الثلاثاء، 29 ديسمبر 2009

الأدب السوداني .. نضجته الشمس وغافلته الريح




الأدب السوداني
نضجته الشمس وغافلته الريح ..

اعترف بأنني كنت أطلّ على الأدب السوداني من نافذة ضيقة ، لم يتجاوز ذوقي في عبوره سوى على أعمال الطيب صالح ، وحين انتهيت من قراءة كل أعماله ، وذلك مذ سنوات اعتقدت وكم كنت قاصرة المدى باعتقادي ذاك أن الأدب السوداني انتهى عند الطيب صالح ..
وحين استوقف عبوري على حين صدفة قصة بعنوان : " ود أمونه متبلا " وذلك من فترة قريبة لكاتب سوداني كان مجهولا بالنسبة لي يدعى " عبدالعزيز بركة ساكن " ..
فإذا بود أمونه يقودني إلى " امرأة من كمبو كديس " والتي بدورها أحالتني إلى " فيزياء اللون " ثم إلى " دراما الأسير " ، فإذا بكل قصة تقودني إلى أخرى ، حتى وجدت أمامي غنيمة كبيرة للكاتب وهي رواية " الطواحين " تلك الرواية المدهشة التي طبخت على نار هادئة ..

" عبدالعزيز بركة ساكن " هذا الذي حين تتأمل صورته ، لا يمكن أن تسقط عن ذاكرتك ابتسامته المضيئة وهي متواطئة بطريقة مدهشة مع حكاياته ، فلا تكاد تغوص في عوالمه القصصية حتى تستشعر بالابتسامة ذاتها تضيء عقلك بلذة لا تضاهى على حين غرة .. هو صاحب قصص وروايات عدة ، و روايته " الجنقو _ مسامير الأرض " حازت مؤخرا على جائزة الطيب صالح الروائية في دورته الأخيرة ..

الصفة الاستثنائية التي يتمتع بها الأدب السوداني هي أنها متوالدة ، فما تكاد تفرغ من نص ما ، حتى تغوص في لهاث مستحكم لمتابعة نصوص أخرى للكاتب عينه ، ولا يهدأ اللهاث عند نقطة معينة بل يتجاوزها حين تتكشف حواراته عن أسماء أخرى في جغرافية البلد نفسه ، وكانت ذاكرة قارئها فقيرة حيال معرفتها ..
هذا القاص والروائي قادني بلذة الحكايات التي عجنها إلى تفتيش وتمحيص في ردهاته ، فإذا بي أرى أن النافذة التي كنت أطل عليها على الأدب السوداني ضيقة جدا ، لأن قصة عبدالعزيز بركة ساكن لم تكتف بكوة النافذة الضيقة ، بل شرعت أمامي أبوابا عديدة ، قصصا وروايات وأسماء شامخة في تاريخ الأدب السوداني ..
وتلاحظ أن نرجسية الأنا تخبو خلف ظل لا نكاد نتحسسه من خفوته ، فعلى سبيل المثال هذا الحوار الذي أجري للكاتب عبدالعزيز بركة ساكن ، يعدد فيها أسماء كتاب من المعين السوداني بطريقة تلقي الضوء على تجاربهم ، ويستقبلها القارئ كفلاشات وامضة : ( وتعلمت من النصوص السودانية، عمق عيسى الحلو في ذات الإنسانية، عذوبة سرد الطيب صالح، سحرية إبراهيم اسحق وجنون بشرى الفاضل ..وحاولت فوق كل ذلك أن احدد بصمتي الخاصة .. )
وحين سئل عن موقفه من المنجز الإبداعي السوداني استرسل قائلا :
( إذا تجاوزنا جيل الرواد في فترة الثمانينيات والتسعينيات ، فالرواية تتأرجح ما بين الضعف الفني والمغامرة ، فما بين الجدة والأصالة (أعني بالأصالة العمق) فهناك أسماء مثل : منصور الصويم وابكر أدم إسماعيل ، وحمد المك والحسن البكري ومحسن خالد .. هؤلاء استطاعوا أن يحفروا أنهراً كثيرة وان يشيدوا أعمالاً جميلة ..) .

والصفة الاستثنائية الأخرى هي إلمام الكاتب بنتاج بيئته المحلية ، فتجده متابعا له بشكل مكثف يكاد يكون أشبه بالإخطبوط ، وهي صفة لمستها عند معظم الكتاب السودانيين ، فيقول عبدالعزيز بركة ساكن عن كتاب أضافوا الجديد إلى صفحات الأدب السوداني : ( مغامرة أبكر آدم إسماعيل في استخدام الحوار الدارجي ، وتوظيفه بصورة جميلة ، وعالم أحمد المك الذي يشبه حكايات وأحاجي الحبوبات ، منصور الصويم أستطاع أن يكتب رواية مغايرة في موضوعها ، ومحمد خير عبد الله الذي كتب روايات يتولى البطولة فيها (المكان) وهي روايات ساخرة ، وهو نوع جديد في كتابة الرواية السودانية ، والحسن البكري له مساهمة جيدة في استلهام التاريخ في روايته " سمر الفتنة " .. ) ..
وسئل مرة الأديب " بشرى الفاضل " عن متابعته لما ينشر فاعترف قائلا : ( أنا متابع لما ينشر، وفي حقيبتي كتاب المبدعة الكاتبة استيلا من الجنوب، وكتاب آخرين التقيتهم هنا وفي مدني، وبعض كتابات أرسلت لي من قبل كاتبيها، ومتابع لما ينشر في الصحف، هنالك بالتأكيد كتاب لديهم مجوعات قصصية مدهشة بالنسبة لي، فمن الأنماط القصصية التي توقفت عندها، أن يكتب كاتب ما عن موته الشخصي، وتأكيداً تملك الأجيال الجديد رؤية أكثر تشعباً كنتيجة طبيعية لتضخم عدد السكان الذي يدفع للإجادة أكثر، أنا أعرف كل الروائيين الشباب ولي صله بهم، منهم حسن البكري، أبكر آدم إسماعيل، وغيرهم ...) .
فمن خلال تلك الحوارات يستطيع القارئ أن يلتقط عدة أسماء سودانية مبدعة ، فبجانب تلك القامات الأدبية الرفيعة نضيف محمود مدني ، مختار عجوبة ، علي مك ، طارق طيب ، نصار الحاج ، مأمون التلب ، محمد خلف الله ، فضيلي جماع ، زينب علي ، نفيسة الشرقاوي ، بثينة خضر مكي ، رانيا المأمون ، ملكة فاضل عمر..... والقائمة تطول ..

وحين تقرأ لكاتب سوداني قصة قصيرة أو مقطعا من رواية ، لا يتضاءل وهجها مع الأيام ، بل ترى نفسك قارئا متلبسا بها ، وأروع ما يميز هذا الأدب تلك اللغة المتآمرة مع واقع يتشكل فيه روح البيئة بطريقة خلاقة ، وفي الوهلة الأولى تكاد تبصم بالعشر أن ما كتب هو قطعة نثرية خلابة عرف جيدا صاحبها كيف يدير أدواته ، فيتماهى العمل مع القارئ محدثا دبيبا ما في نفسه ذات أثر صاخب ..

كثير من إبداعات الكتاب السودانيين وصلت إلى أوروبا ، واتسعت أفئدة الترجمة لها ، ولكن الدول العربية مازلت لا تكاد تحيط إلا بالقلة القليلة من تلك الأعمال التي انتخبها ذوق ما ..
ولا أكاد أجزم أن يحظى أحد أدبائها بجائزة عالمية ، ونقف حينها مشدوهين تجاه الكاتب وإبداعه المجهولين عن الذاكرة العربية ، كما حصل مع الروائية " هيرتا مولر" التي حازت مؤخرا على جائزة نوبل ، فشدق العرب حين أدركوا تقصيرهم عن ترجمة مؤلفاتها التي التهمها الغبار مذ زمن غابر .. !

فهل السبب أن ذوق القارئ العربي في أقطار الوطن العربي دجن في مدى سنوات على أسماء بعينها ، وكأن الأدب وقف عند تلك الأسماء ولم يتجاوزها .. ؟!
هذا إذا أضفنا أن بعض النصوص المبدعة للأدباء تكون سجينة سقف بيئتها المحلية ولا تكاد تتجاوزها ؛ بسبب سياسة التوزيع المجحفة في حقها ، إلا حين يقتنصها ناقد فذ أو حين تلقى جائزة ما بظلالها على عمل ما ..
أم أن غياب مؤسسات متخصصة في السودان هي السبب ، وفي حوار أجري للقاص والروائي محسن خالد في عام 2005م ، يقول محسن خالد في حواره بجسارة يحترمها القارئ : ( بخصوص الساحة – النقدية- في السودان، هي بالتأكيد لن تفاجئ الساحة العالمية بابتكار مباغت ، ربما معنا من النقَّاد العدد القليل، وهذه ليست الآفة ولا المشكلة، الآفة هي أنّ هذا العدد على قِلِّه يناقش كتاباً واحداً دون ملل، "موسم الهجرة إلى الشمال" إن أحببت أن أُسمّيه لك. هم بالطبع سينتظرون نُقّاد الخارج حتى يتناولوا أسماء جديدة مثل : ( أبّكر إسماعيل) أو (بركة ساكن) أو (محسن خالد) ، ليأتوا هم بعد ذلك كالبكتريا التي تعقب الطاعِم ، فلا يخرجون إلا بما يخرج به متسقِّط الفضلات، وإن كانوا أذكياء بالفعل ومظلومين من قبل شخص مستهبل ومتجنّي مثلي، فليلعبوا لعبة جديدة ومعاكسة لمرَّة واحدة في حياتهم .. ) ..
هذا الحوار يفتح أمامنا عدة تساؤلات عن الجهود الشخصية التي يتجشمها المبدع السوداني ؛ كي ينقل أدبه من مكان إلى آخر في غياب جهود النقاد والمؤسسات .. وقد يتساءل قارئها عن مدى تغير واقع الساحة السودانية مذ ذاك التاريخ ..
وحينما مر فضولي على عدة مقالات تناولت الأدب السوداني ، لمست أن كلها اتفقت ورغم التباعد الزمني لكل واحدة منها ، أن الأدب السوداني مهّمش وحبيس بيئته ، وكان آخرها مقالة كانت منشورة في مجلة نزوى تناول فيها الكاتب أحمد شريف دراسة معنونة بـ " حول الأدب السوداني " أشار فيها إلى أن الأدب السوداني لم يأخذ حظه من الانتشار واستثنى من ذلك الطيب صالح ومحمد الفيتوري ، ولكن الأسماء قبل وبعد هذين المبدعين لم تأخذ حقها حتى الآن ؛ واستنتج أن ذلك عائد إلى صعوبة نشر السودانيين لأعمالهم ؛ وذلك للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والسبب الثاني يتوافق مع ما أورده الروائي " محسن خالد " في الحوار الذي أجري معه في عام 2005م هو اكتفاء القراء والنقاد العرب بالاسمين سالفي الذكر ..

الأدب السوداني سواء كقصاصين أو روائيين الملاحظ أن الشمس أنضجت إبداعاتهم بشكل جيد ، وما الدور سوى على الريح الكسول أن تنثر عبقها الرائق إلى أقطار شتى في العالم العربي ، فهنالك نصوص مشبعة بالمتعة والإبداع والابتكار تستحق أن تقرأ حقا ، ومنحهم صك الاعتراف ليس فعلا جبارا ؛ لأننا بكبسة زر واحدة نجمع حصيلة لا بأس بها من قصص وروايات منشورة في خفايا الشبكة العنكبوتية ، وهذا هو غرض المقال في حد ذاته ..

الجمعة، 25 ديسمبر 2009

عناق



اللوحة للفنان البولندي " يشينيسكي "

الثلاثاء، 22 ديسمبر 2009

بحيرة بحجم شجرة الباباي


بحيرة بحجم شجرة الباباي / للقاصة السودانية استيلا قايتانو

كل شيءٍ فيها كان يذكرني بشجرة الباباي المنتصبة في فناء بيتنا الواسع .. طولها الفارع ، ووقفتها المستقيمة رغم شيخوختها .لا ألمس في جدتي أي جماليات ، كنت أراها قبيحة جداً مثل الغوريلا ، شفتاها غليظتان ، رأسها كبير يصلح للجلوس دون أي متاعب .. كان يزين شفتها السفلى ثقب هائل تسده بقطعةٍ من الخشب نحتتها لتكون صالحة لهذا الغرض . عندما تخرج تلك القطعة فإن لعابها يسيل عبره . أشهر شيءٍ قبيحٍ فيها أنفها الأفطس ، عندما تسمع تعليقاً عن فطاسة أنفها كانت تقول دون أيّ جهدٍ في التفكير:- يكفي أنني اتنفس به ..كنت أرى الأفق عبر ثقب أذنها الهائل أيضاً .. الذي أخذ مساحةً كبيرةً من حلمة الأذن ، و هناك أيضاً ثقبَ في أنفها الأفطس ثم تبرز مساحةَ كبيرةَ من لثتها في الفك الأسفل نتيجة لقلع أربعة أسنان .. أما عيناها فكانتا حمراوتان تجثم فوقهما جفونَ منتفخة ..الشيء الذي عرفته عن جدتي أن لها مقدرة فائقة في تحمل الألم .. ذات يومٍ ذهبت تقضي حاجتها في العراء ، عندما عادت تحك كعبها الذي أخذ يتورم شيئاً فشيئاً دون أن يبدو عليها الألم ، سألتها في براءةٍ عما بها فقالت :يبدو أن أفعى لدغتني ، ثم أخذت مشرطاً وفصدت اللدغة كانها تفصد شخصاً آخر أو كان المشرط يصنع أخاديده المؤلمة في جسم غير جسمها ازددت اضطراباً و انا أرى دماً أسود يخرج من تلك الأخاديد .. ليصنع بركةً سوداء .. بركة بلون سمّ ودم ، ثم أخذت ترياقاً مثل حجرٍ أبيض اللون و سحقته بقسوة.. ثم أخذت تملأ تلك الأخاديد بالحجارة الصغيرة ذات الأثر الحارق في الجروح .. حدث كل ذلك و أنا أبحث عن أثرٍ للألم بين خلجاتها .. فجأة نظرت إليّ .. كنت منكمشةً فازددت انكماشاً .. خفت .. أردت الهرب .. و أنا أتذرع بأعذارٍ واهية لأنهض من قربها لأني أعرف عادتها ، إذا أخذت دواء .. أياً كان نوعه فإنها كانت ترغمني على أخذه خوفاً من انتقال العدوى إليّ ، فشلت في الهرب لأنها كانت قد أطبقت قبضتها الفولاذية على معصمي .. و بالمشرط صنعت خطين على ظهر يدي و كذا على قدمي ، لم تعطني حتى فرصةً للصراخ ، أحسست بألمٍ يتسلل عبر دمي ثم قطرات من الدم تنساب عبر الفتحات الثماني .. أخذت الترياق و دعكته بنفس القسوة .. كأنها تريد إدخال تلك القطع الصغيرة عبر أوردتي ، و قالت راطنة وهي تمارس قسوتها عليّ بصوتها الذي بالكاد يشبه صوت النساء :- هكذا حتى لا تجرؤ تلك الحبائل المتحركة على لدغك .. إذا رأتك إحداها فإنها لا تقوى على الحراك حتى تذهبي مبتعدة .و هذا ما يحدث دائماً عندما أكون و حدي أو معها .. و منذ ذلك اليوم لم تلدغ أفعى أياً منا رغم أنها كانت تتحرك في كل مكان، حتى في فناء بيتنا الواسع المليئ بالأشجار و الخضروات و شجرة الباباي ذات الأثداء الكثر و الكبيرة .كانت غرفتنا من القش ذات جدارٍ دائري وبابٍ قصير بحيث يركع من أراد الدخول فيها على ركبتيه ، و عندما تدخل تلاقيك ثلاثة مدرجات لتنزل إلي عمق الغرفة فترى سقفاً مخروطياً بعيداً ، فتصعب عليك المقارنة بين خارج وداخل الغرفة .. وهناك في نهاية البيت حظيرة تضم أكثر من ثلاثين بقرة ، فتزدحم في فتحتي أنفك روائح الروث و الفواكه والخضروات .. ورائحة جدتي ..كنا أنا وهي ، في كل هذا الصخب ، عائلةَ تتكون من جدة وحفيدة .. توفيت أمي و هي تلدني .. وتوفى أبي في رحلةِ صيدٍ عندما سحقته جاموسةَ هائجةَ بقرونها ، أما جدي فقد أعدم عندما قتل أحد الإنجليز ممزقاً نحره بالرمح لأن نظرات الإنجليزي لم ترق له .. بقيت مع جدتي منذ عمر يوم ، أرضعتني حتى العاشرة من عمري .. كان ثدياها مثل ثمرة الباباي في الضخامة و ما تحوي من لبنٍ طازجٍ ذي طعمٍ غير مفهوم و لكنه جميل ، كنت أرضع قبل الذهاب بالأبقار إلي المرعى ، و بعد أن أعود فلا أشتاق إلا لثمرة الباباي الموجودة على صدر جدتي .. كنت حينها في الثامنة من عمري ، حضرت ذات يومٍ و لم أجدها في البيت .. أدخلت الأبقار في الحظيرة و أنا أناديها مراتٍ و لكن لم تجب .. أعماني إدماني عن رؤية أي شيئ و ناديتها بأعلى صوتي فردت عليّ من بيت جارتنا التي كان يفصل بيننا وبينها جدارَ من البوص و الأخشاب :نعم .. هل حضرتِ يا ابنتي؟رأتني في حالةٍ عصبيةٍ و الدموع واقفةَ على جفوني و أنا أقول لها في صوتٍ مخنوقٍ بالعبرة و الغضب :أسرعي أريد أن أرضع.قلتها في صوتٍ حازمٍ و في غيظ ، فتأتي و تجلس على الحصير ، أتناول ثديها في نهمٍ و لهفةٍ غريبين ، متجاهلة تعليق جارتنا و هي تضحك علينا و تؤنب جدتي على كيفية نهمي على الرضاعة و أنا في هذا العمر المتأخر.لم تكن جدتي ترتدي أي شيئٍ سوى جزءٍ ضئيلٍ من الجلد مكون من قطعتين ، معلق بحبل جلدي لفته تحت السرة يتدلى من الأمام و من الخلف ساتراً عورتيها ، أنا حتى ذلك العمر كنت أتساءل لم تضع جدتي تلك الفروة في هذه المواضع .. لم لا تكون مثلي؟عندما بلغت العاشرة من عمري حدثت تغيرات أثرت على مجرى حياتي ، صنعت لي جدتي شريحتين من الجلد لأغطي المواضع التي تسترها هي .. و منعتني من الرضاعة .. كانت أياماً صعبة ، كنت لا أنام الليل أشعر بلهفةٍ عارمة لأرضع كما أشعر بنفس الرغبة لأتعرى ، عشت أساماً لأتخلص من هذه المشاعر المخجلة ، كنت أعود إليها كلما سنحت لي فرصة ، مثلاً عندما تسكر جدتي بذلك الخمر البلدي مع صديقاتها العجائز ، كانت لا تدري من الدنيا شيئاً و لكنها كانت تتعبني جداً ، خاصة بعد ذهاب صديقاتها من بعد صخب من الرقص والغناء الفاتر ، كانت تتكلم مع الموتى ، مثلاً كانت تقول لأمي : أنتِ يا ربيكا يا ابنتي .. لولا خوفك من الولادة و ربطك للولادة بالموت لما مت .. و أنت يا ماريو فقد قتلك التحدي رغم خوفك ، أما أنت يا زوجي العزيز فقد قتلك جهلك ، ثم تلتفت إليّ قائلة و قد التوى لسانها في الحديث و عيونها أكثر احمراراً و جفونها متورمة لدرجة الانفجار ، وهي تحرك تلك القطعة الخشبية التي أصبحت جزءاً من شفتها المترهلة أكثر مما ينبغي بلسانها المتحرك في قلق :- أتعلمين قصة موت جدك؟- لا ياجدتيرغم أنني كنت أعرف القصة و أحفظها عن ظهر قلب ، إلا أن ردي لا يعني لها شيئاً سواء كان بلا أو نعم ، لأنها كانت ستسردها في الحالتين .. ثقل لسانها و أخذت الكلمات تخرج ملتويةً و مقطوعة ، كنت أسمعها كأنها محشورة في قلةِ كبيرة فيخرج صوتها بعيداً .. قوياً .. ومشوشاً .لقد قتل جدك أحد الإنجليز في زمن الاستعمار فحكمت عليه المحكمة بالاعدام و هو لا يدري ذلك ، كُتب الحكم في ورقة .. و كان عليه أن يقطع مسافة كبيرة لتنفيذ الحكم في مكانِ آخر .. كان جدك الغبي سعيداً لأن الانجليز أعطوه ورقة و قالوا له إذهب سوف يلقاك أناس هناك .. أعطهم هذه الورقة .. حمل الرسالة وقد حشرها بين شقي عودِ من البوص حتى لا تتسخ .فصنع لنفسه رايةً صغيرة وهو لا يدري أنها راية موته ، و عندما وصل .. نُفذ الحكم فمات و الدهشة مرتسمة على و جهه الغبيَ ..ثم تضحك في هستيريا و تعيد القصة مرة أخرى بعد السؤال ذاته ، و بعد دهر من الكلمات و الجمل الملتوية .. ثم تباعد بين الجمل .. و تباعد بين الكلمات .. يليه تباعد بين الحروف .. ثم صمت و انفاس ثقيلة و شخير مزعج يضج في انحاء بيتنا الواسع بعد أن تبكي على موتاها بنفس هستيريا ضحكها حتى تنحدر الدموع على صدرها .كنت أفرح ويرقص قلبي طرباً ، لأني سأمارس أشيائي التي حرمت منها دون أن اواجه عيوناً حمراء أو صوتاً رجالياً يأمرني بالابتعاد .. أنزع ذلك الغطاء الجلدي الساخن و ألقيه في أبعد مكان ، أقترب من جدتي التي نامت ملقاة أطرافها في كل مكان .. حتى الشريحتان لا تفلحان في تغطية شيئ من جسمها الضخم الممدد على أرضية غرفتنا العميقة .. أتناول ثديها و أشرع في ممارسة رضاعتي في نهم محموم ، عندما امس حلمتها للوهلة الأولى أتذوق طعماً مالحاً ، طعم دموعها .. رغم قبحها لم اكن أتقزز منها فأنا احبها ، أستمر في تلك الحالة و أنا أسمع صوت الرعد بالخارج و أمطاراً غزيرة تضرب السقف المصنوع من القش في إصرارٍ ثائر ، أتجاهل كل هذا الصخب .. صخب الطبيعة المفاجئة ، لأعيش عالمي ، عالم يتكون من بحيرة في حجم ثمرة الباباي ، بحيرة غزتها الشيخوخة فنضبت و ترهلت حتى وصلت السرة.ذات يوم و أنا أسير خلفها في طريقنا لجلب الماء من النهر ، و نحن نتخذ شريطاً من الطريق الذي صنعته أقدام البشر بين الحشائش التي تغطي نصفنا الأسفل ، بلغت حينها الخامسة عشر من عمري ، كانت تضع قلةً كبيرةً سوداء على رأسها ممسكة بها بيدها اليسرى فيظهر شعر ابطها الأحمر الذي احترق بالعرق ، و أنا ارى الأفق عبر ثقب أذنها ، و أعد خطوط الشيخوخة التي أصبحت واضحة في مشيتها السريعة المتعثرة ، و ترهل بطنها و ثدييها الذان عندما يصطدمان بالبطن يصدران صوتاً كالتصفيق في حالتي المشي و الرقص ..كانت كغير عادتها هائمة صامتة ، كنت أحاول اللحاق بها بين حين و آخر بهرولة خفيفة ، فجأة توقفت لأنَ هناك أفعى ملونة ترفرف حولها فراشاتَ تحمل ذات الألوان الطفيفة ، اندهشت لذلك و قلت مازحة : منذ متى تقف جدتي لرؤيتها أفعى؟ قالت بعد أن تنهدت بعمقٍ ولأول مرة ألمح خوفاً مخلوطاً بالحزن قد جثم على أخاديد و جهها الكثيرة و العميقة ، قالت: هذه الأفعى نذير شؤم .. تابعنا سيرنا دون أن نتحدث ، قالت جدتي بعد أن فقدتُ الأمل في أن تتحدث :- أتعلمين أني رأيت جدك قبل أيام؟في الحلم؟- لا .. بل في الواقع ..و لكن ياجدتي .. جدي قد مات كيف ترينه مرة أخرى؟- رأيته في صورة تمساح .. ضحكتُ و لكنني سرعان ما صمتّ عندما رأيت الجدية على وجهها .وكيف عرفتِ أنه جدي؟- من تلك العرجة التي كان مشهوراً بها و صفات أخرى أعرفها أنا فقط عرفت أننا لا نموت بل نتحول إلي أشياء أخرى تحمل الصفات التي كنا عليها ، نتحول و لكن دون ذاكرة فجدك لا يذكرني عندما تحول إلي تمساح ..و ماذا تريد أن تكون جدتي بعد عمر طويل؟لا أدري إلي ماذا سأتحول ، و لكني أتمنى أن أتحول إلي نسر .و منذ ان ماتت جدتي و علاقتي بالنسور قوية ، كلما ألمح واحداً أتأمله في تحليقه عسى أن أجد بعض صفات جدتي ، ثدياً بحجم ثمرة الباباي .. عيوناً حمراء .. جفوناً منتفخة .. أو لبناً بطعم الملح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

استيلا قايتانو :

ولدت ستيلا قايتانو عام 1978 في الخرطوم بالسودان ونشأت في أسرة بسيطة تكثر فيها الأميه وهي الوحيدة التي تعلمت ودخلت كلية الصيدله ولكن لها اهتمامات أدبية ، انضمت الى تنظيم سياسي سنة 2003 ومن أهم شعاراتها من "أجل وطن يسع الجميع" وتحاول إيجاد حلول من خلال تحليل المشكلة السودانية بواسطة جدلية المركز والهامش وهي ترمز الي توزيع الموارد بصورة متكافئة । تم التعرف علي الكاتبة من خلال كتاب دروب جديدة في عام 2002 والذي أصدره نادي القصة السوداني واشترك فيه كثير من الكتاُب الشباب ، هذا الكتاب يحكي عن مجموعة من القصص تناولت مواضيع مختلفة ، ومن أشهر قصص الكاتبة هي " بحيره بحجم شجرة الباباي " وتتحدث القصة عن علاقة بين جدة وحفيدتها وهذه العلاقه حميمة وقامت الجده برعاية الحفيده وإحتضانها حين مات أبواها وهي صغيرة وختمت القصة الاسطورية بتجسيد الكاتبة للإعتقاد بان الانسان الجنوبي لا يؤمن بالموت بل بالإنتقال من حياة الي حياة اخرى .من الأعمال الأخرى للكاتبة كل شي هنا يغلى وهي من جزأين في العامين2002 و2003 ، الغرض من هذه القصة تسليط الضوء على معاناة النازحين بأطراف المدينة وإصطدامهم بواقع لا يستوعبهم ولا يستوعب ثقافتهم . أغلب أبطال الكاتبة ستيلا هم نساء ، اذ تهتم لقضايا المرأة وتتعاطف معها لأنها أكثر الفئات تعرضاً للإنتهاك من مختلف تعددات المجتمع السوداني .



الخميس، 17 ديسمبر 2009

تنويم عاطفي


تنويم عاطفي (1 )

عاشقة تحت تنويم طبيب عاطفي :

* متى تبلغ قلوبكن سنها القانوني في الحب .. ؟!
- حين تبدأ ألسنتنا بإتقان فن الثرثرة ..
/

* لم العشق مرهون بقلوب الكبار فقط ..؟!
- لأن القلوب الأطفال لا تنافق ..

/

* هل الحب عذاب ..؟!
- لا ، إنها مجرد شائعة ..
/

* كيف يمكن أن تعبري عن مشاعرك تجاه من تحبّين ..؟!
- بسياسة التطنيش ..
/

* ما أكره شيء على المرأة حين تقع في الحب ..؟!
- نفسها ..

/

* لماذا يقال " الحب أعمى " ..؟!
- لأن كل منهما يسرق عينيّ الآخر ..

/

* أيهما أصدق في الحب المرأة أم الرجل ..؟!
- لا مصداقية في الحب ، كلاهما ينتعلان حذاء الكذب ويدوسان على مشاعر بعضهما بعضا ..

/

* ما رأيك بعبارة " أحبك حتى الموت " ..؟!
- فلسفة المغفلين ليس إلا ..
/

* هل تكلفين الوجود شيئا إذا ما كلفته رجلا واحدا تحبينه ..؟!
- قد تقوم حرب عالمية ثالثة نتيجة ذلك .. !


* ما الحب الوحيد الآمن في حياة المرأة ..؟!
- حب الأب ..!



تنويم عاطفي ( 2 )


الطبيب العاطفي تحت تنويم عاشقة :

* هل الحب يقتل العشاق ..؟!
- لا ، إنه فقط يعلقهم بين الحياة والموت.. !

/

* هل تؤمن بفتوى تحريم الحب ..؟!
- نعم ، عندما فشلت في الحب ..

/

* لم الحب يقتحم قلب الرجل دون استئذان ..؟!
- لا أدري ، فذلك هو مصيبتنا .. !

/

* يقال : إن الرجل يحب عبر عينيه والمرأة تحب عبر أذنيها .. ما مصداقية ذلك ..؟!
- لكنني أحببت عبر أنفي ..!
/

* الحب أوله هزل ............. كيف تسد فوّهة هذه العبارة ..؟!
- وآخره مصحّ عقلي ... !
/

* لماذا المرأة في نظرك تعشق الكلام في الحب ..؟!
- لأنها تجيد فن النميمة مذ نعومة قلبها ..


* من هي المرأة التي تستحق أن يحبها الرجل بصدق ..؟!
- الأمّ ..!



كتبت بتاريخ 2 / 1 / 2006 م

الجمعة، 11 ديسمبر 2009

حطام النافذة الوحيد


حطام النافذة الوحيد

" لا تأتني الليلة كخفاش حزين
حاشرا رأسك بين حاجبي
لقد أنكرنا بعضنا ساعات اليأس والاندحار
عبثا يرتطم الوجه بالوجه
أو القلب بالقلب
دع النار في رقادها ،
أو لتشتتها الريح حيث تشاء
لا شيء قادر أن يدفئ العينين الباردتين
جميع الجهات خانتني
ومتاعي ملوم تحت إبطي
تثاءب
تثاءب
عل ّ الليل يمضي "

سنية صالح

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2009

قصص للناشئة ( أوراق / من جديد ) للقاص حسن أحمد اللواتي


قصص للناشئة ( أوراق / من جديد ) للقاص حسن أحمد اللواتي *
بين صناعة الإبداع وصقل فلسفة المفاهيم /
ليلى البلوشي

سعدت أيما سعادة حين استقبل بريدي قصصا موجهة للأطفال ، وتضاعفت سعة فرحتي حين رأيت انتماءها لقاص عماني يخاطب فيها أطفالا صغارا ، أدب الطفل في سلطنة عمان الذي لا نكاد نلمس خطوطا واضحة عنه ، وعدد كاتبيه بالنسبة للمبدعين الذين يكتبون للكبار محبط جدا ويمكن عدّها على الأصابع ، ويستمر هذا الشعور بالإحباط حين لا نجد مجلة خاصة تخاطب الطفل العماني على مدى تلك السنوات ، وكأن الطفل العماني ليس كميثله من الأطفال في أرجاء الخليج والوطن العربي والعالم الأجمع ، فقد كان من المفروض وأنا أتناول هذه المجموعة بالدراسة أن أقارن بينها وما تحتويه مكتبة الطفل العماني من قصص ، ولكن كيف السبيل إلى ذلك والمفاهيم ما تزال غير واضحة وخطوط مبعثرة .. ولكن هذا لا يمنع من أن نتناولها كنقطة تحفيز لهذا الأدب الناشئ هو الآخر كالطفل الموجه له بالبحث والدراسة ؛ كي يجد ساعدا يقوده نحو إكمال درب الإبداع ..
فقد آن الأوان لرسم خطوط أولية لنهضة أدب خاص بالصغار ، وأنا شخصيا أعد هذا الكتاب وبعض الكتب المعدودة التي سبقته لبنة نحو ذاك التنهيض ، فعسى أن يكون غد الطفل العماني زاخرا بآمال كثيرة ..


* صناعة الإبداع في قصة ( أوراق ) :

من القراءة الأولى لكيلا النصين في مجموعة القاص حسن اللواتي قصص للناشئة ، يمكن أن يلاحظ المتلقي أن كل منها يندرج تحت فئة عمرية مختلفة عن الأخرى ، فالقصة الأولى ( أوراق ) في العمل القصصي تخاطب أطفالا ناشئة تتراوح أعمارهم ما بين ( 13 ـ 18 ) :
في هذه المرحلة يكون الطفل مهيئا لولوج مرحلة النضج على مستويات عدة تشمل النضج الجسدي والفكري والنفسي والعاطفي ، مع تلكم التغييرات تتفتق الطموحات لتواكب أحلاما جديدة نحو منطقات عدة تضع الطفل مكانه الصحيح في خانة المستقبل ..يؤكد هذا قول " فيشر " : ( إذا كان على أطفالنا أن يتوقعوا إشكالية التغيير ، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي ، وأن يتغلبوا عليها ويتعلموا مواجهتها ، فإنهم بالإضافة إلى حاجاتهم إلى تعلم كيفية التأقلم مع المستقبل ، فإن عليهم أن يتعلموا كيف يشكلون أيضا إذا كان إعداد الأطفال لمواجهة التغيرات السريعة هو أحد تحديات التفكير بإبداع يصبح حاجة ملحة ) .

وأهم ما يميز هذه المرحلة شعور الطفل بمواهبه ، فتظهر الهوايات وترجع أهميتها إلى كونها تعطي الفرد فرصة للتعبير عن فرديته وميوله واهتماماته ، وتعطي له الشعور بشخصيته ووجوده ، فيميل إلى كتابة قصص ذات طابع طفولي ، وإن كانت تعبر عن مكنون المشاعر طريق الكتابة تفجيرها ونشرها ، وهذا عائد إلى التغييرات المصحوبة التي تعايش معها الطفل ، فالنضج العاطفي يكون في أوج قمته ..

في قصة ( أوراق ) نجد أمامنا شابا محبطا يدعى ( طلال ) كل ما حوله يشي بهذا الإحباط ، بدءا من الشعور المؤرق الذي قبض على ليلته ، وأقض مضجعها تلك الأوراق الحبيسة في درج مكتبه مذ أكثر من ست سنوات ، نصوص وقصائد تلمست بعضا منها طريقها إلى النور حين نشرت في صفحات الصحف والمجلات وظلت بعضها حبيس ظلمتها ، ولوهلة نرى أن كل شيء حول طلال منغلق على نفسه ، فالنافذة التي يطل منها المرء على العالم الخارجي كانت مغلقة وحين فتحها تفاجأ بالهواء الساخن القوي الذي بعثر الأوراق في فناء غرفته المغلقة ، العالم الخارجي طاحن في حركة دائمة بينما طلال وأوراقه في عزلة عنها ، من تلك الأوراق التي تدلت مع الريح صفعت ورقة وجه طلال وكاد أن يرميها من النافذة لكن شيئا ما فيها لفت نظره ، كان جوفها يحوي كلمات مكتوبة بخط جميل ورشيق ، وتلبّس على ذاكرة طلال كاتبها وهذا يفغر عن المدة الزمنية للأوراق وهي حبيسة في درج المكتب ، تسري تنهيدة في صدر طلال ثم يجد نفسه يقرأ تلك السطور التي تتمحور حول مسمى المستحيل واليأس والفرق بينهما على مستوى المضمون ، وكما تقول الورقة أنهما يعطيان نتيجة واحدة والفارق بينهما هو أن المستحيل يقترن في البداية بعدم الإمكان لفقدان الوسيلة ولكنه يفاجئ بموانع غير متوقعة ، والمستحيل لا يشكل صدمة لأنه ينبثق عن أمل ، أما اليأس فالصدمة فيه تعني مصرع أمل ॥ ثم تختم الورقة قولها : ( عرفت في حياتي الكثير من الكتاب ولكن الذين أثبتوا وجودهم واستمروا حتى النهاية هم في العد لا يتجاوزون أصابع اليد ) .. هذه الجدلية هي التي تهيمن بقوة على كيان طلال ، فهو الآن وصل مرحلة متزعزعة ما بين اليأس والمستحيل والأمل جامد بينهما ..

ولعل هذا التضارب وفي حمية اليأس نجده يجمع تلك القصاصات القديمة ويضعها في كيس مهدا لحرقها ورميها وليمة للريح ، فلا جدوى من الاحتفاظ بها كما عبّر عن ذلك ..
وحين كوّمها في الكيس نرى أن دقة الساعة تنبهه إلى وضعه الخارجي حين ينظر في المرآة فتكشف المرآة التي لا تكذب عن جسم ضامر ووجه شاحب ، وفقد مضى عليه أكثر من شهر وهو لم يذهب للمزين .. وهذا شعور متحالف مع الركود الذي لزم طلال وأوراقه تلك ، وأكثر ما يشي بذلك الشعور الجامد ككل في مستوى حياته ..
لكن الجمود يتحرك ببطء السلحفاة يعزوه مشاعر أخرى ، نتعرف فيها على شخصية طلال من جوانب أخرى وهو في مواجهة العالم الخارجي ..

عندما حمل طلال معه الكيس الذي يحوي أوراقه وهو خارج من بيته ، لفحه هواء ساخن متواطئ مع الغبار أي أن الأفق والأرض في انشغال تجددي فرضته ظروف الطبيعة ، وأوراق أشجار النخيل تصدر أصواتا قوية تمتزج مع زقزقة العصافير ، وجوه كثيرة تشرق وتغرب ..كل هذه الدلالات الخارجية توحي بالحياة النابضة في الخارج بينما داخل طلال عالم ساكن يقود دفته اليأس ..

وها نحن نرى طلال وهو تائه في متاهة البيوت القديمة والجديدة والأزقة الملتوية والمتعرجة وهذا يكثف شعور الضياع المسيطر عليه مذ البدء .. ويستمر هذا الشعور حتى يجد نفسه أمام دكان المزين .. يدخل ويلقي التحية على الحضور ، ونرى تصوير القاص لسلوكه : ( جلس على مقعد صغير ، تصفح بعض المجلات ) .. في سلوكه هذا ما يزال طلال راكدا ، يقطع دروب الكلام المباشر مع الآخرين ، والحدث إلى هنا مجرد استرسالات نفسية تتخبط بها الشخصية ولوحدها وهكذا حتى نجد تصادما آخر ، فطلال عندما تفارق عينيه المتصفح تتسلق نظراته إلى المرآة أمامه ، ولوهلة رأى ابتسامة تترصده وباهتمام كبير ، شعر طلال بالاستغراب ؛ لأن صاحب الابتسامة غريب عنه ، وبعد فترة قصيرة وقف الشاب صاحب الابتسامة وألقى عليه التحية ثم صافحه بحرارة كبيرة ، حاول طلال أن يجد في ذاكرته ما يلوح عن معرفة بهذا الغريب ولم يعثر على شيء ، وقال له الشاب : ( اسمي نواف وقد شاهدت صورتك في الجريدة وأعجبني ما كتبته ، لقد مررت بعدة تجارب في الحياة واكتب منذ سنة تقريبا ... ) هذا التصادم قلب كيان طلال خصوصا حين طلب منه نواف أن يقرأ ما كتبه من خواطر ، فذهب نواف مسرعا إلى بيته القريب وأحضر أوراقه ووضعها في يد طلال ، تناولها طلال وسط إرباكه المفاجئ وقرأها ، ولكن لم تثر إعجابه وحاول أن يخفي شعوره ، بينما نواف متحير يريد أن يسمع رأيه مخاطبا طلال : ( قل لي بصراحة هل هذه الخواطر والأشعار صالحة للنشر ؟ إذا لم يعجبك ما كتبته فلن استمر في الكتابة ) ..
فكر طلال قبل أن يدلي بدلوه ثم نظر إلى نواف وقال له : ( سلم الكتابة طويل وقد وضعت رجلك على الدرجة الأولى ) ..
قاطعه نواف بدوره : ( هل سأتمكن من الوصول إلى ما هو أعلى من ذلك ؟ ) ووضح له طلال كيف أن وضع قدم على الدرجة الأولى انجاز جيد بحد ذاته عجز عنه الكثيرون ، ثم بحث عن إجابة أفضل ، فأدخل يده في الكيس واخرج منها قصاصة قديمة ، وأخبر نواف بأن المشرف على صفحة بريد القراء في إحدى المجلات كتب هذا التعليق له قبل ست سنوات : ( بداية جيدة في مجال الكتابة ، عليك بالمحاولات المتكررة والمران المستمر لكي تنضج تجربتك ) وضع القصاصة في يد نواف ثم خرج من دكان المزين وهو يعانق الكيس ، هبت ريح قوية اضطربت معها الأوراق في الكيس غير أن طلال احكم قبضته عليها ؛ كي لا يلتهمها الهواء ، داهمه شعور جديد بأنه لا يحمل قطعا جامدة من الورق وعاد إلى بيته وهو يحمل حياته وذاته معه ..

على مستوى الأعمال الأدبية الطفولية نجد أن معظم القصص في مضمونها تقف على قوائم ثلاث :
( فكرة القصصية / الحدث / الشخصية ) قد يأتي كل منها على حدا ، وقد يستبد عنصر على آخر وهذا عائد لطبيعة النص وماذا يريد منه الكاتب ؟
فقبل الكتابة يجب أن يعي الكاتب هذه المضامين ثم يخطط نصه وفق ما يلائمه ، في قصة أوراق نجد أن القاص حسن اللواتي ركز على بؤرة الشخصية ، فطلال هنا هو الذي تحكم في الأحداث وسيرها حتى نهاية القصة ، والشخصية هنا مرت بعدة مراحل نفسية على وجه الخصوص : ( فنجد طلال المحبط / طلال الضائع / طلال الحائر / طلال مع عزم التجديد ) ،
ولا نكاد نجد حدثا دون طلال ، بل الحدث هنا كان راكدا لركود الشخصية اليائسة ، وقد تعاون المكان في القصة مع الشخصية مع الحدث ، ونرى طلال في تمهيد القصة في غرفته والنافذة مغلقة ، الغرفة هنا رمز لفضاء ضيق ، والنافذة المغلقة رمز الانغلاق عن العالم الخارجي الزاخر بالهواء والأشخاص وأشجار النخيل وزقزقة العصافير فكل هذه الرموز تعبر عن تجدد المستمر في عالم عازل عن طلال ॥ يمر الحدث المكاني ويتوسط العالم الخارجي حين يخرج طلال من بيته معه كيس أوراقه ، ورغم الطبيعة المتحركة فإن طلال يساوره شعور بالضياع والتيه وسط تلك المكنونات الخارجية ، إلى أن يدخل إلى بيئة مكانية أقل ضيقا من غرفته دكان المزين ولا يحاول أن يحاور أحدا ويفضل تصفح مجلة عن ذلك ، إلى أن يظهر نواف ، ونواف هنا هو الذي كسر جليد الصمت والجمود المحاط بطلال ، جرى بينهما حوار ، حوارا كان يخفي في داخله استفهامات كانت منغلقة في جوف طلال الحائر ، ومن خلالها استطاع فك بعض رموز الغموض التي كانت تهيمن على شعوره بالضياع والإرباك ..

دخول نواف في وسط عالم طلال الشائك كان الحبل الذي سحب طلال نحو التغيير ، فمن خلاله شعر طلال وإن لم تعبر عنها القصة بشكل مباشر أهميته ككاتب يقرأه القارئ الآخر ويتابعه ويعجب بما ينقله له من نصوص ، وهو القارئ عينه الذي يريد أن يعرف سر نجاح كتاباته ونشرها في الصحف ، وهنا يتلمس طلال أولى خطوات نحو التغيير ونحو الخطوة التي كان يجب أن يقوم بها ، فنرى في الختام يقرر الاحتفاظ بقصاصاته ..


ما أبعاد هذه القصة على نفسية الأطفال ؟

عادة الأطفال الذين يرسم البلوغ علاماته عليهم ، يبدأ ذلك بالتخلي عن أشياء ينعتها بالطفولية كما يراها من معجمه الفكري الذي بدأ يعي ويعبر عن نضج ، فالبنت تتخلى عن الدمية ؛ لأن ثمة اهتمام آخر عوض عنها ، والولد يتخلى عن لعبته السيارة ؛ لأن لعبة أخرى حازت على اهتمامه ، و تلك الاهتمامات تندرج تحت مسمى الهوايات والإبداعات ومنها الكتابة والرسم والسباحة ...الخ .
معظم الهوايات كالكتابة والرسم تبدأ ضحلة ثم شيئا فشيئا مع الممارسة تتضح أكثر ، لكنها تأخذ صورتها الكلية وتغدو كاهتمام وشغل شاغل أو هدف في الحياة أو جزءا من الأحلام من خلال مثابرة الشخص ووجود يد تقوده نحو الأمام ..
مهم جدا على مستوى الهوايات أن ينمي الطفل هوايته وذلك لا يتأتى إلا بوجود بيئة وأشخاص ووسائل تساهم في عملية الدفع الإبداعي نحو ما يريده .. فكم من مواهب لم تجد طريقها الصحيح وسط جلبة المجتمع وطغيان اهتمامات أخرى أخذت الطفل تدريجيا نحوها ..
فعلى المجتمع والأسرة وملاحق الصحف التي تستقبل كتابات الناشئة تحديدا أن تعزز مفاهيم الثقة وتبني فيه الشعور بالأمل والاستمرارية الفعل الممارس نحو مستقبل كتابي يتجدد مع كل ممارسة ومثابرة ..
من هنا جاءت أهمية فكرة هذه القصة والحيرة التي تنتاب صاحبها في وسط مرحلة عمرية حساسة ومهمة جدا في حياة الناشئ ..

* صقل فلسفة المفاهيم في قصة ( من جديد ) :

وهي قصة يخاطب فيها القاص أطفالا أقل سنا من المرحلة السابقة لقصة أوراق .. ويمكن تقديرها ما بين عامي ( 5 ـ 10 ) سنوات ..
نجد أمامنا عجوز متكئ على عكازه رغم أن القاص لم يعبر عنه باللفظ تحديدا ، لكن الذي يلقي النظر على الصورة المرسومة يجد أمامه شيخا كبيرا بشعيرات بيضاء ووجه مجعد ..
كان العجوز يسير في الشارع يسترسل في حديث نفسي ويفكر في الريح التي تمحو خطواته فوق الرمل ، ثم فجأة يقفز في ذهنه سؤال : ( هل يمكن أن تعيد المآسي بناء الحياة من جديد ؟ ) لكن صراخ طفلة صغيرة قطعت فكرته تلك ،فإذا الطفلة تهتف : ( لا تدس على الرسم يا عماه ) ..

توقف العجوز ونظر إلى الأسفل ، فرأى فتاة صغيرة ترسم شمسا بألوان قوس قزح على الرصيف ॥ جلس بقرب الطفلة وسألها : ( هل الشمس تحرق ؟ ) وهتفت الطفلة بحماس بأنها تحرق ثم وضعت يدها على الشمس المرسومة وسحبتها بسرعة ، فأخذ العجوز يدها في راحته لفت نظره أصابعها البارزة والملونة بأصباغ ثم قال لها : ( آه ، هذا حرق خطير ) سحبت الفتاة يدها بسرعة وضحكت بمرح قائلة : ( لقد كذبت عليك يا عم ، وعادت إلى الرسم ) .. مرّ مجموعة من الناس وصرخت فيهم الطفلة لكنهم بلا مبالاة داسوا على الرسم وتابعوا السير ، نظرت الفتاة مبتسمة إلى العجوز وهي تقول : ( لا بأس يا عماه ، سأرسم الشمس من جديد ) ضغط العجوز على عكازه بقوة وغرق في تفكير أعاد التساؤل الذي طرحه في بداية القصة عن بناء الحياة من جديد ، فالشمس كما عبرت الطفلة الصغيرة يمكن رسمها من جديد وكذلك ستنمو نباتات الربيع على الأرض التي دفن فيها موتى وسيبني اليتامى والأطفال والأرامل والعجائز المدينة من جديد ..

القصة هنا رمزية ، ومن الرموز التي استخدامها القاص وتواطأت مع عنوان القصة :
1 ـ الريح : رمز للتجديد كما عبر العجوز فهي تمحو خطاه على الرمل .
2 ـ الشمس : رمز للتجديد كذلك ، فالشمس في كل يوم تنجب لنا يوما جديدا .
تمثلت أهمية الرمزية هنا في أن المفاهيم التي زعزعت نفسية العجوز كانت فوق مستوى الطفل ، فكان لا بد من وضعها على لسان حكيم كشخصية العجوز الذي عايش تجارب وخبرات عديدة في الحياة ، بينما وجود الطفلة الصغيرة مع رمزية رسم الشمس قد هيأ بداية تفسير للفلسفات التي طرحها العجوز وحاول الإجابة عنها أو كشف نقابها في نهاية القصة ..
تلك الجدلية الفلسفية التي شغلت العجوز عن إعادة المآسي بناء حياة جديدة ، هي بحد ذاتها تعبّر عن نفسية العجوز الطافحة بالحيرة مشوبة مع شعور الحزن واليأس ..

وحين يقابل الطفلة الصغيرة يتجدد في العجوز شعورا آخر قابل للتجديد والأمل ، فالشمس التي رسمتها الطفلة الصغيرة ومنعت العجوز من وطئه ثم وطأه آخرون وموقف الطفلة الصغيرة من ذلك لم يواكبها شعور باليأس ، بل على العكس ابتسمت في وجه العجوز عن إمكانية إعادة رسمه من جديد ..
وهنا تتضح صورة التساؤل الذي شغل العجوز في بداية القصة ، عن نمط التجديد في الحياة بعد المآسي التي تواكب عليه جيلا بعد جيل ..
وأهم ما يميز هذه القصة الحوار الحيوي ، الذي جرى على لسان العجوز والطفلة الصغيرة وكان ذكيا في حد ذاته ، عادة في القصص التي تخاطب أطفالا في مثل هذه السن يلعب فيه الحوار دورا حيويا مهّما ، يقضي فيه على رتابة السرد الطويل الذي لا يفضل أن ينفرد في عمل قصصي موجه للأطفال ، بل من الأجمل أن يتناوب كلا أسلوبين في الطرح ..

* على هامش النقد الفني :

في دراسة عن أدب الأطفال عبر الدكتور أحمد هيتي قائلا : " بأن الطفل قارئ غير متحيز ؛ فهو لا يبحث اسم الكاتب عندما يختار كتابا لنفسه ، كما يفعل الكبار بل إن اسم الكتاب وشكله وطريقة عرضه هي الأمور التي تشد الولد إلى كتابه " ..
إذن يمكن القول بأن الشكل الخارجي لكتاب الطفل موطئ مهم للنجاح بالنسبة لكاتبه ..
وجاءت مجموعة قصص للناشئة للقاص حسن اللواتي التي تحوي قصتين في شكل أنيق ، الغلاف متماسك وملائم لطبيعة الطفل ، والأوراق زاخرة بالرسوم التي يستطيع الطفل من خلالها رسم تصور واضح عن مضمون الأحداث ..

ثمة بعض الهنات ليس من شأنها تقليل من أهمية العمل ولكن يمكن أخذها بعين الاعتبار في المرات القادمة للكتابة الطفولية :

1 ـ مراعاة علامات الترقيم ، تكاد القصة الثانية تحت عنوان ( من جديد ) تخلو من أهم علامات الترقيم من فاصلة وعلامات الاستفهام والنقطتان الرأسيتان في حال كل حوار يعقبه استفهام .. مع عدم إغفال تشكيل الكلمات بالحركات ..
2 ـ تحديد الفئة العمرية ، في المجموعة قصتان وكلاهما ينتميان لمرحلة عمرية مختلفة ، من المهم على كاتب الطفل اعتبار أهمية هذا التحديد ، فمن خلالها تسهل على الطفل القارئ اختيار ما يلاءم وعمره ، ومن ناحية أخرى تقضي على حيرة الوالدين أثناء اختيار النمط القصصي المناسب لسن طفلهم الذي يريدان تثقيفه ..
3ـ حبذا لو كتبت العناوين القصتين في كل منهما في صفحة على حدا ، مع مراعاة فصل بين كل قصة وأخرى بصفحة يكتب فيها عنوان القصة الأخرى ؛ لأن الطفل سيخطر بعقله لوهلة أن قصة ( من جديد ) تابعة لقصة ( أوراق ) بينما هي منفصلة حدثيا وقصصيا عنها ..

تلك الهنات ما هي إلا خطوة نحو التجديد ، نحو الإبداع الطفولي ، نحو مزيد من الإنتاج الإبداعي من أجل عيون أطفالنا الصغار ، وقلوبهم النابضة بالحياة ، وعقولهم المتدفقة بالبراءة ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* قصص للناشئة ( أوراق / من جديد ) حسن أحمد اللواتي ، دار الإرشاد للنشر ، سوريا ..

الخميس، 3 ديسمبر 2009

ود أمونه متبلا




ود أمونه متبلا

عِطْرُ البَخُورِ الحَبشي يملأ القطيه، تأتي أصوات المكان مخترقة القش والأقصاب عَبْر الظُلمة للداخل، واستطعنا أن نميز غِناءً جميلاً رقيقاً يتلمس سِكَكَه عبر الليل نحونا، قال ود أمونه:
دِيَّ بوشاي.
ثم واصل في حكي تفاصيل السجن، تحدث بتلقائية وبساطة، بهدوء ورقة لا تتوفر في شخص غيره، ألم قِشي تقاسمني الوسادة البيضاء المستطيلة على طول عرض السرير، تخلف ساقيها مع ساقي، وبين وقت وآخر تتعمد حَكّ أخمصَ قدمي بأحد أظافر رجليها، مُثيرة شَبَقَاً وحشياً تؤجله دائماً حكايات ود أمونه المدهشة في السجن، الليل كعادته في هذه الشهور دافئ مَرِح، عَنّتْ فِكرةٌ لألم قِشِي، عبرت عنها بنهوض مفاجئ من حضني قائلة:
حَأعمل ليكمُ جَبَنَة-
هكذا يعبر الناس عن حبهم واهتمامهم بالآخر في هذه الأمكنة، بأن: يعملوا لك جَبَنة.
قال ود أمونه مواصلاً حكاية العازه، لم تستطع عازه أن تقنع أمه لكي تتركه معها عندما تخرج من السجن، وأرسلت لها الوسطاء من سجانين ومسجونين، وحتى مأمور السجن نفسه، ولم يقنعها سوى ما حدث لود أمونه في ذلك المساء: كنت في طريقي إلى عنبر النُسوان بعد أن عاد من مشوار كلفه به الشاويش خارج السجن، وعندما وصل ود أمونه الممر المؤدي إلى الزنازين وهو الطريق الأقصر إلى الجزء الغربي من عنبر النُسوان حيث مقام أمه، إذا بيد ناعمة قوية تُمسك بذراعه، وأخرى توضع في فمه، كانت تفوح منها رائحة البصل والثوم مما جعله يتعرف بسهولة على الطباخ، ثم همس في أذنه
. ما تخاف، دا أنا-
ثم سُحبت الكف عن فمه، قال له ود أمونه
- عايز مني شنو؟
قال الطباخ
- إنت بكره ماشي مع عازه، طبعاً حيطلعوها من السجن، وإنت حتمشي معاها، وأنا جيت عشان أقول ليك مع السلامة، طالما إنت ما بادرت بالوداع، مُشْ عيب عليك يا ود أمونه، ما تقو لي مع السلامة؟
قال ود أمونه متضايقاً
. كويس، مع السلامة، يَلاّ فك يدي-
قال الطباخ محاولاً أن يكون رقيقاً ومهذباً
- لا.... ما كدا.. مع السلامة دي عندها طريقة تانية، وفي حفلة صغيرة أنا عاملها ليك في مخزن المطبخ برانا، أنا وأنت.. جِبت شمع وعندي ليك هدية، ملابس جديدة وجزمه وكرة وحلاوة وحاجات حتعجبك.
قال ود أمونه وهو يحاول نزع يده
. إذا ما فكيت يدي حأصرخ وأمي تسمع وحتجي تقتلك-
فأدخل الطباخ يده في جيبه وأخرجها قابضة على نقود لها رنين
قال له ود أمونه
. أخير ليك تفكني-
بيد الطباخ الممسكة بالنقود، أعاد النقود إلى جيبه وبسرعة ومهارة فتح زرار بنطاله وأخرجه، شيء لم يستطع ود أمونه تمييز معالِمه في الظلام، ولكن عندما دفع به الطباخ إلى بطن و أمونه، أحس به ود أمونه قوياً وطويلاً، قال الطباخ:
. الموضوع بسيط، وما بِيَاخُدْ دقيقة واحدة، وأنا أدْيّك أي حاجة عايزها-
وعندما مَدّ فَمَه الذي تفوح منه رائحة الصعوط مختلطة بسجائر البرنجي، محمولة على عبق عَرَق العيش، بحركة رشيقة خاطفة أمسك ود أمونه بشيء الطباخ، كان مظلماً، كبيراً وأملس، أدخل ما يكفي في فمه وبين أضراسه الحادة نفذ وصية أمه بحذافيرها، الشيء الذي جعل كل من في السجن والذين يجاورونه والذين تصادف مرورهم في تلك الليلة بتلك الأنحاء، يقفزون رعباً في الهواء من جراء صرخة الطباخ العنيفة البائسة التي لم يسمع أحد في حياته مثلها ولن تتكرر في مقبل الأيام، صرخة أطارت العصافير الصغيرة النائمة في أشجار النيم في وسط السجن، جعلت السمبريات العجوزات الساكنات بالسنطة عند بِركة المياه جنوب السجن، تضرب بأجنحتها في ذعر، كانت الصرخات التي ألحقها بالصرخة الأولى، أقل أهمية، لأن أحداً لم يسمعها سوى ود أمونه، كانت أكثر بؤساً ورعباً. ثم سقط.
بصقت رأس الذكر من خشمي، كان شيء مقرف.-
قالت لي أمي بعدما صلينا صلاة الصُبح في الساحة
- إنت حتمشي مع عازه إلى بيتهم، أنا تاني ما حأخاف عليك، إنت بس حافظ على أسنانك، حأديك قروش تشتري بيها مساويك.
رائحة قلي البُن الحبشي تملأ رئتي عبقاً لذيذاً، وصوت بُوشَاي الحُلو يغني، فيأتي به الهواء الدافئ من حي العُمدة إلى قطيه أدّي شَهياً، قالت ألم قِشي:
بعد دا كله.. الطباخ شغال لِسَعْ في السجن، سمين زي البغل.-
كنت أعرف هذا السجان، وقد سمعت بقصته هذه من قبل ولكني لم أعرف التفاصيل إلا الآن، ولم أحس ببشاعة الحدث و فداحته بهذا القدر، لقد كان هذا السجان يسكن في ذات القشلاق الذي كانت أسرتي تسكنه، فأبي يعمل بذات السجن،ويعرف الناس عنه غرابة السلوك، ولو انه لم يتحرش بأي من أطفال القشلاق، فلقد كان له رفقاء في عمره، لم أقل لهم أنني أعرفه، ولم أقل لألم قشي أن ما قالته عن استمرار عمله بالسجن و سمنته ليسا حقيقة، فلقد مات الطباخ بعد هذه الحادثة بسنة واحدة، لدغَه ثُعبانٌ في مخزن البقوليات بالسجن، لم أقل لهم أن هنالك صِلة قرابة تربطني به .
تحركت ألم قِشي وهي تحمل المِقلاة تطوف بالقُطيه مقربة إياها من أنوفنا، فنستنشق المزيد.
قال ود أمونه
- طلعت من السجن وأنا عمري عشر سنوات، لكن تقول راجل كبير، كنت بعرف كل شئ، ما تفوت عليّ كبيرة ولا صغيرة.
أضافت ألم قِشي في زهو
. ما شاء الله.. ود أمونه دا... أصلو ما تقول كان طفل في يوم من الأيام -
صبّت البُن في الفُنُدك وأخذت تدق بتنغيم اتبعته بغناء بلغة الحماسين.
قال لي ود أمونه معتذراً
معليش شغلتك بحكايات السجن والأمور الفارغة دي، أنا حأخليك شوية مع ألم قِشي وحنتلاقى، أنا قاعد في قطيه ما بعيدة من هنا.
بالغرفة سرير واحد ولكنه ضخم، يساوي سريرين كبيرين، مصنوع من السنط، له قوائم ضخمة ثقيلة، عليه مُلاءة بيضاء مطرزة بالكروشيه في شكل طاووسين كبيرين متقابلين بالفم، ويبدو النهج الحبشي واضحاً في فن الحياكة والتطريز،من حيث استخدام اللون الأصفر و الأحمر و الأخضر، كانت ألم قِشي كعادة الحبشيات تبدو في بشرة حمراء ناعمة وساقين طويلتين نحيفتين منتظمتين جميليتين، عليهما نقوش حناء باهتة ووشم على القدم غريب، بدأ لي كصليب أو خاتم سليمان، أو ربما وردة سحرية، على كلٍ، كان شهياً وطيباً وطازجاً.
لا أفهم كثيراً في ممارسة الجنس، في صباي، أنا وغيري من صبية الحي، في أيام مراهقتنا الأولى، أتينا الأغنام والدحوش وحتى العُجول ولم يكن ذلك ممتعاً، ولكنه مهماً حيث تبدو كبيراً وفحلاً أمام أصحابك وإلا لُقبت بـ المرا، وهذا لا يجوز في حق أحدنا، ولكن، تجربة شريرة حدثت لي قبل ذلك أي قبل البلوغ، كانت الأكثر إدهاشاً وأكثر بقاء في ذهني وربما مازالت توجه بوصلة الجنس في ظلماء نفسي، اعتادت خالتي التَاية أن ترسلني إلى المِطحنة عند الصباح الباكر، قبل الذهاب إلى المدرسة، لكي أوصل جردل العيش إلى هناك ثم أعود لأخذه في نهاية اليوم وأنا عائد من المدرسة، أي بعد أن يتم طحنه حيث تقوم بإعداده لصنع كِسرَة يوم غد، التي تبيعها في السوق الكبير، صاحبة المطحنة امرأة شابة ليس لديها أطفال، يعمل زوجها في سوق الخضار، وكعادته لا يعود إلا عند المغرب، وهي سيدة معروفة في مجتمع المراهقين بصورة جيدة وكل واحد منهم له معها قِصة، ربما أغرب من قصتها معي، ولكن ربما الشيء الذي يميز حكايتها معي؛ هي أنها كانت تضربني ضرباً مبرحاً، لا أدري لماذا في ذلك الوقت، ولكني فهمت فيما بعد بعض الشيء، عندما أعود لأخذ الطحين كانت تأخذني إلى داخل المنزل عبر باب داخلي للمطحنة، وهناك تخلع ملابسها وملابسي، في أول مرة شرحت لي وأرتني إياه، وخفت خوفاً حقيقياً عندما رأيته لأول مرة، كان لا يشبه كل التصورات التي رسمتها له و أصحابي، كن نظن أنه شيئاً جميلاً، جذاباً مثل الوردة، ولكن هذا الشيء الذي أمامي شيئاً آخر، إنه أشبه بفأر كبير على ظهره شعر أسود مرعب،له فم كبير وربما أسنان أيضاً، بل له رائحةٌ كريهة،لا أدري كيف خُدعنا به طوال تلك السنوات، فلم آلفه أبداً،ولكنها بخبرة المرأة المجربة التي تعرف كيف تُثير، أزالت مخاوفي، ثم عرفتُ كل شيء، أو ما ظننت أنه كل شيء، ولكنها كانت تطلب مني غير الإيلاج أن أقذف، بالأحرى كانت تأمرني قائلة:
. بُول … بُول..... بُول -
وأنا لا أعرف كيف أبُول هناك، وليس لدي بُول في مثانتي، فكنت أقول لها ذلك فتغضب فتضربني قائلة:
؟ بُول، بُول الرُجال، إنتَ مَاكْ راجل-
ولم أعرف بُول الرِجال هذا إلا بعد سنوات كثيرة، عندما جاءتني في الحلم هي ذاتها عارية، وبَحلق فيّ فأرُها المتوحِشُ، وضربتني عندما اشتد بها الشبق.
. بُووووووووول -
فبللت ملابسي بسائل دافئ، له رائحة اللالوب الذي كنت أكثر من أكله في تلك الأيام، خرج البُول في لذة و ألم مُدهشين। ثم لم أبل في سيدة بالفعل أبداً، حيث لم تتح لي فُرصة لذلك، أو أنني كنت خجولاً أمام النساء، ولم تصادفني من هي في جُرأة تلك المرأة، أو لست أدري ما هي حكايتي بالضبط، كل ما امتحنت به جسدي، كانت لمسات أخت صديقي الدافئة البريئة، إذن بعد خمسة وثلاثين عاماً والآن ، وجهاً لوجه مع امرأة، ولأول مرة في حياتي: امرأة فعلية مجربة وخبيرة وأنا رجل كبير في السن راشد وبالغ ولا خبرة لي في النساء، ولا أدري كيف فَهِمَتْ ألم قِشي ذلك، ولكنها قامت بكل شيء بنفسها، بدءاً من لِبسِ الواقي؛ انتهاءً بالبُول، بُول الرُجَال، كانت تسحبه من أعماقي بِجُنونٍ ولذةٍ لا يوصفان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبدالعزيز بركة ساكن :

من مواليد مدينة كسلا شرق السودان عام 1963م، وهو صاحب رواية (الطواحين) ، ورواية (رماد الماء) وله مجموعة قصصية بعنوان (على هامش الأرصفة) ، وأخرى بعنوان (امرأة من كمبو كديس)، حقق جائزة الـ بي بي سي أكثر من مرة عن قصته (دراما الأسير) ثم عن قصته (فيزياء اللون)..

ترجمت بعض أعماله إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية، كتب أيضا عددا من النصوص المسرحية، صدر له مؤخرا عن (مكتبة الشريف الأكاديمية) كتاب (البلاد الكبيرة) في (552) صفحة من القطع المتوسط، متضمنا روايتيه:

الطواحين و رماد الماء، بالإضافة إلى روايته (زوج امرأة الرصاص) التي تنشر لأول مرة، ضمن هذا الكتاب .
روايته الجديدة- لم تنشر بعد (الجنقو- مسامير الأرض) حققت جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي في دورتها الأخيرة
.