الأحد، 25 يوليو 2010

تحولات الشحوم ودلال الكسل



تحولات الشحوم ودلال الكسل

( 1 )

" التبلاح "

" التبلاح " : مصطلح يستخدمه عائلات منطقة - تندوف - بأقصى جنوب غرب الجزائر ، ويعنى بها تسمين الفتيات المقبلات على الزواج ، كي يغدون يوم زفافهن في أبهى صورة .. وهي عادة موغلة منذ القدم فحين تبلغ الفتاة سن السابعة والثامنة عشرة ، تدخل العائلة في حالة طوارئ ؛ لأن الفتاة تكون على عتبة الزواج ، ويتطلب تجهيزها بدنياً لذلك .. دون أن تقف النصائح الطبية بتفادي السمنة ومخاطرها في وجه بقاءها حتى الآن ..
وتتبع في تسمين الفتيات سلسلة من التدابير التقليدية أهمها اختيار أنواع من الأكل تعتمد على لحم الإبل وشحمها ولبنها ، وخبز الشعير فضلا عن التمر ومواد سكرية ..
ويشرف على هذه المهمة مسنات مجربات وعارفات بخبايا الأغذية التي تفيد في إحداث السمنة وطرق استعمالها ، وتخضع الفتيات المقبلات على الزواج لوتيرة معينة من الغداء كما ونوعا ، ويتناولن عادة طبقا غنيا بالدهون يتكون من شحم الإبل المذوب والبيض المقلي في الزبدة والنشا ، وهو حساء تقليدي خال من التوابل .. وشريحة لحم الإبل المجفف ويسمى باللغة المحلية " تيديكيت " ..
بينما أولئك اللاتي يرغبن بالطرق السريعة لزيادة الوزن ، يتناولن كل يوم خليطا من بيض الدجاج النيئ وزيت الزيتون على مدى أربعين يوما ، من أشد أيام الصيف حرارة وتسمى هذه الأيام بـ " السمايم " ..
ويرجع أهمية تسمين الفتيات عند هذه القبائل إلى رغبة رجالهم في فتيات مملوءات القدّ وموفورات الصحة وكاملات ، بينما النحيفة فلا حظوة لها في الزواج عند هذه القبائل حتى تسمن نفسها ..!


( 2 )

" تحولات الشحوم " *

مؤرخ الجسد والأستاذ الجامعي الفرنسي " جورج فيغاريللو " في كتابه الصادر حديثا تحت عنوان " تحولات الشحوم " يتحدث عن تاريخ البدانة من العصور الوسطى حتى القرن العشرين ..
فيغاريللو وكما أشار في كتابه إلى أن في العصور الوسطى ظهر ما يسمى بـ " الشخص الأكول " الذي كان يتمتع بحياة اجتماعية ومادية مرفهة ؛ فـ " كرشه " المتدلي دليل قاطع على نأيه عن هوة الفقر ، فالبدينون كانوا غالبا من فئات الإقطاعية في الحالات الطبيعية ..
ولكن النظرة التشككية بدأت حيال البدين منذ القرن السادس عشر – بدايات عصر النهضة الأوروبية – حيث ظهر ما يسمى بـ" غياب مفهوم الاعتدال لدى الأكولين " تبناها نقاد كثيرون .. وقد أشار المؤلف إلى شخصيات شكسبير الهامشية ، والتي كانت تتصف بالبدانة مثل شخصية السكير " فلاستفال " الذي حظي بتوصيفات مثل " صاحب البطن الضخم " و" شحم كبد الإوز " و " الآنية الاسبانية المدورة " .. ومع هذا القرن غدت البدانة نوعا من التخلف ..
و في القرن الثامن عشر ظهرت كلمة " البدانة " في قاموس " فورتيير " الصادر عام 1701م وجاء توصيفها القاموسي باعتبار البدانة حالة مرضية ، وعليه فرض عصر التنوير خطابا يدين فيه صراحة اكتناز الشحوم في الجسد الإنساني ..
واعتبارا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين ، اشتاحت العالم حمى إنقاص الوزن وظهر ما يدعى بـ " دكتاتورية المظهر " ؛ فزيادة الوزن هي " خطيئة جمالية " بمقدار ما هي " خطيئة صحية " ، وغدت البدانة دلالة من دلائل " الفقر " ؛ بسبب تناول كميات كبيرة من النشويات بعد أن كان دلالة ثراء في العصور الوسطى ، ومع طغيان ظاهرة " الكرش البرجوازي " واكبه أهمية " الميزان " في المنازل وظهور برامج غذائية " الريجيم " ، فالبدانة وكما يرى فيغاريللو أصبحت إحدى المشكلات الاجتماعية والصحية والجمالية ، التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار ؛ بسبب آثارها العامة فضلا عن آثارها الفردية ..


( 3 )

" كرش المثقف "

من وصايا الكاتب " وليام سارويان " للكاتب الشاب : " تنفس بعمق ، وكل بأقصى ما تستطيع من شهية ، ثم نم نوما عميقا وأضحك كالجحيم " ..
يبدو أن " القراءة والكتابة " سببان رئيسيان لفتح الشهية ، أو لنقل حمل لقب " أصحاب الوزن الثقيل " .. فأن تقبع في مجلسك على أقصى درجات الاسترخاء وبين يديك كتاب ، وأنت في سباق لاهث معه ؛ كي تنتهي منه لتبدأ بوليمة أخرى ، ومن خلال تلك الساعات خصوصا عند المنصرفين تماما عن العالم الخارجي من حواليهم تقديسا لمادة القراءة ، لا يقطعها سوى مواعيد الصلاة لأولئك الملتزمين بها – وما أقلهم – أو ارضاء فطريا لقعقعة المعدة التي لا تستغني عن حصصها من الطعام لعيني كتاب مهما كان قدره ..!
فتكون أشبه بفواصل إعلانية تنأى عينيك المرهقتين قليلا عما استحوذ عليك لبّك .. تلتهم وجباتك ، فالشهية بابها مفتوح على مصراعيه والقراءة تحتاج إلى عقل والعقل يحتاج إلى وقود قوامه في الزاد الذي يتدحرج إلى معدتك بسلاسة لذيذة .. فلا أسهل من عمليات البلع والمضغ والجرش والطحن والقرمشة والفرم والمص حتى آخر نتفة من القصعة التي أمامك ، بهمّة نملة تعد عدتها لشتاء شرير مقبل عليها .. !
وحينما تنتهي من وجبتك الرئيسية الثقيلة ، فإنك تدلل نفسك كما يدلل الدانمارك أبقارهم تماما ، فأنت ويا للإرهاق ..! قابع في جلستك المجهدة وجسدك يحفر في تربة أفكار غائرة في الكتاب الذي تقرأه أو الذي تعكف عليه تأليفا ، وأفكار ما بين كرّ وفرّ فلا مانع خلال ذلك استدعاءً للأفكار من جرش الفول السوداني المحمص أو طحن المكسرات بأنواعها المتبلة بطريقة عربية ، أو قرمشة برينكوز من عبوات الشبيس الكبيرة أو رقائق " ليز " فميزتها أنها تتلاءم وصفحات الكتاب الضخم الذي تمعن فيه بكل جد ، وإن كان الجو حواليك يغلي على درجة المائة الفهرنهايتية ، فإن آيس " باسكن روبنز " برعشته الباردة تدغدغ طاقتك لمجهود أكبر ، دون أن تحرم نفسك من صرعات الوجبات الجديدة فـ " آندومي " بخلطة الدجاج أو الخضروات هي الوجبة التي تحب أن تسحبها إلى جوفك بسلاسة مطلقة ، بينما أنفاسك تلهث خلف لهفة تخطف أبصارك في موضع مما تقرؤه .. ولا مانع من استرخاء على نحو آخر مع قطع من " الجالاكسي " الذي يذوب في الفم بنشوة مدهشة وقد تتضاعف الكمية ؛ فالدراسات أثبتت أهمية الشوكولاتة لتحسين المزاج وتنشيط الطاقة .. بينما قد يطلق الكتاب المنسجم معه عنان خياله فترتشف " الـ " ريد بول " لتحلق بجناحين من الطاقة مشاطرا بذلك خيال الكتاب ، ناهيك إلى مشروبات حارة ، ليكون " الشاي " مع سكر زيادة أو " النيسكافيه " مع حليب كامل الدسم وسيلتان لتنبيه ما لبس على العقل في جرم السهر ..
مع الأيام تغدو مثقفا حقيقيا وقارئا كبيرا مع شاهدين لا يكذبان أعين الآخرين قط فـ" كرشك " الكبير و" فخذيك " المشحمين خيرا دليل ..! مع رفيقين على ما يبدو سيرافقانك لزمن ممتد " السكري " و" الكوليسترول " وقد لا يغادرانك أبدا كلما فرط تدليلك لعادات القراءة ..!
لكنك تستطيع أن تستيقظ من هذا الكابوس بتخصيص – ساعة يوميا - تطلق فيهما ليس قدميك فقط ، بل عقلك لمتعة الانطلاق والصحة والرشاقة لتغدو كاتبا وقارئا يتمتع بصحة جيدة ..
ومجال الحرية شاسع بين الأخذ بنصيحة الكاتب " وليام سارويان " وبين ما تناوله المقال ، دون أن يفوتني تذكيركم بكابوس مرعب يدعى " شبح السمنة " اجعلوه نصب أعينكم كلما سولت لكم أنفسكم تدليل الكسل ..
وما ألذّ تدليله ..!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت قراءة مفصلة عن هذا الكتاب الصادر حديثا في باريس للمؤلف " جورج فيغاريللو " في ملحق " مسارات " التابعة لجريدة البيان الإماراتية ، العدد 104 ، 2010م .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق