الاثنين، 21 مايو 2012

تسلق أشجار المانغا ..



تسلق أشجار المانغا ..

جريدة الوطن


   ليس من السهل ارتقاء شجرة مانغا خاصة إذا ما كنت صغيرا وضعيف البنية كالطفلة الصغيرة و الرقيقة " مادور " بينما إخوتها وأبناء عمومتها الأكبر سنا يقطعون المانغا المقطوفة إلى شرائح لذيذة تتزحلق بانسيابية طاغية إلى أفواه المترقبين قصار العمر والقامة في أسفل أفرع أشجار المانغو ..

إنها سيرة مغموسة بروائح مأكولات هندية بأطايبها وبهاراتها ذات خليط أسطوري .. إنها سيرة عن عائلة ثرية يعترش أفرادها تحت ظل شجرة الجد الكبير الذي تصدّر مناصب راقية في البلاط الملكي مورثا عائلته التي تتمدد إلى أفرع متكاثرة الأغصان شرف سامق يتوارث من جيل إلى جيل ..

تروي تفاصيلها بأريحية هادئة ونقية الصدق الكاتبة الهندية " مادور جافري " التي ولدت في دلهي حيث الذاكرة المنتعشة بتفاصيل الأمكنة والأزمنة التي تعاقبت عليها وعلى أفراد عائلتها الكبيرة وتركيز جل سيرتها الحافلة على مقتطفات مكثفة من حياتهم دون أن تولي بقية رحلتها في الحياة سنوات ما بعد التخرج والزيجتان والاستقرار في نيويورك أدنى ما يذكر من تفاصيل .. يمكن القول بأنها ذاكرة هندية أصيلة جدا رغم التربية الغربية التي انغمست الكاتبة في كنفها مذ كانت رضيعة ..

قلنا إن الكاتبة في حيازتها ذاكرة جبارة حيث تختلج سطورها بأدق تفاصيل محكية قل ّ أن تخزنها ذاكرة طفلية ؛ ولكن الفضل على ما يبدو يعود لكرات اللوز التي حرصت أم " مادور " الأنيقة دوما بسواريها القطنية والحريرية على إعدادها .. كما جاء على لسان ذاكرة الطفلة : " اعتادت والدتي أن تطعمنا كرات اللوز وكانت والدتي تنقع المكسرات والهال وتكون منها كرات ملساء تغلفها بطبقة رقيقة من الفضة ، يالها من كرات رائعة لم أر مثلها أبدا ، كان عند والدتي إيمان راسخ بأن اللوز غذاء للعقل وأنه لا يجوز أن يرسل طالب أو طالبة إلى امتحان يدوم ست ساعات دون أن يتسلح بكرات اللوز .." إنها وصفة ينبغي تطبيقها من قبل أمهات فاضلات حريصات على جذوة إذكاء ذاكرة صغارهن ..

أما عن العائلة الهندية تلك التي تفرعت منها " مادور " فهي نادرة في صلات التقارب والتحابب العميقة التي نسجت منها مشاعر هذه العائلة .. التي كانت منفتحة على العوالم الخارجية دون أن تحقن نفسها ضد الاختلافات التي وجدت من حولهم ، سواء من حيث المأكل والملبس والمشرب وطرق التعليم والدراسة وهذا يعيد ذاكرتي إلى روايات هندية عانى أفرادها من انقسامات عائلية ناهيك إلى انقسامات شرخت المجتمع الهندي الواحد إلى مجتمع تعددي الطبقات والديانات في فترة الأربعينيات والخمسينيات ، وهذا يبرز اختلاف وجهات النظر ومدى انفتاحية العقلية تجاه المتغيرات في المجتمع آنذاك .. فعلى النقيض كانت روايات " سلمان رشدي " دائما تحكي عن عوائل هندية تتفشى فيها معانى البغض والعدوانية بين أفراد العائلة الواحدة التي تفتقد أواصر أسرية عميقة بل يسودها الافتقاد غالبا لمسمى العائلة الواحدة .. فالأب إما أن يكون غير لائق لحمل صفة الأبوة أو دوره غائب تماما في الحقل الأسري ..!

ومن ناحية أخرى أمعنت " مادور " في الحديث عن فترة التوتر السياسي أثناء الانقسام الذي تعرض لها بلادها .. ووصفت مشاعرها نحو المسلمين والهندوس بأسلوب ينم عن الرقي ويحتمل معاني الحب والصداقة لكلا الطرفين نابذة من خلالها التفرقة ، ورغم أنها هندوسية إلا أن محيطها الأسري لم يخل من خليط من العادات الهندوسية والمسلمة والطابع البريطاني وقد تماهت مع تلك الاختلافات بطريقة تحقق لها المتعة والسعادة على خلاف الكاتبة المسلمة " تسليمة نسرين " في روايتها " العار " حين حكت عن فترة انقسام الهند بين الهنود والمسلمين بأسلوب يؤّلب مشاعر كلا الفئتين على نار البغض وشرارة الفتن خاصة حين ناصرت الهندوسي وجعلت منه وليمة مظلومة في فم المسلم المتوحش وكشف هذا عن مغالطات كثيرة .. فعلى الرغم من ذاك الشرخ إلا أن الكثير من الهندوس والمسلمين كانوا على توافق اجتماعي لم تأفل قوة المحبة والأواصر بينهم رغم الفتن والمشاحنات السائدة في الجو الهندي وقت ذاك ..

ولعل مدرسة " الملكة ماري " التي التحقت بها الكاتبة في طفولتها تصف لنا الجو السائد آنذاك ومعاني التسامح التي عرفت بها الأسّر الهندية : " شكلت تجربتي في مدرسة الملكة ماري انتقالا من عالم غربي مسيحي إلى عالم هندي مسيحي ، كانت المدرسة مسيحية قلبا وقالبا ولكن لأن الإدارة كانت مسيحية واستقلال الهند كان مكتملا تقريبا سمح للهنود – الهندوس والمسلمين والسيخ وغيرهم – أن يكونوا على سجيتهم .." .

ولا يستغرب من عدم تعصّب الكاتبة لدينها وهذا راجع لتشرّب روح " غاندي " في دمها النقي .. حيث ظهر تأثيره في أفكارها خاصة في فترة الاحتلال البريطاني مع تعامد رغبة غاندي في توافق كافة الأطياف الدينية تحت سيادة دولة واحدة نافيا بذلك كافة أشكال التقسيم في الوطن الواحد ..

الاختلافات التي كانت ترنو إليها الكاتبة كانت منصبة على أنواع الأطعمة التي تقوم بطبخها كل عائلة باختلاف دينها كما جاء وصفها : " كانت هناك عشرات الخصائص والعادات والتقاليد التي عرفتنا بالأطعمة الإقليمية المحلية ، إلا أنها لم تكن كافية أو مرضية تماما ، فلقد تميز كل طبق بحس ديني يمكن رؤيته وتذوقه .." ثم تماهت في وصفها لطعام البنتين التوأمين اللتين رافقنها في المدرسة وهما مسلمتان : " يعكس طعام عبيدة وزهيدة خصائص قلب المدينة ، ومدينة دلهي وخصائص المسلمين من الهنود ، تنتزع أصابعي قطعة صغيرة من اللحم لتفصلها عن العظم الملتصق بها ثم تتبعها لقمة خبز الروتي .."

أما صديقتها " سودا " اليانية : " كان طعام سودا ذا طابع ياني بقدر ما كان طعام عبيدة وزهيدة إسلامي الطابع ، لقد كان طعامها نباتيا تماما وخلا من البصل والثوم ، إذ اعتقد أن هذه النباتات البصلية تثير عواطف دنيئة ، كما وخلا طعامها كذلك من الطماطم والشمندر فلقد اعتقد أن لونهما يذكر بلون الدم ولم يحتو طعامها على الخضروات ذات الجذور بسبب الاعتقاد السائد عند طائفتها أن اقتلاع الجذور يقتل النبتة بأكملها .."

 بينما  " بروميلا " كانت من عائلة بنجابية متحررة نوعا ما وهذا التحرر جاء بدءا من اسمها الغريب ليضفي نوعا من الاندماج مع تاريخ العالم الحديث .. أما عن وصف طعامها حسب طابع انتمائها الديني فوصفته : " اشترت بروميلا خبز الباراثا أو خبز الصاج المحشو بالقرنبيط الذي أكلته مع مخلل المانغا .." .

واللافت للنظر حقا في سيرة الكاتبة أنها تنتمي وعائلتها لطائفة الهندوس وهي طائفة تنأى من أكل اللحوم ولكن عائلة " مادور " تعد اللحم بأنواعه وجبة رئيسية محببة لمعظم الوجبات الطعام المختلفة .. ويحتمل هذا إلى التساهل الديني إضافة إلى موجة التأثير الغربي بالنسبة لعائلة ثرية منذ عهد عتيق مع وجود عقول متعلمة ومنفتحة على عوالمها المتغيرة ..

بدأت السيرة بحكاية عن البيت رقم سبعة التي نشأت في أرجائها الكاتبة وعائلتها والجد الثري الذي كان يقود دفة ذاك الامتداد العريض بشموخ حاكم يقود شعبه ، وختمت الرواية بموت هذا الجد ومراسيم تشييعه وذلك بنثر الرماد في مياه نهر يامونا المقدس ..

وبما أن الرواية تعنى بالدرجة الأولى بأوصاف الأطعمة الهندية الشهية .. فقد خصصت الكاتبة  الصفحات المئة الباقية من الكتاب لعرض أوصاف الأطعمة الشهيرة التي تناولتها - طوال تلك السنوات - آخذة معظم المقادير من الذين قاموا بإعدادها من أفراد عائلتها وكل الذين قابلتهم في مسيرة حياتها .. ولعل مبعث هذا الزخم المطبخي عائد إلى رسوب " مادور " في مادة الطبخ حين كانت ما تزل تلميذة .. ربما وهذا احتمال من ترشيحي .. مهما كانت الأسباب فلن نحرم أنفسنا قط من متعة تجريب إحدى تلك الوصفات التي تنم عن ذائقة باذخة باللذة رغم بطولة الفلفل الأحمر في كل وصفة معدة فيضطر المرء إلى شرب كميات هائلة من الماء ليس بعد كل وجبة من وصفاتها فقط بل يرافقه الاحساس بالحرارة بعد كل التهام قرائي لصفحاتها اللاسعة بالفلفل الهندي الأصيل وصحة للجميع ..



ليلى البلوشي

هناك تعليق واحد:

  1. وهل لي بكوب من الماء البارد بعد هذا الفلفل الحار ،،، يعجبني سردك كثيرا فله سريان في الأوردة غريب

    مشجع

    ردحذف