الأحد، 8 سبتمبر 2013

حكايات من ضيعة الأرامل ..!


 
 
حكايات من ضيعة الأرامل ..!

 

نشر في صحيفة البلد

 

" سيمون دو بوفوار " الروائية التي خاضت بشراسة معظم حروبها لأجل حقوق وحريات النساء ، قالت مرة عبارة مهمة وذات دلالة : " لو لم تكن المرأة موجودة لاخترعها الرجل " ..!

ولكن لو تلاعبنا بعبارتها قليلا لعبة التقديم والتأخير ، وأعدنا قراءة عنفوانها اللغوي الفكري بعد العبث المتعمد منا لبعض ألفاظها ؛ بتقديم لفظة " الرجل " وتأخير لفظة " المرأة " بحيث يصبح التساؤل كالتالي : " لو لم يكن الرجل موجودا لاخترعته المرأة " ..؟! فهل ستخترعه المرأة حقا ..؟!

هو التساؤل المقلوب الذي طفا ببالي لحظة قراءتي لرواية الكاتب الكولومبي " جيمس كانيون " والتي عنونها بـــ" حكايات من ضيعة الأرامل " ثم أتبعها بهامش " ووقائع من أرض الرجال " ترجمة خالد الجبيلي .. منشورات الجمل ..

الضيعة في كولومبيا تدعى " ماريكيتا " في الفصل الأول من الرواية هناك لمحة شافية وكافية عن أجواء هذه الضيعة ووضعها الروتيني ؛ حيث كما جرت العادة في كل صباح من يوم الأحد خلال السنوات العشر الماضية ، لم يحضر صلاة القداس عند السادسة صباحا ، سوى دونا فيكتوريا أرملة موراليس ، ثم سرعان ما قررت التخلي عن أداء الصلاة وأصبحت تجلس في ركن الكنيسة تحتسي القهوة ..!

هذا مدخل ديني يعطي لمحة سريعة عن الإيمان والصلوات ولونها في هذه الضيعة الصغيرة والمعزولة التي يبدأ قداسها في الساعة السادسة صباحا كما ذكرنا سابقا ، ثم ينتقل الروائي إلى وصف الضيعة وأهلها بطابع اجتماعي ، والتي تباشر ضجّتها في الساعة الثامنة صباحا ؛ فيعرض أحوال الرجال والأعمال التي يمارسونها كما في كل يوم البلادة والكسل نفسه أيضا ، فرجال ضيعة " ماريكيتا " كانوا يرقصون التانغو والبوليرو على أنغام أجهزة الفونوغراف أو يستمعون إلى الأخبار من المذياع ، بينما قاضي القرية وشرطيها والذي يدعونه بسارجنت الشرطة يتواجهان جالسين على كراس قابلة للطيء ، ليلعبا لعبة البرجيس مع عدد من الجيران المختارين تحت شجرة مانغا الباسقة ..

وصاحب الحانة الوحيدة في القرية يسحب معه خارجا ثملين سرعان ما يودعهما ، ليذهب إلى بيته ، رأسا إلى حضن النوم ، بينما يقوم سبعة أخوة أشقياء من العائلة نفسها بحركات الإحماء قبل الشروع في لعب كرة القدم الأسبوعية إلى أن يأتي حفيد الجزار الذي يمتلك الكرة الوحيدة في القرية كلها ..!

لكن كل هذا الهدوء ينفقئ عن بكرة أبيه ؛ ففي الساعة التاسعة لناقوس الكنيسة يظهر من جميع أركان " ماريكيتا " حوالي ثلاثين رجلا يرتدون بدلات بالية تميل إلى اللون الأخضر ، راحوا يطلقون النار من بنادقهم وهم يصيحون " عاشت الثورة "  .. وعلى ما يبدو أهالي ضيعة " ماريكيتا " اعتادوا على شعاراتهم كما اعتادوا على قدومهم في كل عام ، ليجمعوا حفنة من المال وما يقدموه لهم الأهالي من عطايا مختلفة كالدواب والأطعمة ، ولكن تحاشي الأهالي هذه المرة عن استقبالهم ، واختباء كل منهم في منزله أغضب رئيس الثوار ، مما جعله يفوّض جماعته بالهجوم على كل ما يقع تحت أيديهم من أموال وأطعمة وجرّ كل رجل من رجالهم بأسلوب تهديدي ووحشي باسم الثورة ، مع السماح للثوار باغتصاب فتيات الضيعة كما تجري العادة في كل عام لحظة قدومهم ..!

ودع النساء باكيات رجالهم وهن على يأس من حضورهم أو لقائهم مرة أخرى ، يرحل الرجال مع الثوار رغما عن أنوفهم ؛ لأن كل مقاوم منهم تخترقه رصاصة الموت ، كما اخترقت سارجنت الشرطة زوج " روزالبا " المرأة التي ستصبح قاضة ماريكيتا بعد مغادرة الرجال ..!

ضيعة " ماريكيتا " تكون مهجورة سوى من نسائها الأرامل والعوانس وثلاث رجال ، الخوري رافاييل قديس الكنيسة الذي يقوم بخداع النساء بالاقتراح عليهن مضاجعتهن بحجة إنجاب مواليد جدد للضيعة ، فيفشل في مساعيه وتكتشف النساء عقمه ، فينتقمن منه ويقمن بطرده من " ماريكيتا " خاصة بعد تسببه في قتل أربع صبية من شباب القرية بعد تجاوزهم السادسة عشرة ..!

والرجل الثاني هو سانتياغو وهو خنثى الذي وقع في حب صديقه المثلي بابلو وشيعه في جنازة ، وخوليو سيزار صبي في الخامسة عشر الذي ألبسته أمه ثياب فتيات عند هجوم الثوار عليهم ، لتمنع رحيله عنها إلى حيث جبهة الموت ، فيتحول إلى فتاة تخرسه الصدمة ..!

أما نساء ضيعة ماريكيتا ، فقد أفرد الروائي " جيمس كانيون " تفاصيل كل منهن في فصل خاص يسرد بعض من سيرتهن وما صادفنه في حياتهن ، ولعل أكثرهن بروزا هي " روزالبا " أرملة سارجنت الشرطة الذي قتل على يد الثوار وهو ينافح عن أبناء ضيعته ، فيقوم أحد الرجال الذين يزورون الضيعة لتقديم معونات ضئيلة بعد مغادرة رجالها قصرا بترشيحها كقاضية جديدة للضيعة بعد أن يختبر قوة شخصيتها وصلابة موقفها ، سرعان ما تهجر حتى هذه اللجنة القرية ونساءها تماما بعد زيارتهم هذه ..!

يوافق النساء على " روزالبا " كقاضية " ماريكيتا " ، هذه المرأة الجادة والمسؤولية رغم ما بها من صرامة شديدة ، وتبدأ في تنفيذ معظم الخطط والأفكار التي سجلتها في دفتر صغير كأفكار قابلة للتنفيذ ،  فالضيعة كانت معزولة ولم يكن رجالها سوى ذكور منشغلين بمتعهم أكثر من انشغالهم بمهام تطوير الضيعة التي كانت خزانات مياهها فارغة ، والكهرباء مقطوعة عنها ، وخط الهاتف معطل ، والقذارة متراكمة كالذباب في كل مكان ، والمدرسة الوحيد مقفلة ، وقد انخفض عدد السكان بشكل كبير بعد أن جرّ الثوار رجالها بالقوة ، فغادر كل من استطاع المغادرة من نسائهم وأطفالهم المقتدرين إلى ضيعات وقرى أخرى ، لتأويلهم بعيدا عن ضيعة لا يسكنها سوى نساء وظلالهن الكئيبة والفقر المدقع ، فاستطاعت امرة قوية وصارمة كــ" روزالبا " على الرغم من كل التحديات التي جابتها من أرامل " ماريكيتا " ، ولكنها كانت تؤمن بمقدرتها على تغييرهن ووضعت ذلك دائما ضمن غاياتها " كان أكبر تحد يواجهها إقناع النساء بأن ينسين مسألة المعجزات ويضعن إيمانهن بالزعيمة الوحيدة المصنوعة من لحم ودم التي تعيش في ماريكيتا " ، ففلحت في النهاية في مسعاها لضمهن بصرامة ومودة في آن تحت ظل ماريكيتا الجديدة صنيع جنس أنثوي طاغ ..!

ومن النساء المؤثرات أيضا في صناعة تاريخ ماريكيتا النسائي أرملة موراليس وبناتها الأربع " أوركيدا " ، و" غاردينيا " ، و" مانوليا " ، و" خوليا " ، وهو " خوليو سيزار " ، الذي تحول عن جنسه الذكوري بعد صدمة حادثة الثوار ، ليصبح في هيئة فتاة جميلة سرعان ما يقع في حب شهوي مَثَليّ مع الصحفي الأمريكي ، الرجل الوحيد الذي يزور الضيعة بعد ستة عشرة عاما من العزلة ..! الأرملة وفتياتها كن مسؤوليات عن مطبخ الضيعة وضخ نساء ماريكيتا بالأطعمة المتنوعة والمختلفة بمهارة ولذة ..

ومن النساء اللواتي تأثرن وبشدة بخلو ضيعة ماريكيتا من الرجال هي " دونا إميليا " صاحبة النزل " لا كازا دي إميليا " الذي كان الأشهر ، وكان يعيش انتعاشا ساحقا في داخل " ماريكيتا " حين كان بها رجال وخارجها أيضا ..!

" دونا إميليا " التي مضى الكثير من عمرها ، ولكنها عرفت جيدا كيف ترعى فتياتها اللواتي كن صناعة إميليا كما كانت تفخر ، وكانت تتباهى بهن مرددة دائما : " إن الفرق بين المومس وفتيات إميليا إن المومس يعمل بها الرجل أما فتيات إميليا فهن اللاتي يقمن بالعمل من بدايته حتى نهايته " .. عاهرات النزل الجميلات الاثنتي عشر ، عرفت كيف تحولهن إلى ماهرات في صنعتهن من خلال الدروس والمحاضرات التي كانت تلقنها لهن معلمتهن العتيقة خبرة وعمرا ، وسرعان ما غادرنها فتياتها حين لم يحتضن نزلهن ولو رجلا واحدا يقاسمنه فيما بينهن شهوة المال والعهر ، وبرحيل فتياتها إنهار النزل الذي كان وراء شهرة وثراء " دونا إميليا " ولم ترحمها الأعوام التالية من حياتها ، فتغدو أشبه بمشردة تتسكع مع كبر سنها وعجزها الشوارع القذرة ، حتى انطفأت حياتها وطالما تساءلت بعد انهيار نزلها ومغادرة رجال ضيعة " ماريكيتا " بمرارة : " تساءلت كيف يمكنها أن تنافس حفنة من النساء الشبقات المخيفات أشباح رومانسية مستعدة لممارسة الجنس لقاء تذوق القليل من العاطفة ..؟ لعنت الثوار الشيوعيين لأنهم سلبوها زبائنها وبكت بحرقة وحزن على جميع الرجال الذين اختفوا " ..!

النساء الشبقات كانت تعني بهن عوانس " ماريكيتا " ، اللواتي كن يستقبلن بحفاوة أي جنس ذكوري يمر طيفه بالصدفة ضيعة الأرامل المعزولة ، فيعرضن أنفسهن عليه مجانا مقابل حفنة من الشهوة ..! لذلك بغضت " دونا إميليا " أولئك العانسات أشد البغض بقية عمرها المترهل  ..!

إذا كان عمل " دونا إيميليا " إنهار برحيل آخر رجل من " ماريكيتا " ، فإن هناك مهن لا يؤثر عليها ترهل الجسد أو مرور عبء العمر أو وجود الجنس الذكوري أو عدمه ..!

وخير دليل على ذلك شخصية " كليوتيلد غوارنزو " ومهنتها كمعلمة مدرسة ، العانس بوصف الروائي في السابعة والستين من عمرها ، وذات سحنة يشوبها الغموض مع افتقادها لمعالم الجمال الخارجية المعروفة في تقاطيع النساء ..!

" كليوتيلد " المعلمة التي رفضت أن تعلّم التاريخ ، وهو عنوان انتقاه الروائي للفصل الرابع ، والذي يسرد جزء من حياة المعلمة وتفاصيلها التي مضى معظمها ، دون أن يعرف القارئ أهو مرّ أم حلو ، ولعله الأقرب للوصف لفظة حامض ..؟!

استطاعت رغم أعوامها المديدة ، وتباطؤ في حركتها أن تكون المستحقة الوحيدة في ضيعة الأرامل لمهنة تدريس صغار الضيعة التائهين في دوامة الجهل والفقر والبلادة والنزق ..!

تساهم هؤلاء النساء وغيرهن وفي مقدمتهم قاضية " ماريكيتا " " روزالبا "  في صناعة مجتمع ، بل عالم نسوي أنثوي فائض بالتطور والتنمية ، مجتمع يخلو من صراعات الحروب ووحشيتها ، مجتمع غني بالنظام ويسير على قدم وساق ، وكل منهن تلتزم بدورها على أكمل وجه ، وتحصل " ماريكيتا " الجديدة هكذا يفصل النساء اسمها بنعومة وحماس وهمة جهدهن على كل ما كانت تحلم به هذه الضيعة الصغيرة المعزولة عن العالم الخارجي من خزانات مياه ، وكهرباء ، وعيش متعادل وكريم للجميع ، بل إنهن فلحن في صناعة زمن خاص بهن واستثنائي - الزمن الأنثى - كما أتفقن على تسميته ؛ فحين توقف نبض الزمن في ماريكيتا ، ولم تجد النساء ساعة واحدة للاهتداء بمعرفة الوقت ، اقترحت القاضية مع معلمة المدرسة بقياس الزمن من خلال حيض نساء الضيعة " ربما حان الوقت لأن تبجلها النساء باعتبارها صفات أنثوية فريدة وأن يستخدمنها في حياتهن اليومية .." !

وحين يصلن لمرحلة الكمال تفيض مشاعرهن كل واحدة نحو رفيقتها ، طالما أن هذه المشاعر الكامنة لا تجد ذكرا يشبعها ، فإنها تقبل على بعضها البعض ، وكل تتخذ رفيقة عاشقة لها وكثنائيات مثلية  يشرب الحب الشاذ نخبه وحد الثمالة في ضيعة الأرامل ..!

تأقلم النساء مع الوضع وتعلمن العيش دون رجال ، ولكن قطعا حاجتهن لصرخة مولود يعيد التوزان إلى الجنس البشري الأحادي في " ماريكيتا " الجديدة المزدهرة ،  كان أيضا حاجة أنثوية .. رغبة الأمومة الفائضة ، وقد أشرقت الصرخة في أرجاء ضيعة الأرامل حين ولدت إحدى نسائهن الشابات " أمبارو مارين " من " آنخيل تاماكا " أحد الأربع الذين فروا من جبهة الثوار وبنوا حياتهم ليس في " ماريكيتا " الأنثوية بل في مجتمع ماريكيتا الأحدث حيث اقترحت عليهن القاضية وما كان معها في مجلس " ماريكيتا " الجديد إلى الرجال بأن يبنوا لهم مجتمعهم الخاص البعيد عن مساحات مجتمعهم الأنثوي الذي اعتادوا عليه وبنوه بعرق تعبهن طوال أعوام غياب الرجال ، ومن حق كل امرأة أن تنتقل للعيش مع الرجال في مجتمعهم الجديد بناء على قناعتها ورغبتها ..

ذهب  الكاتب " بيير داكو " في كتابه المدهش " المرأة .. بحث في سيكولوجية الأعماق " إلى قوله  : " يولد الرجل من المرأة كما يولد الملح من الماء ، فعندما يقترب منها ، تمتصه ثانية كما يحدث للملح في الماء " ..!

نجح النساء في بناء عالمهن ، ولكنه كان يفتقد التكامل ؛ تكامل الجنس البشري الذي هيأ الله - عزوجل - أعمدته ؛ كي يتوازن على الأرض من كائنين هما آدم وحواء ومنهما تكاثرت البشرية أجمعين ؛ فناقص المرأة مع ناقص الرجل يتحقق معنى المنشود للتكامل والتوزان البشري ..

 رواية " جيمس كانيون " تتميز بالواقعية السحرية ، غنية ومدهشة وغرائبية وتفيض بالأنوثة المغرية ومضمخة بروح الحكايات الملونة كألوان أحلام النساء ورغباتهن ...

 

ليلى البلوشي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق