الثلاثاء، 3 نوفمبر 2015

رواية يجب أن تدّرس في كل مدرسة

رواية يجب أن تدرّس في كل مدرسة

في جزيرة إندونيسية تدعى " بيليتونج " تحت صهد الشمس ينتظر تسعة تلاميذ مع آبائهم الفلاحين و صيادي سمك ، مع أمهاتهم الأميّات ربيات البيوت ، مع معلميهم الوحيدين " هرفان " و " بو مُس " وهما بكامل توترهما ، كان قد وصل حد انتظارهم حتى ساعة الضحى الحادية عشر و بدا أن رهبة الانتظار الطويل تبعته خيبة مريرة غزت أعضاؤهم ؛ فالمسألة هي انتظارهم للتلميذ رقم عشرة الذي ينقذهم من إغلاق أهم و أقدم مدرسة إندونيسية في تلك الجزيرة العامرة بخيرات الطبيعة رغم ذلك تعاني من فقر مدقع بسبب الرأسمالية المتوحشة ، لكن المدرسة تبقى مفتوحة في وجه المستبدين بفضل التلميذ رقم عشرة الذي يصل في الدقيقة الأخيرة و يكون المنقذ ..!
 " المدرسة المحمدية " هي مدرسة الفقراء في جزيرة يعاني أهلها من الفقر المدقع ، كان أبناؤهم يعملون و هم في سن صغيرة في مهن شتى لإعالة عائلاتهم ، لذا عزف الجميع عن دخول هذه المدرسة إلا هؤلاء التلاميذ التسعة يدفعهم التحدي و كان شرط المفتش الرأسمالي أن يكون عدد الطلاب عشرة حتى لا يغلق المدرسة المهدمة على رؤوسهم و إلى الأبد ..
كان وجود هذه المدرسة كفاحا ، كفاحا حقيقيا يوم بناه المعلم " هرفان " بيده من خشب الجزيرة ، بنى هذه المدرسة بعزم و محبة و لغاية واحدة لم يحد عنها حتى وفاته هي نشر المعرفة والعلم بين أطفال جزيرة " بيليتونج " ، لقد عمل دؤوبا حتى ساعات احتضاره كثوري حقيقي ، وكانت المعلمة الشابة التي أكملت تعليمها الثانوي " بو مُس " و التي لم يتجاوز عمرها الخمسة عشر تسانده بكل ما أوتيت من قوة وعزيمة ، و الطفل " أكال " راوي هذه الرواية شهد مدى الصعوبات التي واجهتم مع معلمتهم " بو مُس " في ظل مجتمع مادي ، لكن على الرغم من تلك المصائب المتوالية من أصحاب الأطماع ظلت المعلمة قوية ووفت بوعدها لتعليمهم حتى النهاية ، و بفضل جهودها الجبارة كانت هذه الرواية الملهمة ؛ فالطفل " آكال " أحد تلامذتها كان قد قطع وعدا على نفسه للكتابة عنها حين يملك ميزة الكتابة الجيدة ؛ ليعرف العالم نموذجا حيّا لمعلمة كــ" بو مُس" حكاية كفاح و مقاومة كبيرة ..
 لقد فعلها " أندريا هيراتا " في رواية " عساكر قوس قزح " أو كما لقبتهم " بو مُس " بلكنتها بيليتونجية " لاسكار بلانجي " بيع منها خمسة ملايين نسخة في أندونيسيا حين صدورها و ترجمت إلى عشرات اللغات منها العربية ، هذه الرواية الملهمة حقا لكل طالب و لكل معلم و لكل هيئة تعليمية ، لقد كانت " بو مُس " أيقونة الأمل و المقاومة ..
في جزيرة طافحة بالموارد الطبيعية التي لم ينتفع منها السكان الأصليون ؛ لأن الشركات الهولندية القوة الاستعمارية المسيطرة هي وحدها من كانت تبتلع الخيرات ، لذا كانت الجزيرة تعاني من الطبقية ، حيث سكانها الفقراء المنسيون ، وحيث أصحاب الشركات و أبنائهم الذين كانت لهم ملكية بنيت بيوتها كقصور فيكتورية ، و كانت مدارسهم معّدة بفخامة لا تقل عن قصورهم ، من كان سيصدق بوجودها في جزيرة كجزيرة بيليتونج ..؟!
و كانت لافطة " لا يسمح لمن لا شأن لهم بالاقتراب " مرفوعة كصفعة في وجوه سكان الجزيرة المعدمين .. " كانت الملكية معلما من معالم بيليتونج و قد بنيت لتكفل استمرارية حلم الانتشار الاستعماري المظلم هدفها منح السلطة لقلة من الناس مقابل قمع العديد و تعليم القلة فقط لضمن انصياع الآخرين " ..
كانت المدرسة المحمدية تسير على نهج التعليم الديني ، و من يسمع ذلك يعتقد بوجود تطرف من نوع ما ، لكن المعلمان " هرفان " و بو مُس " كانا يؤمنان بأن الدين هو خلق يلتزم به الإنسان تجاه نفسه أولا ، لقد كان الدين بالنسبة لهما هي الأخلاق و الأمانة و التعليم الجيد ؛ لذا لقد ورث طلابهم العشرة عنهم ذلك ..
كان بإمكان " بو مُس " أن تقبل بالعروض التي وصلتها من شركات هولندية بتعويضها عن المدرسة المحمدية المتهالكة ، و التي وجدوا في أرضها نسبة كبيرة من اليورانيوم بالمبلغ الذي تحدده و كان بإمكانها أن تعمل كبقية زملائها في مدرسة فاخرة تابعة لأرض الملكية و تتقاضى مثلهم راتبا باهضا ، لكنها رفضت كل تلك العروض ، فقد أبت أن تفرط بالأمانة ، بالمدرسة المحمدية التي أصبحت هي وحدها مسؤولة عن استمرارها ، كانت أنموذجا عن المعلم الذي يترفع عن أهوائه و مصالحه الشخصية ..
و إذا أردنا التحدث عن شخصيات الرواية ، الأطفال العشرة ، الذين أطلقت عليهم " بو مُس " لقب عساكر قوس قزح ، فقد عايشوا كل الصعاب الدراسية ، واستطاعوا بعزيمة على فوز بجائزتين في الفنون الاستعراضية و أخرى في مجال التفوق الأكاديمي رغم مواردهم المعدومة ، الأطفال الذين كان لكل واحد منهم أحلامه ، و ظلوا أعواما يسعون لتحقيق تلك الأحلام ، و لعل أبرزهم الراوي الطفل " أكال " الذي حلم يوما أن يكون كاتبا ، لكن أشدّ التجارب و أوجعها كانت تجربة الطفل " لينتانج " الذي أتقن الكتابة جيدا في الصف الثاني وكان أذكى التلاميذ ، الذي كان على متن دراجته القديمة يقطع أكثر من  40 كلم يوميا في طريقه من و إلى المدرسة ، الذي كان مضطرا حتى في أحلك الأوقات على المخاطرة بحياته حين يعبر نهر يسبح فيه كثير من التماسيح ؛ كي لا يفوت حصصه الدراسية ، الذي باع خاتم زواج أمه حتى يصلح سلسلة دراجته التي كانت تتعطل باستمرار ، الذي فاز عن جدارة بجائزة الاستحقاق الأكاديمي ، فقد كان عالما في الرياضيات و الفيزياء ، الذي ترك المدرسة بعد أن مات والده المعيل الوحيد لأسرة فقيرة يفوق عدد أفردها أربعة عشر فردا و معظهم من الأجداد و الفتيات الصغيرات ، كان الطفل " لينتانج " مثالا صادما عن كيف يمكن للفقر أن يهدم أهم الطاقات الإنسانية عند الأطفال و يهدرها في غمضة عين ، كان يمكن جدا أن يكون عالما في الرياضيات أو الفيزياء و ظل هذا الحلم يراود قلب الفتى الصغير ، لكن الحياة القاسية كانت أقوى و حطمت آماله ..!
اقرؤوا هذه الرواية ، اقرأوها لأبنائكم و لطلابكم ، فهي تجربة مثابرة في دروب التعليم و طريق إلى تحقيق الأحلام في عالم متهالك ..

ليلى البلوشي

هناك تعليقان (2):

  1. أستاذتي الرائعة ليلى البلوشي
    سلامي واحترامي لحضرتك
    بلا مبالغة يا سيدتي، فأنا أعتبر ما تكتبين مصدراً من مصادر الإلهام الإبداعي والروحي لي.
    أقول ذلك بكل سعادة وفخر، مع أن البعض يدّعون أنّ زادهم الخيال ولا شيء سواه.
    قرأتُ مدونتك الأنيقة هنا واستفدتُ واستمتعتُ بتواجدي فيها، ولو أن لي عتب على حضرتك لتركها عدة أشهر بدون إضافة مواضيع جديدة، كما أتشرف بمتابعتك في تويتر وفيسبوك وأقرأ مقالاتك في صحيفة الرؤية الإماراتية، التي أكتب بها مقالاً أسبوعياً كل يوم سبت.
    لماذا هذا التعليق؟
    لتسجيل الشكر والامتنان لحضرتك على هذا العطاء المتميز، والإبداع الملهم لكثيرين وأنا واحد في زحمتهم.
    تقبّلي وافر شكري وعظيم تقديري، مع صادق دعواتي لحضرتك بمزيد الدهشة والجَمال.
    يوسف بخيت الزهراني
    السعودية
    تويتر yba13@
    بريد إليكتروني
    anayba2013@gmail.com

    ردحذف