الاثنين، 8 أكتوبر 2012

تعطيل الحواس ..!


 
تعطيل الحواس ..!

 

نشر في الرؤية / العرب

 

في كتابه " الحدس أبعد من أي حس " يرى الفيلسوف الهندي " أوشو " بأن جميع حواسنا معطلة .. لم يسمح لنا أن نكون طبيعيين ولذلك فقد الإنسان وقاره وبراءته وجماله وأناقته ..

" أوشو " ذهب إلى أن الحواس التي منّها الله تعالى للإنسان ضرورية ومهمة كي يعيش الإنسان سويا ويتمتع بالحياة ؛ ولكن في مجتمعاتنا جرى تطبيع الإنسان بوجه عام وبطرق مختلفة .. حيث جرى تطبيع الرجل لأن يكون عدوانيا وتنافسيا ومناورا وأنانيا بينما جرى تطبيع المرأة بأن تكون جارية ..!

كما هو معروف يولد الإنسان بكامل حواسه : البصر والسمع والشم والتذوق واللمس .. وتتكامل هذه الحواس كلما كبر واستطال .. لكن الملحوظة أن الإنسان حين تكتمل حواسه يسعى إلى تعطيلها جلها أو بعض منها حسبما يتوافق وطبيعة المجتمع حوله .. !

فهناك مجتمعات لها شروط معينة لقبول الإنسان رعية من رعاياها ؛ فمثلا تطلب منه أن يرى ويسكت كان حقا أم باطلا ما يراه ، أو تنبهه إلى أن يغلق فمه فللجدران أذان ..!

حكايات مجتماعتنا العربية هي أشبه بحكاية الضفدع الذي قطعت رجله .. حيث يحكى أن مجموعة من العلماء الظرفاء أجروا تجربة على ضفدع ، فقطعوا واحدة من أرجله الأربعة ثم قالوا له : " اقفز " .. فقز الضفدع .. فثبت العلماء هنا أن الضفدع قادر على أن يعيش بثلاث أرجل .. فواصلوا التجربة وقاموا بقطع رجلها الثانية .. فتبين أنها تستطيع أن تعيش برجلين ، ثم قطعوا الثالثة ، فالرابعة وقالوا له : " اقفز " لكن الضفدع عجز عن القفز ..! فتوصلوا إلى النتيجة العلمية والتي مفادها هي أنه عندما نقطع رجل الضفدع الرابعة تتعطل لديه حاسة السمع ..!

واضح إن " الإنسان السوبر الخاضع " هو الأكثر طلبا في مجتماعتنا العربية ؛ فهو الإنسان الذي لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم .. هذا النمط هو مرضيّ جدا من قبل السلطات وهو نموذج للعبد الصالح الذي لا في العير ولا في النفير كما يقول المثل الشائع .. هذا النمط البشري الذي ألغى بل أقفل على كافة حواسه ؛ كي يرضي مجتمعه أو كي يعبّر عن انصياعه التام وخضوعه الكلي فيكفي أنه يأكل ويشرب وينام ولا مطمح لديه غير ذلك في الحياة ..!

السؤال الذي يدغدغ حواس من هو محتفظ للآن بحواسه الأساسية : كيف يمكن للسلطة أن تقوّض الفرد في المجتمع وتخضعه كدمية ..؟!

الجواب ربما بسيط ؛ فهؤلاء الأفراد وصلوا لمرحلة الإشباع حتى تبلدت لديهم جميع حواسهم ؛ بمعنى أوضح " تعوّدوا " على تعطيل حواسهم وتجميدها .. وفي رواية " أعدائي " للكاتب السوري " ممدوح عدوان " يرد مقطع يوضح مرحلة " التعوّد " في الإنسان فيقول : " ذات يوم شرحوا لنا في المدرسة شيئا عن التعود حين نشم رائحة تضايقنا فإن جملتنا العصبية كلها تنتبه وتعبر عن ضيقها بعد حين من البقاء مع الرائحة يخف الضيق .. أتعرف معنى ذلك ؟ معناه أن هناك شعيرات حساسة في مجرى الشم قد ماتت فلم تعد تتحسس ومن ثم لم تعد تنتبه الجملة العصبية .. "

والأمر ذاته حين نمر على سوق يلوك بالضجة ، فإن الضجة عينها سوف تثير أعصاب الإنسان ولكنه مع مرور الوقت ستصبح جزءا من الإعتيادية ، وهذا يثبت موت الشعرات الحساسة والأعصاب الحساسة في الأذن ..!

يقال في أثناء الحرب اليابانية كانت هناك ملايين الجثث اليابانية متفسخة وممزقة ومتحللة وكان النتن المتصاعد يمنع الناس من النوم والأكل والراحة ، ولكن مع مرور الوقت ألف الناس الرائحة وما عادت تأثر فيهم ..!

 " فتصورا حجم من مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا ..! " هكذا ختم " ممدوح عدوان " عبارته عن ظاهرة " التعّود " وتعطيل الحواس الإنسانية ..!

والمشكلة أن هذا الفقد والتعطيل في الحواس يفقده الإنسان دون أن يشعر بفقدانها ، فهو فقْد لا يحدث ضجة كبيرة .. يفقد الإنسان " ذاته " فلا يشعر ولكن حين يفقد ذراعه أو ماله أو بطاقة الإئتمان فإنه يشعر ؛ هذا لأن المادي غلب الشعوري العاطفي في حياته ..!

والسلطة المقموعة لها دور كبير في تعطيل حواس الأفراد في المجتمع ؛ فهي تعد نشاط أي حاسة تحريضا عليها ، وعلى مصالحها ، على السلطة المطلقة التي استولت عليها ..! وواقع اليوم حافل بالتوضيح ، فالإنسان الذي يفتح فمه وكأنما فتح فوّهة الجحيم كل الجهات السلطوية حينئذ توّد فقط إبادته ..! وكلما أصغى السمع ليفهم ما يجري حوله ولينتبه على حقوقه المشروعة تلجأ السلطة إلى تسكيته بصوت الوعظ والتهديد والويل ؛ كي يهمد لسان الناطق بالحق ..!

وكلما سعى الإنسان في مجتمعه إلى الشعور بمسؤوليته كمواطن تجاه وطنه ، وتبدى هذا الواجب كمناداة نبيلة بإصلاح المجتمع ، وتقويمه ، وتطهيره من الفاسدين والمرتشين ، وأصحاب المحسوبية نرى أن السلطة والدائرين حول السلطة يقذفون تهما خطيرة كالخيانة والأجندة والسعي الحثيث لتشويه سمعة المواطن في وطنه كعدو للشعب ؛ لأنه رأى وتكلم ووظّف حواسه جلّها كي يؤدي واجبه ومسؤوليته كمواطن من الشعب تجاه وطنه ، ولكن السلطات تنبذ وتنفي وتلاحق وتسجن وتعّذب كل من ينافح عن حقوقه وهي السلطة نفسها التي تهتف بنموذجها المفضل والمقرب والمرضيّ ألا وهو " الإنسان السوبر الخاضع " معطّل الحواس كلياًّ ؛ فلا يرى ولا يسمع ولا يتكلم .. !

لكن هيهات تتمكن السلطة .. أيّ سلطة مهما بلغ وزنها وثقلها وحاشيتها أن تقضي على حواس إنسان قرر أن ينافح عن حواسه حتى آخر رمق كإنسان سويّ وحرّ.. وليس بعيدا هذا التحدي عن قول الشاعر " سميح قاسم " الذي قال : " ربما ترفع من حولي جدارا وجدارا وجدارا / يا عدوّ الشمس لكن لن أساوم / إلى آخر نبض في عروقي / سأقاوم وأقاوم وأقاوم .."

هنيئا لكل جسور محتفظ بكامل حواسه في زمن مات فيه الضمير وتبلّدت فيه الحواس البشرية ..!

 
ليلى البلوشي

هناك تعليقان (2):

  1. رائعه استاذه ليلى .. الله يزيدك من علمه .. انتي فخر وقدوة لنا

    اختك وتلميذتك / الجوهره الغاليه jojo alshreef

    ردحذف
  2. خالتي ليلي تو السلطات وسيايات الدول والعقليات المتخلفه ما الا يعطلو الحواس بل الامر اخطر اللي هو تعطيل الابداع في شعوبنا
    حتى في مثل يقول ((الحاجه ام الاختراع ))
    بس حنا غيرنها بسبب سياسة قتل الابداع والتعطيل الحواس
    ((الحاجه سودت وجه ))
    يعني بدل عن نولع الشمعه ........جالسين نسب الظلام

    ردحذف