الثلاثاء، 4 مايو 2010

العباءة


العبــاءة

انفقأت قهقهاتها عند عتبة المحل المرأة السمينة التي حجبت جسد صاحبتها الضئيل خلفها ، كان وجهها لوحة متعرقة تسيح ألوانا يصعب على المرء تحديدها بالضبط ، سرعان ما انقبضت تقاطيعها ، وهي تأمر بصوت غليظ صاحب المشغل أن يستعرض أحدث ما عنده من منتوجات ، بينما الضئيلة اقتربت صوبنا انبسطت أسارير زميلاتي وأطلقن أنفاسا مبهجة .. هتفت المزركشة بخطوط حمراء من الدانتيلا بنزق : يبدو إنني سأغادركم اليوم ، فأنا ألائمها كثيرا ، بل إنني على مقاسها تماما .. زفرت التي بمحاذاتها بمكابرة ظاهرة ، وهي تتلألأ بقطع كبيرة من الكريستال منثور على جانبيها أشبه بليلة مثقوبة بنجوم براقة في آماد السماء : أتتخطى كل هذه الأضواء المبهرة التي تغشي العيون لتنطفئ بك ، فأضافت بسخرية : إن فعلت فهي عمياء بلا شك ..!
وأخذت كل واحدة منهن وبضجيج واضح تعدد محاسنها بلا انقطاع ..

وحين اقتربت الضئيلة من المتلألئة بالكريستال ، يبدو أن لمعانها غشي عينيها الصغيرتين ، تبدى آثاره جليا على وجهها المسحوب في الداخل ، حتى عظمتا الوجنتين كانتا بارزتين ، سرعان ما انفعل انبهارها منادية المرأة السمينة لشاركها غبطتها ، ولم يمض بضع دقائق حتى خرجتا ، الضئيلة حملتها معها ، والسمينة أوصت تفصيلا مماثلا لها على مقاسها ، بينما هي حدّجتنا بابتسامة زهو ينم عن وداع أبدي ..

كنت في ركن ضيق من النادر المرور عبره ..مع الأيام أدركت سر وجودي هنا كمسمار ثابت بينما زميلاتي كل مرة في واجهة معينة ، هدوء الشامل الذي يحيط بي لم يكن لافتا ، فأنا لا أشبههن في شيء لا كريستالات تزحف على جوانبي تبهر الناظرات ولا خطوط ملونة مزركشة تعلو أكمامي فتهيج المراهقات ، وكان صاحب المشغل على مدار شهور يستجدي الداخلات علّ إحداهن تقنع بي ، بينما زميلاتي كن يغادرنني واحدة بعد أخرى ، وأنا باقية أرقب بخيبة الداخلين والخارجين دوني ..

اذكر مرة حين دنت مني سيدة تقاطيعها مأكولة من الزمن بعناية كبيرة ، أخذت تتأملني بدقة كما ينتقي المرء عروسا لابنه ، لم اعتد على وضع كهذا عوضا عن ذلك أخجلني ، حررت رقبتي من المشجب ، تعامد طولي مع جسمها تماما ، لكن المرأة التي كانت برفقتها أبدت امتعاضا حفر في نفسي نفقا من اليأس حين قالت لها : دعك من هذه يا جدتي ، هل أنت ذاهبة لمأتم ..!

العناكب هي الوحيدة التي شقت طريقها إلي ّ ، بينما معظم المارات كن لا يلمحن وجودي البتة ، ويبدو أني كنت تسلية الأطفال الوحيدة في المحل ؛ فقد كانوا يدورون بي حينا وحينا يتخذونني مخبئا وهم على ثقة بأن تقريعا لن يلاسنهم ، بل إن بعضا منهم اتخذ مني منديلا يتمسح بما علق على يديه من بقايا شوكولاته ، أو بما ساح على جانبي ثغره من لطخ الآيسكريم ..!

ولم يمض يومان حتى جاء صاحب المشغل بملامح قابضة ، ويده القاسية تنتشلني من مكاني الذي لم أتزحزح عنه مذ أكثر من ثلاثة أشهر ، ووضعني قرب المدخل تماما بعد أن ألصق على صدري ورقة بيضاء وكتب عليه بخط واضح ما يشير إلى وضعي الراهن على ما يبدو ، غير أن وجودي قرب مدخل المحل لم يغير من البؤس الذي كنت فيه شيئا ، وإن تكاثف على صاحب المشغل الذي كان يتشاءم حين يراني في وجهه تماما ، وهو يعدّد في كل مرة مجموع الأرباح والخسائر ..

اعتدت على مكان وجودي شيئا فشيئا ، فقد كنت أبدد الملل في تأمل المارة عبر الزجاج العريض والشمس تشوي وجوههم في ذهابهم وإيابهم ، ولم يقرف مضجع تأملاتي سوى الرجل الضخم الذي تعودنا على زيارته مرة في كل شهر ، فقد كان يدنو مني ويلصق كرشه الكبير بي ثم يدوّن أرقاما عشوائية سرعان ما يرحل بعد أن يضع ورقة في يد صاحب المشغل فيستودعه وعينيه باتساعهما على الورقة ، ولكن في الأمسيات حين يضيق شبح الظلام من قبضته عليّ كانت الوحشة تتفرد بي ، فلا ونيس حولي ، بينما زميلاتي كل واحدة منهن تدلي على التي بمحاذاتها ضوءا ساكنا ..

عزمت هذه الليلة أن أملأ عيني الوحشة بنثار من الخيال ؛ فأجتاز هذا السقف الذي يحبس الأنفاس كما تفعل كل واحدة منهن عادة ، وصرت أخالني على كتف فاتنة تتغطرس بي وأنا......... ، توقفت خواطري الحالمة عن تواردها حينما تناهى دوّي ما ، كان قويا كصوت قصف ، شعرت بحرارة تزحف خلفي ، خيّل إلي ّحجم الرطوبة المكثفة في الخارج المكبلة على أنفاس الأرض بحدة هذه الليلة حتى تطالنا ألسنتها هنا ، تكاثف إحساسي بالحرارة أكثر فأكثر ، ووجدتني في وسط هذه الحرارة أضيء كدرة من كريستال أهيج هذا الظلام وأبدده بكلي .. فإذا به يتداعى فزعا مني وأنا أتوامض خلفه بسرعة البرق ، تصاعد عويل حارق من الزميلات القريبات مني ، كان يجب أن أدنو منهن حتى يشهدن على انبهاري في ليلتي هذه .. وأنا أضيء ، أضيء مثلهن بل أكثر ، والأصوات تتقافز من قربي حتى أقصى المحل كمهرجان في سيرك .. بينما أنا سعيدة ، سعيدة جدا .. و كل ما في المحل يشاطرني غبطتي ....

هناك 3 تعليقات:

  1. عندما استمعت منك إلى هذه القصة الجميلة والتي تفوقت بها في نسج حبكة مميزة حافلة بالكثير المعاني الإنسانية أيقنت أنني أمام قلم مبدع متألق مليء بالإحساس والتفرد , وهذه السمات من صفات مشاهير الكتاب والمؤلفين ...

    واليوم وأنا أطالع مدونتك استوقفتني مرة أخرى هذه القصة وحلقت مع أحداثها مرة ثانية إلى عالم إنسانيتنا الزاخر بشتى الصفات والسلوكيات والتناقضات والتي أضاءت قصتك بعض جوانبه ....

    أحييك ليلى على هذه الموهبة وأتمنى لك المزيد من الإبداع

    دمت بكل تقدير

    M -H

    ردحذف
  2. M_H

    مازلت اذكر اليوم الذي حكيت لك فيه القصة ، لكن أكثر ما اذكره نغمة استماعك المتلهفة لاقنتاص اللحظة الآثمة ..

    لعل ثمة لغز لا ادركه ، ذاك الذي يدفعني بهمة نملة في أن اثرثر في حضرتك ما لا أثرثره في حضرة الأخريات ، لعله الدفء المنبعث من عينيك ولعلها تلك اللهفة الطفولية التي تدفعك دوما لإحاطة الآخرين باهتمام ما أشده ..

    إذن سنلتقي غدا ، في مجلسنا ذاك ، أنا وأنت وأخريات ، تنفس الحياة بهدوء كعهدنا ، بينما تعقدنا الدهشة حيال الآخرين ، أولئك الللاهثون بتوحش غريب خلف الحياة ..

    شرفتي متنفسي الهادئ بحضور هادئ صاخب ..

    ليلى

    ردحذف
  3. سعيد الهطالي27 سبتمبر 2011 في 2:50 ص

    كلنا هنا شاطرنا غبطتك أيتها المضيئة..

    ردحذف