الجمعة، 14 يناير 2011

نصيحة هنري ميللر : اقرأ أقل ما يمكن ..!



نصيحة هنري ميللر : اقرأ أقل ما يمكن ..!

" لقد لاحظت مؤخراً أنَّ الشبّان يتحولون أكثر فأكثر إلى الكتب الميتافيزيقية ، والغامضة والصوفية بالإضافة إلى الإباحية والبذيئة ، في هذا الكتاب أعتقد أنهم سيجدون أجوبة وإشارات سوف توجههم إلى ذلك النوع من الأدب المفيد والدائم.."

هذه ملحوظة من ضمن الملحوظات التي صدرها " هنري ميللر " في مقدمة كتابه المسمى بـ ( الكتب في حياتي ) هذا الكتاب لم يصدر للعربية بعد ، لكن المترجم العاشق لأدب هنري ميللر " أسامة المنزلجي " اقتطع أجزاء منه وقدمها بلغة عربية رائقة ..

في هذه السطور يسرد هنري ميللر عن الكتب التي قرأها ، وكتب تاق في الحصول عليها ، فحينما كان شابا في الثامنة عشر رغب في الحصول على كتاب " اعترافات رجل أحمق " لسترينبرغ ؛ لكنه كان أمرا مستحيلا ؛ لأنها وعلى وفق مسار عقول تلك السنوات التي عاشها وقتئذ ، كان هذا الكتاب من ضمن الكتب المفسدة للأخلاق ..

" ما الذي يجعل الكتاب حيا ..؟"
يهجمنا هنري ميللر بهذا السؤال الملغز .. لكنه لا يسعف أنفاسنا برهة ؛ كي تشتم جوابا في حيز العقل ، فهو ينسل جوابه بثقة : " والجواب في اعتقادي بسيط ، الكتاب يبقى حيا عبر التوصية المحبة التي يقدمها قارئ إلى آخر " ..

ثم يشهر عن عشقه للكتب ، وأن تلكم الصفحات البيضاء المذيلة بخطوط سوداء هي أحد الأشياء التي يدللها بشر بعمق ، وأن درجة رقي المرء تتضاعف كلما ساهم بكل يسر في مشاطرة الآخرين معه في كتبه ..
يعترف بهذا دون أن يفوته تقديم تفسيرا نموذجيا للكتب التي تبقى حبيس مكتبة صاحبها :
" وكتاب يتمدد بتكاسل على رف هو ذخيرة ضائعة سدى .. كالمال ، يجب جعل الكتب في حالة تداول مستمر ، استعر وأعرّ إلى أقصى مدى كتابا ومالا معا ، وعندما تمتلك كتابا ذا عقل وروح تغتني ، ولكن عندما تعطيه لشخص آخر تغتني ثلاث أضعاف " .

ويقارب هنري ميللر في طرحه هذا الكاتب البرازيلي " باولو كويليو " الذي اعترف مرة أنه لا يحتفظ في مكتبه سوى بأربعمائة كتاب فقط ؛ يحتفظ بها لأسباب وجدانية وبعضها الآخر يعيد قراءتها باستمرار ، أما بقية الكتب التي جمعها وقرأها طوال تلك السنوات وزعها على أصحابه ، ووضع بعضا منها في مكتبة عامة ؛ فهناك يكون للكتاب أكبر فائدة من أن تبقى حبيس مكتبة بيته ..

لكن النصيحة الأكثر أهمية في هذا الكتاب ، تلك التي يرميها لنا بجسارة مدهشة : " اقرأ أقل ما يمكن ..! " ..
فيصدم قراؤه بهذه النصيحة المجانية ، التي لا يمكن سوى أن تنم عن جنون ما ليست بغريبة عن عقيلة هذا الرجل ، خصوصا حين يتبع قائلا بعد تلك النصيحة : " أوه ، لا ينتبك الشك في أني حسدت أولئك الذين غرقوا في الكتب ، أنا أيضا ، أود في سري أن أخوض في تلك الكتب كلها التي طالما عبثت بها في عقلي ، لكني أعلم أن هذا ليس هاما ، أنا أعلم الآن أني لم احتج إلى قراءة حتى عشر ما قرأت .."

هنري ميللر في السطور التالية يدافع بشدة عن نصيحته التي يقّر بأنها لم يلقها عن تهوّر ؛ ولاختبار هذه النصيحة النفيسة يورد عدة أسباب لوجهة نظره :

· " فعندما تصادف كتابا ترغب في قراءته ، أو تعتقد أنك يجب أن تقرأه ، دعه وشأنه بضعة أيام ، ولكن فكر فيه بأشد ما يمكنك من تركيز ، دع العنوان واسم المؤلف يدوران في عقلك ، فكر ماذا يمكن أن تكتب لو أتيحت لك الفرصة ؟ " ..
· " اسأل نفسك بجدية إذا كان ضروريا أن تضيف هذا العمل إلى مخزونك من المعرفة أو إلى ذخيرتك من المتعة ، حاول أن تتخيل ماذا يعني لك أن تضيع هذه المتعة أو الفائدة الإضافية ؟ " ..
· " إذا وجدت أنه لابد أن تقرأ الكتاب ، فانتبه بأي فطنة استثنائية تتعامل معه .. انتبه، أنه مهما كان مثيرا ، فإنه القليل جدا مما يحتويه الكتاب جديد حقا عليك ، وإذا كنت صادقا مع نفسك ، فسوف تكشف أن مكانتك ارتفعت عن مجرد بذل الجهد لمقاومة دوافعك " ..

ميللر بنصائحه تلك يتوق أن يجعل من القارئ ليس مجرد عينان تلهثان خلف عبارات وكلمات متراصة ، بل يريد أن يخلق منه عقلا ذواقا يتخير ما يرغب به عن جدارة متمكنة ، فالكتب الجديرة بالقراءة تلك التي تتصف بالأصالة سواء في الأسلوب ، أو المحتوى النادر في مخزون الأدب ..
ويضع أنموذجا لقارئ فذّ يدعى " بليز سيندرار " فهو قارئ عبقري ، بل قرأ لمعظم الكتاب بلغتهم الأم ، وحينما يعشق كاتبا يلتهم كل كتبه حتى آخر كتاب ألفه ، دون أن يسقط من مجال اهتمامه الرسائل والدراسات التي ألفت عن الكاتب نفسه .
وهو على رأي ميللر ، رجل حيوي ومغامر ومكتشف ، ألف عددا كبيرا من الكتب ، وهو رجل يعرف كيف يبدد وقته بفخامة ، أنه بمعنى ما " يوليوس قيصر الأدب " كما يلقبه ..

نصيحة هنري ميللر عرضت جانبا مهما في قانون القراءة والقارئ ، ولاشك لكل منا مجموعة من الكتب ، التي وجدنا بعد مرور قسط من الزمن ، أنها لم تحفز فينا شيئا ذال بال ، بينما كتب أخرى ثقبت جانبا مهما في أريحة النفس والعقل ، وثمة كتب كثيرة نحلم في الحصول عليها لا امتلاكها ؛ فالكتاب المسافر الذي يعصر من يد إلى يد ، وتصدأ أوراقه من تقلبات الفصول والأزمنة ، حتى ليبدو وكأنه شيخ وقور ، هو الكتاب التي عرف جيدا كيف يحفر مكانه بحق في ذاكرة وقلب التاريخ ، ولن تشمل قط مقطعا من قصيدة " للويس بورخس " والتي يقول فيها :
" هناك باب موصد حتى نهاية الأزمنة
بين كتب مكتبتي
هناك كتاب لن أفتحه أبدا " ..


ليلى البلوشي

هناك تعليق واحد: