الأربعاء، 4 أغسطس 2010

عين على الحياة


عين على الحياة

( هذا المقال بقي سجين ملفاتي ما يقارب عن سنتين ، لم أنشره ؛ ربما لم اقتنع بنشره أو ربما كتابته كانت تدريبا كحال معظم مقالاتي القديمة التي بقيت حبيس أنفاسها ، اليوم عزمت نشر هذا المقال ؛ لأن ثمة حاجة اقتضت نشرها ، هي لامرأة بائسة ..)

حياتنا شجرة تظلنا .. يشاطرنا في ظلالها أشخاص ناظرناهم بأعيننا مذ قذفنا من نبض الرحم ، فاتصلنا بهم ونستمر معهم أبد الدهر .. وبعضهم الآخر جمعنا بهم لقاء قدري ، يتلون تباعا لما نحياه معهم بعدئذ..

الحياة شئنا أم أبينا تمتطي مقاديرها ، وهنالك حالات حينما يغدو فيها الإنسان مكللا بالشقاء ، يشعر بأن النهار ساعاته ممتدة ، والليالي تطول بلا انتهاء وكأن الصبح سابر في نأيه ، لكن الذي يرى الأمل في كل همّ يجابهه يقهرها ، فالحياة تزدان في فساتينها الأربعة كيفما كانت طقوسنا ..

وقد تنفقئ أحداث ، أو تتبدى لنا أمور تذاع في وتيرة حياتنا الروتينية تلك التي غلبت على طباعنا ؛ بغرض التجريب أو لسبب طارئ أو قدر محتم عليه مجابهته ، ومنها تتبعثر أوراق حياتنا ، فمع الريح تتوه أو مع لجج البحر تغرق فنفقد ما نفقد .. فقط أولئك الذين يتعّظون تستمر الحياة في حضرتهم كمنطاد يمخر في عباب الأفق في كل الظروف ، وتظل أبخرتها مقاومة في وجه العاصفة ؛ كي تحلق إلى ما تحلم وترغب به ..

والحياة عندما تخلو من قيمة أو هدف فلا معنى لها مطلقا ، ويدور المرء في دهليز من الفراغ والضجر والموت البطيء هذا من وجه .. ومن وجه آخر هنالك أنماط بشرية يختصرون وجودهم في الكون على شخص أو غاية معينة ، وحين يرحل ذاك الشخص أو يضيع مبتغاه ، فإنه يضع نقطة في نهاية حياته لا يتعداها ، وأول ما يفكر فيه هي الوسيلة التي يقضي فيها على نفسه التي افتقدت وجودها برحيل ما يحبه وقد يكون " الموت " مآله الوحيد ، الرغبة الكلية الشاملة ، الربق المنقذ ..

وهذا يعيد ذاكرتي إلى سيدة انتحرت بحرق نفسها ؛ لأن زوجها قرر أن يتزوج عليها ورغم أنها أم لخمسة أبناء وتعيش في كفوف الراحة ، إلا أنها اختصرت وجودها في حضرة الزوج ، وحين أقر هذا الزوج قراره ؛ لعبت الوساوس دورها وأدركت أنها مقضي عليها دونه ، ففعلت ما فعلت .. وقد تكون امرأة أخرى في ذات الموقف ، وكانت ستتبع أسلوبا آخر ، فربما حرقت الزوج الذي قرر أن يتزوج لا نفسها ..!
أما المرأة الحكيمة التي تقع في مطب كهذا ، فإنها تركز جُل تفكيرها وكافة آمالها في أطفالها ، فتبدأ حياة جديدة من خلال تنشئتهم تنشئة صالحة وحين يكبرون أمام عينيها ، بارين بها ، ستعلم كم هي الحياة تعطي أكثر مما تأخذ .. الموقف واحد ، لكن الرؤية إلى الحياة تتناقض من عين لأخرى ..

وهنالك أشخاص يرون في كل " صدمة " و" مشكلة " حياة أخرى أعمق وأكثر معنى وفاعلية على مبدأ أن في داخل كل مشكلة هدية .. فمفهوم الحياة عند هؤلاء غير محدد بشخص أو هدف معين ، بل يرون في كل شيء فرصة لحياة أخرى .. لديهم إيمان عميق بأن ما يكرهونه خير وما يحبونه شر .. وبعد العسر يكمن اليسر .. فلا البكاء يدوم ولا السعادة تدوم .. ودائرة الحزن تتسع إذا ما أطلنا المكوث فيها وتضيق إذا ما قررنا الخروج منها .. فالأيام تمضي والساعات لا تتوقف عقاربها عن العمل من أجل حداد ما .. والرئتين تؤديان وظيفتهما الحيوية رغم الربو ..

( الحقائق المؤلمة الساحقة تفنى عندما نعرفها ونعترف بها ) كما يقول فيلسوف العبث " ألبير كامو " .. هذا إن سرنا على نهج اليونانيين القدماء ، أولئك الذين يتغلبون على الألم ومخاوفه بالألم نفسه ، فالذي كان يخشى رؤية الدم ، كانوا يحبسونه في غرفة غارقة بالدماء ؛ كي يعتاد على رؤيتها ويتغلب على مخاوفه ..نهج اليونانيين يرى أن المواجهة هو سيد الحلول ، بينما الهرب من مشاكلنا أو الخوف من مواجهتها وجها لوجه مع أنفسنا خاصة ؛ فإن حياتنا حينئذ لن تكون سوى مزيدا من الهروب والهروب والهروب ، والذي سيوّلد بدوره كثيرا من الاحباطات وخيبات أمل ، وهكذا يضيع معنى الوجود الإنساني في لا شيء ..

هناك 6 تعليقات:

  1. أصفق تقديرا لهذا الموضوع المميز و الرائع جدا،
    في الحقيقه صعب ان اصدق انه حبيس الأدراج طوال هذه السنين، صحيح توجد نوعيات من البشر منها من ينهي حياته لأول عثره و منهم من يستمر و في القلب غصة على ما مضى و منهم من . . . . ياخذ تلك العثره فيفلع بها رأس الحزن و يستمر قدما ناسيا ما كان و متوجها للأمام و هكذا . . .


    لكي مني تحية اكبار و اعجاب بما كتبتيه

    ردحذف
  2. أنا محظوظ لأني على قيد الحياة.. ومحظوظ عندما أصبح على قيد الموت

    ردحذف
  3. الكون المجازي6 أغسطس 2010 في 9:18 م

    ربما كانت بذرة هذا المقال في أدراج عقلك منذ سنتين ولكن المهم أن المقال أزهر في هذه الأيام .

    "الحياة شئنا أم أبينا تمتطي مقاديرها" فعلا. لهذا نحن رُكاب في هودج الحياة ، ولذلك السمكة الميتة تسبح مع التيار، ولكن. ولكن هناك استثناءات، لأن أفراد نادرين تمكنوا من ترويض القدر وفق مقتضى مفاهيمهم واعتلوا مطاياه، ولكن ما لبثوا الا برهة حتى أناخ بهم القدر عند رابية القدر الحاكم.

    "فقط أولئك الذين يتعّظون تستمر الحياة" الذين اتعظوا هم كالريشة تنقلهم الرياح حيث شاءت، وما الاتعاظ إلا تدجين للروح البرية .

    "والحياة عندما تخلو من قيمة أو هدف فلا معنى لها مطلقا" نعم ولكن إذا وضعنا الهدف الذي يفترض أن يسمو بناء او نسمو به فجاء مثلما تفضلت "يختصرون وجودهم في الكون على شخص أو غاية معينة" فما الهدف إلا اختصار لأهداف تم لملمتها في هدف واحد " أليس الإيمان هدف؟ أليس الطموح هدف؟ أليس الحب هدف؟
    "وقد يكون " الموت " مآله الوحيد" هنا تحول الهدف إلى هداف ، عندما خيب الهدف ضننا صرنا له هدف .

    "كفوف الراحة" كانت هذه الكفوف كلمات الوعود والحب من قبل الزوج، ولكن الزوج ذاته ومن أجل أنانيته قلب موازين الكفوف إلى جحيم فهربت الزوجة من واقع مر إلى واقع أخر تأمل فيه العفو والصفح.

    ( الحقائق المؤلمة الساحقة تفنى عندما نعرفها ونعترف بها ) الحقيقة لا تفنى ولا تتبدد لكن ألم الحقيقة يتلاشى على قادم الأيام بسبب الألفة والتعود ليس إلا، وهذا هو نهج اليونانيين هو تدجين الخوف وإطفاء لهيبه ، أي يجب ان يمر عليك ألم الخوف مرات عديدة من ثم يموت فيك الإحساس من الخوف من الذي تخافه ، عملا بالحكمة القاسية : داوها بما كانت هي الداء ....

    شكرا جزيلا على كل ما تفضلت به.
    مودتي

    ردحذف
  4. المجهول ،

    قطع رأس العثرة ، هو أجمل وأفضل حل ..

    لأن في الأمام ثمة أمور كثيرة نسحقها وتستحقنا ..

    تقديري ،

    ليلى

    ردحذف
  5. غير معرف ،

    نعم نحن محظوظون بالحياة ، إن الحياة هي نعمة كبرى ..

    تقديري ،

    ليلى

    ردحذف
  6. الكون المجازي ،

    منذ يومين اخبرتني زميلة لي أن شابا انتحر ؛ لأنه عجز الحصول على وظيفة ..

    الحياة فرحها وترحها بيد الإنسان نفسه ، إن شاء جعلها لصالحه وإن شاء جعلها ضده ..

    كل المفاتيح بأيدينا نحن ، فكرة واحدة ترعبنا فتقتلنا، وهي الفكرة عينها قد تجعلها سعداء إلى الأبد ..

    فلنحمد الله على نعمة الحياة والصحة وكل شيء ..

    تقديري ،

    ليلى

    ردحذف