الاثنين، 18 يوليو 2011

كاتب طريق









كاتب طريق



جريدة الرؤية العمانية ..






عندما نلمح خربشات على جدران أحد الشوارع في حي أو منطقة أو مدينة ما ندركه خير إدراك أن حفنة من الأشقياء حاولوا ممارسة نوع من الفضفضة أو تمرد نزق على تلكم الجدران من خلال تسجيل حكاياتهم العابرة وعلاقاتهم القريبة ؛ لتكون الجدران عينها لوحة يسقطون عليها أحاسيسهم المتباينة ، ولتكون نوعا من مشاطرة العامة لتلكم المغامرات ..




الكتابة على الجدران يعده البعض فوضى ، أو حالة مرضية ، أو تشويها أو تعديا على حقوق الأفراد والمجتمع على حد سواء ، ولكن تاريخ الثورات العربية قدّست هذه الفوضى ، وهي قدسية مارسها الصغار والكبار على حد سواء ؛ لأن الكتابة والرسم على تلك الحوائط التي تداولت شعارات عديدة كانت تهدف إلى كسر القيود والتمرد الجمعي ، بل مضاعفة الحس الوطني الصاخب بين فئات المجتمع تضامنت مع بعضها البعض ، وكانت تلكم الجدران هي آذان تسمع هتافاتهم ، هي أفواه تستصرخ شعاراتهم ، هي أنوف تتبارى لتشتم أكسجينا نقيا ، هي أحلام حافلة بالعدالة والكرامة والحرية نحو مستقبل طالما اغتيل مئات المرات في أزمنة الطغيان والاستبداد ..




في وقت ما في بيروت التي طحنت تحت نير الحروب الأهلية ، جاء في كتاب " حرب الشعارات " التي صدرته دار النهار اللبنانية للنشر عام 1978م للصحفية اللبنانية " ماريا شختورة " التي قامت بجمع الشعارات التي شهدتها الجدران اللبنانية خلال الحرب ، ويضم الكتاب صورا لمئات الكتابات الجدراية خلال حرب عامي 1975 م – 1977 م ، وتختلط فيه الشعارات السياسة للقوى المتحاربة وكتاباتها ضد بعضها البعض بالبذاءات الأخلاقية الفردية ..




ولا شك أن تاريخ مدينة بيروت المرير هي التي دفعت بعض الفنانين التشكيليين خلال سنوات أخيرة إلى تبني مشروع رسم جدرانها التي شوّهتها الحروب ، الجدران التي عجنت من دم الأبرياء لتكون رسومات أولئك الفنانين مشروعا لتلوين أحلام متفحمة ، أحلام وئدت لعلها تعود لتناهض أرواحا جديدة لأجيال تحلم بمستقبل أكثر أمانا ، وإن في حضرة جدران غسلت ماضيها بألوان مبهجة لآمال أكثر بهجة ..




ولكن الأبهى حقا ؛ حين تكون الرسوم على الجدران حقنة تقلّص من ممارسات الإجرام واللصوصية ، ففي حي " سانتا مارتا " في البرازيل ، وهو حي الإجرام واللصوصية تحوّل من حي مشبوه إلى حي فني ؛ فلقد استطاع فنان من طلاء الحي وتلوينه بألوان قوس قزح ، اعتقد أن هذه البادرة مهمة للقضاء على اللصوص والإجرام ؛ فالألوان خاصة المبهجة تلعب دورا حيويا مهما في إعادة تشكيل المزاج الإنساني ..




ومثله ما قام به الفنان الكولومبي " ستنك فيش " منذ العام 2000م برسم لوحات جميلة وفريدة من نوعها على جدران مدينة " بوغوتا " ويتميز هذا الفن عن غيره كونه رسم وجوها من صور كان قد التقطها خلال جولاته في المدن ..




ولعل هذا الأمر يتفق تماما مع دراسة نشرتها مجلة " ساينس الأمريكية العلمية " أن عدد الأشخاص الذين يلقون القمامات في الشارع أو يسرقون يرتفع إلى أكثر من الضعف في الشوارع المشوّهة جدرانها بالنقوش أو الرسوم ، بل رأى البعض أن ثمة نظرية تعرف باسم " النوافذ المكسورة " التي تذهب إلى وجود زجاج مكسور أو نقش أو رسم على الجدران أو قمامة الأحياء يزيد من استعداد الأفراد لارتكاب المزيد من المخالفات والجرائم الصغيرة ..




ولعل " كتاب الطرق " أولئك الذين خربشوا على الحوائط ، وجدوا في ظاهرة حوائط " الفيس بوك " و" تويتر " ؛ وسيلة ناجعة للتعبير ؛ لتحوله من كاتب طريق في عالم واقعي إلى كاتب طريق في عالم افتراضي ، لكل حائطه الخاص يخربش فيه ما يشاء ، وبحرية مطلقة وفي كل الأوقات ، بل البعض يتماهى في حريته ليسقطها على حوائط الآخرين ؛ متمردا ، نزقا ، حالما ، كيفما كان عبوره ثقيلا ، خفيفا ، غير مرغوب به ، عبقا كشذى النرجس ، ولكن الأعظم في المسألة برمتها أن صاحب كل حائط مسؤول عن نظافة حائطه عن كل ما يخدش شخصه ، فبكبسة زر واحدة يستطيع أن يفرض رغباته في قبول أو رفض كل ما يعبره من عابرين في عالم فضفاض الرغبات والأهواء والتطلعات ..




أما عن أنواع " الفيسبوكيون " فسيكون لنا فيه حديث آخر مستفيض ..







ليلى البلوشي







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق