الاثنين، 7 يناير 2013

أنا أكلت خبز الدم ..!


 
 
أنا أكلت خبز الدم ..!

 

نشر في جريدتي الرؤية / العرب

 

" سوريا " ماذا يمكن أن نكتب عن " سوريا " بعد مرور عامين على ثورة الحرية والعدالة .. ثورة تقاوم بدم جسدها وروحها الاستبداد والمجازر والدم والقهر والجوع ..؟!  سيرة ثورية بين شعب أعزل وبين شبيح عزم حتى آخر رمق من وحشيته أن يبيد شعبا طالما كان مبادا من قبل .. لكن الفارق أن الإبادة الجارية اليوم على مرأى من العالم لا في الخفاء كما كان في الماضي .. الفارق أن كل محاولات تلميع الواقع الشبيحي ما عادت تجدي فهو مفضوح ؛ فهل يمكن أن نكمم رائحة الدم النفاذة وأم نواري سوءات جثث متفحمة ..!

ماذا اكتب عن " سوريا " اليوم في عز فصل صقيعي متجمد من الرعب والجوع ..؟! هياكل عظمية تنافح عن حقها في العيش على أرض هي ملكها .. على أرض اعتقد طاغية سفاح أنه مالكها الوحيد الذي لا شريك له .. !

لا أستطيع – شخصيا – بعد الآن أن اكتب عن " سوريا " وإن حصل واقترفت الكتابة عن " سوريا " فإنها ستكون كتابة حمراء بلون الدم .. برائحة جثث متفسخة وذكريات متفحمة ..!

لكنني اليوم سأترككم مع حكاية لرجل سوري مع " خبز العدس " من ذاكرة صحفي سوري منضم لجيش الحر " حسين الجمو " .. ويبدأ حكايته عن " العم عثمان " ليرويها :

" كان العم عثمان يروي لنا في أواخر أيامه فصولاً قاسية من حياته تعود إلى طفولته.. واعتاد أن يختار قصصاً محددة ليرويها بذاتها دون غيرها، وهذا ما جعل من تكراره للقصة ذاتها علينا مراراً غير مفهوم بالنسبة لنا.

بعد سنوات من وفاته لم يتبقَ شيء أتذكره من مروياته المتنوعة والممتدة لفترة من الزمن سوى جزئية واحدة فقط، وهي متعلقة بالخبز.. وتبدأ القصة في ربيع سنة سبقها موسم جفاف ضرب معه إنتاج الحقول من القمح والشعير، ونقص المخزون الذي يعينهم للوصول إلى الموسم التالي في فصل الصيف.. بقيت لكل عائلة ما يعينها على الصمود أياماً قليلة فقط، والكميات المتوفرة لدى كل من هذه العائلات لا تتحمّل توزيعها على الآخرين للمساعدة ، فاحتفظ الجميع بالكمية التي لديهم في ظل استهلاك متقشف للغاية.

لم يكن الشاب عثمان من الذين يخزنون أي كمية من الطحين، ونفد منه القمح نهائياً.. كان البديل هو خبز الشعير الرديء جداً، لكن حتى هذا لم يكن متوفراً.

عندما يصل إلى نقطة الحديث عن خبز الشعير، كان أحد الحضور من كبّار السن أيضاً، يهز رأسه ويلقي بجملة واحدة فقط : "أنا عشت تلك الأيام" ويقصد أنه مرّ بتجربة خبز الشعير، لكن العم عثمان يبادره بابتسامة فورية ويردف مؤنباً : "وما هي المشكلة في خبز الشعير.. هي نعمة من الله .. نعمة ". ثم يلتفت إلينا : "بني.. أنا أكلت خبز العدس".. يرفع وجهه إلى السماء ويقهقه عميقاً مثل آبار البدو في البرّية.. يقول مرة أخرى : "خبز العدس" ويضحك حتى تأتيه نوبة سعال حادة توقف جموح نوبة الضحك. وباعتبار أني كنت من المحبين للعدس الأخضر وآكله من الحقل مباشرة فقد استغربت من إشاراته إلى أن خبز العدس تجربة سيئة، وعندما سألته عما يقصده، وما الفرق بين خبز العدس وبين خبزنا الحالي؟ كانت تعود إليه نوبة ضحك أشد خطراً من الأولى، ويقتنص لحظة بين فراغات الضحك ليقول: "الحمار.. الحمار وهو حمار لا يستطيع مضغ هذا الخبز".. يقولها وهو يواصل قهقهته الطويلة قبل أن يقوم عن الكرسي ويغادر مرتاحاً... وفخوراً بأنه الوحيد الذي ذاق من القرية خبز العدس الذي يكون بسماكة كف اليد وذو رائحة كريهة..

العم عثمان ليس هنا لأروي له ما يجري اليوم.. كل سوريا تعيش أياماً تعادل ما عاشه إن لم يكن أكثر. أطفال سوريا وشيبها يكونون جوعى هذه الأيام.. لا عدس ولا أرز ولا قمح ولا شعير..!

تعال يا عمّي وأخبرنا كيف نصنع خبز العدس الذي كنت تذوقته " أيام الرفاه" كما سيقول أطفال سوريا الذين سيقهقهون قريباً.. بعمق.. كمنجم فحم ..!"

ياااه ... حكاية العم عثمان مخبوزة بالمرارة في زمن كان الجوع وحده يعبر أجسادهم .. لكن ماذا لو أن العم عثمان في سوريا اليوم ..؟!

أي حكاية كان سيرويها العم عثمان عن سوريا اليوم التي تركها القاصي والداني وليمة لشبيح متعطش للدم ؛ لسفاح طاغية قصف في الأيام نفسها جوعى مصطفين لشراء الخبز أمام أفران الجوع والقهر والدم والصقيع .. نكاية بهم تم قصفهم والعالم بأكمله يتفرج على جثث هياكل متفحمة وطحين مبقّع بالدم والدموع  ..؟!

هل سمعتم أيها العالم عن " حلفايا " و" تلبيسة " و " البصيرة " ..؟!

العم عثمان – الله يرحمه – صنع خبز العدس وليس موجودا اليوم في سوريا ليعجن الطحين المصبوغ بالدم ويسرد حكايته ويختمها بعبارته التي كان سيخلدها التاريخ : " أنا أكلت خبز الدم " ؛ لأن الخبز العدس سيكون ترفاً وبذخاً في سوريا الدم والجوع والقهر والبرد ..!

 

ليلى البلوشي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق