الأحد، 13 فبراير 2011

رجاء النقاش في عيد ميلادي



رجاء النقاش في عيد ميلادي ..

ثمة أشخاص لا يعوزهم إدراك مناسبة ما ؛ كي تتعذر الكتابة عنهم ؛ كي تخصص سعة من ذاكرتك المعبأة بضجة الحياة حيزا صغيرا لهم ، دون أن يتخبط في حيزك ذاك مناسبات الحياة أو الموت ، تلوح لهم بحب في أي وقت لا سبب ولا غاية من وراء ذلك سوى محض حب خام ، أو وصل إنساني شفيف تترع ذاكرتك بذكراهم ، وذاك القدر الضئيل الذي أبقيته لهم لا يضاهي بالتأكيد مكانتهم الكبيرة في قلبك وقلب الأدب جبنا إلى جنب ..
في الثامن من شهر فبراير في عام ألفين وثمانية ، تصادف في هذا اليوم أن احتفل بيوم ميلادي مع زمرة من صديقاتي ، وكما هي الحال في مثل هذه اللحظات الأنفاس تتلهف على الدقائق الباقية التي تعلن الثانية عشر بعد منتصف الليل ، فأن تدخل في عام جديد يعني أن تدخل حياة أخرى ، ونمت ليلتها بينما أمنيات العمر الجديد تتصدر قائمة أحلامي ، وفي صبيحة يوم التالي قرأت في الجريدة أن الناقد " رجاء النقاش " غادرنا إلى عالم آخر بعد صراع مرير مع مرض السرطان ، وجاء هذا الخبر الفجيع لينتشل كل الأمنيات التي كانت تتحفز بصمتها في صدري ويستبقي على شعور واحد مكثف لا يمكن أن يوصف سوى بحزن من نوع عميق ، وقلت في نفسي لحظتئذ : " إذن من سيحتضن المواهب الحقيقية " ..!
فمذ سنوات وأنا اسمع عن رجاء النقاش ، عن ناقد مبدع محنك في تفسير النص بإبداعية خاصة وسلسة في ذات الوقت ، وكنت قد قرأت له دراسات متفرقة هنا وهناك ، ولعل موقفه مع الشاعر " أحمد مطر " هي أكثر المواقف الأدبية والإنسانية التي شدتني إلى هذا الإنسان الجميل ..
وفي غضون فترة ما ، عدت إلى قراءة رجاء النقاش بعد أن حصلت على بعض من كتبه ، غصت في غورها باستمتاع بالغ ، وبشراهة دودة ألفيتني أقرأ مقالاته ، فعرفت أن " سافو " هي أول شاعرة في التاريخ الإنساني ، وأن ثورة العاشقين اندلعت في روما في عصر الإمبراطور " أغسطس " ، وأن الإمبراطور " كاليجولا " كان إمبراطور الدماء والعطور رغم أن اسمه يحمل معنى " الحذاء الصغير " ..! وخشيت على " بودلير " من دلال الأم المفرط له ، بالمقابل بغضت أم " بلزاك " التي كانت سببا في كل المآسي التي لحقت به ليموت في النهاية في فنجان قهوة ، واكتشفت علاقة " آينشتين " بالبيانو ، ووقفت مع " إبراهام لينكولن " للقضاء على ايدولوجيا التفرقة العنصرية وفك العتق عن رقبة السود ....، إلى لا نهايته ..
وطوال تلك المدة كنت أقول لنفسي سأكتب عن رجاء النقاش ، بينما رصيدي الداخلي يتدفق من بئر مقالاته العميقة ، لكنني عدلت عن الفكرة ، وقلت رجاء النقاش أكبر من أن اكتب عنه ، فتركت كتبه على رف المكتبة وملفات الالكترونية التي عكفت على جمعها على سطح المكتب ، وطال الهجر ، وزحفت خيوط العناكب وتطفلت الأغبرة على الفكرة كلها ..
.. وأخذتني الحياة ، ومن ضمن انشغالات تلك الحياة تكاثفت قوة غريبة تحثني على تجريب كتابة مقالات ، تاركة كتابة القصة القصيرة خلف ظهري ، هاجرة الشعر - إن كان ما اكتبه شعرا - ، وركنت اهتماماتي في مجال أدب الطفل على رف الانتظار ..!
ولم يكن سهلا قط كتابة مقالات جديدة ، تتناول الكيف الثقافي قبل الكم ، تستأصل المعاني من محيط النص ، تقوم باقتناص فوائد تضاف إلى الإبداع والأدب ككل شيئا ذا معنى ، والأهم من ذاك كله لا يخرج المتلقي ذاك المبدع الآخر للنص فارغا ، بل تضيف إلى رصيده الفكري أو الأدبي أو الإنساني أو الحسي نزعة ما ..

وخلال مدة قصيرة وأنا الغضة في سور غور فن المقالات ، وجدت أمامي كمًّا لا بأس به منها ، وثمة مقالات لم تكتمل ، ومقالات أخرى تتريث نضجها على نار هادئة ، وأدركت جيدا أن كتابة المقال كحال الفنون الأدبية الأخرى كما قال عنها رجاء النقاش " مثل الاشتغال في الحرب لا يستطيع المشتغل فيها أن يقول : إنني أرفض المعارك وإلا فعليه أن يخرج من الميدان " ..
قلت : لم اكتب عن رجاء النقاش ، ولكن يالغرابة القدر ..!
فطوال تلك المدة لم اعرف تفسير اللغز الحقيقي الذي حفزني على كتابة المقالات ، ولم أكن أدري أن رجاء نقاش هو وراء اتجاهي إليه بقوة ، هو الذي أخذ بيدي كما أخذ من قبل بيد الشاعر " محمود درويش " حين أدخله إلى قلب القاهرة الإنساني ، هو من حفز قلمي على الكتابة المقالية بذاك الدفق الحماسي المفرط ..
فالإبداع المفرط في مقالات رجاء النقاش هو السر الذي سحبني شيئا فشيئا إلى دهشة فنية المقالية ؛ لأنك حين تقرأ له لا تخرج خالي الوفاض أبدا ، ولن تكون قط حنين الذي رجع بخفيه .. ولأن رجاء النقاش بمشاعره الإنسانية السامقة في مكمن صدره تجاه الأدب والأديب هي ما جعلته يكتب عن الآخرين وكأنه يكتب لنفسه ، يقدم النص على منبر الطرح بعطف أب حاني على أبنائه وبمحبة أخ مسؤول عن أخوته الصغار ، وبضمير حي وحس أدبي نبيل استطاع خلال خمسة عقود أن يواكب الأدب وعالمه عن حنكة حقيقية وفي كل مرة يبدي للعيان ما خبأه الظل خلفه ..
لم يكن متزمتا ولم يسع إلى وضع النص تحت مجهر ، أو تصنيفه على مكعبات ومربعات بمقاييس بحته ، تلك التي تكون على النص والفكر قبل أن يولمه من غموضه ..
ولعل أعظم سمة عرفت عنه هو " اكتشاف المواهب " ؛ ليس أولئك الذين تطاردهم الأضواء أينما كانوا بل كان همه أنأى من ذلك بكثير ، وجعل الساحة العربية تعقد دهشتها في كل مرة ينتخب فيها النقاش بمقالاته كاتبا مغمورا لم يسمع عنه ، كاتبا كان مهمشا خلف الأضواء الوامضة على جهات معينة دون غيرها ..
في ظل ظروف بعض النقاد ووضع النقد في وقت الحالي ، ويخال للبعض أن في أيديهم موازين يقيسون بها النص ، وإذا ما عزموا كتابة نقد ، فإن أغلب أقلامهم لا تتجه سوى إلى كاتب كتب عنه آلاف المرات على سبيل المثال لا حصر كتب معظم نقاد الوطن العربي عن الكاتب السوداني " الطيب صالح " وهو كاتب يستحق كل تلك الكتابات والإشادات دون شك ولكن بالمقابل أهمل وغاض هؤلاء النقاد عن مئات من المبدعين كانوا من وطن المبدع الطيب صالح .!
أو كاتب حاز على جائزة ما ، ولكن شرية البلية هنا حين يكتشف النقد عن طريق جائزة موهبة ما ، لتكون اليوم معظم الجوائز الأدبية هي التي تقدم مواهب على طبق من ذهب إلى النقاد دون أن يكلف الناقد نفسه تفتيش عن المواهب ..!
بينما بعض الأقلام تتحين فرص التأبين كي تمرر شهرتها الرخيصة عن كتاب لا تذكرهم إلا وهم مفترشين قبورهم ، فتعلن موقفها النهائي كصوت سبّاق ؛ لتستعجل وضع نقطة في نهاية حياتهم كتبرئة ذمة .. !
ولكن مهمة الناقد في داخل رجاء النقاش كان على نقيض من ذلك تماما ، فهو الذي كان يسعى إلى البحث والتمحيص ، ولعل موقفه مع الشاعر العراقي " أحمد مطر " خير دليل على ذلك ، فقد قرأه رجاء نقاش من خلال بعض الصحف التي كانت لا تمانع من نشر قصائد الشاعر الممنوعة ، فأعجب به وبموهبته الفذة ، وهذا ما دفعه إلى أن يحتفظ بتلك القصاصات المتفرقة التي تحوي معين شعره ، فأراد أن يكتب عنه ، ولم يكن في حوزته سوى تلك القصاصات وكتاب واحد له يدعى " لافتات " ، وكانت الصدفة الجميلة بأن التقى بالشاعر في الكويت عام 1984م ، في بيت أحد الأصدقاء وكون يومها بلماحة ناقد انطباعا قصيرا عنه ولكن لم يتسع لا اللقاء ولا الوقت في أن يحاوره ، و لم يستسلم فحين تهيأ له اتصاله وهو في لندن طلب منه أن يكتب شيئا موجزا عن نفسه ؛ كي يوثق كتابته عنه ، ويومها بعث الشاعر أحمد مطر له رسالة قشيبة يقول له فيها الشيء الكثير من ضمنها : " أسعدني جداً أن أسمع صوتك ، غير أنني لم أُدهش من كيفية عثورك علي ، ذلك لأنك ناقد ومهمتك هي العثور على الشاعر بين ملايين وملايين الكلمات .. وكذلك تفعل عندما تبتغي العثور على شاعر بين قارتين !" ..
وموقفه من الأديبة " غادة سمان " حينما نشرت رسائل التي بادلتها مع الأديب " غسان كنفاني " ففي الوقت الذي هاجمها الكثير من النقاد باللغط الواسع والصخب الكبير مفندين حقها في نشر مثل تلك الرسائل ، لكن ما كتبه رجاء نقاش عام 1978م يلخص أدبها المليء بالتحدي والمقاومة والإصرار على شق العالم وعبر عن عالمها بأنه " عالم التعبير والفن والبوح والتفكير بصوت مرتفع ومناقشة قضايا الإنسان والدنيا بلا خجل " ، مع احترامه للخصوصيات حين الخوض لسير الآخرين وذلك حين تناول عرض سيرة حياة " غسان كنفاني " تحدث عن العلاقة العاطفية التي ربطته بالكاتبة " غادة سمان " بتكتم محترم قائلا : " وقد تعرض غسان كنفاني في أواسط الستينات لتجربة عاطفية عنيفة جدا وكان الطرف الآخر في هذه التجربة أديبة عربية معروفة ولا أحب أن أشير إلى اسمها فقد أصبحت زوجة وأم ...." .
وكان رجاء النقاش " مطلق النجوم " ولكن حفنة من النقاد اليوم من خلال عرض دراساتهم همهم أن يطلقوا أنفسهم قبل النص وكاتبه ..!
وغاب الناقد الحقيقي حكمه الضمير قبل كل شيء ، لنرى أمامنا على أبعاد عدة نقاد " شلليون " ينتخبون أذواقا ما دون أن يكون للنص وجماليته أدنى قيمة ، لتتكشف أسباب أخرى وراء ذاك الانتخاب ؛ كون الكاتب هو صاحب مكانة في المجتمع ، أو كاتب تربطه به صلات شخصية ..!
رجاء النقاش كان يختفي خلف النص ، يضيء زوايا الإبداع التي طرحها الكاتب ، و ينسى نفسه في حضرة الآداب التي تسيطر بجمالها على لبّه ، ليقدمه بدوره للمتلقي بلغة تحترمه ، دون أي مكابرة ولا أستاذية منه ..
بينما تأتي بعض الدراسات بأقلام بعض النقاد ، ليجد المتلقي كمّاً من مصطلحات غامضة يغيب عن فهمها بل يخرج من العمل الأدبي بغصة عدم إدراك مقصد الناقد ، ويتخم بعضهم دراساته بهوامش مكثفة لتغيب معها لذة الاستمتاع ..
وإذا ما تحدثنا عن المبدعين الذين انتخبتهم مقالات رجاء نقاش ، سنرى سمة جميلة أخرى تضاف إلى سماته الكثيرة فهو لم يتقيد بإبراز جنس على جنس ، ولم يكن همه وضع أدباء مصر على القائمة دون أدباء آخرين من أرجاء الوطن العربي ، لتجد من مصر ومن العراق ، وتجد من سوريا وفلسطين والسودان والكويت ... هلم جرا ، كتابات مفتوحة على كل الجهات ، مسافرة بلا نهاية إلى آفاق شاسعة ، فقد كان يؤمن من أن " قيمة المثقف ليس كشخص وإنما كتأثير ، مثقفا على الهامش ، علينا أن نأخذ برأي المثقف الذي ثبتت صحته لا أن نترك الآراء على الرصيف الحياة نمر بها مرور الكرام " ..
أين هم نقاد اليوم من كل هذا ..؟!
فمعدودون أولئك الذين يواكبون في مسيرتهم النقدية تجارب أخرى من خارج الأقطار التي ينتمون إليها ، ويقنعون القراء عن تقصيرهم بحجج واهية ، لعل من أكثر تلك الحجج شيوعا هو تذمرهم عن عدم وصول معظم الإصدارات إليهم ، رغم أنه ومن خلال التطور السائد الذي عززه شبكة الانترنت يستطيع أي ناقد أن يتعامل مع أي كاتب مهما غدت بُعد المسافة فاصلا بينهما ، ولكن فقط الناقد الحقيقي هو الذي يعرف جيدا كيف يشق طريقه إلى درب الأدب الشاق والحقيقي ..! اذكر على سبيل المثال لا الحصر - الناقد " إحسان عباس " - الذي كان يسافر إلى بغداد والى غيرها من الدول وراء كل أدب أصيل ؛ لاقتناصه من منبت أرضه ..
ناهيك عن أعذار أخرى والتي أسبابها تعود إلى الناقد نفسه ، الذي عجز عن متابعة حركة التطور السائدة في الأدب بشتى أنواعها ، والتي تستدعي تطورا مماثلا له في أدوات النقد ، ومعه ظهرت أسماء واعدة غزت الساحة الأدبية بقوة كبيرة عجز معظم النقاد عن مجاراتها مكتفين بأسماء مخضرمة لتمثل تلك الأسماء باعتقادهم الواجهة الأدبية الوحيدة ، ليقضي هذا التظلم على أسماء عديدة كان من حقها الانتشار ..!
مازال النقد بحاجة ماسة لرجل محنك وأمين وبضمير حي كـ" رجاء النقاش " ، ومازلت في كل من التاسع من فبراير يعتصرني في يوم ميلادي غصّة فراقه ..
ليلى البلوشي
Lailal222@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق