السبت، 8 نوفمبر 2014

خطب في مديح الأدب

خطب في مديح الأدب

كقراء تبدو لنا تفاصيل حياة الأدباء جزءا لا ينفصل عن الكتابة التي يقدمها الكاتب / الكاتبة للقارئ الآخر ، ولعل الصلة الوثيقة التي تتماهى ما بين الكاتب والقارئ تختزل في معنى الفضول الذي يجلب معه دهشات مكثفة عن كتابة الكاتب ومدى ارتباط حياته الشخصية بذلك ، كما أشار الروائي البريطاني " جوليان بارنز " في إحدى حواراته قائلا : " إذا أحب الناس عملك ، فإنهم في كثير من الأحيان أيضا يريدون أن يعرفوا أشياء كثيرة عنك " ..
في كتاب " في مديح الأدب " ترجمة " أحمد الويزي " يجد القارئ نفسه أمام باقة من أهم خطب قدمها أدباء عظماء حازوا على جائزة نوبل في الآداب كـــ" جوزيه ساراماغو " و" أورهان باموق " و" ج. م . لوكليزيو " و" هارولد بينتر " و" هيرتا موللر " و" ماريو فارغاس يوسا " ..
خطب أدبية وفكرية وثقافية وسياسية وإنسانية قدمها أولئك الأدباء بدءا من مؤلف رواية العمى المدهشة " ساراماغو " الكاتب البرتغالي الذي تربى في ضيافة جدّيه العجوزين في حقل من حقول البساتين ، في ذلك الحقل تعرف الطفل " جوزيه ساراماغو " الذي يحمل اسم والده على حكايات سحرية مشبعة بالإثارة ظل الجد يسكبها في خياله الغض تحت شجرة التين ، وتكريما لهذا الجد الأميّ افتتح خطابه النوبلي عام 1998م بذكره قائلا : " إن أكبر علاّمة عرفته على امتداد عمري كله لم يكن يتقن لا الكتابة ولا القراءة كان يترك مطرح النوم في الرابعة صباحا ليتجه رأسا صوب الحقول بمجرد ما أن يأخذ الضوء الملتبس بغبش الظلمة في الانتشار فوق المزارع الفرنسية معلنا عن ولادة نهار جديد " ..
وجدّاه من طرف أمه حيث ترعرع وهو طفل حتى أشتد ساعده و هما أول شخصيتين واقعيتين استحالتا إلى شخصيتين كتابيتين في مخيلة ساراماغو الحكاء حين كبر ، وسجل تلك المشاهدات التي كانت جزءا مؤثرا على مشواره الكتابي في حياته المزدحمة بمهن مختلفة بدءا كمصلح للمفاتيح والأقفال ، ميكانيكيا ، وموظفا في المستشفى ، ومسؤولا عن فرقة في تصنيع الحديد ، ومتعاونا في دار للطبع والنشر ، فمسؤولا في قسم الانتاج ثم ناقدا أدبيا ، وصحفيا ، وأخيرا مترجما لحسابه الخاص ، كم من حيوات ضجت في روح رجل بحجم ساراماغو المدين لكل ما سبق في تشكيل حياته الزاخرة " استطعت مع توالي سيرورة الكتابة حرفا بجوار حرف وكلمة خلف كلمة أخرى وصفحة في إثر صفحة وكتابا تلو كتاب أن أزرع في تربة ذلك الكائن الذي كنته كل الشخصيات التي ابتكرتها وخلقتها وأعتقد صادقا بأنه لو لم يتواجد كل هؤلاء في حياتي لما صرت الشخص الذي صرته أنا اليوم وربما ما كانت حياتي لتكون من دون هؤلاء .."
ومن جديّ ساراماغو إلى حقيبة أب " أورهان باموق " ، الحقيبة التي كانت أشبه بصندوق بندورا الذي خشي من أن يفتحه لتكتويه أمام حقيقتين لا ثالث لهما ، حقيقة أن والده لم يكن يأخذ الكتابة على محمل الجد والحقيقة الأخرى هي أنه قد يكون كاتبا جيدا دون أن يدرك قدراته طوال خمسة وعشرون عاما قضاها في الكتابة ، الحقيبة نفسها جعلته يستعيد هموم الكتابة ودوافعها وغاياتها انطلاقا من ذاته كمبدع " لقد خشيت فتح حقيبة أبي وقراءة دفاتره لأنني كنت أعلم بأنه قد لا يكون تعرض أبدا لتلك الصعاب والمحن التي تعرضت لها ، أنا بالذات ، فهو ما كان يحب العزلة أبدا وإنما رفقة الأصدقاء والتواجد وسط الحجرات المكتظة واستلذاذ لحيظات المزحة بين الرفاق والصحاب " ..
فكاتب كــ" باموق " يقضي حوالي عشر ساعات متواصلة وأكثر أمام ورقة بيضاء في عزلة خالية من كل شيء سوى منظر على البسفور ، منكبا على الكتابة وحدها ، وساحبا شخصية تلو أخرى من خياله المسترسل أحيانا ، والمستعصي في أحيان أخرى ، وهي حالة يمر بها معظم الكتاب المنعزلين في ملكوت الكتابة ..
هذه العزلة مع الكتابة والكلمات يفرضها غايات مكثفة في حياة " أورهان باموق " الذي يسرد كطفل متحمس بواعث الكتابة في حياته معترفا " أكتب لأني أرغب في ذلك ، أكتب لأني لا أستطيع أن أزاول كالآخرين أي نشاط آخر من الأنشطة العادية عدا الكتابة ، أكتب كي توجد ثمة كتب كمؤلفاتي مكتوبة ولأقوم بقراءتها ، أكتب لأني غاضب منكم ومن العالم بأسره ، أكتب لأنه يحلو لي أن أبقى طيلة النهار مغلقا على نفسي في غرفة ما ، أكتب لأني لا أستطيع تحمل الواقع إلا بتغييره ، أكتب من أجل أن يعلم العالم قاطبة ما نوع الحياة الذي عشناه والذي نعيشه أنا والآخرون ونحن جميعا ..، أكتب لأن الحياة ولأن العالم ولأن كل شيء هي من الأمور الجميلة والمدهشة ، أكتب لأنه من السائغ ترجمة الجمال والغنى الموجودين في الحياة إلى كلمات وألفاظ ، أكتب لأني لن أصل إلى أن أكون سعيدا أبدا مهما فعلت ، أكتب كي أكون سعيدا " ..
أما " لوكليزيو " الذي كان خطابه بعنوان " في غابة المفارقات " فقد بدأ ورقته بسؤال يطرأ ببال كل كاتب وقارئ " لماذا نكتب ؟ " ليستوضح مبعث هذا السؤال قائلا :" إذا كان المرء يكتب فمعنى ذلك أنه لا يستطيع أن يؤثر في الواقع مباشرة ، إن معنى ذلك ، أنه يشعر في قرارة نفسه بنوع من الحرج إزاء الواقع وأنه قد اختار وسيلة أخرى للرد بها عليه ؛ إنه اختار طريقة أخرى للتواصل مع ذلك الواقع كما اختار بعض المسافة ووقتا للتأمل والتفكير " ..
أما الدافع الأساسي في اختاره للكتابة فإن سرها يكمن في كلمة " الحرب " ففي طفولته أدرك معنى الحرب وقسوة الحرب ، تلك القسوة التي اضطرته إلى لزوم البيت بشكل قسري ؛ لأن في الخارج حرب ، ولم يكن أطفال في الحي الذي يقطنه قادرين على التحرك الحر خارج عتبات بيوتهم ؛ لأن الملاعب والحدائق التي كانت محيطة في الجوار مزروعة بالألغام والمتفجرات ، في تلك الظروف المعتمة أدرك " لوكليزيو " أهمية أن يكون المرء حالما في واقع من شوك ، تلك الأحلام التي حرضت خياله بفضل الجدة التي كانت قاصة بارعة بشهادته " الذي كان يدفع المرء إلى الانفلات والهروب وهما ما ظلا يعنيان إذن الانكباب على الحلم وعلى تدوين تلك الأحلام ، فقد كانت جدتي من جهة الأم قاصة بارعة ، ظلت تخصص لي ساعات الظهيرة الطويلة كي تسرد بعضا من حكاياتها وكانت قصصها غارقة في الخيال المجنح " ..
ولكن الطفل نفسه الذي نشأ على حكايات جدته توصل إلى أهمية أن يكون الكاتب في وسط واقعه وأن يكون شجاعا كفاية ؛ كي لا يهرب من هذا الواقع ، لأن دوره ككاتب يحتم عليه أن يخوض تجارب عديدة ومختلفة ليكون عن جدارة كاتبا حقيقيا  " ذلك الموقع لا ينبغي على الفنان أن يهرب منه وإنما عليه عكس ذلك تماما ، أن يظل المكان الذي يتحتم على الفنان " الإقامة فيه " كي يتعرف على جميع تفاصيله ويستثمر كل درب من دروبه ويعطي كل شجرة من أشجاره اسمها الخاص .." .
ويضيف في سجل اعترافاته : " إن ما يرغب فيه الكاتب هو أولا وقبل كل شيء ، أن يستطيع التأثير في محيطه ، أن يقوى على ممارسة فعله في كل ما حوله بدل الاكتفاء بمجرد تقديم شهادة على الواقع ، إن ما قد يرغب فيه هو أن يكتب وأن يتخيل وأن يحلم كي تتدخل كلماته وابتكاراته وأحلامه في الواقع فتغير النفوس والأفئدة وتفتح كوة في الأفق وكي ينشأ ثمة عالم أفضل " ..
أما " الحقيقة والكتابة " فهي عنوان خطبة الكاتب " هارولد بينتر " الذي طفق يسرد بكل طاقته الإنسانية في معنى أن يكون الأدب وأن تكون الكتابة هي تقديم الحقيقة الكلية والمطلقة والشفافة في زمن التطبيل وتشويه الحقائق ونشر الأكاذيب السياسية " لا يهتم أغلب الساسة بالحقيقة أبدا وإنما يهتمون بالسلطة والإمساك بزمام بالحكم وللإمساك بهذه السلطة ، من الأساسي أن يبقى الناس غارقين في أتون الجهل وأن يعمهوا في جهل مطبق وتام بالحقيقة " ..
ويتخذ من العراق أنموذجا لما أوصلته إليه أكاذيب السياسة الأمريكية ، أمريكا التي قدمت حزمة من الأكاذيب على مستوى عالم لتجد مبررها في احتلال العراق وتدميره ، وبعد سنوات من الهدم والخراب ، اكتشف العالم أن تلك الحجج التي عددتها أمريكا لغزو العراق ، لم تكن سوى سلسلة من الأكاذيب ، ليتهم الكاتب السياسة الخارجية الأمريكية بالخراب والدمار الشامل الذي لحق بدولة كالعراق " لقد جلبنا للشعب العراقي آلام التعذيب والقنابل الانشطارية والأورانيوم المخفف والعديد من أعمال القتل والسفك المرتكبة بشكل اعتباطي كما جلبنا له المأساة والإذلال والموت وفوق كل هذا نسمي ذلك نشرا للحرية والديمقراطية في الشرق الأوسط " ..!
وكأن الكاتب " هارولد بينتر " وهو بخطبته عن سياسة أمريكا وفضح قبحها على مستوى السياسي ككاتب له مسؤولية سياسية أيضا في إبراز حقائق العالم لا عن طريق الأدب وحده بل وخوض في السياسة أيضا كمقدم للحقائق يؤكد نظرية " جورج أورويل " : " الجعل من الكتابة السياسية فنا " أو بتعبير أورويلي آخر " كل كاتب بشكل ما داعية سياسي " ..
أما " ماريو فارغاس يوسا " فهو مدين لكل قصص الخيال التي سكبت في عقله مذ تعلم القراءة في سن الخامسة ، كما أنه مدين لأشخاص في مشواره الكتابي حتى لحظة فوزه ووقوفه في نوبل ، وتأتي في المرتبة الأولى أمه التي كانت تتأثر دوما وتبكي وهي تراجع ما كان يكتبه أو يقرأه على مسامعها ، وجده " بيدرو" الذي كان يحتفي بأبياته الشعرية و خاله " لوتشو " الذي حثه بشكل كبير ؛ كي ينخرط في الكتابة جسدا وروحا ، أنه مدين لهؤلاء في لعبة الكتابة السحرية الكامن في فعل تحويل الكلمات المكتوبة إلى صور ، كما أنه مدين للقراءة ، التي حين أتقنها حولت الحلم لديه إلى حياة والحياة إلى الحلم ، ووضعت رهن إشارة الطفل الذي كانه الكون بكامل دهشاته وأسراره ..
أما المرأة الوحيدة والتي لم يدرج اسمها في الكتاب فهي " هيرتا موللر " لأن المترجم أخطأ في كتابة اسمها وكنت سأشير إلى إنه خطأ مطبعي لو أن الناشر نشر صورتها على الغلاف الخلفي للكتاب والذي حوى صور بقية الأدباء في الكتاب نفسه ، غير أن الغلاف الخلفي لا يحوي صورة  أي امرأة ، بل وضع مع بقية الأدباء صورة الرجل المدعو " هونتر مولر " كما كتب المترجم اسمه على الرغم من أن الخطبة والتي عنوانها " منديل للدمع وآخر للكتابة " هي - بلا شك - للكاتبة الألمانية من أصل روماني " هيرتا موللر " ، فقد اشتهرت بخطبتها هذه أثناء نيلها لجائزة نوبل حين سارعت نشرها كثير من الصحف والمجلات وقتئذ ، ليجد القارئ نفسه أمام خطأ كبير ولا يغتفر في حق أدب وفكر وصراع امرأة كــ" هيرتا موللر " ، وربما إذا كان هذا القارئ فضولي ولديه شك مثلي لاستعان بـــ" جوجل " وتأكد مما توصلت إليه ، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يؤخذ على الكتاب ..
" هيرتا موللر " التي تحدثت عن رمزية المنديل في حياتها مذ طفولتها و سنوات الشقاء والكتابة ، والصراع السياسي والفكري والثقافي حتى نيل جائزة نوبل ..

ليلى البلوشي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق