الأحد، 2 ديسمبر 2012

أيها الفمّ إنك فوّهة الجحيم ..!




أيها الفمّ إنك فوّهة الجحيم ..!


نشر في جريدتي : الرؤية / العرب ..

     
   اللسان هو أطول الطرق .. فإن رسمت دربا سينتهي مصبه ولكن لا نهاية مع لسان يغدو في كثير من الأحيان أطول من قامة صاحبه ..!
ومهما بلغت خطورة الأسلحة النووية التي اخترعتها البشرية طوال الأزمان يظل اللسان هو السلاح المدجج بكافة نوويات العالم ..!

طوله سلاطة وقصره قد يكون جبنا من مغبة إطلاقه ، يحتار المرء أيربيه أم يقطعه مرة بعد مرة ..؟! ولا حظّ في ذلك سوى لصاحب عرف عنه رزانته ؛ ففي الحق لسانه شعاع منير وفي الباطل لسانه فرس يستحث الخطى لنأي الشرور ، أما في المحبة والسلام فلسانه شجرة وارفة يستظل حواليها كافة البشر .. صغارهم وكبارهم ، إناثهم وذكورهم .. فللّه درّ هذا اللسان ..!

وقد كان قديما يستبين على عقل الرجل من ثمانية أمور فكان سابعها : أن يكون قادرا على لسانه فلا يلفظ من الكلام إلا ما قد روّى فيه وقدّره ..

    يعد اللسان عضوا أساسيا في المضغ والبلع والكلام ، فهو يحتوي على سبع عشرة عضلة ، وقد تشعب العلماء قديما في ذكر محاسن اللسان حيث عدّد ابن سينا وظائف اللسان واسترسلها في قوله : " اللسان عضو من الفم وهو من آلات تقليب الممضوغ وتقطيع الصوت وإخراج الحروف وإليه تمييز الذوق ، وفيه أعصاب كثيرة متشعبة فوق ما يتوقع من مثله " ..
 بينما يرى الجاحظ في رسائله إلى أن : " اللسان ترجمان القلب " ..
وانشد العرب قديما :

لسانك لا تذكر به عورة امرئ      فكل عورات وللناس ألسن

فالكلام الذي يجرى على اللسان حكايته حكاية ؛ فقد يكون هذا اللسان حكيما ، شاعرا ، خطيبا مفوها ، ناطقا للحق ، ناشرا للخير ، ساعيا إلى العدل ، داعيا للحب .. وقد يكون مذموما يصّوب كافة أعضائه السبعة عشر ويطلقها في وجه الشتائم والقذف واللعن وإفشاء الأسرار وغرس الفتن وقد يكون صانع الفضائح والويلات وإرساء الخراب بين الديار ..الخ .
 وقد حذر رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – من مغبة اللسان حين أعلن بأن : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " ..
وقيل قديما بأن اللسان يسأل الأعضاء في كل يوم فيقول : كيف أنتن ؟ فيعلّن : بخير إن تركتنا ..!

   هذه العضلة الصغيرة في جوف الفم رهينة لها الإنسان ، تتحكم به ورغم بساطتها ؛ فهي أحد ُّ من السيف وقد يصرع بصاحبه لسلاطته ؛ فإن سلّطه للخير كان للخير وإن سلّطه للشر كان للشر ..!
وثمة أمثلة كثيرة في تاريخ البشرية كان أصحابها ضحايا ألسنتهم ولعلنا نذكر عالم الفلك  " غاليليو " حينما أقّر بحقيقة دوران الأرض حول الشمس ، فطلب منه رجال الكنيسة أن يسحب كلامه تحت طائلة الإعدام ، فاضطر نتيجة التهديد أن يسحب حقيقة من حقائق الكون أمام جمهرة الناس ولكنه خارج المحكمة أدلى بكلمته المعروفة : " ومع ذلك فهي تدور " ..!

و" المتنبي " الذي كان شاغل الدنيا ومالئ الناس كان مقتله ما بين فكّيه حينما سلّط لسانه هاجيا " ضبة بن يزيد الأسدي " بقصيدة شديدة .. فلما كان عائدا يريد الكوفة وكان في جماعة منهم ابنه مجسّد وغلامه مفلح ، لقيه " فاتك بن أبي جهل الأسدي " وهو خال " ضبة "  فلما رآه المتنبي أراد الهرب منه فقال له ابنه : أتهرب وأنت القائل :
 الخيل والليل والبيداء تعرفني      والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال " المتنبي " : قتلتني يا هذا ، فرجع فقاتل حتى قتل ..!

وثمة شراكة عميقة ما بين لسان المرء وأذنيه ؛ ولعل حكاية الضفدعتين تفسر مآل هذه الشراكة : يحكي أن مجموعة ضفادع كانت تقفز مسافرة بين الغابات وعلى حين فجأة وقعت ضفدعتان في بئر عميقة ، فتجمهرت الضفادع حول البئر ، ولما شاهدن مدى عمقه صحن بالضفدعتين بأسى بأن لا فائدة من محاولة النجاة وهما هالكتين لا محالة ..!
وإحدى الضفدعتين تحت ضغط هتافات المحبطة للجمهور الخارج قبض عليها اليأس فأذعنت للاستسلام وقضت نحبها ، لكن الضفدعة الأخرى ظلت بجل طاقاتها تقفز باستمرار حتى أوصلتها إحدى قفزاتها السريعة إلى خارج البئر .. وعند ذلك سألنها جمهور الضفادع : " أتراك لم تكوني تسمعين صياحنا " ..؟!
شرحت لهن الضفدعة أنها مصابة بصمم جزئي ؛ لذلك كانت تظن وهي في الأعماق أن قومها يشجعونها على إنجاز المهمة الخطيرة طوال الوقت ..!
ألا تقول لنا الحكاية : بأن قوة الموت والحياة تكمن في اللسان ؛ فكلمة مشجعة لمن هو في الأسفل قد ترفعه إلى الأعلى وقد تضخ فيه الحياة بل تضخ قوة الحياة فيه ..!

صدق " جلال الدين الرومي " حينما أشهر أصابع الاتهام إلى اللسان قائلا : " أيها الفم إنك فوّهة الجحيم " ..!
ما أكثر ضحايا اللسان في كل زمان ومكان ، ولكن هل هذا حجة في أن نجعل ألسنتنا شياطين خرساء نربطها أو نقصّها عن قول الحق وإن كان السكوت يزن قنطاره من ذهب .. ؟!

سؤال يجري على ضمير كل لسان له ضمير نابض بحس الحياة ..

ليلى البلوشي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق