " ..

إنه الاسم ذاته لم يتغير شيء ،البقعة المستيقظة الوحيدة النابضة حسا فيها ، سرى في جسده شعور مريح وهو يهدد " حمدا لله لم تجرى عمليات جراحية للحي " جلس على المقعد ذاته والطاولة الفردية ذاتها ، وأنفاس من الدخان تنفث من أفواه تخفي تحت ألسنتها خناقات تكاد تصرخ ، ألقى نظرة على الرجل القاعد أمامه .. فقط تفصلهم عدة خطوات ، كان ذو كرش كبير ورأسه موصولة بصلعته التي اعتنى بتلميعها جيدا لا يدري لم خطر بباله أنه خرج من منزله بعد خناق مصدوم بينه وبين زوجاته الأربع ، هكذا توحي ملامحه القابضة وعيناه الغائبتان عن سمرة هذا القمر في يومه المحاق ، يبدو أن زوجاته الثلاث يتآمرن على الرابعة ، إنها دائما ضحية الغيرة والمؤامرات السرية ، قطع عليه النادل ذو أكتاف عريضة حبل أفكاره حاملا معه " المنيو " ، رفع عقيرته وكأنه يخاطب زرافة ذا رقبة طويلة ، ممتلئ قليلا واختفت شفتاه تحت شاربين كثيفين معقوفين إلى أعلى كجناحي نسر قد نكسا إلى الأسفل كراية سحقتها الهزيمة ، إنها معركته مع النساء ..

أجل ، فوراء كل هزيمة رجل امرأة .. كما قال أستاذ المحققين الذي تتلمذ على يديه " توكو موري " في المسلسل الكرتوني المحقق كونان " أن وراء كل جريمة غامضة امرأة " لو اتكأنا على هذه المقولة فمعنى ذلك أن وراء كل مصيبة امرأة .. ووراء كل خسارة امرأة .. وراء كل حرب امرأة.. ووراء كل إرهاب امرأة.. ووراء كل زلزال امرأة.. ووراء كل مجاعة امرأة.. الخ

يـاللهول .. ! اكتشاف عبقري عظيم " النساء وراء كل شيء في هذا العالم " رحماك يا ربي.. ! أخذ منه قائمة الطلبات نظر فيه وهو يحاول إخفاء غبطته من الاكتشاف الجديد الذي توصل إليه، وهم ّ بتمرير إصبعه على المأكولات.. بدأها بقسم المعجنات ، فطائر لبنة ، زعتر ، جبنه تركية ، كرافت ، جاوزها إلى مأكولات مشوية .. رولكس ، مكسيكي ديلايت راب ، راخ زنجر.. " راخ " ، أطلق ضحكة داخلية يبدو أن هذه الوجبة منسوبة للموسيقي العالمي " باخ " ..!

حدث نفسه: يخترعون أسماء غريبة والطعم واحد هذا ما يطلقون عليه بــ " خداع المستهلك " ، قسم المأكولات البحرية .. ربيان عادي ، ربيان خصوصي ، نغر ، فيليه سمك ، ألطق زفرة .. تنفس صعداء .. أغلق المنيو ثم نظر إلى النادل : أريد كوب شاي ( كَرَك ) يضبط المزاج .. تركه النادل وعلى وجهه علامة استفهام كبيرة ، عدّل من جلسته ، وضع رجلا على رجل ، سمع سعلة من المقعد الذي بمحاذاته كان الرجل يسعل بشكل مريب وكأن روحه تخرج من جسده ، وعيناه محمرتان من أثر السعال ، ما لبث أن هدأت سعلته ثم أشار للنادل أن يحضر له شيشة بنكهة الفراولة ، كان يطلق دفقات من الدخان في الهواء وهو يفتل شاربه مع ابتسامة تزين شفتيه ، كما لو كان منشغلا بفكرة داخلية يستمتع بها ، حدثته نفسه بضحكة على رجل إياه إنه على حافة القبر وتجاعيد تكاد تلتهم ملامحه الغائبة ينفث دخان الفراولة وحبيبته ذات العشرين تتخايل راقصة أمامه ، يبدو أن الفتيات هذا الزمان يفضلن رجال من هذا النوع يدفع ويدفع كآلة صرافه متحركة فلا متعة تضاهي متعة ملاعبة مراهقات حسناوات ! ذلك جليّ على وجهه المنطفئ شحوبا من ملاحقة المراهقات ، كما أن عينه اليسرى ترمش بشكل مريب ، ترك الرجل المسن مع خيال حبيبته ، جاءه النادل حاملا معه صينية عليها كأس من الماء وقدح من الشاي (كَرَك ) ، تذكر صديقه القديم " بو راشد " المنعوت بالبخيل كان إذا ما شعر بالعطش فإنه يطلب كل شيء إلا الماء ، وإذا سئل عن السبب فإنه كان يجيبنا بقاعدته العجيبة " بأن الماء يحضر مع القائمة مجانا أما إذا طلبته أنا بنفسي فمعنى ذلك سأدفع ثمنه من جيبي ..!

" وكثيرا ما كان يردد قوله تعالى الذي حفظه عن ظهر قلب: ( ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين ) ، وكغيره من الذين تظاهروا بالزهد في الدنيا وُورِيَ في قبره أما ثروته الضخمة التي وصلت الملايين يتمتع بها غيره الآن !

لكم آلمه عدم تمتعه بثروته ، رشف عدة رشفات من الشاي ، شعر بأن رأسه قد أعيدت له توازنه، نظر من حوله ، حيره الصمت المستبد على المكان ، يبدو أنهم ضجروا من الكلام والثرثرة طوال النهار ،والغريب في الأمر أن كلا منهم اختار المكوث لوحده على طاولة خاصة دون رفقة تآنسه ..! أدار رأسه في كل الجوانب ثم رفع يديه وظهره مستند .. إنه التمرين الذي اعتاد ممارسته حين يجلس طويلا على الكرسي، رفع رأسه من جديد وقعت عيناه على شاب ذو تقاطيع وسيمة، كان طاولته زاخرة بمأكولات من شتى الأنواع، المشوي والبحري وسلطات متنوعة..الخ ، كان فمه ممتلئ وهو يحشوه بحبات من الكبة المقلية من الطبق أمامه ، تفَرّس في وجه مرة أخرى ، أطلق صيحته الداخلية : آها ، يبدو أن قاعدتي عن النساء كما استنجت آنفا صحيحة ، نعم ففمه يبوح بكل شيء ، إنه يعاني من أزمة عاطفية ، ويحاول حلّها وفكها من خلال الأكل ، على ما يبدو أن قصة حبه وصلت لطريق مسدود ، ظاهر ذلك من فمه المفتوح كالجرافة تقضم كل ما تراه .. تطحن ، تفرم ، تحطم ، تبلع ، تجرش ، تهرمش ، ببساطة تحول من آكل عاطفيا إلى آكل للأخضر واليابس .. البارد، الحار.. المالح.. والسكري، إنها مسألة خطيرة فعلا ـ أعانه الله ـ أما هو فيضل أن يحتفظ بنصيحة أحد الشعراء ( وعش خاليا فالحب أوله عنى.. وأوسطه سقم وآخره قتل ) ، لا يهم إنه لا يستطيع الاستغناء عنها سيعودان لبعضهما، حينئذ سينحف كشجرة سرو عندما يعود إليها مرة أخرى أما هي فحتما ستكون كشجرة بلوط ، إنها القاعدة المعروفة في عالم العشاق بعد الزواج " الرجال ينحفون كالعصا والنساء ينتفخون كالبالون " .!

رشف رشفات أخرى من القدح ، نظر إلى ساعته ، نهض من مكانه بعد أن دفع الفاتورة .. ألقى نظرة أخيرة على الجالسين في مقاعدهم أخرج من جيب قميصه بطاقات بيضاء دونت عليها عبارات بلون كحلي.. الدكتور صالح الأحمدي مستشاري لغة الجسد وخفايا الشخصية، سلمها بيد النادل وهو يهمهم : في الطابق الأول.. شقة رقم 3، ثم مضى في سبيله مودعا حيّيه القديم الذي فارقه منذ أكثر من عشرة أعوام..
مضى وصوت المؤذن يحيك نسيجه الدافئ على أسقف الحي الذي ما يزال غارقاً في أحلامه ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق