الخميس، 23 أكتوبر 2014

الحكاءة " ماريا مرغريتا " راوية للأفلام ..

الحكاءة " ماريا مرغريتا " راوية للأفلام

" لقد قرأت في أحد الأيام جملة – لابد أنها لكاتب مشهور – تقول شيئا بمعنى أن الحياة مصنوعة من مادة الأحلام نفسها .. أما أنا أقول : إن الحياة يمكن لها أن تكون مصنوعة بالضبط من مادة الأفلام نفسها " ..
هكذا تعترف " ماريا مرغريتا " في الفصل الرابع والعشرين من رواية " راوية الأفلام " ؛ فمن هي " ماريا مرغريتا " وما هي حكاية راوية الأفلام ..؟
في رواية سهلة ولذيذة في آن تتشبث الحكاية بصوت طفلة في الحادية عشر من عمرها ، والتي ترقب الأب المولع بالسينما ولادتها كي يطلق عليها اسم الممثلة الأثيرة لديه ، والتي أغرت العالم في عصرها وما يزال إغراؤها حديث الناس اليوم " مارلين مونرو " ، ولكن أم الطفلة والتي كانت تقلد حركات ومشية " مارلين مونرو " رفضت تحقيق أمنية الأب ، ليختار على مضض اسما آخر لابنته المنتظرة عزاؤه هو حرفيّ ميم في اسمها المركب ليكون " ماريا مرغريتا " ، غرامه كمشاهد لنجمة الإغراء الساحقة " مارلين مونرو " جعله يطلق على أبنائه الخمسة أسماء تبدأ بالميم ..
الطفلة التي تكبر بين أربعة أشقاء ذكور يعتني بهم الأب الذي كان عاملا في مناجم لاستخراج الملح في بقعة نائية من منطقة صحراوية بعد أن هجرتهم أمهم هاربة وراء أحلامها السينمائية من نوع آخر ورجل آخر حين تعرض الأب لحادث أقعده بقية حياته على كرسي بدواليب صنعها صغاره ؛ لعجزهم المادي عن شراء كرسي متحرك له ، الأب الذي يعتاد على عادة معاقرة الكحول بعد أن فرت منه المرأة التي أحبها لكنه يظل مولعا بالسينما كأنها عزاؤه الوحيد ، ولأن هذا الولع ، وهذه المتعة الوحيدة التي بقيت له بعد أن خسر زوجته وصحته تحتاج إلى إشباع ، لهذا يسعى إلى تحقيق متعته بطريقة فريدة من نوعها وهو اختيار راوي للأفلام من أبنائه الخمسة في تنافس أشبه بمسابقة واختيار أفضلهم مقدرة في سرد حكاية الفيلم الذي يشاهده في صالة السينما ، ليكون جديرا بتذكرة مشاهدة الأفلام في كل مرة وروايتها لهم ، فالأب يقوم بتوفير تذكرة واحدة لدخول السينما لواحد من أبنائه الخمسة للذي يكون الدور عليه ، لأن فقرهم المدقع لا يسمح بحضورهم جميعا الفيلم المعروض في صالة السينما الوحيدة في تلك الصحاري التي تخلو من كل متع الحياة ، لهذا كانت السينما هي المتنفس الوحيد لعمال معسكر المناجم وأسرهم الفقيرة ، وفي كل مرة يحضر أحد من الأبناء الفيلم ، فإن مهمته لا تنتهي بل يذهب رأسا إلى صالة المعيشة حيث ينتظره الأب العاجز على كرسيه وإخوته على مقعد عريض وبعد شرب الشاي يحكي لهم مشاهدات الفيلم بكامل تفاصيله ، وبعد أن يجتاز الأبناء الخمسة الاختبار يرشح الأب ابنته الصغيرة " ماريا مرغريتا " كي تكون حكاءة الأفلام لما تتمتع به من ملكة سرد الحكايات بأسلوب تمثيلي بديع مع حنجرة غناّءة ، هذه الطفلة التي بأسلوب سردها الفريد سرعان ما تكون ورقة رابحة لأسرتها حيث تتحول رواية تلك الأفلام إلى مصدر للرزق بنصيحة أحد الرجال الذين يقدرون الفن وقيمته في حياة الناس ، سرعان ما تكون " ماريا " التي تكبر مع كل فيلم تتابعه كما يكبر خيالها الخضب الراوية الأهم والأعظم في المعسكر الملح ، وفي كل بيت تذهب إليه يحمل أحد إخوتها صندوق الشاي الذي تضع فيه كل الأدوات والملابس والأقنعة التي صنعتها بنفسها لإضفاء مزيد من التشويق والخيال على تمثيلها ، وليكون تقديمها نابعا من قلب ممتلئ بالحكايات ، حتى أنها تستحوذ بصوتها الدافئ على عقول أهل المعسكر ؛ ليغدو ما ترويه بالنسبة لهم أفضل من الأفلام نفسها ، بل إن شغفها برواية تلك الأفلام يدفعها أحيانا إلى ادّعاء ما يشبه الكذب على العجائز حين كن يطلبن منها أفلاما قديمة كانت تمثل حقبتهن لم تكن راوية الأفلام قد شاهدتها من قبل ، ولكن كي تدخل إلى قلوبهم السعادة كانت تدّعي معرفتها بتلك الأفلام ، فتختلق أحداثها لهن بكل رحابة الخيال الذي كانت تملكه " أظن أنه كانت لي في العمق روح مدبرة مكابدة ؛ ففضلا عن أنني بمجرد رؤية صورتين أو ثلاث ملصقة على لوحة الإعلان الخارجية ، ومن خلال نظرة كاهن شبقة ، وتقطيب وجه طفلة ، وإيماءة راهبة متواطئة ، كنت أستطيع اختلاق حبكة وتخيل قصة متكاملة وتدبر فيلمي الخاص " ..
" ماريا " التي أدركت من تجربتها في رواية الأفلام أن الناس يحبون أن تروى لهم الأكاذيب ، وهذا يشابه ما ذهبت إليه الكاتبة التشيلية " إيزابيل الليندي " حين حكت مرة بأن زوج أمها كان يلقبها بـــ" حكاءة الأكاذيب " لأنها كانت تروي قصصا من خيالها البعيد المولع بكل ما هو ساحر وأخاذ ويستولي على عقول الناس بلهفة .. ويشابه أيضا ما صرّح به الكاتب " جورج أورويل " في كتابه " لماذا أكتب " حين أجاب عن هذا السؤال بقوله : " عندما أجلس لكتابة كتاب ، لا أقول لنفسي : سوف أنتج عملا فنيا .. أكتبه لأن هناك كذبة أريد فضحها ، حقيقة أريد إلقاء الضوء عليها " .. أما الروائي الياباني " هاروكي موراكامي " ففي خطبته أثناء دعوة لاستلام جاهزة القدس للآداب 2009م أشار إلى مسألة الأكاذيب في حياة الروائي قائلا يومئذ : " لا أحد يتهم الروائي بالكذب وليس ثمة من يقول أن روائيا أرتكب عملا غير أخلاقيا في روايته حين أفترى على بطل من أبطال الرواية بل على العكس كلما كبرت الأكاذيب الروائي وأبدع في اختلاق أكاذيبه على الأرجح سوف يلقى إشادات لا حصر لها من الجمهور بشكل عام ومن النقاد ، لأنه حوّل الكذب إلى مهارة " ..
لكن أسطورة راوية الأفلام سرعان ما تستحيل إلى مجرد ذكرى تستعاد كحكاية أسطورية ، لعدة أسباب من ضمنها موت الأب الذي كان وراء تكوينها كراوية أفلام ، ولكن الحدث الأهم الذي كان وراء أفولها هو حضور " التلفزيون " الحدث الطارئ والاختراع الرهيب الذي سرعان ما غزا كل البيوت في ذاك المعسكر ، لتتحول " مارية مرغريتا " أو كما استعارت لنفسها اسما مستعارا " الحورية ديلسين " إلى مرشدة سياحية لمعسكر خلا من أهله تماما بعد أن انتهت مهمة عمال الملح في المعسكر ، لتحكي لكل عابر سياحي حكاية راوية الأفلام لتدهش حكايتها عقولا استعمرتها التقنيات التكنولوجية الحديثة ..
" ماريا مرغريتا " التي بفضل خيالها الفائض بقصص الأفلام استطاعت أن تتغلب على وحدتها في مكان خال من كل مظاهر الحياة الحديثة ..
ويبدو أن شغف رواية الأفلام كانت مستحوذة على كثير من البيئات في فترة ما قبل اختراع التلفزيون أو في دول منع عنهم هذا الاختراع كالصين ، حيث أن فكرة رواية " راوية الأفلام " ترجمة " صالح علماني " للكاتب التشيلي " إيرنان ريبيرا لتيلير " الذي ترعرع بدوره في قرية كان يستخرج أهله فيها الملح في وسط صحاري " أتاكاما " تلامس الفكرة التي عرضها الروائي الفرنسي من أصل صيني " داي سيجي " في رواية " بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة " ولكن بأسلوب سردي مختلف ، حين ثمة صبيان ينفيان إلى قرية نائية في إحدى قرى الصين في عهد الزعيم " ماو " في أواخر عام 1968م ؛ وذلك ليعاد تأهيلهما مثل ملايين الشباب الصينيين - تحت إشراف الفلاحين الفقراء - وفي القرية يخضع الشابان الصغيران لأنواع شاقة من العمل السخرة ، وفي ظروف جغرافية ومناخية قاسية ، ولا يجدان ما يشفع لهما سوى موهبتهما الفريدة في الكلام ، والتي بدورها أغرت مأمور القرية ، ولذلك يعمل على إرسالهما مرة واحدة كل شهر إلى مركز المقاطعة لحضور العرض الشهري لفيلم سينمائي يقام في ساحة الألعاب الرياضية في المدرسة الثانوية للمدينة ، ليقوما بسرد ما شاهداه بالتفصيل لأهالي القرية ..

ليلى البلوشي

الثلاثاء، 21 أكتوبر 2014

رصاصة ضلت طريقها إلى قلوبهم ..!

رصاصة ضلت طريقها إلى قلوبهم ..!

كل رصاصة تاهت عن قلبك هي دعوة أم صالحة ..!
هكذا كنت أؤمن دائما ومازلت على إيماني ذاته ، لكن أحيانا تتمنى بل ترجو بكل استغاثات الكون أن لا تضل الرصاصة طريق قلبك .. تظل ترجو برعب حقيقي ، رعب شبيه بالموت ، رعب هو الموت بعينه بجلّ دماره وخرائبه ووحشيته .. رعب لا يريحه سوى سحب الروح عن جسدك ..!
و" بوكاتسكي " بطل قصة " يا طلقة الرحمة " للكاتب " يجي بوترامينت " ترجمة القاص العراقي " عدنان المبارك " كان بين سبعة عشر شخصا في زنزانة متزاحمة ، مذ زجّ فيها وهو يردد عبارته الأثيرة " غير ممكن أن يلحقوا بي الأذى " لينفث في روحه الأمان الذي غدا بعيدا جدا حيث هو حبيس ، الأمان نفسه يتلاشى بمجرد ما يحملق في وجوه المعذبة والزفرات المرعبة التي يطلقها أولئك الذين معه في زنزانة أشبه بقن الدجاج في أزمنة ما قبل الحرب كانت بالكاد تسع لشخصين ، ولكن لأن الحرب تفرض قوانينها شاءت البشرية أم أبت ، غدت الزنزانة الضيقة تعصر أجساد من فيها كما لو أنهم آلاف من عيدان ثقاب في علبة واحدة ..!
اتخذ كل من الواقفين هلعا في برد الزنزانة مهبطهم على الأرض الضيقة وكل شبر منها غدت مملكة خاصة لا يسمح للآخر أن يقرب منها أو أن يستولي عليها طالما كان أول من مدد جسده عليها ، عدا " بوكاتسكي " ظل كعامود عاطل لا يزحزح مكانه وكانت تلك الوقفة التي سخر منها أحد المساجين كانت بالنسبة لــ" بوكاتسكي " وقفة مؤقتة ؛ لأنه كان مشحونا في داخله بأمل العودة إلى المكان الذي اعتاد ، المكان الذي يتمتع فيه بالأمان كله بعيدا عن إهانات العالم وهلعه ، ذلك المكان هو بيته الذي يعيش فيه ، كان وحده يؤمن بالعودة من حيث أتى ، وحده كان يوقد حطب عودته بنار الانتظار واقفا قريبا من الباب حتى يكون أول المغادرين إلى بيته حين يحين أوان المغادرة ، أما الآخرون فلم يجدوا في غياهب كوابيسهم في البقعة المظلمة التي سقطوا فيها من سبيل للعودة ..!
يرفع بجهد " بوكاتسكي " رجليه بالتناوب وهو يردد عبارته الأثيرة " غير ممكن أن يلحقوا بي أذى " كررها بإصرار مخاطبا نفسه ، وفي الليل بعد تلك الوقفة ، والجميع من حوله يتعارك مع عالمه الروحي المعذب على هيئة منامات مضطربة ، أدرك " بوكاتسكي " أن كلماته تعني الآن شيئا آخر يختلف عما كان في الليلة الماضية أو عند الدخول إلى الزنزانة أو حين أخذوه ، وهكذا كبرت الكلمات .. التفتيش ، الاعتقال ، الحبس في السجن .. لغاية يوم واحد كان يؤمن بصورة عميقة وجادة أن هذا أمر غير ممكن ، لكن أقنع نفسه الآن بأن هذا الشيء قد حصل ، وبهذه الطريقة أنقذ رأيه السابق : غير ممكن أن ... قبيل الفجر اتكأ على الباب ، كان الملل قد بلغ عينيه اللتين تقافزت فيهما شرارات دم صغيرة ..!
غفا مطروحا على الأرض ولم يوقظه من غفوته سوى صوت ارتطام الباب الحديدي الذي قبع أسفله وهو يفتح قليلا ، أحدهم ركله وكان وعيه في سديم ضبابي ، وبدأ يكرر كلماته بصورة آلية هذه المرة " غير ممكن أن يلحقوا بي الأذى" فرفسة الحارس أعطت مضمونا جديدا لهذه الصياغة اللغوية ، أن بإمكانهم أن يعتقلوه ، و يلقوه في السجن ، و يضربوه ، إلا أن كل هذا لا شيء إزاء أمر واحد كانوا قادرين على أن يفعلوه ، لكنهم لم يفعلوه ، ولم يذكر اسم هذا الأمر ، ومضت أسابيع عدة و" بوكاتسكي " المحامي المعروف والموظف في قوم يسارية المنطقة ، المواطن الهادئ والمحترم والذي أصبح في أثناء يوم واحد، من دون سبب ، سجينا ومضروبا ومعرّضا للجوع ، بالرغم من أن السقوط عميق وعنيف لايزال الرجل واقفا على قدميه  ، لقد آمن تماما بفكرة عدم المساس بشخصه ..!
كان واحدا منهم وهو عامل سكة حديد هو أول من سكب الحقيقة بفجاجة على وجوههم بأنهم جميعا سيعدمون ، الأكثرية اعترضوا ، وضحك آخرون كما لو أنه أطلق نكتة ، بينما " بوكاتسكي " بالتحديد كرهه ؛ لأنهم " لا يلحقون بنا الأذى لأننا لم نلحق الأذى بأحد " ، في ذلك الوقت حين حميت مناقشاتهم عن المصير المترقب كان الحراس قد كفوا عن اقتحام الزنزانة ، وضرب السجناء ، و إطلاق الشتائم عليهم بسبب ضجة يثيرونها ومهما كانت خافتة  ..!
وفي يوم جاء أحد الضباط وسأل السجناء إن كان أحدا منهم يتقن اللغة الألمانية ليقوم بنقل عباراته للمساجين ، فتطوع " بوكاتسكي " الذي كان يتقنها ليترجم عبارة الضابط الألماني والتي كانت تقول : " كل السجناء ارتكبوا جريمة نكراء ضد السلطة الألمانية إلا أن الشعب الألماني يمنحهم فرصة لغسل الذنوب وهي أن يعملوا لخيره. ومن يظهر الإرادة الحسنة يمكنه توقع الشفقة أما الذي يحاول الهرب أو يظهر ولو أقل قدر من العناد فمصيره الموت " نطق " بوكاتسكي " هذه الكلمات وهو يلقي على الجميع نظرات انتصار  ..!
في زنزانة قديمة ، عطنة ومتفسخة كما الوحل المخضر ، كانوا يتقون البرد بالتراص وتنكيس الرؤوس بين الأكتاف استعدوا للرحيل على متن شاحنة محملة بهم وهنا غلب الهلع والتوتر على أغلبهم حتى " بوكاتسكي " على الرغم من أنه اطمئن لخطاب الضابط الذي ترجم كلماته وعلى الرغم من تكراره لعبارته " لن يلحقوا بنا الأذى " شعر أن وجيب الخوف في جسده الضئيل البارد يرتعش لا سيما حين هرب عامل سكة حديد وهو ينطق بعبارته التي حطمت كل آمال الحياة الجديدة " اهربوا إنهم يقودونكم إلى الموت " ونجح وحده من الفارين في أن يجد حياته في مكان آخر، واقتيد البقية من كان في الشاحنة المحملة إلى مبنى صغير وقذر طلبوا منهم أن يخلعوا كامل ملابسهم ثم أمروهم واحدا واحدا ومنهم " بوكاتسكي " أن يقفزوا إلى حفرة عميقة مطينة وهناك أمطروهم بالرصاصات ، في هذه الحفرة التي قضى فيها جميع المساجين نحبهم عدا " بوكاتسكي " الذي استطاع أن يعزل جسده الملطخ بالطين والدم والجثث متفسخة من حوله ، لوهلة شعر أنه نجا من الموت المحتم ، فالرصاصات خرست حين اعتقد الضابط بأن الجميع سابح في دمه غير أن " بوكاتسكي " حين فكر بهلع بأنهم سيردمونه في هذه الحفرة المليئة بالجثث حيا ، حينئذ أخرج رأسه ونبّه الضابط بأنه ما يزال حيا كي يردمه برصاصة تنجيه من هلع دفنه حيا بين جثث متفسخة ، تفاجأ الضابط لوهلة ثم أطلق رصاصات من مسدسه ولكن ليس على قلب " بوكاتسكي " أو رأسه بل ظل يتلاعب بمشاعر هلعه حتى آخر رمق وهو يستعرض مدى قدرته كطاغية على تحطيم إنسان يرجو طلقة .. طلقة واحدة رحيمة ؛ كي تضع حدا أبديا على صرخته وهي تستغيث الموت بكل ما تملك من روح الحياة ، " بوكاتسكي " الذي ظل يثق بأنه لن يلحقوا به الأذى ، الذي ظل يؤمن طوال فترة اعتقاله بأنهم لن يقتلوه بل سيعيدوه إلى بيته ، " بوكاتسكي " الذي وجد نفسه يلح ، يرجو ، يستغيث ، ويصرخ بصوت إنساني مخنوق : " يا طلقة الرحمة "  ..!
السؤال هنا في ظل عصر داعش وعصابات الموت المتفشية في كل ناحية ، يا ترى كم إنسانا كان " بوكاتسكي " يستغيث رجاء العالم كي يردموه بطلقة واحدة ، يستنجد أن لا تضل رصاصة الرحمة طريقها إلى قلبه قبل أن يقتله هلعه ورعبه .. قبل أن يركلوا كرامته ويشوهوا روحه البريئة بالعذاب والقهر ، يا لها من أمنية يرجوها إنسان ..؟!

الثلاثاء، 14 أكتوبر 2014

حدقوا جيدا إلى صورة فتاة فقدت والديها ..!

حدّقوا جيدا إلى صورة فتاة فقدت والديها ..!

جريدة الرؤية ..

  لكل صورة نلتقطها قصة ، لعلها قصة مكان أو قصة زمان ، قصة حياة أو موت ، والقصص تتضافر تبعا للعابرين فيها ، ولا توجد في العالم صورة غير معبرة ، ولكن نظرة الآخرين لها تتباين من نظرة ، من فكرة ، من حكاية ..
يقال إن أول صورة فوتوغرافية تم التقاطها على أرض مصر ، وربما أفريقيا كلها وفي الشرق الأدنى للوالي " محمد علي باشا " كان ذلك الحدث التاريخي العظيم في الإسكندرية بآلة " داجير " والتقطها " فريدريك جوبيل " و" هوراس فيرنيه " وقد دوّن " جوبيل " في إحدى مؤلفاته قصة صورة الوالي " محمد علي باشا " وقصة الفزع الذي انتابه لحظتئذ ، فالوالي تصور بينما هو يلتقط أول صورة له في حياته أن ثمة مكيدة أو محاولة لاغتياله ؛ لا سيما حين تم تعتيم الغرفة التي جرى فيها التصوير كليا ؛ لدرجة أنه كان مستعدا بسيفه للدفاع عن نفسه ، وعيناه تعقبان المحيطين به من طاقم التصوير ، ويبدو أن الظلام انكسر باشتعال عود ثقاب أضاء الأوجه البرونزية الشاخصة ، بينما وجه " محمد علي باشا " طافح بالاستغراب لا يخلو من الإعجاب وهو يصيح : " هذا من عمل الشيطان " ..! ثم استدار على عقبيه وهو لا يزال ممسكا بمقبض سيفه الذي لم يتخلّ عنه لحظة .. !
ولكن عمل الشيطان هذا تفشى مذ يومها في كل بقعة من بقاع هذا العالم المترامي الأطراف ، وهي الفضل في نبش حكاية صورة أخرى ، دخلت بدورها التاريخ من أوسع مداخله ، هي حكاية شعب بأكمله ، مأساة تاريخية استطاعت صورة واحدة نقلها حية ناطقة بالحواس جلها ، ولكن ما قصة هذه الصورة ولمن تكون ..؟
المصور الأمريكي " ستيف ماكوري " عزم في يوم من الأيام وبرفقة عدسته أن يحلق إلى أرض الباكستان خلال عام 1984م ، وفي نية عدسته التقاط صور حية تنبض بمعاناة التشرد والتنكيل وويلات الحروب في أرض غدت كبركان مستعر من الحروب والصراعات الداخلية والخارجية ، وخلال الرحلة صادف في أحد مخيمات اللاجئين الأفغان فتاة في عامها الثالث عشر وحيدة بعد أن قتل السوفيت والديها أثناء رميهم القنابل على قريتهم ، وفي ليلة داكنة بفجيعة الفراق والموت والهلع توارى أبويها تحت أكوام التراب ، فوجئ بها تسأله باللغة البشتونية وببراءة مطلقة : " هل تأخذ لي صورة " ..؟
والتقطت عدسة ماكوري صورة تلك الفتاة ، التي لم يعرف بأنها ستكون ذا شأن ، و تتصدر قائمة مئة أفضل صورة في العالم ، ووجه غلاف مجلة " ناشيونال جيوغرافي " .. وتعرف بصورة " الفتاة الأفغانية " والتي عرف بعد سنوات اسمها الحقيقي " شربات غولا " .. ويعني اسمها حرفيا بلغة البشتون " فتاة زهرة الماء العذب " ..
قال " ماكوري " عن صورة فتاته : " إنني أحب هذه الصورة ، الأيقونة على الدوام ؛ لأنها ببساطة تجمع عواطف متعددة ، الدهشة ، الخوف ، وحب الفضول ، وتمنحنا الفرصة لنتخيل قصة ما ، قصة أنفسنا في حياة هذه الشابة ذات النظرات الساحرة " ..
هذه الصورة هي دراما كاملة ، رواية لتاريخ متأجج بالثقل ، والدمار ، والصراعات المتدامية وقهر لا ينضب ، وعدسة " ماكوري " مازالت تقول الكثير ، ذاك الجمال المتوحش يبلغنا كم هي المرأة قوية ، صامدة ، وحقيقية في أشد أوقات العالم قبحا ، وظلاما ، وظلما ، وقسوة ، حدقوا جيدا إلى صورة فتاة فقدت والديها ..؟
إنها صورة تحدي ، شراسة كبرياء ، إصرار حد الحياة على الحياة ...!


ليلى البلوشي

الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014

طابور آيفون 6 أمام مكتبة كتب ..!

طابور آيفون 6 أمام مكتبة كتب ..!

جريدة الرؤية

تداول في وسائل التواصل الاجتماعية " الفيس بوك " و " تويتر " منذ وقت قريب ، خبر مع صورة شاهدة فنحن في عصر الصورة بامتياز ، الخبر يكتب والصورة تثبت ما يقوله الخبر بأن المئات من السعوديين أمام مكتبة " جرير " .. لوهلة حين تقرأ هذا الخبر تتفاجأ وتفرح في داخل نفسك لا سيما حين تكون قارئا أو كاتبا ، فإن الفرح يتمدد في قلبك الصغير ، ولا يذهب حيز تفكيرك سوى أن هؤلاء المزاحمون أمام مكتبة معروفة ببيع الكتب ونشرها يترقبون في طابور عريض لاستقبال كتاب جديد صادر حديثا ، وهذه الحادثة تذكرك كقارئ شغف يلاحق كل كتاب جديد من مكان إلى آخر بــــ " ظاهرة ثقافية " غدت عادة في دول أوروبا وأمريكا وبعض الدول آسيا ، حين يحتشد آلاف من القراء لينال كل منهم نسخته قبل أن تنفذ من كتاب الصادر حديثا لكاتب يحب أن يقرأ له ، أو يسعى لأن يقرأ عنه ، أو يقرأ له ؛ لأنه ببساطة يرى العالم بكل خرائبه ومآسيه وكوارثه وجمالياته ونبله وخيره في كتاب يفر منه وإليه ، كما حدث في اليابان حين اصطف مئات من القراء حتى ساعات الفجر الأولى متلهفين لشراء النسخة الأولى من رواية الكاتب الياباني " هاروكي موراكامي " الجديدة أمام مكتبة في طوكيو ، كما اصطف أيضا قراء رواية " هاري بوتر " صدور الجزء الأخير من الرواية ، وقراء آخرين تزاحموا لنيل نسخة من رواية " الرمز المفقود " للروائي " دان براون " .. فيالها من ظاهرة ثقافية ، ويا لها من عادة مدهشة ، ويا له من مشهد يخطف الأنفاس ، حين تشاهد أو تسمع أو تقرأ بأن أفرادا من شعبك أو جنسك أو قبيلتك أو من مذهبك – حسب التصنيف الديني – السائد للناس حاليا ، على الرغم من أنك ضد هذا التصنيف تماما بل ضد كل ما يخضع الإنسان للتصنيفات ؛ لينسفوا المفهوم الحقيقي للبشر في كونهم سواسية كأسنان المشط ، لكن هذا لا يتوافق ومصالح كثير من الأشرار في هذا العالم ، أولئك الذين هم عشاق التصنيف وأعداء كل من يلغي التصنيف ..!
تلقي بعقد التصنيفات خلف ظهرك ، وتحلم كخيالي بأن العالم القادم يسعى إلى تصنيف البشر على أساس أنهم قراء وغير قراء ، عشاق الكتب وأعداء الكتب ، أفرادا لا تعرفهم وليس لك صلة بهم ، ولكن الجامع الوحيد بينك وبينهم هو حب القراءة وشراء كتاب ..!
في السعودية ترى المشهد نفسه ، وترى الحشد الذي سبق ورأيته وقرأت عنه في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعية حين تداولوا صور مئات من القراء ينتظرون كتابا ، أجل لا بد وأنهم في انتظار صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب الذي يستقبلونه طازجا ؛ من هو هذا الكاتب العربي المحظوظ يا ترى أو الكاتبة المحظوظة ..؟ من يمكن أن يؤخر نومه حتى الساعة 12 تمام منتصف الليل سوى قراء مجانين أمثالك ..؟! هكذا تفكر لوهلة ، لكن مهلا جلّ توقعاتك ككقارئ تسقط في خيبة مريرة ، حين تكمل قراءة بقية الخبر المتداول والذي يقول بأن أولئك السعوديين متزاحمون أمام مكتبة " جرير " لشراء iphone6 ..!
تلملم خيبتك الكسيرة ، وتؤمن كقارئ أن ليس جميع الناس على سجية واحدة ، ولا تجمعهم الاهتمامات نفسها ، بل أنت أكثر الذين يؤمنون بالعبارة التي تقول : " لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع " ..!
لكنك في الوقت نفسه يقظ تماما لاختلاف توجهات الناس وسعيهم الحثيث تجاه ما تجلبه لهم التقنيات الحديثة من أجهزة منوعة ، وفي مجالات شتى ، وأنت نفسك تولي اهتماما ببعض أنواع تلك الأجهزة المفيدة ، ولست ضد انفتاح الناس على العالم ، ولكنك ضد هذا اللهاث الغريب لدى بعض الأفراد في - الوقت الحاضر - إلى مراكمة الأجهزة في بيوتهم وسياراتهم وفي كل مكان يكونون متواجدين فيه ؛ لمجرد استعراضها أمام الآخرين ، لمجرد أنه يوحي للعالم بأنه إنسان حضاري ، وأن أفراد أسرته حضاريون كذلك ، حين يهدي طفلا من أطفاله دون الثالثة جهازا الكترونيا مهما بدت استخداماته ، ثم يلتقط له صورة ليكمل مسلسل استعراضاته في الانستغرام بغية التباهي بطفله الحضاري ..!
 ولم يفكر قط أن طفله المسكين يحتاج إلى أب حقيقي يهتم به لا أن يهديه جهازا يحل محله ؛ لأنه كأب ليس لديه متسع من الوقت فهو مشغول في عمله أو مع أجهزته الخاصة حين يتواجد في البيت ، الطفل الذي يحتاج إلى حنان الأم واهتمامها المسؤول ، لكنه حين يولد هذا الطفل في عصرنا التقني ماذا يجد حوله ..؟ مجموعة أجهزة وألعاب الكترونية غزت أول وأهم أعوام انفتاحه على العالم ، فهو ما يزال في الأعوام الأولى من طفولته ، تلك الأعوام لا يدرك كثير من الآباء مدى خطورتها وأهميتها في حياة طفلهم ، تلك الأعوام الأولى هي التي تبلور شخصيته كإنسان بالغ حين يكبر ، ويعتقدون أن مجموعة من الأجهزة يمكن لها أن تصنع لهم طفل المعجزة ..!
تعود وتستعيد خبرات العالم الآخر وأفكارهم الحكيمة في تنشئة الأطفال ، فتقرأ أن في أمريكا عندما يدلف الصغار إلى أسرتهم لا سيما في أعوامهم الأولى ، فإن كتابا لابد أن يكون موجودا إلى جوار دمية الدب الشهيرة ، ووقت الاستحمام تجد كتابا بلاستيكيا جنبا إلى جنب مع اللعب التي تأخذ شكل المراكب والسفن في حوض الاستحمام مع الصغار ، وشيئا فشيئا يعتاد الأطفال ذلك ، وينتهي بهم الأمر إلى قبول الكتب باعتبارها جزءا مهما لا يتجزأ من حياتهم  ؛ فالآباء في الولايات المتحدة يعرّفون أطفالهم بالحضور المرتبط بالكتب ..!
وتقرأ أن في اليابان يخصصون للطفل غرفة مليئة بأجهزة وأدوات وأشياء مختلفة في مجالات شتى منها التقنية و الفن و القراءة وغيرها ، كل تلك الأشياء يجمعونها في غرفة واحدة ثم يراقبون توجهات طفلهم إلى أن تتجه ؛ ليقوموا بتنميتها له ..!
أما في دولنا العربية ، فإن معظم الآباء للأسف يضعون في يدي طفلهم جهازا يستهلك جل وقته ، ولا فائدة تذكر سوى أنه ينتقل من لعبة إلى أخرى ، وما من غاية سوى أن ينشغل الطفل فلا يسبب إزعاجا لوالديه  المشغولين بأجهزتهم ..!
سرعان ما يضجر الصغير ويسعى إلى تحطيم الجهاز الذي يرافقه حتى فراش نومه ، فهي في النهاية آلة ولا تحكي له قصصا بصوت أمه أو أبيه ما قبل النوم ، ولا تطبطب على حزنه حين يبكي ، ولا تمنحه الحب والحنان حين يكون في أمس الحاجة إلى حضن أم وقبلة من أب ..!
أعتقد أن لدى كل منا ما يكفيه من أجهزة ، وحان الوقت لنستعيد حياتنا قليلا التي أصبح العالم التقني يسلبها رويدا رويدا ..!

ليلى البلوشي

الاثنين، 22 سبتمبر 2014

رجل حياته مكتبة ..


رجل حياته مكتبة

جريدة الرؤية ..

" لم نكن نذهب إلى الكنيسة ، لكننا كنا نذهب إلى المكتبة "
هذا اعترف الروائي الذي ترشح لجائزة مان بوكر عدة مرات حتى نالها عام 2011م عن روايته " الإحساس بالنهاية " والقارئ الفذ مذ كان طفلا ، صياد الكتب الذي كان يلاحق الكتب من سماء إلى أخرى ؛ كي يحظى بالطبعة الأولى من كل كتاب صادر حديثا ، لتكون له مكتبة ضخمة ومميزة وحافلة بالكتب من بلدان مختلفة .. إنه الكاتب البريطاني " جوليان بارنز " الذي كان شغوفا بــالروائي " غوستاف فلوبير " ورائعته " مدام بوفاري " لتكون روايته الأولى بعد أعوام طويلة من صيد الكتب والقراءة تدعى " ببغاء فلوبير " ..
في مقالة مسهبة ونوعية بترجمة " آمال بن دالي " يسرد " بارنز " حكايته مع الكتب مذ كان في سن صغيرة في ظل أسرة كانت تعشق الكتب ولها مكتبة في البيت ؛ فجديه من أمه كانا مدرسين وكان لجده مجموعة أعمال " ديكنز" التي اقتناها عبر الطلب بالبريد ، و" موسوعة نلسون" من ثلاثين مجلدا أحمرا صغيرا ، و كان لدى والديه مجموعة كتب أكبر وأكثر تنوعا ، حتى أنه نشأ وفي اعتقاده أن كل البيوت فيها كتبا وبها مكتبة ، وذلك هو الوضع الطبيعي بالنسبة له ، فتلك الكتب هي للتعلم في المدرسة ، و للتزود بالمعلومات والتأكد منها ، وللتسلية خلال العطل ..
كان الطفل " بارنز " يتذكر جيدا كتب والده ووالدته وما كانا يحبانه ولم يشكل وجود اختراع " التلفزيون " عبئا بالنسبة له ولم يجرؤ " التلفزيون " أن يحل محل الكتب الأثيرة ولا أن يقلص من ساعات القراءة في الكتب ؛ فقد كان كلاهما مدرسان فخضع لرقابة صارمة وكان للكتاب احتراما في بيتهم الأسري .. ولكن يبدو في أمريكا شكل " التلفزيون " أزمة لدى الجيل الجديد مما جعل الرئيس أوباما يصرخ في أولياء الأمور قائلا : " ارحموا عقول أبناؤكم وأغلقوا التلفزيون " ..
كان لدى والده كتب مقالات " Fourth Leaders " الصادرة عن " التّايمز" أما والدته فكانت تستمتع بكتب " نانسي ميتفورد" ، كانت الرّفوف تحتوي كتبا مجلدة فاز بها والده في دراسته كجوائز لتفوّقه مثل " موسوعة النّثر الانكليزي" و " أعمال غولد سميث الشعريّة" ، ورواية " الدّير والمصطلى"  لـ" تشارلز ريد"  ، لهذا حين كبر " بارنز " كان من الطبيعي أن يسعى كجديه ووالديه إلى عادة اقتناء الكتب وقراءتها ، و يا لها من عادة حميدة ومثمرة تلك التي يعوّد الكبار فيها صغارهم على وجود الكتاب في البيت في مرحلة مبكرة من حياتهم .. والروائي " باولو كويلو"  سبق وعرض أهمية هذا الأمر مرة حين أشار بقوله : " في مرحلة مبكرة من العمر وعندما يدلف الصغار إلى أسرتهم فإن كتابا لابد أن يكون موجودا إلى جوار دمية الدب الشهيرة ووقت الاستحمام تجد كتابا بلاستيكيا جنبا إلى جنب مع اللعب التي تأخذ شكل المراكب والسفن في حوض الاستحمام مع الصغار وشيئا فشيئا يعتاد الأطفال ذلك وينتهي بهم الأمر إلى قبول الكتب باعتبارها جزءا مهما لا يتجزأ من حياتهم .." والروائي النيجيري " وول سوينكا " ذكر في كتابه " آكيه " التي تتناول سيرته في مرحلة الطفولة بأن والده كان ناظر مدرسة و كانت له مكتبة ، مما جعله وهو طفل يحمل كتبا أخذها من مكتبته ويتجه بها إلى المدرسة ، ليطلب من معلمها الالتحاق بها كتلميذ وكان يومئذ في الثالثة من عمره ..!
كبر الطفل " بارنز " في عائلة كان دأبها أن تفوز بالكتب في المدارس التي التحقوا بها ، وكان يحق لهم أثناء فوزهم انتقاء أسماء الكتب التي يرغبون في الحصول عليها ، وهذه ميزة أخرى ملهمة لنظام التدريس في بريطانيا أو أوروبا عموما خلال تلك الأعوام ، كانوا يعطون الكتاب أهمية جمة ، وكانت القراءة جزءا لا يتجزأ عن عالمهم ؛ لهذا تحول من قارئ عادي إلى صياد حقيقي وشغوف بالكتب بعد أن تخطى مرحلة نيل الكتب كجوائز في المدرسة أصبح يلاحقها كقناص دؤوب لديه حاسة امتلاك الأشياء ، معنى أن تمتلك كتابا أنت قمت بشرائه وسعيت له بكامل رغبتك للحصول عليه " كانت هناك أولا إثارة ومعنى الامتلاك ، أن تمتلك كتابا محددا، كتابا اخترته بنفسك - كان ذلك يعني شيئا من تعريف الذات - وهذا التعريف بالذات يجب حمايته ماديا ، لذلك كنت أقوم بتجليد الكتب مع كتابة اسمي بخط اليد على زاوية الغلاف الداخلي بالحبر الأزرق الداكن مع وضع سطر بالأحمر تحت الاسم ، كان تعريف الذات هذا نوعا من السحر" ..
لكن " جوليان بارنز " القارئ أصبح مع الزمن يدرك روعة الحصول على كتاب مستعمل أو كتب " سبق امتلاكها " كما كانوا يطلقون عليها في أمريكا ، سبق وانتقل من يد إلى يد ، وتشعب في بيئات مختلفة عبر أجيال مديدة ، في أمكنة باردة وحارة ومعتدلة ، ومع قراء بأنماط متباينة ، وأمزجة غريبة ، وفي النهاية تكون أنت صاحب هذا الكتاب المستعمل ، إن روعة امتلاك كتاب مستعمل تكمن في فكرة الثقافة المستمرة ..
وبعد سنوات من الخبرة في شراء الكتب ومطاردتها أصيب " بارنز " بخيبة أمل من بعض الناشرين وبائعي الكتب ، فقد كان يتصور دائما أن جامعي الكتب هم أشخاص مستقيمون وصادقون ، لكن التجربة علمته أن منهم من لا يستطيع ضبط نفسه عن غشك والتلاعب بك ..
ولكن " جوليان بارنز " حين تحول من جامع كتب أو صياد كتب إلى كاتب يوم طبع روايته لأول مرة أصبح أقل اهتماما بامتلاك كتاب في طبعته الأولى " أنني لم أعد أحتاج طبعات أولى من أعمال الآخرين باعتباري قد نشرت طبعة أولى من عمل خاص بي ، حتى أنني بدأت ببيع الكتب ، وهذا ما كان سابقا أمر لا يمكن تصديقه ، لكن مع هذا ، فإن وتيرة شرائي للكتب لم تنخفض ، أنا أشتري الكتب أسرع بكثير مما يمكنني قراءتها ، لكن مجددا ، هذا يبدو لي طبيعي جدا ، كم ستكون محظوظا أن يكون حولك من الكتب ما يمكنك قراءته بكل الوقت المتبقي من حياتك " ..
وعلى الرغم من أن الكتب الرقمية سهلت عليه كثيرا عملية الحصول على أي كتاب يريده وبأسعار غير مكلفة بل أقل مما يكلفه الكتاب الورقي ، غير أن حبه العميق للكتب الورقية أقوى من أن يحل محلها الكتاب الالكتروني حتى لو أضافوا خاصية تنزيل الكتب بميزة الروائح ، يظل للورقي خصوصيته بالنسبة له ..
 وكقارئ شغوف طرح " بارنز " حكمته عن القراءة : " القراءة هي مهارة الأغلبية لكنها فن الأقلية " مضيفا  بأن : " الحياة والقراءة ليسا نشاطين منفصلين. التمييز بينهما زائف ، ... عندما تقرأ كتابا كبيرا ، فأنت لا تهرب من الحياة ، بل إنك تتورط فيها عميقا ، قد يكون هناك هروب سطحي - إلى دول أخرى ، عادات ، أنماط حديث – لكن ما تقوم به بشكل أساسي هو أنك توسع فهمك للنواحي الرقيقة في الحياة ، لتناقضاتها ، لمتعها ، لآلامها وحقائقها ، القراءة والحياة ليستا منفصلتين لكن متكاملتان ، ومن أجل هذا الواجب الجاد للاكتشاف التخيلي واكتشاف الذات ، يبقى رمز واحد فقط : الكتاب المطبوع " ..
لقد كلفت حب القراءة وجمع الكتب " جوليان بارنز " حين كان قارئا ؛ فقد عاش في الكتب ، ومن من أجل الكتب ، بـالكتب ومعها ، ولكن وفي السنوات الأخيرة كان محظوظا بما يكفي ليعيش حياة مريحة من ريع الكتب ككاتب وروائي لامع ..
ليلى البلوشي

الأربعاء، 17 سبتمبر 2014

الاثنين، 15 سبتمبر 2014

حين تعود إلى بيت لا يعرفك ..!

حين تعود إلى بيت لا يعرفك ..!

يقول جورج أورويل كناقد لظاهرة الولاء في عصور الاستبداد : " الولاء يعني انعدام التفكير ، بل انعدام الحاجة للتفكير ، الولاء هو عدم الوعي " ..
ظاهرة الولاء هذه تمددت وبشكل فاغر في تاريخ الصين ، في مرحلة الركود الفكري والثقافي بكل معنى الكلمة حين كان ولاءهم المطلق يسجد صاغرا لزعيمهم المستبد " ماو " .. في زمن تكون فيه " العودة إلى البيت " محفوفة بالمخاطر ، مخاطر قد تعرضك وأسرتك إلى خطر المجتمع الاستبدادي الذي قدر لك أن تكون أحد أبنائها ، أنت الفار من نظام قمعي ، أنت الذي حين نافحت بجسارة عن كرامتك كإنسان يطالب بالعدل والكرامة في وجه هذا النظام تعرضت لأنكى محاولات التعذيب الجسدي والنفسي ، ناهيك عن تداعيات الغياب عن بيتك ، وأسرتك التي غادرتها كمجرم ومتهم في نظر النظام الاستبدادي ؛ لأن ولاءك لم يكن ناصعا وبشروط الحزب ..!
ولكن مسألة الوجع ليست هنا بل حين تصدم على حقيقة بأنك أصبحت منبوذا في نظر ابنتك التي سكب فيها الحزب السياسي مذ قبض عليك كعدو لها ومذ كانت هي طفلة لا تتعدى الثلاث أعوام تحبو نحو عالم يقدس زعيم الحزب ويعلن الولاء له ليغدو الحزب أهم من العائلة ، أهم لها من كل شيء في الحياة من مقربين وأصدقاء ..!
هذه بعض حيثيات الفيلم الصيني " العودة إلى البيت " للمخرج الصيني " جانج ييمو" 2014م .. في تجربة مختلفة ونادرة في حياة الصينين كان قدرهم أن يحكمهم زعيم يدعى " ماوتسي تونغ " ويفرض على شعب بأكمله ما أطلق عليه " الثورة الثقافية " لتعيش الصين تجربة مريرة من العزلة وانكار الذات في ستينيات القرن الماضي ..
ولا يمكن للصين أن تنسى ماضيها ؛ لأنه ترك خدوشا لا يمكن نسيانها ، وحين انهار نظام حزبهم المقدس والزعيم الذي اعتقدوا أنه خالد مخلد ، وجد الصينيون أنفسهم يفرّون من ماضيهم المثقل بخيبات الأمل ومآسي الروح ، ذاك الماضي الذي سحق كرامتهم حين خضعوا بكامل ولائهم ، وخوفهم ، وعبوديتهم ، كبشر لصوت واحد ووجه واحد ، وحين فقدوا ما فقدوا من أحباء ورفاق في سبيل هذا الصوت المستبد المتوحد .. وحدهم المتمردون ، العصاة ، أولئك الذين كانوا ملعونين في نظر الحزب ونظر عائلاتهم وأصدقائهم ، هم وحدهم حق لهم الاعتزاز بإنسانيتهم التي عبرت عن نبذها للعبودية ، وتجسد ذلك في شخصية الأب في فيلم " العودة إلى البيت " الفيلم الذي ينتقد الثورة الثقافية في ظل أسرة صغيرة مكونة من أم وابنة صغيرة وأب متمرد على الحزب جُرّ كمعتقل إلى ظلمات السجن ، كخائن للزعيم وحزبه ، وقضى خلف القضبان عشر أعوام قبل أن يتمكن من الهرب من الحبس الذي قبع فيه تملؤه رغبة واحدة فقط هي " العودة إلى البيت " ليرى زوجته التي يكّن لها الكثير من الحب والحنين وابنته التي رآها آخر مرة حين كانت في الثالثة من عمرها ..
لكن " العودة إلى البيت " لا تغدو بالسهولة التي تصورها سواء حين هرب من السجن أو حين حصل على حريته بعد انهيار الثورة الثقافية وانتهاء العهد الماوي ؛ ففي المرة الأولى يكون شعار " الحزب أهم من العائلة " طاغيا فتجد الزوجة المغلوبة على أمرها وحرصا على مستقبل ابنتها كراقصة باليه تصم أذنها عن طرقات الأب ، الأم المترددة ، التي تدخل في دوامة من التيه والرهبة ، في حين تكون الابنة الوفية للحزب والحريصة على مستقبلها فيه لا تتوانى عن التبليغ عن والدها الذي يكتب رسالة للأم ويضعها تحت الباب ؛ كي تقابله في الساعة الثامنة صباحا عند محطة القطارات ، ولكن اللقاء لا يتم سوى عن بعد ، اللقاء الذي تنهار معه أشياء كثيرة ، فالابنة تبلغ عن أبيها الذي تراه خائنا للحزب أي خائنا لزعيمها المقدس " ماو " ..!
أما الزوجة ، الأم ، فهي التي تدفع ضريبة كل ذلك ، فكأم تمقت ابنتها وتطردها من المنزل ؛ لأنها كانت سببا في تسليم الأب للسلطات ، أما كزوجة وهنا المأساة جلها تسقط في دوامة فقدان الذاكرة ، فهي لا تسقط من ذاكرتها سوى زوجها المعتقل الذي لا تتعرف عليه في المستقبل ، بل يظل حبيس ذاكرتها في الماضي المدجج بالرهبة من الحزب ، وحين يعود هذا الزوج بعد انتهاء العهد الاستبدادي لا تتعرف عليه الزوجة ، وهنا تغدو " العودة إلى البيت " عصيّة بكل معنى الوجع الإنساني ..!
في الفيلم يعيش الأب دوره كأب فالابنة التي بلغت عنه تقوم باستقباله في محطة القطار ويغفر لها الأب كل ما جرى منها في الماضي ، غير أن دوره كزوج يكون المعضلة الأساسية في الفيلم ويكون سببا لعدم عودته إلى البيت ؛ فالزوجة لا تتعرف عليه وتعتقد أنه رجل غريب لا يمت لها بصلة ، الزوج بدوره لا يستسلم لتداعيات اليأس التي تزحف على قلبه شيئا فشيئا مع مرور عبء الزمن ، ففي البدء يعتقد أن الغياب الطويل هو السبب في سحق ذاكرة الزوجة ، لذا يسعى إلى حشد وسائل جمة ؛ كي يساعد زوجته على استعادة ذاكرتها المتوقفة على لحظة ترددها في فتح باب البيت المغلق للزوج المعتقل الهارب المترقب بلهفة للحظة اللقاء ، الباب الذي يظل مفتوحا بعد أن يتم القبض على الزوج في محطة القطارات كتأنيب حاد للزوجة في ضميرها الإنساني حين خذلت طرقات الزوج المنتظر خلفه ، وهي اللحظة نفسها التي استأثرت بذاكرتها في الامتداد عن مسافات المستقبل حيال كونها زوجة ..!
تلك المسافات التي يريد الزوج استرجاعها كمستقبل كي يحظى بحياة سرق ماضيها عنه وعن زوجته وابنته ، لكن الزمن لا ينصفه ولا ينصف الزوجة التي تظل عبر مرور الزمن المرأة التي تنتظر زوجها في محطة القطارات في خامس من كل شهر كما كتب الزوج في رسالة لها حين كان معتقلا ، الرسالة التي وصلت متأخرة ، الزمن نفسه يأتي كعقاب ويأتي كتأثير على ما يخلفه الماضي المؤلم من جراحات في الروح وتظل قابعة كظل شبحي للإنسان ، فمن تراجيديا فيلم " العودة إلى البيت " أن الزوجة ليست وحدها تترقب عودة الزوج إلى بيت قلبها وروحها لكن الزوج أيضا يقف بالقرب منها ينتظر عودة من نوع آخر ، عودة لقلب وذاكرة المرأة التي تقف بجانبه على أمل استرجاعها ، عجوزان في الحب والوفاء والوجع والانتظار الذي طال أمده .. !
المأساة الصينية التي اختصرتها عبارة أرسطو حين سئل : " من يصنع الطغاة ..؟ فرد قائلا : ضعف المظلومين " ..!

ليلى البلوشي