الأربعاء، 13 نوفمبر 2013

في ذاكرة السفر والحقائب مع " إلما راكوزا " ..

في ذاكرة السفر و الحقائب مع " إلما راكوزا " ..


"  كنت طفلة الترحال الدائم
على جناح السفر تعرفت على العالم ورأيته يبتعد ويقترب مع الريح
اكتشفت الآن ورأيت تحولاتها
سافرت بعيدا كي أصل ، ووصلت لأرحل من جديد
كان لي قفاز فرو .. وهو كان لي
كان لي أب وأم
لم يكن لي غرفة أطفال
لكني امتلكت ناصية ثلاث لغات ، وثلاثتها كانت لي
كي أنتقل من ضفة إلى أخرى "

     " إلما راكوزا " في روايتها " بحر وأكثر " هي في البدء طفلة اكتملت حواسها على ذاكرة السفر والترحال وحقيبة أبدية الانتقال من رصيف . إلى محطة . إلى وطن . إلى غربة .. لا تتسع لخيالها الفضفاض المحلق في دهاليز عالم مدهش يسير على قدمين من التوغل والتكيف إلى عوالم تتعرف إليها شيئا فشيئا مع قافلة العمر الممتد ،  فكلنا سائرون وكلنا نجوب الآفاق : " وحيدة تقفين على المحطة الألف ولا تعرفين ما الذي تبحثين عنه ....، ألم تنوي أن تجمعي قواك ؛ أن تقلعي أسفارك ، أن تقللي انتظارك في المحطات المستعجلة ؟" ....
ووجع الغربة ظمئ ؛ ففي داخلها ثمة عودة إلى الوراء ، إلى تلك الجذور الضاربة في أرض غادرتها باكرة ليتفتح انتماؤها على هيئة هوية مضطربة ، تتأجج أوراها في قيعان روحها وفتيلها في اشتعال دائم على هيئة سؤال : " لن أعرف قط إلى أين أنتمي ؟ ولهذا كنت أتمسك بالسعادة القصيرة  " ....
وكان الانتقال من مكان إلى آخر كنورس رحال لم يكن طوع اختيارها وأخيها حينما كانا ما يزالان غضين كعصفورين صغيرين .. بل إن الأم والأب حينما يقومان أو يقوم أحدهما في تربيت على ظهر حقيبته المتكئة كهيئة استعداد للترحال ، كان يعني سفر جديد في بقاع شتى : " كلما طال حزم الحقائب ، كلما ازداد شعوري الشلل ، ثم إن أحدا لم يأخذ رأيي ، كان الآخرون يقررون الرحيل : الأهل والظروف ، يأمرون : أنت تأتين معنا ، وأنا أذهب معهم إلى المجهول ، إلى المرحلة الانتقالية التالية طوال طفولتي " ..
ولكن على ما يبدو أن الطفلة عينها جبلت على حكاية السفر ، فحين تغضن طولها .. كان الرحيل خيارا ماتعا بمتعة استكشاف مجهول يغري بمزيد من الرغبة : " استغرب الوالد من إلحاحي المتعجل ، فما إن نلت جواز السفر الأحمر ، ذي الصليب الأبيض ، حتى حجزت رحلة طلابية إلى براغ ، إلى كافكا ، إلى غوليم ، إلى فلتافا سميتانا ، إلى دولة مجهولة كليا "..
والمعروف أن للكاتبة ذائقة حافلة بتاريخ الشرق ، تشكلت في البدء كأمنية ، ولكن حين استطالت على قدميها عزمت على أن تعايش تلك الذائقة عن قرب المسافات في حكاية سفر لا ينتهي : " السفر سفر ، السفر إثارة الغبار تحت القدمين ، حتى لو غابت الأفراح والمشاق ، التجارب والمنتخبات من الذاكرة .."
وهذه السفريات كان لابد لها من ذاكرة ثقيلة تحتشد كفقاعات تدحرجها أنفاس ذاكرة نشطة : " تكتسي بالغبار ، تتفتت ، تصفر ، لكنها لا تشيخ : " الكنيسة المصغرة البيضاء والزرقاء من باتموس ، الطائرة الورقية الخضراء الصدئة من ليوبليانا ، الصليب الخشبي من رومانيا ، الأرنب الرخامي الصغير ، صافرة الأرغن المعدنية الصغيرة ، القناع البلاستيكي من البندقية ..." .
ولم يكن ارتباط المدن التي عبرت خلالها قاصرا على أشياء مادية جلبتها من هنا وهناك ؛ بل إن الأماكن نفسها كانت تحمل أسماء وصفات المؤلفين والكتاب الذين تعرفت عليهم الكاتبة من خلال آدابهم في الموسيقى والكتابة كـ " دستويفسكي " و" توماس مان " و" كافكا " ، والموسقيين كـ " بروخ " و" بيتهوفن " : " لكن هناك شيء آخر ، اسمه العالم الداخلي ، أنا صغيرة ، أنا قزم على خارطة العالم ، لكن عالمي الداخلي كبير ، قارة بذاته ، هكذا علمني الروسي ، دوستويفسكي ، تحت مشاعر الدوار ، وأعرف أيضا أن لا حدود لرغبتي في الاكتشاف .." . والتأرجح ما بين الموسيقا والأدب جعل منها شاعرة وعازفة بيانو ماهرة ..
أما القراءة .. فكانت مغامرة ، واكتشاف للذات والآخر ، وعالم سحري مفرقع تقمّص أجواءها قبل دخول المدرسة في هيئة شغف عميق ، وكان للأم دور كبير في تهيئة طفلتها لحكايات الأدب والكتابة : " لم أكن أشبع قط ، ضعت في هذا العالم السحري ، ما إن آخذ كتابا في اليد ، حتى يشحب العالم الحقيقي من حولي ، بالقراءة تعمقت أحاسيسي : غدت الألوان أقوى ، الروائح والأذواق أشد ، وهذا الخفقان الخفيف في القلب ، الفراشات في الصدر ، الاستلقاء في الفردوس .." .
في هذه الرواية تمتزج عدة أرواح .. والأكثر تلبسا تلك الروح السندبادية وكأنها أبدية الرحيل ، لهذا كانت مصلحات نفسها تتحاور عبر السطور عن " السفر " و" الذكريات " ، " حقائب " ، " آخرون " ، " أماكن " ، " أزمان " ، " عادات " ، " موسيقي " ، " كتابة " ، " قراءة  "..
استطاعت " إلما راكوزا " أن تسرد لنا كل ذلك عبر حوار داخلي ، بدا لأول وهلة هادئا معرفا بالأشخاص المقربين منها ، ثم تفشى وتشعب إلى عالم أكثر عمقا ودفئا إلى مونولوج طويل ، كثيف ، ممتد كطرق سفرها ، غني ، مشبع بذاكرة لا تأفل على النسيان وهي المستشهدة بقول " موريس بلانشو " الكاتب والصحفي الفرنسي : " النسيان ، الإذعان للنسيان في الذاكرة ، التي لا تنسى " ..

ليلى البلوشي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق