الثلاثاء، 10 يونيو 2014

تلميذتي العراقية ورواية طشاري ..!

تلميذتي العراقية ورواية طشاري ..!

صحيفة التقرير السعودية
كنا في الدقيقة الأخيرة من نهاية الحصة حين دنت مني تلميذتي العراقية في الصف السادس وهي تمد كراس التعبير المنزلي حيث تكتب معظم التلميذات ما يحلو لهن وما يطرأ ببالهن من خواطر ومقالات وقصص قائلة لي بصوت يشوبه الحزن : معلمة ممكن تقوّمين لي ما كتبته ..؟
وضعت الكراس أمامي ورحت أجري خلف سطور كانت تقول : " في سنة 2003م .. كانت في دولة العراق الأمان والحياة السعيدة ، كنا لا نفرق بين الشيعي والسني والمسيحي والكردي والتركماني .. وكنا إخوانا نساعد بعضنا البعض على الحلوة والمرة ونتقاسم الطعام مع بعضنا ولا نفرق بين غني وفقير .. وفي يوم من الأيام وكان يوما مؤلما وحزينا كنا نائمين ودخل العدو الأمريكي إلى العراق برا وجوا وبحرا ونزلت علينا الصواريخ كالمطر وبدأ الصراخ والبكاء وبدأ الدمار لبلدنا الحبيب وبدأ الناس بالهجرة من مكان إلى آخر وكنا نختلف عن تلك العوائل التي تهجرت حيث سكنت مع عائلتي في مدرسة وانضمت إلينا سبع عوائل أخرى وكنا نساند بعضنا البعض ونطمئن على بعضنا البعض وفجأة سمعنا في الأخبار عن عاصمتنا الحبيبة استسلمت واستقر فيها العدو وبدأنا نسمع أخبار القتل والسرقة والتشرد وحال البلد يسوء يوما عن يوم وبدأ العراقيون بالهجرة من بلد إلى آخر ولم يتبدل وضع العراق ونسأل الله عزوجل أن يحمي العراق من كل شر ويحمي كل بلد فيها حروب والحمد لله على كل حال " ..
وأول ما انتهيت من التعبير الذي كتبته تلميذتي العراقية طاشت ذاكرتي إلى الروائية العراقية " إنعام كجه جي " تحديدا إلى روايتها " طشاري " ماذا لو قرأت بطلتها الدكتورة " وردية " ما كتبته تلميذة في الحادية عشرة من عمرها والتي اختصرت في بضع سطور حال العراقي مذ عام 2003م ..؟
" إنعام كجه جي " التي فردت في روايتها حال العراقي في مراحل زمنية مختلفة طفقت مع الزمن كرة ثلجية تدحرج مزيدا من ويلات الحروب والتشرد وتلك الغربة التي تعاظمت في داخل العراقي ليس في خارج بلده حين يكون مهاجرا بل في داخل بلده العراق " حتى الشرطة اختفوا من الشوارع والمفارق ثم عادوا بأزياء أخرى بعضهم ملثم وبعضهم مسلح وبعضهم ملتح والباقي يبدو وكأنه في ورطة وجودية .. المدينة كلها في ورطة وجودية ولا أحد يعرف لمن يأمن وممن يخاف والشوارع مقسمة حسب الطوائف ..؟"
والغربة تتجذر أكثر حتى بين النساء وعلى طريقة لباسهن بحيث طمست كل الملامح في قالب واحد : " تلمح بينهن شابة حاسرة الرأس فتعرف أنها مسيحية أو شيوعية ، لقد تغيرت أزياء نساء المدينة وصار الحجاب على كل الرؤوس ونافست العباءة التقليدية " ..
ولعل أعمق تجليات الغربة بين العراقيين حين سقطت الهوية الوطنية للبلد العراق إلى هوية دينية نابعة من طائفية عمياء التي غدت تسوّغ كل شيء حتى زهق الأرواح والنهب والسلب : " تقطعت الروابط منذ أن اجتاح الشاشات عراقيون لا يشبهون العراقيين . نهّابون وقطاّعو الرؤوس وعملاء يعلقون على صدورهم أنواط شبهاتهم .. الأقوى بينهم هو الأكثر حظوة لدى المحتل .. طائفيون يسألونك عن مذهبك قبل السلام عليكم " ..!
لكن الشيء الوحيد والمتوحد الذي جمع كل العراقيين باختلاف مذاهبهم وطوائفهم هو الشعور بـــ" الخوف " : " وحده الخوف لازمني كما لازمهم رغم أنف المسافات " ..
الخوف الذي يعيش فيه العراقي في داخل بلده وخارجه ، في داخل بلده حين تكون كل خطوة له أو لأحبابه ملغمة بالموت ، وفي الخارج حين يكون الصوت هو طوق النجاة الوحيد كي يطمئنوا على أحبابهم من موت وشيك ، من ميتات تكون مدبرة أكثر من كونها طبيعية في بلد الصراعات كالعراق : " كان الموت كثيرا بحيث لا يتوقف المرء أمام الميتات العادية ولا يجد الوقت للحزن " ..!
وهو الحزن نفسه الذي سكن في قلب تلميذتي وبطلة الرواية " ورديّة " وكل عراقي وعراقية في هذا العالم .. الحزن الذي شهده الكبير وحمل أعبائه عبر أعوام الهجرة والغربة والشقاء الصغير ..!
الحزن الذي عرف جيدا كيف يتناسل من جيل إلى جيل بأنانية الحرب واستبدادها ..!
ليلى البلوشي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق