الاثنين، 6 سبتمبر 2010

اكتب حلمك قصة



اكتب حلمك قصة / فاصل السباعي

كنت جالسا في شرفة المقهى المطلة على الشارع ، لمحت بين المارة رجلا نبيل السمت ، خيل إلي أنه من أصحابي القدامى .
فجأة اعترضه أحدهم ، وأخذ يجاذبه الحديث ، ولكن الحديث ، الذي تخللته البسمات ، سرعان ما انقلب إلى تجهم وعبوس أبداهما الآخر ، فأذعن له من خيل إلي أنه صاحبي ، وارتد عن طريقه ، ومضى أمامه ، وذاك في إثره على مبعد خطوة أو خطوتين ..
وما هي إلا لحظة حتى انضم إلى المرفق ثان وثالث ، فتوقف صاحبي ، والتفت إليهم يحاورهم ... فإذا الحوار ينقلب إلى مشادة رأيتها غير متكافئة ..!
دخل في روعي ، وأنا أشهد من شرفة المقهى ، أن بريئا قد وقع في محنة ، فاستثيرت نخوتي على نحو متعاظم ، وزين لي أن أفعل من أجله شيئا ..
نزلت إليهم ..
كان الصاحب القديم قد أسس لهم قياده ، هو ذا يمشي أمامهم طائعا ، وهم يحيطون به ، من وراء ، على شكل " قوس " ..
اقتحمت القوس ، لأهمس في أذن صاحبي : ما بالك ؟
أجابني ، دون أن تختلج في محياه خالجة : يريدون أن يقتادوني إلى السجن ..! فتراجعت نحو ثلاثة : بأي حق تقتادونه إلى السجن ..؟
أهاب بي أحدهم : امض في طريقك ، نحن من رجال الأمن ..!
أجفلت بادئ الأمر ، ولكن حذرا استفاق في صدري ، نبهت الصاحب : يقولون إنهم من رجال الأمن ... هل طالبتهم بأن يطلعوك على بطاقاتهم الرسمية ..؟
قهقه عاليا : وكيف يكونون من رجال الأمن ، وأنا نفسي رجل الأمن ..؟!
وإذ سمع الثلاثة ذلك لاذوا بالفرار ..!
شعرت بنشوة الظفر :
ما دمت رجل أمن ، أيها الصاحب ، فلم لم تصرح لهم بذلك من البداية ؟ وأدركت أنه هو الذي كان ينصب لهم شركا ..
أعلن : ولكني لست من رجال الأمن ..!
وفي غمرة ما اعتراني من ذهول ، ألوى علي يسألني منتهرا : وأنت من تكون يا رجل ..؟
فتبدد ظني بأنه صاحب لي قديم ، واندفعت أقول : أنا ....... رجل أمن ..!
فأمرني متجهم الوجه : أرني بطاقتك الرسمية ..!
ومن عجب أني ما كدت أدخل يدي في جيب سترتي ، حتى رأيته يرتد إلى الوراء ، مطلقا ساقيه للريح ..!
ومضيت ، في مواجهة الشرفة الوسيعة ، أمشي مختالا ..
فجأة اعترضني رجل غريب ، شديد البنية : ما حملك على اعتراضهم ..؟
كان يشاهد ، إذن ، من الشرفة كل شيء ..
استهنت به ، وقد دخل في وهمي أني من رجال الأمن حقا : وما خطبك ، يا هذا ..؟
أسألك : من أنت ..؟
أنا .... رجل أمن ..!
هلا أطلعتني على بطاقتك الرسمية ..؟
أدخلت يدي ، ثابت الجنان ، في جيب سترتي ، وأنا أتوقع من الغريب أن يلوذ بالفرار ..
ولكنه ظل يحدجني بنظرة بددت وهمي العظيم ، ولما لم يكن بد من أن تخرج يدي بيضاء ، فقد أدركت أني وقعت ضحية لنخوتي الفضولية ..
أمرني : هيا سر معي ..
سألته بلهجة بعيدة عن الاستهانة : هل تسمح بأن تطلعني على بطاقتك الرسمية ، أيها السيد ..؟
ولكنه لم يحفل بطلبي ، بل تأبط ساعدي ، وعانق بكفه القاسية كفي ، لاويا معصمي حتى أحسسته يتقصف ، مضى بي ، وقد داخلني شك في أن يكون رجل أمن حقيقيا ، وإلا لم َ لم يبرر لي بطاقته الرسمية ..؟!
وكنت ما أزال أمام المقهى ، رفعت عيني إلى الشرفة ، التي غصت الآن بالرواد ، وهم جميعا يتطلعون إلي ..
أعليت صوتي مناديا : يا أهل النخوة ، خلصوني ..!
فانطلقت من صفوفهم ضحكات عالية ..
إني في محنة .... فخلصوني ..
وتعالت ضحكاتهم الصاخبة ، حتى سدت آذان السماء ، فبدوا لي كأنهم نظارة في شرفة مسرح ، يتابعون ، متلذذين ، آخر مشهد من مسرحية هزلية ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاضل السباعي :

ولد في حلب ، عام 1929م ، درس في كلية الحقوق بجامعة القاهرة ، وعمل محاميا بحلب ومدرسا ، بدأ بنظم الشعر ثم تحول إلى القصة منذ منتصف الخمسينات ، وكتب أيضا المقالة والنقد وقصصا عن اللغة الفرنسية والانجليزية والألمانية والروسية ولغات أخرى .. عضو مؤسس في اتحاد كتاب العرب 1969م ، وأسس دار أشبيليا للنشر والتوزيع ..
له مؤلفات كثيرة منها : أزهر الحزن / الألم على نار هادئة / اعترافات ناس طيبين ..

هناك تعليقان (2):

  1. يعجبني اسلوب هذا الكاتب


    شكرا لمشاركتنا ببعض من روائعه

    بارك الله فيكي

    و كل عام و انتي بخير

    ردحذف
  2. عزيزتي ليلى

    في البداية أهديك عاطر تحياتي وأمنياتي بمناسبة العيد وكل عام وأنت من تفوق إلى آخر بإذن الله ...

    أنتِ دائماً مميزة في كتاباتك وأفكارك واختيارتك الأكثر من رائعة لكُتّاب يستحقون مناأن ننهل من عذوبة مايخطون لنا على أوراق الحياة , فهم مدارس كبيرة من التجارب التي نحن بحاجة لها ....

    دمتِ ودام هذا الإبداع الذي أرجو أن يصل بكِ إلى أعلى المستويات ....

    M - M

    ردحذف