الأحد، 19 ديسمبر 2010

القاصة الشابة ليلى البلوشي في حوار مع ملحق ( شباب عمان )



القاصة الشابة ليلى البلوشية لـ ( شباب عمان )

الكتابة بكافة أشكالها تجريب ومتعة مطلقة مع حس مسؤول

حاورها : ناصر أبو عون

ليلى البلوشية قاصة عمانية شابة روحا وقلما تخصصت في الكتابة عن النفس الإنسانية : نموذج للمبدع المنفتح على العالم يكتب ليحيا ويحيا ليؤرخ للفكر الإنساني – قاصة تتنفس الوطن في كل عرف تكتبه – تنشر فكرها حبرا على صفحات الصحف الخليجية والعربية ومن أولى العمانيات اللاتي انطلقن بالإبداع العماني في الفضاء الالكتروني – تواصلنا معها الكترونيا ودار الحوار التالي :

1- بداية يمكننا أن نعرج على تجربتك بشكل عام في عوالم النص الإبداعي .. أين تجد ليلى البلوشي نفسها في القصة أم التدوين الإلكتروني أم الكتابة المقالية والنقدية ؟

أنا إنسانة قبل كل شيء ، والانسان كتلة من المشاعر والأحاسيس وحيث تقودني مشاعري الإنسانية أقف بالتزام ، بمعنى الكتابة بكافة أشكالها هي بالنسبة لي تجريب قبل كل شيء ومتعة مطلقة مع حس مسؤول ، أحيانا يتملكني شعور غريب هو أنني كاتبة وحيثما يثقل علي هذا المفهوم أشعر بحجم المسؤولية التي تقع على كاهلي ، أشعر أن مشاعري وأحاسيسي ليست ملكي إنها للآخرين ، مفهوم " الآخرين " بالتحديد بدأ يأخذ أهميته في داخلي ، يكبر ، هنا تبدأ الهموم الداخلية للكاتب تذوب ، تضمحل ، تتلاشى في ذات الآخرين ..
والكاتب عادة يتراوح بين انفعالين ينبثقان من أعماقه في وقت من الأوقات هما " الخوف " و" الفرح " ؛ أما الخوف هو ذاك القلق الإبداعي ليس فقط من التوقف عن الكتابة بل العجز عن إنجاب الجديد ، والفرح هي تلك الحرية التي يتنفّسها في لحظات الانعتاق الذاتي عن كل شيء خصوصا مسؤولية الكتابة ..

في بداياتي كنت ذاتية بمعنى ما ، والروائي " عبدالرحمن منيف " أشار إلى ذاتية الكاتب في عمله الأول قائلا : " مادة السيرة الذاتية جاهزة وتعطي نفسها بسخاء ، فإن الإغراء الذي تتضمنه والذي يصل إلى بعض الأحيان حد الغواية ، يوقع الكثير من كتاب الرواية ، وخاصة في الرواية الأولى " ، لكن الهم الكتابي يكبر معنا ويطغى على خصوصياتنا ويتجاوزها عابرا إلى العموميات ، الحياة الممتلئة المحاطة بالكاتب هي التي تصنع منه واقعه الكتابي ، خاصة في الانطلاقة الأولى ، لكن بعد ذلك سرعان ما يكتفي الكاتب في الحديث عن ذاته ، ليتحرر منها إلى التحدث عن أشخاص وعوالم مختلفة ، بينما ذاته الخاصة يكون حضورها متذبذب في كل كتابة وكتابة ، وتغدو الشخصيات التي يكتب عنها الكاتب هم بمثابة أصدقاء يألفهم ويألفونه بمرور الأيام وكأنهم كانوا أقرباء أو رفقة ، تحقيق الإشباع الذاتي ضرورة ؛ لأنها وحدها تعيد للكاتب توازنه في الرؤية إلى العالم والأشخاص بالطريقة الصحيحة ، وتجربة الكاتب التركي " أورهان باموق " مقاربة تماما لحديثي هذا ؛ فهذا الكاتب في معظم أعماله الكتابية كان متواجدا بعضها بطريقة مقنعة خلف شخصية ما وبعضها الآخر تمثلها بلحمه ودمه ..
أما عن التدوين الالكتروني فاسمح لي بتبديل اللفظة إلى " انفتاح الكتروني " ، وهذا الانفتاح غدا بمثابة خشبة مسرح ، جمهوره من مشارق الأرض ومغاربها ؛ فهي تضع الكاتب على مشاهدات حية مع الآخرين ما يسمى بلغة تواصل وتحاور، بل وضعتني - شخصيا - في مواقف عديدة ، لعل من أكثرها طرافة حينما بعث لي مقدم إحدى القنوات التي تبث في دبي دعوة ؛ كي أشاركه في حلقة أسبوعية في برنامجه الذي يتحدث عن قضايا تواجهها المجتمع وجاءت استضافتي في حلقة من حلقاته ، الأمر برمته أدهشني فثمة مختصون أجدر مني بكثير يتناقشون في مثل تلك القضايا ، وحينما استفسرته عن سبب اختياره لي قال بأنه تصفح مدونتي وشعر بأنني مختصة في مثل هذه القضايا التي تعنى بالجوانب النفسية ..!
وكما في كل دعوة تصلني دائما أقدم لهم اعتذاري بلباقة ؛ لأنني بكل بساطة وأقولها على ملأ : لا أجد نفسي في الحوارات الشفهية ولا المقابلات الحية سواء مع التلفاز أو الإذاعة ..


2- كثير من الكاتبات يلجأن إلى القلم لسرد ما يحصل، مما يؤكد انهن خارج تيار الوعي النقدي الذي يوصي بالربط بين قضايا المرأة و الرجل بحركة الصيرورة التاريخية وتفاعل الإنسان مع حقائق الواقع المعاش و تبدلها في الزمان و المكان .. كيف ليلى البلوشي حاولت الانفلات من هذا الشرك الذي وقعت فيها كثير من كاتبات خليجيات وعمانيات يمتهن الكتابة التسجيلية ؟

لا أدري لم أشعر دائما بأن الكُتاب والكاتبات براء مما يكتبون ، والعلة في تناقض المجتمع الذي يتنفسون فيه ، أصبحنا نعيش في مجتمع ينجب في اليوم أكثر من ألف مفهوم ، وألف شكل إبداعي ، وألف تيار نقدي وهلم جرا .. ثم يقع كل ما ينجبه العالم من جديد على رأس الكاتب ..!
ساحة الكتابة الإبداعية لم تعد مساحتها مختصرة وضئيلة كسوق عكاظ القديم ، اليوم غدا الأدب شاسع المفهوم كبطن الحوت ، حتى ليشعر المرء بأن الأدب غدا موديل " عارض أزياء " والكتاب هم " مصممين " بينما النقاد هم " الحكم " على الأذواق والصرعات التي تظهر يوما بعد يوم بزخم غريب وغامض ومدهش ولاهث للغاية ..
كل يفصّل على مزاجه ، والكتابة كما يعرف مقترفيه مزاج ..
لكن الفارق أنه مزاج مسؤول في النهاية .. انظروا ماذا فعلت الكتابة مع الروائي الايطالي " روبيرتو سافيانو " ؛ المطارد حاليا من المافيا في كل بقعة من العالم ؛ فالكتابة كلفته راحته واستقراره ؛ لدرجة أنه لا يستطيع البقاء في مسكن واحد أكثر من أسبوع ولا التحرك من بقعة إلى أخرى مهما كانت ضئيلة المسافة دون حراسة مشددة ، والجرم نفسه اقترفته الكلمات مع الشاعر " والت ويتمان " حينما أصدر ديوانه الشعري " أوراق العشب " وطولب بجلده عقابا له ، ويومها قال : " توقعت الجحيم ونلته " ..!

الكاتب إنه ذاك الرجل الذي تاه بقاربه في النهر ، وكافح بما يفوق أضعاف طاقته الطبيعية في التجديف عكس التيار ؛ كيلا يسقط في الشلال ، وعلى حين فجأة لاحت له فكرة وطبقها ، جذف مع التيار ، بكل قوة نحو الشلال ، وصاح بأعلى صوته : الآن أنا حر ..!
وما أعظم الدور الذي تلعبه " الحرية " في حياة كل كاتب ؛ فهي أنشودتهم الأبدية التي لن تجد دربها إلى الأفول مطلقا مادام ثمة فرقعة روح في جسده المسجى ..!
والحرية أنواع ، منهم من يتوق إلى حرية شبيهة بحرية " لوركا " و" غيفارا " وهي حرية مخلدة في نظري ، ومنهم من يكتفي بتحرير ذاته الحبيسة في قمقم العالم الصغير الكابت على أنفاسه حتى الاختناق ، وهنا الحرية تغدو بمثابة أسطورة خاصة ..


3- دعينا نبدأ من مفهوم ( الإبداع ) كمنطقة مشتركة ننطلق منها إلى مساحات أرحب وصولا إلى قناعات حقيقية يمكن تأصيلها وترسيخها نقديا .. فالبعض يرى الإبداع ( تمرد ورفض وردة شبقها الهدم والبناء ) ، ولكنني أفضل المفهوم الذي يراه قراءة جديدة للعالم بالاختلاف والائتلاف.بل حرية تريد التموقع في الوجود وتجعل الكائن متحدا في الممكن المدهش الجميل .. كيف تنظر ليلى البلوشي إلى الإبداع بوجه عام ، وأدب المرأة بوجه خاص ؟

الإبداع بوجه عام أي بمفهوم شامل ومطلق هو ما يحاكي المشاعر الإنسانية ، فكل ما يكتب ثم يومض في داخلي ضوءا ما ، أهزوجة ما ، فرقعة ما كالألعاب النارية هو إبداع في نظري الشخصي ..
على سبيل المثال رائعة " نيتشه " وهو يتغنى بتلك العبارات :
" كأنه البحر قلبي شاسع
ووجهك فيه
مبللا بالشمس يبتسم "
الفيلسوف " نيتشه " هنا عبر بكلمات بسيطة جدا عما يجيش في داخله من مشاعر، لكن العبقرية تكمن في حسن ترتيب هذه الكلمات ، وهذا ما يسمى بالإبداع ..
فثمة في الكون كلمات كثيرة جدا وللازدياد يمكن الاستعانة بقاموس ، لكن اللغز الحقيقي يكمن في كيفية استخدام هذا الزخم ليغدو إبداعا بمفهومه الحقيقي ..
" الأدب المرأة " سأستعير عبارة من جدتي " غادة السمان " عن مفهوم أدب المرأة : " بالنسبة لي ، ليس مهما أن يكون ما تكتبه المرأة مشابها لما يكتبه الرجل ، فالمقياس في الأدب هو الوصول إلى الحالة الإبداعية بغض النظر عن الموضوع ، نسائيا كان ، أم إيديولوجيا أو سياسيا أو اقتصاديا أو فكاهيا .....، فلماذا يصير ما تكتبه المرأة عن امرأة " أدبا نسائيا " ؟ فهي حرة في اختيار مادة كتابتها وأبطالها " امرأة " ، أو " رجلا " أو قطة " .." ..
أنا شخصيا انتهيت من كتابة قصة جديدة بطلها " ذبابة " ، ولكن لا أدري تحت أي مسمى يدرج بطل قصتي " الذبابة " .. ؟!


4- أعتقد أن خطيئة ( أدب المرأة ) هو عجزه عن الانطلاق من معنى (إن الأنوثة هي الطاقة الداخلية المتحركة من الداخل الى الخارج في نسيج البنية التحتية للمجتمع وخليته الوحيدة ) بل زاد الطين بلة بأخذ يبحث عن تكامل العلاقة بينها و بين الرجل، و يعالج الموضوع من أبهت و أسخف جوانبه .. كيف عالجت ليلى البلوشي هذه العلاقة عبر كتاباتها القصصية ؟

في نظري ثمة خطأ شائع وكبير جدا ، ويبدو أن العالم من حولنا درج عليه حتى أضحى واقعا ..!
أولا دعني أوضح المفهوم الفارق بين لفظتي : " المرأة / الأنثى " من دراسة أجرتها الكاتبة الفرنسية " سيمون دي بوفوار " وضحت الفارق بين المفهومين بشكل لافت للنظر مفسرة : " اللبس الحاصل في مفهوم الكتابة النسائية ما هو إلا نتيجة للخلط المنهجي الحاصل بين صيغتين : صيغة " الأنثى والكتابة " وصيغة " المرأة والكتابة " ، فالصيغة الأولى تركز على أهمية خاصية لدى المرأة وهي " الأنوثة " وتلخص المرأة في صفتها الجنسية .
أما صيغة " المرأة والكتابة " فإنها تعتبر في المرأة الجنس والكيان والشخصية القائمة على البناء الثقافي ، باعتبارها مكملة لجنس الرجل في الحياة والمجتمع .."
إذن مفهوم " أدب المرأة " في نظري هو سخرية لاذعة قذفها العالم في وجه المرأة ؛ ليظهر لنا البون الفاغر بين ما يكتبه الرجل باعتباره حقا طبيعيا من المجتمع وبين ما تكتبه المرأة باعتباره قسرا .. فالمجتمع هنا هو العدو الحقيقي فهو مع حرية الرجل مقابل قمع المرأة ؛ لهذا يسعى بدأب غريب إلى استحداث مفاهيم فاصلة غرضها تهميش الآخر وقمعه والتسلق عليه ..!

5- إن المرأة مصنع من الأحلام ! هي حارثة مثالية لأوهامها الصامتة ! متفوقة في علم حساب الذات لكنها متمكنة في الوقت نفسه من إحداث الثقوب و التلصص على العالم من خلالها .. كيف تمكنت ليلى البلوشي من اختراق مشيمة عالمها والانفلات خارج دائرة الجنوسة ؟

ليست المرأة وحدها مصنع من الأحلام ، حتى الرجل لديه زخم من الأحلام يتوق إلى قبضها فهو ليس صخرة أو شجرة ..!
لا أدري إن تمكنت فعلا من ذلك ، لكن ما أدريه بكافة حواسي التي املكها هي أنني اكتب ببساطة مطلقة جدا ، وبعفوية كبيرة جدا ، وتلكما " البساطة " و" العفوية " يحركهما انفعال مهم جدا في كتابتي هو " الصدق " ..

المبدع لا يستحق صفة الإبداع إلا لكونه مجموع انفعالات إنسانية صادقة لا تنطلق من عالمه وحده بل هي خليط معاناة الآخرين وهو جزء منها ، الجزء الأهم ، فالبشر المنكوبون لا وقت لديهم لنقل خيباتهم إلى العوالم الأخرى ، إنهم مشغولون بترقيع جراحاتهم ، والمبدع وحده هو حامل الشعلة ، تلك التي تبرق في السماوات كلها ، فجراحات الآخرين هي جراحاته ..

وأضيف إليهم صفة تأصلت بقوة مرعبة في أعماقي : المسؤولية ..

6- كيف تناولت ليلى البلوشي قضايا المرأة العربية في أعمالها ؟ تنويه أنا أعتقد أن الإبداع ظاهرة إنسانية لا علاقة لها بالجنوسة واصطلاح ما يسمى بالكتابة النسوية مصطلح عنصري وزائف وكثيرا تبريري للتعبير عن الاضطهاد الذكوري المصطنع في أغلب حالاته !!

في بداياتي ، في كتاباتي القديمة كانت المرأة العربية شاغلي ، لكنني حاليا اكتب بشكل عام ، لأنه ليس ثمة معاناة المرأة وحدها ، نحن نحيا في كوكب ليست المرأة وحدها المعذبة فيه بل الرجل والطفل والشيخ الكبير أي الأسرة بأكملها كمفهوم مجتمعي ، ففي البلدان التي نكبّت بزلازل أو فيضانات أو براكين لم تكن ضحيتها المرأة فقط بل شملت أسرّ كاملة ، ولا أبالغ إن قلت إن معاناة الرجل في بعض الحالات أعظم من معاناة المرأة نفسها ؛ لأن الرجل مطارد من المجتمع بمفاهيم عتيقة لصقت به كالسلحفاة التي تحمل بيتها على ظهرها ..! لعل من أهم تلك المفاهيم " الشهامة " و" القوة " و" المسؤولية " لتكتمل أسطورة الرجولة وكثير من الرجال للأسف تنقصهم هذه الصفات ، لكنهم يدّعونها من أجل ارضاء المجتمع من حواليهم لا أكثر ولا أقل ، وهذا يحدث فجوة عميقة في داخله ، تشقه إلى شخصيتين ، شخصيته الحقيقية وشخصيته المدّعية وهنا يظهر الخلل ، والرجل حين يفشل في إحداث تغيير على واقعه الخاص ؛ فإن تأثير هذا العجز يكون شاملا لجوانب حياته العامة ويتبدى في هيئة عار وخزي من نفسه الضعيفة هذا من جانب ، بينما من جانب آخر الضغط المستمر الذي ينكل به العامة من حوله نتيجة شعوره بالنقص ؛ لهذا للاضطهاد الذكوري أسبابه ..
بينما المرأة ليست مطاردة بالمطالبة ؛ لهذا فهي ليست مضطرة أبدا للإدعاء سواء أمام نفسها أو أمام الآخرين ..

على مدى تلك القرون جرى تطبيع الرجل في أن يكون صاحب كلمة واحدة لا عدة كلمات ..! بينما المرأة حينما تقول شيئا ثم تتراجع عنه تبرر فعلتها بنبرة هادئة : حرمة ورجعت في كلامها ، هل ثمة مشكلة ..؟!

وسأختم هذا السؤال بانطباع الفيلسوف " أوشو " عن المرأة والرجل في كتابه " الحدس أبعد من أي حس " قائلا : " المرأة أكثر اهتماما بمكان وجودها ، باللحظة الآنية ، وهذا ما يجعلها أكثر تناسقا وجمالا ، أما الرجل يحاول دائما أن يثبت شيئا ما ، ولذلك يضطر للقتال والتنافس بصورة دائمة " ..


7- إن مفهوم الأنسنة يتطلب تجاوز مرحلة النظر إلى الجسد باعتباره محوراً وحيداً للعلاقة بين الرجل والمرأة. هل نجحت ليلى البلوشي في بناء شخصيات روائية تتجاوز هذه الحالة إلى ما هو أكثر جوهرية وعمقاً وحقيقيةً تستعصي على التزييف باعتبار أن شخوص الرواية مرآة واقعنا العربي ؟

لم اكتب الرواية بعد ، لكن سأقول : لماذا نضيّق الأدب في التجنيس دائما ..؟! الأدب ليس فقط قضايا المرأة والرجل ، ثمة قضايا وطن ، واقتصاد متهالك ، وبشر منكوبون ، وأطفال شوارع ، وكرة أرضية معرّضة لهزات وبراكين .. إلى لا آخره ..
انظروا إلى أعمال " كونديرا " التي يتزعمها المعلومة لا الإنسان ..!
لابد أن نرمم رؤيتنا للأدب ككل ، خاصة المعنيين به فئة الكتّاب ، على الكاتب أن يكون متفرجا ، يختار مقعده من العالم ويتفرج كمحايد ليس على الآخرين فقط بل حتى على نفسه ، هذا التفرج يجعله في مقام " المتأمل " فلا يفوته شيء من داخله وخارج العالم ، كما حدث مع بطل رواية " ألبرتو مورافيا " في روايته " البصاص " فالبطل هنا يراقب غيره وفي الوقت نفسه يراقب نفسه ، أو الأصح يختلس النظر إلى نفسه عبر اختلاسه النظر إلى الآخر ..!
ولا تستفزكم لفظة " التفرج " أيها القراء ؛ لأن الكاتب المتلصص على تفاصيلكم هو متفرج ومتفرج عليه في النهاية ..!
ثمة روايات شاملة ، غاصت في قضايا كبيرة وسرية ومقدسة ، على سبيل المثال لا الحصر رواية " كافكا على الشاطئ " للياباني " هاروكي موراكامي " ورواية " أرجوحة النفس " لـ " هرتا موللر " ورواية " أطفال منتصف الليل " لـ " سلمان رشدي .. هذه الروايات الثلاث التي ذكرتها لكل منها حس تاريخي وإبداعي خاص ، وفي الوقت عينه تضع القارئ على دراية بما يجري مع الآخر في عالمه المكاني والزماني المختلف عنه .. هذا التنافر في العلاقات يعجبني كثيرا ..

الاثنين، 1 نوفمبر 2010

القاصة أزهار أحمد في " أنا ويوكي " والحصان الذي فقد ذاكرته " ..



القاصة أزهار أحمد في " أنا ويوكي " و " الحصان الذي فقد ذاكرته " ॥

القاصة " أزهار أحمد " من الكاتبات اللاتي يشهد لهن بجهودهن الكبيرة في مجال ارتقاء ونهوض أدب الطفل في سلطنة عمان ، ليس على مستوى الإصدارات الطفولية الموجهة للطفل والتي صدر لها منها حتى الآن مجموعتين ، بل يضاف لها جهودها المتفرقة الشخصية للاهتمام بالطفولة في مجالات عدة ، توثقت بعضها في إنشاء ورش خاصة للأطفال تعنى بتعليمهم أساليب الكتابة القصصية ، وكل هذا يجعلنا أمام كاتبة طموحة ومعطاءة ولها غايات كاشفة كالشمس للارتقاء بالطفولة في مجالات شاسعة ..

* * *

* استثمار وقت الفراغ في " أنا ويوكي " 1

" أنا ويوكي " مجموعة تخاطب الناشئة ما بين 12 إلى 18 سنة ..
فالكاتبة وظفت شخصيتين لسرد مجموعة حكايات ، تمر بهما ذينك الشخصيتين في أحداث الحياة اليومية ، وهما في العقد الثاني من عمرهما ، التقيا في معهد للدراسة بمدينة " يورك " جنوب بريطانيا ..
لسان الحكاية الفعلي هي " ندى " وهي فتاة خليجية من سلطنة عمان ، تحكي قصصا ووقائع مختلفة جمعتها وصديقتها من أصل ياباني " يوكي " ..

ومن خلال ذلك نرى أمامنا مجموعة قصصية اعتمدت في سير أحداثها على بؤرة الشخصيات ، بمعنى أننا أمام قصة شخصيات ، وفي مثل هذا النوع من القصص تكون الشخصية هي في واجهة العمل القصصي ، وذلك يستدعي من الكاتب جهدا كبيرا ؛ كي يدعم شخصياته بشكل جيد في سرد الأحداث والوقائع يوظفها معها جنبا إلى جنب ، حتى تكون مؤهلة للقيام بدورها الحيوي الفعال ويضيف إليها من الخيال والمرح والحماسة ؛ لتؤثر في كيان الطفل وتدفعه دفعا إلى متابعتها بتشويق كبير ..

ومن جانب آخر نجد عناية بالأسلوب التحليلي حيث جاء على وفاق مع الشخصيتين ؛ فقد وصفتهما الكاتبة ورسمت حالتهما النفسية في مواقف مختلفة ، فثمة انفعالات محتشدة من الفرح إلى الدهشة إلى الحزن إلى الخيبة إلى الفزع إلى الضحك ، وهكذا جاءت خليط تلك الانفعالات بمرتبة مثيرات توقظ أحاسيس الطفل وتحرك مشاعره ، ليكون بذلك متعاطفا معها سعيدا لسعادتها وخائفا لخوفها .. انفعال فرح في قول ندى : " وقبل أن نسمع نداء القطار شعرت أني سعيدة وأكاد أطير من الفرح " ..
وانفعال حزن : " نظرت يوكي إلى نظارتها الجديدة المحطمة بحزن .." .
ولكي تضفي الكاتبة مصداقية أكبر وتفاعلا من قارئها الصغير ، فإنها جعلتهما تتحدثان بضمير المتكلم ..
وتكاد تخلو المجموعة من صراعات كبيرة التي تتأزم بها الأحداث ، فمعظم الأحداث هي خلق حياة يومية ، جاءت عادية لكنها في الوقت نفسه عرفت جيدا كيف تحول عاديتها إلى عوالم لا تخلو من الدهشة والفرح والامتلاء ، لتعطي بذلك انطباعا بهاجس الإمتاع ، ولعل خلو المجموعة من أزمة العقد الكبيرة والصراعات الممتدة هذا ما حررها من عناصر الثبوت في المكان والزمان ، فنحن هنا أمام مجموع أمكنة ومجموع أزمنة ، يختلف تعاقبهما تبعا للأحداث المختلفة ، وعنصري المكان والزمان هنا تشكلان انفتاحا على عوالم الكبار ، فمكان هنا هو : معهد الدراسة / سينما / سوق / رحلة إلى البدو / شاطئ ..الخ .
كما الزمان : الصباح / مساء ..

أيضا لا أفكار محددة ، بل هي خليط من أفكار طارئة بالتحديد نظرا ؛ لأن الشخصيتين هما في سن البلوغ تعشقان المغامرة وتحبان التجريب ، تحرصان على إنجاب أفكار مغامرة وضجها مع الأحداث اليومية ، هي أفكار خاصة ، مستقلة ، وكأنهما تخاطبان الطفل على أن يجيد طرح أفكاره الخاصة ، وأن يعرف جيدا كيف يصنع من أفكاره عالما مستقلا بالدهشة والجمال ..

والمجموعة هنا عنيت بأطفال تعدوا مراحلهم الطفولية الأولى وهم على أعتاب المراهقة والبلوغ ، وهي مرحلة حرجة جدا في حياة الطفل تصاحبها تغيرات على عدة أصعدة نفسيا وجسديا ، كما أنها مرحلة انتقال الطفل من طفولته إلى عالم يضج بالكبار ، ومن المهم جدا أن نهيئ الطفل لعالمه الجديد ، أن ننبهه إلى جماليات ومتع هذا العالم بكل اختلافاته وتغيراته ؛ فهي مرحلة عمرية لا تقل إمتاعا وأهمية عن المرحلة الطفولية التي كان فيها بأحلامه وتطلعاته ، بأحاسيسه ومشاعره ، بكافة مزاجياته وتقلباته ..
جاءت أحجام الحكايات متفاوتة من حيث عدد الصفحات ومعظم الحكايات تتعدى الصفحة الواحدة مع حوارات قصيرة نراها هنا وهناك في عمق الأحداث وبذلك نحت نفسها عن مطب الترهل ، رغم أن ذاك السرد الطولي مع معظم أحداث المروية يتماشى مع المرحلة العمرية ، فالقصص هنا لا تحاكي أطفال ما بين الرابعة والتاسعة ، بل ناشئة على أعتاب المرحلة الطفولية المتأخرة مثلما أوضحنا سابقا ؛ ويبدو أن الكاتبة أدركت نهجها الحكائي مذ البدء حيث أنها نوعت في حواراتها رغم قصرها إلى حوارات خارجية وأخرى داخلية ، الحوار الخارجي في مثل قول : " أخذنا هدايانا ويوكي تقول بامتعاض : يا لها من مفاجأة ، أما أنا فكنت هادئة وصامتة وقلت في خوف : كدت أجربه ، هل تصدقين ..؟ " ..
والحوار الداخلي : " قلت في نفسي : ها يوكي أنت الآن لست غاضبة وتأكلين حلاوتي أيضا " ..
وتعاقبت أساليب ما بين الإنشائي والخبري خصوصا في افتتاح مطلع الحكايات ، ففي الحكاية الأولى من المجموعة المعنونة بـ " أنا ويوكي في مقاطعة البحيرة " تقول الكاتبة على لسان الشخصية بأسلوب خبري : " حين كنت في العشرين من عمري وكانت يوكي أكبر مني بعام واحد ، التقينا في معهد للدراسة بمدينة يورك جنوب بريطانيا .."
بينما الإنشائي تبدى في قصة " أنا ويوكي نلعب البولينج " وتقول افتتاحية القصة : " هل تعلمون شيئا ..؟ في هذه القصة ستحبونني كثيرا .." ..

كما عنيت الكاتبة بلغتها جيدا ، فجاءت راقية ، موحية ، حركية ، منفعلة حيث يستدعي الانفعال ، لغة مطرزة بالصور التشبيهية والكنايات : " كان يقف كالتمثال ضاما يديه إلى صدره " ، " الجبال مكسوة بالأزهار والبحيرات مغطاة بالطيور والسماء جميلة وصافية " ، " كأننا ثبتنا بمسامير في الرمال " ..

يضاف لهذه المجموعة " أنا ويوكي " ؛ أنها تعلّم الطفل كيف يستثمر وقت فراغه ، كيف يحوّل أحداث اليومية العادية في حياته إلى أخرى مضمخة بالتشويق والدهشة ، إنها تضج فيهم حب الحياة وتجريبها على نحو ممتع قدر المستطاع ، وقد وظفت الكاتبة رسالتها هذه في ثنايا حكاياتها ودعمتها بعنصر مهم وهو الطرافة ، وهذا بدوره قضى على رتابة عادية الأحداث كما أنها غلفتها بعنصر آخر لا يقل عن الأول أهمية وهو عنصر الضحك ..


* عناوين مبتكرة وأفكار عصرية في " الحصان الذي فقد ذاكرته " 2

ما يثير لوهلة أولى في هذه المجموعة التي تتناسب وأطفال تتراوح أعمارهم ما بين 5 و 14 عاما ، هو العنوان المعنون به المجموعة بـ " الحصان الذي فقد ذاكرته " ؛ هذا العنوان ينجب دفقة من التساؤلات المدهشة التي ستطرأ على عقل قارئها مهما كان سنه ، ولا يتوحد هذا العنوان الذي يشكل مفتتح القصص كلها في عامل الحفز ، فثمة عناوين أخرى في المجموعة نفسها تتميز بقدرتها العالية على الإثارة والجمالية والغرابة في الآن معا ، على نحو: " صائد الأحلام " ، " العلكة السحرية " ، " مصباح أديسون " ، " السمكة المنفوخة " وغيرها من العناوين في مجموعة واحدة من شأنه أن يخلق إبداعه المتفرد ، ولعل من أهمها هي الحيرة التي يجد القارئ الصغيرة نفسه أمامها ، فأي قصص المجموعة سيبدأ في التهامها مشبعا به شغف فضوله ، أيبدأ بقصة التي انتقتها الكاتبة لتتصدر غلاف المجموعة أم بقصة الأولى أم الثالثة أم الأخيرة ..؟ أتوقع أن حيرة كهذه غرست بشكل أو بآخر في عقل القارئ الصغير ..

العناوين المبتكرة جذب معه أفكارا متعددة وشخصيات متعددة بتعدد أفكارها ، ففي القصة الأولى من المجموعة والتي عنوانها " صائد الأحلام " بطله صبي في 12 من عمره ، يريد أن يصيد الأحلام ويجمعها في علب ، ثم يصنع منها سلعا رائعة ملونة ..
وفي قصة " العلكة السحرية " ثمة دمية على هيئة كلب ، لديها القدرة على الكلام وتمضغ علكة سحرية تقوم بأفعال سحرية حيث تطير مع صاحبتها إلى غيمة ..
بينما قصة " مصباح أديسون " بطلها طفل مر بتجارب مؤلمة حيث مات معظم أقربائه ؛ وهذه التجارب الموجعة عن الموت جعلته يتحدى الموت بشتى الأشكال ردحا من الزمن في حياته ، وهذه القصة تطرح تساؤلات فلسفية بريئة في ذات الوقت يحاول فيها الطفل أن يعرف ماهية لغز الموت من خلالها حيث يقول : " ما هو شكل الموت ..؟ متى يأتي ..؟ وهل هناك أناس يختارهم ..؟ هل يتربص بأحد معين ..؟ " ولكنه في ختام القصة يعرف أن العمل وحده هو ما يجعل الإنسان يتغلب على شعور الموت ، بالروح يبق المرء لا بجسده وحده ..
في حين تصدمنا القصة التي انتخبتها الكاتبة لتتصدر غلاف مجموعتها القصصية " الحصان الذي فقد ذاكرته " فنجد أمامنا حصانا اسمه " الأبيض الأسرع " رائع الجمال ، ممشوق ، لونه كالثلج ، ومن أذكى الأحصنة وأنشطها .. ولكم ينخدع الطفل بهذا الوصف الافتتاحي الذي أطلت به القاصة بطلها في المجموعة ، لتصدمه على حين فجأة بأن هذا الحصان نفسه التي تحدثت عنه بكل تلك الروائع يعاني في إحدى الصباحات من فقدان ذاكرته ، ولم يكتف بذلك بل طفق يقوم بممارسات تخالف واقعه المخلوق كحصان ..!
وتستمر قصص المجموعة في عرض أفكارها التي تتصف معظمها بالغرابة ، كما وظفت الكاتبة فيها جرعات من الخيال في كل قصة بمقاطع من الأحداث تنافي الواقع ، تستفز عقل الطفل تدفعه إلى التخيل الابتكاري ..

ويمكن وصف هذه الأفكار التي انتقتها الكاتبة لعرض أحداث قصصها بأنها أفكار عصرية ، تحاكي الواقع الحالي الذي يعيش فيه الطفل ، حيث العولمة غدت مثل محقق الأمنيات بالنسبة له ، فما يكاد يتمنى شيئا حتى يجده منتصبا أمامه بطريقة أو بأخرى ، فعالم الطفل اليوم زاخر بأشياء كثيرة على مستوى البرامج الترفيهية والألعاب الالكترونية والمواقع المعروضة والمسابقات القائمة كلها تخاطب الطفل وتهيئ له مطالبه ، لهذا على كاتب الأطفال أن يراعي هذه التطورات وأن يكون جاريا لها ، كي يحقق أهدافه التربوية من عرض قصص تلامس في الطفل فضوله ، تضج خيالاته بأفكار إبتكارية تصنع منه طفلا مبدعا ، يفكر ، يخترع ، ينظر إلى الحياة نظرة مغايرة تحفز فيه ممارسة دوره بأي شكل من الأشكال ؛ ليغدو صانع مستقبله مذ هو طفل صغير .. هذا ما يؤكده " فيشر " : " إذا كان على أطفالنا أن يتوقعوا إشكالية التغيير، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي ، وأن يتغلبوا عليها ويتعلموا مواجهتها ، فإنهم بالإضافة إلى حاجتهم إلى تعلم كيفية التأقلم مع المستقبل ، فإن عليهم أن يتعلموا كيف يشكلون أيضا إذا كان إعداد الأطفال لمواجهة التغيرات السريعة هو أحد تحديات التربية ، فإن تعليمهم التفكير بإبداع يصبح حاجة ملحة " ..

كما نرى أن الكاتبة اختارت في مجموعتها هذه التنوع على مستوى اختيار الشخصيات ، فنجد أمامنا شخصيات إنسانية كـ قصة " صائد الأحلام " ، " مصباح أديسون " ، " أنا والبقرة والتلفزيون " ، حيوانات كمال " ، " صديق الكراكي " ، " بطل الغيوم " ..
وشخصيات حيوانية كـ قصة " الحصان الذي فقد ذاكرته " ، " السمكة المنفوخة " ، " الفيل المستقرس " ..
وشخصيات أخرى أنسنتها الكاتبة كـ دمية كلوب في قصة " العلكة السحرية " ..
ومما لا شك فيه أن التعدد في اختيار الشخصيات ، يحاكي مزاجيات الطفل ، فالطفل يضجر في بعض الأحيان حين تكون المجموعة زاخرة بشخصيات من نمط واحد ، بينما تعدد أنماط الشخصيات تحاكي أذواق الأطفال المتفاوتة والمختلفة بين كل مرحلة ومرحلة ، فالمعروف أن أطفال في مراحلهم الأولى تلاقي الشخصيات الحيوانية النسبة الأكبر من اهتمامهم ، بينما أطفال في مراحلهم المتأخرة يميلون إلى قصص ذات شخصيات إنسانية ؛ لكونها بالنسبة لهم واقعية أكثر مهما غدت غريبة في عرض أفكارها ..

ثمة ثيمة مشتركة سيطرت على بعض شخصيات المجموعة ، وهذه الثيمة هي " ثيمة الأحلام " فبعض الشخصيات شكلت الرؤى التي يراها في الليل دورا كبيرا في هامش حياته ، كما نجد في القصة الأولى من قصص المجموعة " صائد الأحلام " ، وقصة " أنا والبقرة والتلفزيون " ، وقصة " صديق الكراكي " ، " حيوانات كمال " أخيرا قصة " السمكة المنفوخة " ..
وهؤلاء جميعا جعلتهم أحلامهم يتصرفون بتصرفات غريبة ؛ على سبيل المثال بطلة قصة " حيوانات كمال " يتخلى عن تناول جميع أنواع اللحوم ويصبح نباتيا ؛ لأنه حلم بكابوس مخيف يرى فيه فلاحا ضخما يسحب حيواناته من مزرعته يذبحها ويرميها في مرجل كبير يغلي ..

هناك قصة من قصص المجموعة تدعى بـ " قصة شادي الطويلة " ، نلامس أن هذه القصة وجودها خطأ في المجموعة الزاخرة بشخصيات متنوعة وأفكار مثيرة ، فهذه القصة موجهة للكبار وليست للصغار ، والشخصيات التي انتقتها الكاتبة هما اثنان شاب وشابة بالغان يناقشان أمورا يعنى بها الكبار سواء من حيث الاهتمام أو التصرفات ..
ولعل هذا يلفتنا إلى شيء مهم في قصص الموجهة للأطفال ، فسوف يلاحظ معظم الكبار الذين يقرؤون القصص لأطفالهم أو التي يقرأها الطفل بنفسه ، بأنهم دائما يركزون على الشخصية التي تكون في مثل سنهم ، فإذا ما كانت الحكاية زاخرة بشخصيات متنوعة من كبار وصغار ، فإن الطفل يركز جل اهتمامه في الحكاية على شخصية الطفل في القصة ؛ لأنها تحاكيه ، ولأنها تغري فضوله ، ولأنها تحرك غيرته نحوه فهو يريد أن يكون مثله بغض النظر عن الدور الذي يؤديه ، إذن الأطفال ينجذبون إلى شخصيات تماثلهم في المراحل العمرية ، وفي الاهتمامات ، وفي حس المغامرة ؛ لأنها وبإضافة ما ذكرنا من أسباب تمثل بالنسبة له قدوة يقتدي بها ..

تفاوتت القصص في تقديم شخصياتها في مفتتح حكاياتها ، فبعض القصص تقدم الشخصية في قالب تعريفي للأطفال ؛ وهذا من شأنه أن يوثق العلاقة بين الطفل القارئ وصاحب الشخصية كقصة " مصباح أديسون " : " يعيش سامي حياة هادئة مثلكم مع والديه وإخوته وأقاربه ، يذهب إلى المدرسة ولديه أصدقاء ومعلمات ومعلمون ، يحب السباحة والوجبات السريعة والآيس كريم ..." .
وبعضها الآخر تدخل في موضوعها مباشرة دون تعريف بالشخصية كقصة " كليلة والأستاذ سعيد " : " بينما كانت البعوضة كليلة تطير وتصورت عند نافذة بيت الأستاذ سعيد ، رأت بقعة حمراء كبيرة على طاولة .."

ولا يغيب عن المجموعة التوافق بين رؤى الكاتبة للأشياء وتصوراتها لها وبين رؤى الأطفال لها ، ومن المهم جدا أن يراعي الكاتب قصص الأطفال هذا التصور التعبيري للأشياء .. ولكل قصة زمن ومكان وحدث وصراع وشخصيات ، ويمكن وصف العقد في القصة لم تكن في الأحداث ولكنها جاءت للأفكار الغريبة الطارئة التي يفكر بها كل شخصية ولهذا تتماثل شخصيات الكاتبة هنا في غرائبية خيالاتها ، كما اتضح عناية الكاتبة بلغتها حيث أنها لغة متمكنة في إيصال أفكارها للطفل ، وموصوفة بأبعادها الواقعية والشاعرية في الآن معا ..

الحكايات هنا تحاكي البيئات القريبة من الطفل ، والطفل حريص على أن ينبت إبداعه في هذه البيئة ؛ لرغبة التفرد في الانجاز وللتمتع ، وتحرضه على التفكير الإبداعي ، وتقول له بحب كبير أن ثمة متع في الحياة جديرة بصيدها كما الأحلام ..


على هامش النقد الفني :

مجموعة " أنا ويوكي " جاء غلافها متوافقا مع المرحلة العمرية المخصص لها ، الصور متناثرة في الصفحات وتفاوت الألوان ، لكنها جاءت غامقة توحي بأجواء الكآبة أكثر منها بالفرح ، فالأطفال في كل مراحلهم الطفولية يميلون غالبا للألوان المبهجة والفاتحة في درجاتها ، كما نوع الخط جاء متعبا للعينين ..
بينما نجد المجموعة الثانية " الحصان الذي فقد ذاكرته " أن المجموعة هنا استوفت الشروط الملائمة لكتاب الطفل من حيث الغلاف السميك غير قابل للتمزق مطلقا ، والخطوط الواضحة والألوان والرسوم المليئة بالفرح والمعبرة بشكل جيد عن شخصياتها ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ " أنا ويوكي " حكايات للناشئة والشباب ، أزهار أحمد ، الغلاف واللوحات الداخلية حسني مجاهد ، المراجعة اللغوية هشام حمزة ، مطبعة المستقبل ، أبوظبي ، ط1 ، 2007م .
2 ـ " الحصان الذي فقد ذاكرته " ، أزهار أحمد ، رسوم ابتهاج ، النادي الثقافي ، ط1 ، 2010م .



ليلى البلوشي

الأحد، 19 سبتمبر 2010

ذاكرة " منصور الصويم " شريرة


ذاكرة " منصور الصويم " شريرة *

" يظهر الشر عندما يسودنا الاعتقاد أن كل شيء يمتلكه الآخرون هو من حقنا " ..

- باولو كويليو -
* * *

هل ثمة بشر متجذرون من نبتة خبيثة وأخرى خيرة ..؟! ولماذا نحكم على زمرة من البشر بأنهم أشرار بينما يغدو بعض الآخر حاملي خير ..؟! من أين وكيف يتوالد الشر والخير في قلب الإنسانية .. ؟! هذه الأسئلة ولدتها في عقلي رواية " ذاكرة شرير " للكاتب السوداني " منصور الصويم " ، فأن تكون أمام ذاكرة متعفنة بالشر ، ليس بأي شر إنها ذاكرة لم تكتف بشرها ، شر الإنسانية بل قفزت إلى عوالم أخرى ؛ كي تستنهض جبروت الشر ، طوفانه ، فرعونه بعد أن اعتقدنا من أنه مات مذ زمن موسى ..
نجد تواطؤا وثيقا ، متناميا ، بين المكان والذاكرة هنا ، إنهما أشبه بتوأمين سياميين ، فالمكان هو مجموع أمكنة والذاكرة تغتذي عليها ، تكبر ، تنمو ، تثقل ، تغدو بشهية حوت وبشساعة صهريج والشر فيه ومنه وعليه أعلاه وأسفله ، كله..
تقول الذاكرة التي تقر بوجودها الخام ، ببراءتها الأولى ، بكينونتها الداخلية قبل وئدها : " أنا كسحي .. آدم كسحي .. أنصت الآن بكياني ومسامي ، بتاريخي ، وذاكرة أيامي الماضية ، أنصت إلى القطار ، إلى صافرة القطار ، إلى اهتزاز عرباته وتوجع وأنين سكته الحديد " ..
هذه ذاكرة آدم كسحي ، الطفل ، قبل أن تضيع في متاهات ذاكرة الآخرين ، قبل أن تؤثثها كل آخر على هواه ، ويختلي فيه وكأنه ملك مدفوع الثمن ، وآدم كسحي لا في العير ولا في النفير ، والذاكرة تنتشله من امرأة إلى امرأة ، وفي شرهن تتماهى ذاكرته ببصمتهن ، وما أجمل شر النساء ..!
كانت أولى نساء الذاكرة ، ذاكرة كسحي هي أمه " مريم الكراتيه " المرأة الفاتنة ذات شعر ناعم ، شبق جنود ورجالات الأمكنة كلها ، حضانته الأولى ، في حجرها والعربة تجرهما والذاكرة هنا درب ، بداية درب .. وحين يبصقها الدرب إلى حتفها يجد كسحي نفسه على ظهر وهيبة .. الأم البديلة ، وهنا الذاكرة تسترخي ، تستطيل ، تتشكل على مهل ، على ثرثرة النساء ، على دفئهن ، على أنوثتهن الطاغية وهن يكبرن حبة حبة ، كما الذاكرة المشتهاة ..
بين كل هؤلاء النسوة بأريج فتنهن هل تبقى " مريم كاراتيه " ذاكرته الأولى متشبثة بجدار ذاكرته وكأنها لم تأفل ولا ثانيه عنها ، وتتوجع الذاكرة حين ترفع صوت اعترافها : " أينسى الطفل سريعا ، يتجاوز الفقد والاحتياج ، ويتحايل على الحياة ؟ هل نسي الطفل ، آدم ، الكائن الوحيد الذي عرفه ، الذي ظل طيلة أعوامه الأولى ملتصقا به ؟ سقطت مريم العظيمة من الذاكرة ، تفرقت في روائح شتى ، وعيون عدة ، وضحكات مباغتة .. صارت ذكرى بعيدة ، تنتمي إلى زمن قديم ومشوش ، آدم ، الطفل الجميل ، ذو الوجه الملائكي ، وهب نفسه لوهيبة .. " ..
" وهيبة " المرأة الحنون انتشلت الكسحي من متاهات شر النهار لتقوده إلى أمان شر آخر ، إلى شر مسقوف ، في بيت كبير إلى غرف وصالات ، بأثاث ثقيل وخفيف ، مستورد وغالي ، المكان مدهش ومبهر ، وذاكرة الشر في بحبوحة العيش تتلمس ثلاجاتها المتعددة وتلفزيوناتها الملونة ، الغريب العجيب من الأجهزة الالكترونية والكهربية ..
وفي القاع ، في مخابئ سرية ، يهجس لسان الشر طلاسم فك السحر ، أسرار طرد الشياطين ، ردء العيش إلى حفظ ورد الأبواب السبعة بمقاطعها الثمانية والثمانين ، إنه شر مصاب بفصام الأمكنة ، فالمكان هو من ولّد هذا الشر ، وهو شر الأقنعة ، شر الشياطين ..
والذاكرة كريمة بالنساء ، خصبة بمرابعهن ، مطلقات يبحثن عن سبل لإعادة أزواجهن ، متزوجات يسعين إلى تقييد أزواجهن برباطهن إلى الأبد ، صبايا وعوانس يحلمن باستجلاب عرسان قبل احتراق العمر ، عواجيز ينقبن في حيوات لا تخصهن ويحلمن باستعادة الضائع من أعمارهن .. وكسحي يسير على خطى نصيحة الشيخ إنه يغرقهن في الوهم ؛ كي تبقى ذاكرته متوقدة بهن .. وبـ " سنية الحلبية " وهي ربق ذاكرة آدم كسحي ، ناره التي إذا ما تأججت من هولها ما انطفأت : " رغبت في تفاصيل جسدها ، مستصحبا حريق أيامي الماضية ، واهبا بعنفوان طليق لذتي لأولى النساء ، وأكثرهن قدرة على الإشباع ، المعلمة الأولى .." ..
وتتراجع ذاكرة النساء ، فالكسحي يهرب منهن ، من الشيخ الذي استهلك جل فحولته لإطعام نسائه الجوعى ، يهرب إلى مكانه الأول ، فالذاكرة والمكان في شراك عناق أبدي ، ولا يتوق الهرب سوى إلى موطنه الأول ، حداثة عهده ، ذاكرة الذاكرات : " هناك عند المثلث أعود مثلما كنت .. منكفئا على نفسي ، عيناي مغمضتان ، أبعدني بطيئا عن أصوات العربات ، وعن الأبواق الهادرة ، وعن روائح الاحتراق ؛ أغوص بداخلي وأنقب بقلب واجف عن صدى أيام غابت إلى الأبد " ..
وهناك في عراء أمكنة الشمس تتقدس ذاكرة النساء في " مريم العذراء " تستغيث بها الأمان المفقود ، فثمة عيون مأفونة بالشر تكاد تلتهمه بل التهمته : " مريم الرسولة تواجهك باسمة وشحوب الزمن قد اعتلى ثوبها الأحمر المتموج .. تبتسم لها قبل أن تلتقي عيناك بالعيون الشريرة المحدقة بك في ظفر .. الحذاء الضخم يضغط بقوة على صدرك .. العصي المكهربة تتأرجح قرب وجهك " ..
إنه شر وليس شر .. شر الطيبين ، العاجزين ، المنكسرين ، الظمأى ، الجائعين ، معاقي الحرب ، المجذومين .. شر يحبل بالنهار على ضوء الشمس لينسى في الليل عتمته و ثقله بغفلة النوم وغفلة اللذة ما استرقه النهار من براءته ، من حريته ، من مبان شاهقة ما كانت قاماتهم لتطولها ؛ فلفظتهم وألقت بهم في حفر الشماسة والطين وعفن السلسيون ، واستجداء لا ينتهي ، يتوالد بأكثر من طريقة ، بألف وجه ، بألف يد ورجل لكنه لا يموت ، يخنق من حرياته كما الأسد عن عرينه بين جدران موصدة الأبواب ، حبس مؤقت عن وطن لا وطن ، عن وطن خلق لهم وحدهم مذ انتشلتهم أمهاتهم من ظلمة الرحم إلى ظلمة العالم الشرير ، ذاكرة الكسحي وذاكرة الشماسة والمتسولين هي ذاكرة عالم ولد ليكون شريرا ؛ لأنه يبغي أن يحيا كما يحيا كل آدمي على سطح أرض صلبة ، ولكن الفارق هي أن أرضهم مذ الوطأة الأولى هشة ورغم ذلك أقدامهم ما انفكت ملتصقة بها حتى آخر رمق رغم هشاشة الموطن ..
والشر ، الشر كله دائما إذا ما وعد وفى ؛ فالشر لا يخلف مواعيده أبدا ، وآدم كسحي أيقونة عالم شرير وعدنا بعوده ، بعد ذاكرة امرأة ملعونة وأدته مؤقتا ..

* * *
" هل يموت الشر ؟
هل للخير
في زحمة الشر
سمات ومزايا ؟ "

_ عبدالله البردوني _

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· رواية " ذاكرة شريرة " للروائي السوداني منصور الصويم ، الحاصلة على جائزة الطيب صالح للرواية في عام 2005م .

الاثنين، 6 سبتمبر 2010

اكتب حلمك قصة



اكتب حلمك قصة / فاصل السباعي

كنت جالسا في شرفة المقهى المطلة على الشارع ، لمحت بين المارة رجلا نبيل السمت ، خيل إلي أنه من أصحابي القدامى .
فجأة اعترضه أحدهم ، وأخذ يجاذبه الحديث ، ولكن الحديث ، الذي تخللته البسمات ، سرعان ما انقلب إلى تجهم وعبوس أبداهما الآخر ، فأذعن له من خيل إلي أنه صاحبي ، وارتد عن طريقه ، ومضى أمامه ، وذاك في إثره على مبعد خطوة أو خطوتين ..
وما هي إلا لحظة حتى انضم إلى المرفق ثان وثالث ، فتوقف صاحبي ، والتفت إليهم يحاورهم ... فإذا الحوار ينقلب إلى مشادة رأيتها غير متكافئة ..!
دخل في روعي ، وأنا أشهد من شرفة المقهى ، أن بريئا قد وقع في محنة ، فاستثيرت نخوتي على نحو متعاظم ، وزين لي أن أفعل من أجله شيئا ..
نزلت إليهم ..
كان الصاحب القديم قد أسس لهم قياده ، هو ذا يمشي أمامهم طائعا ، وهم يحيطون به ، من وراء ، على شكل " قوس " ..
اقتحمت القوس ، لأهمس في أذن صاحبي : ما بالك ؟
أجابني ، دون أن تختلج في محياه خالجة : يريدون أن يقتادوني إلى السجن ..! فتراجعت نحو ثلاثة : بأي حق تقتادونه إلى السجن ..؟
أهاب بي أحدهم : امض في طريقك ، نحن من رجال الأمن ..!
أجفلت بادئ الأمر ، ولكن حذرا استفاق في صدري ، نبهت الصاحب : يقولون إنهم من رجال الأمن ... هل طالبتهم بأن يطلعوك على بطاقاتهم الرسمية ..؟
قهقه عاليا : وكيف يكونون من رجال الأمن ، وأنا نفسي رجل الأمن ..؟!
وإذ سمع الثلاثة ذلك لاذوا بالفرار ..!
شعرت بنشوة الظفر :
ما دمت رجل أمن ، أيها الصاحب ، فلم لم تصرح لهم بذلك من البداية ؟ وأدركت أنه هو الذي كان ينصب لهم شركا ..
أعلن : ولكني لست من رجال الأمن ..!
وفي غمرة ما اعتراني من ذهول ، ألوى علي يسألني منتهرا : وأنت من تكون يا رجل ..؟
فتبدد ظني بأنه صاحب لي قديم ، واندفعت أقول : أنا ....... رجل أمن ..!
فأمرني متجهم الوجه : أرني بطاقتك الرسمية ..!
ومن عجب أني ما كدت أدخل يدي في جيب سترتي ، حتى رأيته يرتد إلى الوراء ، مطلقا ساقيه للريح ..!
ومضيت ، في مواجهة الشرفة الوسيعة ، أمشي مختالا ..
فجأة اعترضني رجل غريب ، شديد البنية : ما حملك على اعتراضهم ..؟
كان يشاهد ، إذن ، من الشرفة كل شيء ..
استهنت به ، وقد دخل في وهمي أني من رجال الأمن حقا : وما خطبك ، يا هذا ..؟
أسألك : من أنت ..؟
أنا .... رجل أمن ..!
هلا أطلعتني على بطاقتك الرسمية ..؟
أدخلت يدي ، ثابت الجنان ، في جيب سترتي ، وأنا أتوقع من الغريب أن يلوذ بالفرار ..
ولكنه ظل يحدجني بنظرة بددت وهمي العظيم ، ولما لم يكن بد من أن تخرج يدي بيضاء ، فقد أدركت أني وقعت ضحية لنخوتي الفضولية ..
أمرني : هيا سر معي ..
سألته بلهجة بعيدة عن الاستهانة : هل تسمح بأن تطلعني على بطاقتك الرسمية ، أيها السيد ..؟
ولكنه لم يحفل بطلبي ، بل تأبط ساعدي ، وعانق بكفه القاسية كفي ، لاويا معصمي حتى أحسسته يتقصف ، مضى بي ، وقد داخلني شك في أن يكون رجل أمن حقيقيا ، وإلا لم َ لم يبرر لي بطاقته الرسمية ..؟!
وكنت ما أزال أمام المقهى ، رفعت عيني إلى الشرفة ، التي غصت الآن بالرواد ، وهم جميعا يتطلعون إلي ..
أعليت صوتي مناديا : يا أهل النخوة ، خلصوني ..!
فانطلقت من صفوفهم ضحكات عالية ..
إني في محنة .... فخلصوني ..
وتعالت ضحكاتهم الصاخبة ، حتى سدت آذان السماء ، فبدوا لي كأنهم نظارة في شرفة مسرح ، يتابعون ، متلذذين ، آخر مشهد من مسرحية هزلية ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاضل السباعي :

ولد في حلب ، عام 1929م ، درس في كلية الحقوق بجامعة القاهرة ، وعمل محاميا بحلب ومدرسا ، بدأ بنظم الشعر ثم تحول إلى القصة منذ منتصف الخمسينات ، وكتب أيضا المقالة والنقد وقصصا عن اللغة الفرنسية والانجليزية والألمانية والروسية ولغات أخرى .. عضو مؤسس في اتحاد كتاب العرب 1969م ، وأسس دار أشبيليا للنشر والتوزيع ..
له مؤلفات كثيرة منها : أزهر الحزن / الألم على نار هادئة / اعترافات ناس طيبين ..

الاثنين، 30 أغسطس 2010

سجين لأنه عربي ..!



سجين لأنه عربي ..!

في مقال جميل للكاتب الإماراتي " أحمد راشد ثاني " والذي جاء بعنوان " سجين اللغة الواحدة واللغتين والشقيقة " * يسرد في مقدمته اعترافا مؤلما : " للأسف ، أنا سجين اللغة الواحدة ، ولعلي أحس بضغط هذا السجن حين يتحدث أصدقائي عن اطلاعهم على مواد أو كتب باللغات الأخرى لا أستطيع الاطلاع عليها ، وبالتأكيد ، فإن الفجوة في حياتي بيني وبين التكنولوجيا وخصوصا : الهواتف النقالة والكمبيوتر ، تعود في جزء منها إلى ضغط ذلك السجن ، بل وأكثر ، فالمرء يحس نفسه معزول في بلد يزخر بعشرات الجنسيات وبالتالي اتفقت حياتهم على الحديث بلغة مشتركة ، هي في حالة دولة الإمارات ومنطقة الخليج الإنجليزية ، ولقد خسرت كثيرا من الصداقات نظرا لضعفي في التحدث بهذه اللغة أوغيرها ، وتكبد قلبي إخفاقات لا أظنها ستحدث لولا هذا الشؤم اللغوي " ..

غصّة الكاتب تذكرني بالغصّات التي شعرت بها ، كلما وقفت أمام المكتبة التي تقع في وسط " كارفور" في مركز منار في رأس الخيمة ، وأنا أرى أمامي آلاف الكتب بلغات أجنية متعددة ، أقف بالقرب منها ، لكن دون أن أدنو منها كثيرا ، دون أن أجسها بيداي وأتملى في صفحاتها كأي قارئة فضولية ؛ خشية أن يقترب مني البائع وهو يحييني بلغة اسبانية سلسة كاسباغيتهم الشهية ، ولا أعرف ببلاهة بأي لغة أرد عليه تحيته الشهية تلك ..!

وأكبر الغصّات كانت في العام الماضي في معرض رأس الخيمة للكتاب ، وأنا عابرة بخفة بين ممراتها ، لأجد أمامي جمهرة من الكتب ، مغلفة بشكل مثير لعين الرائي ، اقتربت منها ، حملت إحدى تلك الكتب وكأني أحمل قطعة أثرية ثمينة ، قلبت بشغف أوراقها الناصعة بالكتابة ، آلاف الكتب متراصة على انتظار ، تتلهف من يمد لها يدا حانية ولكن لا احد سواي ، لأن صفحاتها تتحدث باللغة الأوردية ، ولم استغرب عدم وجود البائع متربصا مشتريه ؛ لأنه يعرف جيدا أن تلك الكتب وضعت في مكان وبيئة خطأ ، أم أننا نحن المخطئون ..!

تجرعت يومئذ سؤالي المحطم وأنا والجة الجناح الإيراني ، تفاءلت خيرا حينما حياني المسئول عنه بلغة عربية دون أن يغادر صوته بحّة الحروف الفارسية ، رددت تحيته بأفضل منها مع ابتسامة تقول له بأنها تأمل الحصول على مبتغاها ، كتاب يتحدث عن إيران كمدينة وتاريخ وجغرافيا ..
حوطني بابتسامة أكبر أشعرتني باطمئنان كبير ، بينما صوته يسحبني خلفه إلى كتاب ضخم ، عريض الصفحات وسميك الغلاف ، متنوع ، مليء بالصور ، تحفة حقيقية تحكي بعمق عن إيران ومدنها وتاريخها وجغرافيتها وبشرها ، يستعرض عنها كما أريد تماما ، كما كنت آمل تماما ، لكن ليس بلغتي بل بلغتهم هم ..!
ولكن تلك الغصات لا تموت ، بل إنها ترافقني في كل معرض كتاب أي أنها " غصّات سنوية " ، ففي معارض الشارقة وأبوظبي لطالما جنبت زوايا الكتب المعروضة بلغات عالمية ، ينتصب بالقرب منها مترجمو اللغة ومتحدثوها ، بينما أمرّ عبرهم كسيرة الجناح والفؤاد واللغة ..
والغصة ليست على مستوى القراءة والتثقف الأدبي ، إنها قائمة وموجودة على كافة المستويات في كل الدول العربية أخصها بالخليج ؛ فالخليج غدت اليوم قبلة شعوب العالم المختلف ، متفتحة عليها من أصعدة عدة .. لكن ماذا أخذ منها شعبها ..؟!
هل ساهم هذا الاختلاط بكل تحدياته في إشكالية التغير ..؟ هل عرف أهل الخليج كيف يتكلمون اللغة الهندية والانجليزية والفلبينية والفارسية وغيرها من اللغات رغم التحاشد المستمر عبر تلك السنوات ..؟!

يحاول العربي أو الخليجي تحديدا إلى أن يخاطب الآخر بلغته ، حتى وإن كانت الحروف تخرج منه مكسرة ولا يفهم منها سوى الإشارات كأنه يخاطب أخرسا ..!
لأننا وبكل بساطة مطلقة نؤمن بتفوقهم علينا ، هذا التفوق الذي يشعر به كل عربي عندما يرمق بإعجاب أصحاب اللغات الأخرى ؛ والدليل أن كل شخص لديه أكثر من لغة ، هو شخص متفوق ، ولديه مستقبل ، في دولنا العربية من يجيد لغة يجيد حرفة ..
لكن بالمقابل هل الأجنبي مهما كان انتماؤه فرنسيا أو يابانيا أو ألمانيا فكر يوما ما ، رغم أن الكثير منهم مقيم في دول عربية إلى تعلم اللغة العربية ، أو محاولة إتقانها ..؟!
إنه لا يريد أن يتعلمها ؛ لأن اللغة العربية بالنسبة له لا تشكل تفوقا في دولته ، فماذا يفعل الفرنسيون أو الايطاليون أو غيرهم باللغة العربية ..؟!
لهذا على العرب كي لا يخسروا رهان التفوق ؛ عليهم بالانفتاح من خلال إتقان لغات العوالم الأخرى ، ومن كانت له لغة واحدة فهو سجين العالم ..!

العربي يشعر بالعجز في مدينة لا يتقن لغة أهلها ، لكن العكس بالنسبة للأجنبي في بلاد عربية ، فإن شعور العجز لا يكاد يطفو ؛ لأنه سيرى مترجما أمامه يحتفل به وبلغته ، ولأن على العربي أن يتنازل كي يتحدث معه بلغته والمفروض العكس لأنه في بلاد عربية ، حتى العمال الآسيويون نتحدث معهم بلغتهم ، ولم يحدث أن بادرونا بلغتنا العربية ..!
يكتب أدباء اللغات الأخرى بلغات عوالم أخرى ، يتسابق اليابانيون والصينيون الكتابة باللغة الفرنسية ، والاسبانيون والتركيون باللغة الانجليزية ، لكن هل سمعنا بأدباء من لغاتهم بادروا إلى كتابة رواياتهم باللغة العربية إكراما للشعب العربي ..؟!

لولا الانفتاح على مستوى الترجمة في الوطن العربي ، لما وصلنا شيء من لغات أخرى ، حتى الكتاب العرب المترجمون منهم حين يطلبون من كاتب لغات أخرى ترجمة أعماله إلى العربية ، تقبضه نعرة مفاجئة من الطلب ويعلق مندهشا أكثر منه مغتبطا : حقا ، لم أكن أعلم أن ثمة قراء من العرب يهتمون بقراءة أعمالي ..!
ولا نكاد نحيط بمغزى تعليقه أهو سذاجة أم براءة أم ماذا ..؟!

إذن على العربي أن يخبئ مرارة تفوق اللغات الأخرى في قلبه ؛ كي يرمم عقدة النقص لديه ، عليه أن يتعلم لغتهم ؛ كي يأمن شرهم كما أمرنا بذلك رسولنا الكريم ..

ولعل الحكمة هو أن نحذو حذو مراهقة أخبرتني عنها زميلة مقربة ، وهي واحدة من أولئك اللاتي جرفتهن حمى متابعة مسلسلات يابانية بلغتهم الأصلية ، والجميل في هذه التظاهرة هي أن ابنة أختها المراهقة مذ أبهر لبّها هذه المسلسلات ، لا يفارقها معجم اللغة اليابانية مع كراس من حجم كبير ، تسجل فيه كلمات باللغة اليابانية ، ثم تحاول فك طلاسمها من المعجم الذي بين يديها ، ومن ثم تسجيلها ومحاولة حفظها في كراسها الخاص الذي بات لا يفارقها ، ونجحت بالفعل في تحقيق معجزة إتقان بعض عبارات باللغة اليابانية ؛ والسر في تعلم اللغة هي أنها عزمت السفر إلى اليابان والعيش هناك ، وهي تستعد لحلمها - بدأب لا ينقصه الهمّة - مذ هذه المرحلة ..!

ويختم الكاتب " أحمد راشد ثاني " مقالته بسخرية رائقة وبحلم من هو سجين لغة واحدة ؛ فهو يريد أن يصاب بما يسمى بـ " متلازمة اللهجة الأجنبية " كالتي أصابت امرأة تدعى " سارة كولويل " كما حكى عنها في المقال ، ففي صباحات أحد الأيام استيقظت ولسانها يتحدث الصينية بطلاقة ، رغم أنها لم تزرها مطلقا .. كل هذا نتيجة صداع نصفي أثر في الدماغ بطريقة ما كما فسر العلماء جعلتها تتحدث بلغتهم ، والجدير بالذكر أن "سارة كولويل " البريطانية لا يعجبها تحدثها باللغة الصينية ؛ ولطالما شعر البريطاني وأمريكي والفرنسي بالتفوق على الصيني المسكين الذي هو الآخر يعاني من عقدة الأوروبي ..!
بينما كاتب المقالة أمنيته أن يصاب بهذه العلة ، ولكن بشكل أشد بـ " متلازمة لغات أجنبية " ؛ فأحلامه كثيرة لا تكتفي بلغة واحدة ؛ كي يصحو في الصباح يقرأ باليابانية صفحات من رواية لكاواباتا ، وعند الظهيرة يخرج إلى مقهى مطل على البحر ؛ كي يقرأ سونيتات شكسبير باللغة الانجليزية القديمة ، وليس لديه مانع أن يتحدث الفلبينية مع نادلة تدعى " بيتي " وهي أقدم نادلة في أبوظبي ، وأن يقرأ قصيدة الشاعر " ادغار آلان بو " بلغتها الأصلية ، وفاوست " جوته " باللغة الألمانية .....، ولا تكف سلسلة أحلامه اللذيذة الغارقة في أدبيات اللغات الأخرى ॥


ولي أنا الأخرى أحلام متعددة كأحلامه ولكن بطريقة أخرى ، حلمي أن أجلس مع الكاتب " باولو كويليو " وهو يحكي لي حكاية فيها الكثير من الحكمة بلغة عربية سلسلة ॥ وأن أتمشى مع الكاتب التركي أورهان باموق على أرض تركيا الخلاب ، بينما هو يحدثني بلغة عربية صافية عن آخر مشاريعه الكتابية ..


أن تفاجئني الكاتبة " ايزابيل الليندي " بكتابة رواية باللغة العربية وتطلب مني مراجعة كلماتها العربية .. وأن أثرثر مطولا مع الكاتبة " الفريدة يلينيك " على موقعها الالكتروني .. وأن يلقي الشاعر الأمريكي " تشارلز سيميك " قصائده الرائقة بحس عربي أصيل لا تشوبها شائبة .. وأن أستمع إلى تجربة الكاتب الصيني " داي سيجي " لإعادة تأهليه في الثورة الثقافية بصوته الصيني ولكن بلكنة عربية ، وأن أتوسل إلى الكاتبة " هيرتا موللر " أن تكفنا ذل انتظار رحمة المترجمين لأعمالها بلغتها ، وتقوم هي بهذه المهمة ؛ من أجل عيون قراءها العرب .. وأن أطالع مؤلفات " نيتشه " و" هاروكي موراكامي " و" جوته " و" بورخيس " و" مارسيل بروست " و " دوستويفسكي " و" كافكا " وغيرهم ، دون أن توسوسني مدى صحة الترجمات التي نقرأ بها أعمالهم العظيمة .. وأكون ممتنة لو أتابع في دور السينما فيلما لـ" انجلينا جولي" ، وهي تتحدث باللغة العربية وإلى ........ لا آخره ..
والأحلام لا تنتهي أبدا ، فمن يطارد حلما كيف يرتاح ..؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال للكاتب " راشد أحمد ثاني " ، نشر في جريدة " الاتحاد الثقافي " ، العدد 172 .

الأربعاء، 25 أغسطس 2010

تذوق الكاري الهندي مع جومبا لاهيري



تذوق الكاري الهندي مع جومبا لاهيري

" جومبا لاهيري من نوع الكتاب الذين يجعلونك ترغب في أن تمسك بأول شخص تراه وتحثه على قراءة هذا الكتاب "

- آمي تان -
* * *

أول قصة قرأتها للكاتبة الأمريكية هندية الأصل " جومبا لاهيري " هي قصة " القارة الثالثة والأخيرة " يعود ذلك إلى عام 2006م من مجلة البوتقة _ مجلة فصلية تعنى بالأدب الانجليزي – تقدمها هالة صلاح الدين حسين ..
وهي قصة روتها -لاهيري - عن والدها الذي هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية مذ ثلاثون سنة ، ليقيم عند سيدة عجوز تناهز المائة وثلاث سنوات ، وقد حكت لاهيري قصة تلك المرأة والأجواء التي مر بها والدها خلال تلك الفترة حيث كانت هي ما تزال طفلة صغيرة ، وقد استغرقتها كتابة هذه القصة حوالي ستة أشهر باءت معظم مسوداتها بالفشل ؛ إضافة إلى جهود مضنية للحصول على نسخ من صفحات جريدة الباسطون جلوب من 20 يوليو 1969م ، وهو يوم هبوط سفينة الفضاء أبوللو II على القمر ، لكنها تمكنت في النهاية من مفاجأة والدها بالقصة التي خرجت بحلة فنية رائعة ..
تعد " جومبا لاهيري " كاتبة مهاجرة ، ورغم أنها ولدت في لندن ومن ثم ترعرعت في الولايات المتحدة الأمريكية ، إلا أنك حينما تطالع مجموعتها القصصية " ترجمان الأوجاع " تستشعر كأنما الكاتبة انبثقت بذرتها من صميم التربة الهندية ، فلم يفلح اغترابها عن وطنها الأصلي عن زعزعة تلك الأصول الهندية الكامنة في أعماقها ..
واذكر عددا لا بأس به من - الكتاب المهاجرين – استقطبتهم عوالم الحياة في أمريكا ؛ لتتفق تجاربهم مع تجارب " جومبا لاهيري " في عرض قصصهم ورواياتهم عنهم ، واستحقوا عليها جوائز عالمية من أمثال الكاتب الدومينيكي " جونو دياث " التي فازت روايته " الحياة الوجيزة والرائعة لأوسكار واو " بجائزة " بوليتزر 2008م " وهي الجائزة عينها التي فازت بها لاهيري لمجموعتها التي نحن بصدد عرضها " ترجمان الأوجاع " عام 2000م ، والكاتبة الأمريكية روسية الأصل " لارا فابنيار " وهي مؤلفة لمجموعتين من القصص القصيرة ، الأولى بعنوان " البروكولي وقصص أخرى عن الطعام والحب " 2008م ، والثانية بعنوان " هنالك يهود في بيتي" 2004م ، و رواية بعنوان " مذكرات شاعرة " 2006م .. وفي بريطانيا الكاتبة الهندية " كيران ديساي " كانت لها رواية تحكي فيها عن أوضاع المهاجرين وعزلتهم في بلاد الغرب ، وحصدت روايتها تلك على جائزة " بوكر " الرفيعة في الأدب ، والكاتب الأمريكي الصيني الأصل " ها جن " في مجموعته القصصية الأخيرة " سقطة طيبة " خاض في غمار تجارب المهاجرين من الصينيين ، أولئك الذين استقروا في حي فلشنج في كوينز بنيويورك وآثار هجرتهم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي ..

في " ترجمان الأوجاع " نجد في هذه المجموعة مع فنيتها المبسطة وحيوية حواراتها ، عادات هندية احتفظ بها المهاجرون بشدة ، كما تحتفظ المرأة الهندية المتزوجة بالمادة القرمزية ما بين مفرق شعرها .. لعلنا نشير إلى بعض منها :

* نلمس حب الهنود لبعضهم البعض في الغربة ؛ فالهنود يميلون لعيش ضمن جماعات كخليات النحل وقوافل النمل ، وكان ذلك جليا في قصة " عندما أتى السيد بيرزادة لتناول الطعام " فالقصة تحكي عن رجل وامرأته وطفلة في العاشرة من عمرها ، كان الرجل والمرأة يعيشان في حي لا يزورهم الجيران مطلقا إلا بدعوة ، ولا كان الأطباء يستجيبون لنداء المنازل ، تلك الوحشة هي التي دفعت الزوجين للبحث في سجلات جامعة " بوسطن " عن قادمين جدد يحملون جنسيات هندية ، ومن خلال كشف الأسماء تعرفا على " السيد بيرزادة " الذي جاء من " دكا " حيث ترك بناته السبع مع زوجته هناك ؛ لإجراء دراسة عن أوراق النبات في ولاية " نيو إنجلاند " ، فاتصلا به ليقيما بدعوته إلى منزلهم .. وهكذا كان " السيدة بيرزاده " يزورهم في كل مساء ؛ لتناول العشاء ومشاهدة التلفاز ..

* القصة عينها تحكي عن الانقسام الذي حصل 1947م ، الذي تحرر فيه الهنود من الاستبداد البريطاني ؛ ليغرقوا في وحل الحروب الأهلية بين المسلمين والهندوس .. كما جاء على لسان الأب وهو يوضح لابنته الفكرة بالإشارة إلى الخريطة التي أمامهم : " مثل الكعكة .. الهندوس هنا ، والمسلمون هناك ، ولم تعد دكا تابعة لنا " وتتساءل تلك الطفلة التي يدهشها هذا الانقسام رغم أن السيد بيرزاده ووالدها يتحدثان اللغة ذاتها ، وتضحكهم النكات ذاتها ، ناهيك عن التشابه في ملامحهم ، وجميعهم يأكلون المانجو المملح مع وجباتهم ، ويتناولون الأرز بأيديهم كل ليلة في طعام العشاء .. : " إن السيد بيرزادة بنغالي ، لكنه مسلم ، وهو لهذا يعيش في شرق باكستان ، وليس في الهند " هكذا فك والدها عقدة دهشتها من حيال هذا الوضع .. إذن الغربة هنا ذوّبت الاختلافات الطبقية والطائفية ، ليحل الحب وتقبل الآخر كما هو محلهما ..

* يعيش الهنود غربتهم على طريقتهم ، بل نقول إنهم يفرضون على الغربة هنديتهم المهاجرة ، كما نرى في قصة " منزل السيدة سين " زوجها أستاذ جامعي حيث يعمل مدرس مادة الرياضيات ، تقضي " السيدة سين " معظم وقتها وحيدة ، لهذا تنشر إعلانا عن استعدادها لرعاية الأطفال ، وهكذا تجد نفسها ترعى الطفل " إليوت " وهو صبي في الحادية عشر من عمره ، في أثناء اعتنائها بالطفل تدأب " السيدة سين " على طبخ الأكلات الهندية ، بل تحرص في الذهاب إلى محل خاص لشراء السمك وتتفق معهم في حال وصول أسماك طازجة بمهاتفتها بذلك ، وكانت في أثناء فترة الطبخ هذه تسترسل في أحاديثها مع الطفل " إليوت " فتحكي له عن أمور وذكريات مرت بها في الهند ، فحكت له مرة عن قصة النصل الذي أحضرته من الهند : " كلما كان هناك زفاف في العائلة ، أو احتفال كبير لأي سبب ، كانت أمي ترسل لإخبار كل نساء الجيرة ، كي يحضرن أنصالا كهذا النصل ، ثم يجلسن في دائرة هائلة على سطح منزلنا ؛ يضحكن ويثرثرن وهو يقطعن خمسين كيلو جراما من الخضروات ، ويبقين على هذا الحال طوال الليل " .. بينما تجد في صوتها وحشة كبيرة عن الخواء المحاط بها وهي تسأل الطفل " إليوت " بقولها : " إليوت .. لو أنني شرعت الآن أصرخ بأعلى صوت ممكن .. هل تظن أحدا سيأتي إلي ؟ " فنراها تستأصل من ذاكرتها الجواب في حال إن كانت في الهند : " في بيتنا .. هذا هو كل ما يجب عليك فعله ، فليس لدى الجميع هواتف ، فيكفي أن ترفع صوتك قليلا ، أو تعبر عن حزن أو سرور ، وسوف تجد كل جيرانك ونصف جيران جيرانك قد أتوا ليشاركوك الخطب ، أيا كان ، ويساعدونك في الترتيبات " .. فيدرك " إليوت " أن كلمة "بيتنا " التي ذكرتها السيدة سين تعني بها بيتها في الهند ..
والحزن يكابدها حين يصلها خطاب من كلكتا ، يخبرها بأن أختها وضعت طفلة جميلة وهكذا تدرك بأنها لن تستطيع رؤيتها ربما لسنوات فلا تتعرف الطفلة على خالتها وقتئذ ..! وحين يطالبا أهلها في الهند بإرسال صور يبرز منها حياتها الجديدة يتأزم فيها الحزن بشكل كبير ..


* قصة " القارة الثالثة والأخيرة " وهي آخر قصص المجموعة تكاد تكون غنية بالعادات الهندية التي بثتها " جومبا " هنا وهناك ، فنجد في البداية أن الأب الذي سكن لوحده في أمريكا لم يفكر قط في أن يخون زوجته مع امرأته أخرى ، بل نقول تغيب في المجموعة كلها علاقات غير الشرعية التي يقوم بها الرجال في حال ابتعادهم عن زوجاتهم ، وكذلك الحال مع المرأة الهندية .. يفوح في هذه القصة تحديدا روائح الكاري الهندي مع البيض الذي يطبخه الزوج لزوجته حين قدومها من الهند ، دون أن يفوتهم تجريب بعض الوجبات الأميركية نحو وجبة " كورن فليكس " مع الحليب ، الذي دأب الزوج على تناوله في فترات الإفطار عوضا عن الأرز الذي اعتاد عليه معظم الأزواج البنغاليين كوجبة إفطار أساسية .. كما نرى التزام المرأة بالملابس الهندية الساري أو الشروال حيث كن النسوة الهنديات في أمريكا تحرصن على ارتدائه وتفضيله على الملابس الغربية ..
كما برز مبادئ الزواج التقليدي الذي يفرض على الرجل ، ففي القصة كان الزوج قد تزوج بناء على اختيار أخيه وزوجته اللذين كانا مقيمين في الهند ، دون أن تتدخل الغربة التي يعيشها في التخلي عن هذه العادة ..

" ترجمان الأوجاع " .. مجموعة أشبه بقطار تحفل فيه كل مركبة من مركباتها نوعا من الحياة ، لكنها تتفق بطريقة وأخرى في الروح التي تفرقع في سماواتها تلك الحكايات ، استرسلتها الكاتبة في تسع قصص بلغة سهلة تتسرب إلى القلب بهدوء ، وهو الهدوء ذاته تسرد به الكاتبة معظم قصصها القصيرة ..

والمجموعة أشعلت فيني – شخصيا – إضافة إلى - حكاياتها الطريفة - الرغبة في أن أذهب إلى أقرب مطعم هندي واطلب الكاري بالدجاج مع طبق من السمك بمتبلات هندية على طريقة جومبا لاهيري ..



الأربعاء، 18 أغسطس 2010

القاصة ليلى البلوشي : أواظب على الكتابة مثل نملة ..



القاصة ليلى البلوشي : أواظب على الكتابة مثل نملة

حوار : جريدة الخليج الإماراتية / إبراهيم اليوسف

१८ / ८ / 2010م


بعد مجموعتها" صمت كالعبث " انتقلت إلى الاشتغال في مجال “القصة الومضة” وقالت: مازالت أواظب كنملة على الكتابة في مجال القصة القصيرة وتعديتها إلى “القصة الومضة”، تلك التي لا تقل أهمية عن الفن القصصي ككل، فإن اقتصار موقف متكامل بشخوصه وخلفيات الزمان والمكان في عبارة، يكون أشبه بفلاش لا يصدم العين بضوئه الباهر فقط، بل يعصر العقل، ويجعل المرء إزاءها في هيئة دهشة، وهنا مكمن الإبداع في حد ذاته، فخير الكلام ما قل ودل كما أشار القدماء ...


عن واقع القصة الإماراتية قالت: “إنها في تطور من دون شك، وهو تطور مدروس من قبل كتّابه، وثمة أقلام نسوية - بخاصة - من بين هذا المشهد تستحق الإشادة والمتابعة الدائمة، وهن أضفن أجواء حركية على مساحة الإبداع القصصي في الإمارات، فمن معينهن الفكري والخيالي نستشعر تجدداً حقيقياً ملموساً، ونجد جرأة عالية وروحاً شابة وثابة، معايشة للأجواء المحلية والعربية على حد سواء، ولكن من دون أن نغفل الجهود التي تبذلها الهيئات والمؤسسات الفكرية والثقافية في الإمارات، لضخ روح الإبداع والابتكار والتجديد في الجسد الثقافي في المنطقة ..


وعن اسهامها في مجال دراسات أدب الطفل قالت: ولوجي عالم أدب الطفولة كان مغامرة بحد ذاته، ومازلت أتذكر أولى اتجاهاتي لهذا المجال، كانت عبارة عن بحث أكاديمي - مشروع تخرج - قدم للدكتور القائم عليه وقت ذاك وهو “إبراهيم الغنيم”، لكن بعد التخرج اقترح عليه الدكتور أن أحول البحث إلى مشروع كتاب، وهنا بدأ توجهي إلى أدب الطفل ولا يزال” .
وأوضحت: “لي كتاب تحت الإصدار يدعى ب “تحليقات طفولية تحت فضاء الكتابة الإبداعية”، وهو عبارة عن دراسة نقدية لقصص من إبداعات طفلات لا تتجاوز أعمارهن الخامسة عشرة، قدمتها لي مشكورة الأستاذة “إحسان السويدي” مسؤولة المجلس الأعلى للأسرة، والقصص الدارجة في الدراسة كانت قد حازت جائزة المجلس الأعلى في مسابقات سابقة । ما أود الإشارة إليه أن هذه الكوكبة الطفلية بأناملها المبدعة، استطاعت من خلال إبداعاتها أن تقدم صورة مشرفة عن مستوى أدب الطفل في الإمارات .


وأعكف حالياً على جانب جديد في جوانب أدب الطفل، ولا يقل أهمية عن الجوانب الأخرى، وهو دراسة تعنى ب “رسومات الأطفال” وهو مجال فضفاض جداً، ولا أنكر أن تأليفي لهذا الكتاب هو مغامرة كبيرة، فمن خلال اطلاعي على دراسات السابقين على المستوى العالمي والعربي لم أجد اختلافاً بينهما، بل معظم الدراسات كانت تأكيداً لما قاله الدارسون الغربيون، وهنا مكمن المغامرة، فالطفل الغربي يختلف كلياً في مفاهيمه وأسلوب تربيته وبيئته عن الطفل العربي، وحينما يرسم فهو لا ينفصل عن تجربته الشخصية والنفسية والبيئية والأسرية أي العالم المحيط به، وإذا كان الغربيون يرون أن الأنف الذي يرسمه الطفل إن كان طويلاً شبيهاً بحد السيف، فهو مظهر من مظاهر القبح، بينما في بلداننا العربية فهذا المفهوم على النقيض تماماً، لذا حين يرسم الطفل العربي، فإنه لن يتحرر عن المفهوم البيئي الذي نشأ فيه، وهذه الدراسة بمجملها لا تزال قيد الكتابة والدراسة” .
وعن واقع أدب الطفل عربياً ومحلياً أجابت: “ثمة اهتمام ملحوظ جداً على مستوى الأدب المقدم للطفل، وعلى كافة الصعد، حيث يجب ملامسة حاجات الطفل ورغباته على المستوى السمعي والبصري والفكري، فهناك مهرجانات تقام على شرف الطفل، وهناك مسابقات سواء أكانت للكتاب في مجال الطفولة أو للأطفال أنفسهم، وثمة برامج هادفة تخاطب في الطفل فكره وتشحذ خياله، وهناك كتب إبداعية تتمتع بمسؤوليات ومعايير مناسبة جداً، كما هناك ألعاب تخلق متعة جديدة باستمرار .


وإذا ما تحدثنا على مستوى دولة الإمارات، فإنها سباقة حالياً في إثراء عالم الطفل بمشاريعه ومهرجاناته والكتب الصادرة، وفي توجهها الجاد هذا رصدت ميزانية ضخمة نتج عنها إطلاق مشاريع مختلفة । ولعل من أهمها جهود “مشروع كلمة”، فمن خلال المتابعة نرى كمّاً مدهشاً من الكتب المترجمة مخصصة للأطفال، وهي كتب عنيت برغبات الطفل ونفسيته وثقافته على مستويي الفكر والجودة في الإصدار” .


وقالت ليلى البلوشي: “أنا ضد الكاتب الذي يسوّر نفسه في مجال واحد مدعياً الإخلاص، فإذا كان الإخلاص هو مطلب نبيل في الحياة ففي الأدب هو غير ذلك، وطالما سمعنا من كاتب أعلن ولاءه للشعر ثم فاجأنا بإصدار روائي .
المبدع هو إنسان خلاق، فبواعث فكره من الممكن أن تقوده في اتجاهات عدة، متعتها أنها غير متوقعة .
وإن كنت شخصياً كتبت في القصة والشعر والمقال وأدب الطفولة، فإن لي طموح كتابة رواية، ولا أنكر أن تطور الفن التشكيلي في الخليج هو الآخر فتح شهيتي لهذا الفن، أنا لست فنانة ولكن أتابع وأقرأ في هذا الحقل وآمل أن أخوض هذه التجربة يوماً ما، وأضيف إليها مواهب أخرى كالتصوير الفوتوغرافي والكتابة السينمائية وفن الكاريكاتور .

الأحد، 8 أغسطس 2010

همبرغر مع صلصلة الشاي


همبرغر مع صلصة الشاي

( اترك وجبة العشاء لعدوك ) ..
هكذا ينصحنا المثل الصيني .. مع احترامي لأصحاب الشعوب ذوي العيون المسحوبة ؛ فإنني على الرغم من أني لا أعلم إن كان لي أعداء ؛ بالمعنى الفعلي لهذه الكلمة ؛ لأننا في زمن يختبئ فيه الأعداء في ملابس الأصدقاء ، أو كما أشار " ميلان كونديرا " في روايته " الهوية " أنهم غير مرئيين ، مغفلو الهوية والإرادات والقوانين ، فالتركيبة التي تتبدى لنا هنا سندعوها " أعدقاء " ، فعلى هذا السبيل لن استغني عن وجبة عشائي لأعدائي ، وإن كلّفني ذلك حفر قبري بملعقة وشوكة ، بل أفضّل أن ينام أعدائي وبطونهم تتعارك مع الجوع ؛ كي لا يمتد تفكيرهم إلى أقصى من حدود الطعام ، بفخذ دجاجة أو كبد عجل مشوي ، واسقط أنا من تصفية حساباتهم ..
" أعدائي / أعدائي / العالم مليء بالأعداء / ليس من مكان آمن " هكذا كانت تقول الشاعرة الأمريكية المنتحرة بالغاز " آن ساكستون " ..

الصينيون متسامحون كطبيعة وجوههم التي يتبادر للمرء أن لا مبالاة يسترخي فيها ، كيف لا ، أوليس إحدى الأمثال الصينية تقول : " لا تضرب المرأة ولو بزهرة " ..؟! غير أن اليابانيين ، فإنني لا أنكر تحبيذي لأسلوبهم في الانتقام ، خصوصا حين يكون للمرء أعداء بقامات مهمة ، فبضربة من سيف ياباني تستطيع أن تختصر المهزلة العدائية التي تطاردك بلا أدنى حق ، سوى شعور العدو المواري بأنك أفضل منه ؛ إذن على طريقة الألماني " نيتشه " الذي استنكر طبائع الأعداء فحللّ ذلك بضربة فلسفية لا تليق إلا به قائلا : " هو لا يعجبني "
- لماذا ؟
- " لأنه يتجاوزني " هل أجبتم أبدا بمثل هذا الجواب ؟ " ..

فإذا ما كان هذا العدو على – افتراض وجوده - والذي لا أعجبه ؛ لأنني أتجاوزه ॥فهو أحمق دون شك ..فليس الذنب ذنبي إن كان لا يتجاوز نفسه ..! بمثل هذا الجواب أقطع بالنصل ثرثرتي عن الأعداء ، وأفضل عوضا عن ذلك الحديث عن الطعام ، ويبدو أن المثل الصيني جرني بعيدا عن مداي ..

إن ألذ وجبة لدي في مصاف الوجبات اليومية الثلاث كما حدد لنا ، لا أدري من حدد لنا ذلك بالضبط ولماذا هي وجبات ثلاث ॥؟! ولكن بمجرد ما فطمتني أمي من حقي الشرعي الذي لا يتجاوز عن عامين ، وضعت في فمي رضاعة صناعية تلك التي لم تفارقني حتى بلغت سنواتي الخمس – نعم صدقوا ذلك انه اعتراف غير عادي - ، وكنت أحيانا أعّده بنفسي حين يأكلني خجل طلب ذلك من أمي ، لكن والدي الحنون دأب بحرص على شراء عبوات الحليب لي ، هزالي ذاك الذي لم تفلح أمي في القضاء عليه ، رغم أنها كانت تطعمني من الأكل الذي تعده في البيت جنبا إلى جنب ، إلى أن ألفيت قدماي تركضان نحو غرفة الطعام وذلك بعد سنوات ، أنا وأخوتي لثلاث مرات في اليوم الواحد ، وفي هذه المرات الثلاث كنت اسمع صوت أمي وهي تهتف لنا لتناول الطعام ، درجنا على ذلك كما درج " بافلوف " كلبه تماما .. صوت أمي لثلاث مرات في اليوم كان يساوي ثلاث وجبات ، أي سيلان اللعاب في تلك المرات الثلاث ..

استطيع القول إن وجبة الغداء كانت من ألذ الوجبات لدي ؛ ربما لأنها وسطية من حيث توقيت ، ففي الصباح من الممكن ألا أفطر وهذا ما كان يحدث غالبا ، لأن وجبة الإفطار تحمل مذاق التثاؤب والمدرسة والطبشور والمعلمة القاسية التي كانت تكسر عصاها على أصابعنا ، واستغنائي الذي غدا ممتعا مع الأيام ، وذلك حين اكتشفت في الأيام التي استغني فيها عن وجبة الإفطار اسقط مغشيا علي في طابور المدرسة الصباحي ، ومن هنا تضطر مديرة المدرسة مهاتفة أمي واصطحابي إلى البيت مبكرا ، فاختلس الوقت بحجة المرض ؛ لمتابعة رسومي المتحركة المفضلة في التلفاز ، كانت تلك هي حيلتي في سنتي الدراسية الأولى في المدرسة ..

أما في السنة الثانية ، افتعلت حيلة أخرى ولها علاقة بالطعام أيضا ، فقد كانت لنا معلمة تفرض علينا فروضا منزلية يومية ، فتأخذ كراريسنا بالترتيب وتدون بقلمها الأحمر الجاف التدريبات لقرابة ثلاثين تلميذة في الفصل ، واعتادت كل منا أن تذهب إليها بالترتيب كما نجلس في مقاعدنا الصغيرة ، ولكنني في يوم ما حين ذقت ذرعا بتلك الفروض المنزلية ؛ التي تمنعني من ممارسة حقي الطبيعي في اللعب ، وتقلص من ساعات مشاهدة رسومي المتحركة المفضلة ، عزمت بعناد طفلة صغيرة ألا أذهب ، وكانت تجلس أمامي فتاة بدينة جدا ولا يكاد يفرغ فمها من عمليات المضغ والبلع والطحن ؛ ولأن المقال ذا تأثير صيني يمكنني القول بأنها كانت في وضعها ذاك كصينيين على ما يبدو تأكل كل شيء يسبح سوى السفن ، وكل شيء يطير سوى الطائرات ، وكل شيء له أرجل سوى الطاولات ، كما اعترفت بذلك وبشهية كبيرة سيدة صينية في لقاء تلفزيوني ..!

بينما كنت لقلة الأكل على نقيضها تماما نحيفة كقلم الرصاص ، فاتخذت من بدانتها جدارا عازلا ، فالمعلمة حين ترفع رأسها كعادتها غالبا ستعتقد بأني غائبة دون شك ، ولم أتوقع أن حيلتي تنطلي على المعلمة المسكينة ، ومضيت لعدة أيام متتالية وأنا الحاضرة الغائبة ، ولكن خطتي انفقأت حينما تغيبت الفتاة البدينة ، وكم كان يوما شاقا علي ّ ؛ لأن المعلمة سجلت لي كل الفروض التي تغيبت عنها تباعا كما اعتقدت ..!

ظلت وجبة الإفطار ملغية لسنوات ، وكنت اهجم عوضا عن ذلك على وجبة الغداء ، والتي تكون عادة دسمة ، وفي فترة مراهقتي الحرجة زاد وزني قليلا ، وكان هذا بمثابة كارثة من ناحيتين ، أولاها خوفي في أن أغدو بدينة ويأتي من يتخذ مني جدارا فيختبئ خلفي لفعل ما ، وثانيها هذه الشراهة للوجبات المشحّمة ؛ لم تمر مرورا عابرا في جسد فتاة تخطت ثلاثة عشر عاما ..

ومن هنا فترت شهيتي للطعام تدريجيا ، وعوضا من أن أخطو نحو البلوغ خطوت مرتين نحو الطفولة ॥ وظللت لسنوات ووزني محتفظ بمعدله الثابت ، غدوت ورقة سحقتها شاحنة كما وصفتني زميلتي في الجامعة ، حشوت وحشوت وحشوت والنتيجة إياها ، ذهبت لطبيب مختص و سجل لي وصفات تضاعف من وزني ولكن وصفاته باءت بالفشل ، والمهنة الوحيدة التي لاءمتني في ذاك الوقت عارضة أزياء مع مؤهلات كان سيتمناها " فيرساتشي " دون شك لو كان حيا .. !

هكذا مرت الأيام ، وانا ارتدي ملابس بمقاس ابنة أختي الصغيرة ، إلى أن اكتشفت أهمية وجبة العشاء للنحيفين ، و كانت إحدى عاداتي هو تناول وجبة عشاء واحدة ، لكن في تلك السنة الشتوية ، وكما هو الحال في الشتاء الليل يهبط ضيفا مبكرا ولا يغادرنا إلى أن يتناهى صياح الديك ، كنا وقتئذ نتناول وجبة العشاء في الساعة الثامنة ، ولكن في تلك الأمسية الباردة شعرت بعد مرور ساعتين بأن معدتي فارغة وكأني لم أطعمها مذ فترة طويلة ، فهرعت لإسكاتها بوجبة خفيفة ، وعدت لمتابعة فيلم السهرة والذي كان يدعى وقتئذ إن لم تخني ذاكرتي " الإرهاب و الكباب " يؤدي بطولته " عادل إمام " الذي احتل المبنى الحكومي مع بعض رهائن وظل يضخ فيهم الأمنيات طوال فترة الرهن لعرض مطالبهم على الحكومة ، وفي النهاية لم يطلبوا سوى الكباب ، فقد كان حلم أولئك - المعدومين - تناوله ولو لمرة واحدة في حياتهم على الأقل ..!

ويبدو أن رؤيتي للكباب فتح شهيتي بطريقة ما في ذاك الليل الشتوي البطيء كالسلحفاة ، ولم تتمالك معدتي نفسها التي بدأت تطلق قعقعات صاخبة ، نتيجة لذلك وجدتني أهاتف كافتيريا الحي ليحضر لي صحن كباب حالا ..وأكلت بشهية مفتوحة .. خلال تلك الساعات تناولت ثلاث وجبات ، ومع الأيام أضحت عادة علنية ، ثلاث وجبات في فترة العشاء ، الأولى في الساعة الثامنة ، والثانية في الساعة العاشرة ، والثالثة في ساعة السندريلا الثانية عشر بعد منتصف الليل كما يقال ..

اعتاد مزاج معدتي على مغامرة تناول كل شيء مهما كانت غرابته وشكله ولونه ما عدا الشبوط ؛ لأن للشبوط حكاية مع اليهود ؛ فهي وجبة محببة جدا من قبلهم تعرفون لماذا ؟! لأنه ببساطة مقزز ..!
هكذا كان جواب أحد اليهود على سؤال امرأة أمريكية في فيلم أمريكي جمع بينهما ..
وشقلبّت القاعدة التي كانت تقول : كل إفطار ملوك ، وغداء أمراء ، وعشاء فقير ..وعليه زاد وزني بمعدل راقني جدا ، وكنت أنوّع في وجباتي ، فالأولى كانت أمي تحضّرها ، والثانية كنت احضّرها بنفسي ، والثالثة كان " إسماعيل " هندي الكافتيريا يحضّرها لي ، واذكر مرة طلبت من " إسماعيل " همبرغرا مع بيبسي ، لكنه مع العجلة نسي البيبسي رغم أن الهمبرغر دون البيبسي ثقيل على مزاج المعدة ، وهذا ما كنت اعتقده طوال تلك السنوات ، وكثيرة هي اعتقادات الآخرين فينا ونحن نستقبلها على عماء منهم ..!

" إسماعيل " حينما نسي البيبسي قد أسدى لي معروفين ، أولهما تحقيقا لرغبتي بالتخفيف من المشروبات الغازية ، ليس مقاطعة لأميركا التي تنتجها ؛ لأن الماما أمريكا رعتنا مذ كنا أطفالا ، بالله عليكم من أنتج حفاظاتنا عندما كنا صغارا ..! وكريمات - البيبي جونسون - التي كانت أمهاتنا تدهن بها أطرافنا الضئيلة لتطريتها .. هل كانت منتوجات عربية ..؟

المشروبات الغازية ، دققوا معي على كلمة " الغازية " .. " غازية " .. هي بالفعل تغزو أجسامنا بسمومها ، بالإضافة إلى كونها تحتوي على نسبة من الكوكايين ، فإن صبغتها السوداء فعالة في تنظيف المراحيض ..!
والمدهش أيضا أن أمريكا بلد العنصرية كما عرفنا عنها لقرون ؛ لم يدركوا أن الكوكا والبيبسي يعكسان لونا زنجيا رغم أنهم بغضوه لسنوات كان يجري في دمائهم ..!
ثانيهما أضاف لي نسيان " إسماعيل " مشروبي الغازي ، هو أنني التهمت الهمبرغر مع الشاي الذي كان لونه كلون البيبسي تماما ، والفارق أن الشاي حار والبيبسي بارد ..
وهذا الفارق الطقسي بين حار وبارد ، له الفاعلية نفسها ، تناول الهمبرغر مع البيبسي يزيل الثقل الذي نشعر به بهمبرغر دون بيبسي ، كذلك الشاي مع الهمبرغر يزيل الثقل الذي نشعر به ..
حينما اكتشفت هذه الفاعلية أصبح " إسماعيل " ينسى البيبسي دائما ، وغدوت أنا أحشو الهمبرغر بصلصة الشاي ، واااو ، كم هو لذيذ ، ألا ترغبون أن تجربوا فاعلية ذلك ..؟
ولا أملك سوى أن أترككم مع نصيحة بنكهة ألمانية على لسان الفيلسوف " نيتشه " :
" تذوقوا طعامي ، أيها الشّرهون ..!
غدا تجدونه أفضل ، وبعده ممتازا ..! "

الأربعاء، 4 أغسطس 2010

عين على الحياة


عين على الحياة

( هذا المقال بقي سجين ملفاتي ما يقارب عن سنتين ، لم أنشره ؛ ربما لم اقتنع بنشره أو ربما كتابته كانت تدريبا كحال معظم مقالاتي القديمة التي بقيت حبيس أنفاسها ، اليوم عزمت نشر هذا المقال ؛ لأن ثمة حاجة اقتضت نشرها ، هي لامرأة بائسة ..)

حياتنا شجرة تظلنا .. يشاطرنا في ظلالها أشخاص ناظرناهم بأعيننا مذ قذفنا من نبض الرحم ، فاتصلنا بهم ونستمر معهم أبد الدهر .. وبعضهم الآخر جمعنا بهم لقاء قدري ، يتلون تباعا لما نحياه معهم بعدئذ..

الحياة شئنا أم أبينا تمتطي مقاديرها ، وهنالك حالات حينما يغدو فيها الإنسان مكللا بالشقاء ، يشعر بأن النهار ساعاته ممتدة ، والليالي تطول بلا انتهاء وكأن الصبح سابر في نأيه ، لكن الذي يرى الأمل في كل همّ يجابهه يقهرها ، فالحياة تزدان في فساتينها الأربعة كيفما كانت طقوسنا ..

وقد تنفقئ أحداث ، أو تتبدى لنا أمور تذاع في وتيرة حياتنا الروتينية تلك التي غلبت على طباعنا ؛ بغرض التجريب أو لسبب طارئ أو قدر محتم عليه مجابهته ، ومنها تتبعثر أوراق حياتنا ، فمع الريح تتوه أو مع لجج البحر تغرق فنفقد ما نفقد .. فقط أولئك الذين يتعّظون تستمر الحياة في حضرتهم كمنطاد يمخر في عباب الأفق في كل الظروف ، وتظل أبخرتها مقاومة في وجه العاصفة ؛ كي تحلق إلى ما تحلم وترغب به ..

والحياة عندما تخلو من قيمة أو هدف فلا معنى لها مطلقا ، ويدور المرء في دهليز من الفراغ والضجر والموت البطيء هذا من وجه .. ومن وجه آخر هنالك أنماط بشرية يختصرون وجودهم في الكون على شخص أو غاية معينة ، وحين يرحل ذاك الشخص أو يضيع مبتغاه ، فإنه يضع نقطة في نهاية حياته لا يتعداها ، وأول ما يفكر فيه هي الوسيلة التي يقضي فيها على نفسه التي افتقدت وجودها برحيل ما يحبه وقد يكون " الموت " مآله الوحيد ، الرغبة الكلية الشاملة ، الربق المنقذ ..

وهذا يعيد ذاكرتي إلى سيدة انتحرت بحرق نفسها ؛ لأن زوجها قرر أن يتزوج عليها ورغم أنها أم لخمسة أبناء وتعيش في كفوف الراحة ، إلا أنها اختصرت وجودها في حضرة الزوج ، وحين أقر هذا الزوج قراره ؛ لعبت الوساوس دورها وأدركت أنها مقضي عليها دونه ، ففعلت ما فعلت .. وقد تكون امرأة أخرى في ذات الموقف ، وكانت ستتبع أسلوبا آخر ، فربما حرقت الزوج الذي قرر أن يتزوج لا نفسها ..!
أما المرأة الحكيمة التي تقع في مطب كهذا ، فإنها تركز جُل تفكيرها وكافة آمالها في أطفالها ، فتبدأ حياة جديدة من خلال تنشئتهم تنشئة صالحة وحين يكبرون أمام عينيها ، بارين بها ، ستعلم كم هي الحياة تعطي أكثر مما تأخذ .. الموقف واحد ، لكن الرؤية إلى الحياة تتناقض من عين لأخرى ..

وهنالك أشخاص يرون في كل " صدمة " و" مشكلة " حياة أخرى أعمق وأكثر معنى وفاعلية على مبدأ أن في داخل كل مشكلة هدية .. فمفهوم الحياة عند هؤلاء غير محدد بشخص أو هدف معين ، بل يرون في كل شيء فرصة لحياة أخرى .. لديهم إيمان عميق بأن ما يكرهونه خير وما يحبونه شر .. وبعد العسر يكمن اليسر .. فلا البكاء يدوم ولا السعادة تدوم .. ودائرة الحزن تتسع إذا ما أطلنا المكوث فيها وتضيق إذا ما قررنا الخروج منها .. فالأيام تمضي والساعات لا تتوقف عقاربها عن العمل من أجل حداد ما .. والرئتين تؤديان وظيفتهما الحيوية رغم الربو ..

( الحقائق المؤلمة الساحقة تفنى عندما نعرفها ونعترف بها ) كما يقول فيلسوف العبث " ألبير كامو " .. هذا إن سرنا على نهج اليونانيين القدماء ، أولئك الذين يتغلبون على الألم ومخاوفه بالألم نفسه ، فالذي كان يخشى رؤية الدم ، كانوا يحبسونه في غرفة غارقة بالدماء ؛ كي يعتاد على رؤيتها ويتغلب على مخاوفه ..نهج اليونانيين يرى أن المواجهة هو سيد الحلول ، بينما الهرب من مشاكلنا أو الخوف من مواجهتها وجها لوجه مع أنفسنا خاصة ؛ فإن حياتنا حينئذ لن تكون سوى مزيدا من الهروب والهروب والهروب ، والذي سيوّلد بدوره كثيرا من الاحباطات وخيبات أمل ، وهكذا يضيع معنى الوجود الإنساني في لا شيء ..

الأحد، 25 يوليو 2010

تحولات الشحوم ودلال الكسل



تحولات الشحوم ودلال الكسل

( 1 )

" التبلاح "

" التبلاح " : مصطلح يستخدمه عائلات منطقة - تندوف - بأقصى جنوب غرب الجزائر ، ويعنى بها تسمين الفتيات المقبلات على الزواج ، كي يغدون يوم زفافهن في أبهى صورة .. وهي عادة موغلة منذ القدم فحين تبلغ الفتاة سن السابعة والثامنة عشرة ، تدخل العائلة في حالة طوارئ ؛ لأن الفتاة تكون على عتبة الزواج ، ويتطلب تجهيزها بدنياً لذلك .. دون أن تقف النصائح الطبية بتفادي السمنة ومخاطرها في وجه بقاءها حتى الآن ..
وتتبع في تسمين الفتيات سلسلة من التدابير التقليدية أهمها اختيار أنواع من الأكل تعتمد على لحم الإبل وشحمها ولبنها ، وخبز الشعير فضلا عن التمر ومواد سكرية ..
ويشرف على هذه المهمة مسنات مجربات وعارفات بخبايا الأغذية التي تفيد في إحداث السمنة وطرق استعمالها ، وتخضع الفتيات المقبلات على الزواج لوتيرة معينة من الغداء كما ونوعا ، ويتناولن عادة طبقا غنيا بالدهون يتكون من شحم الإبل المذوب والبيض المقلي في الزبدة والنشا ، وهو حساء تقليدي خال من التوابل .. وشريحة لحم الإبل المجفف ويسمى باللغة المحلية " تيديكيت " ..
بينما أولئك اللاتي يرغبن بالطرق السريعة لزيادة الوزن ، يتناولن كل يوم خليطا من بيض الدجاج النيئ وزيت الزيتون على مدى أربعين يوما ، من أشد أيام الصيف حرارة وتسمى هذه الأيام بـ " السمايم " ..
ويرجع أهمية تسمين الفتيات عند هذه القبائل إلى رغبة رجالهم في فتيات مملوءات القدّ وموفورات الصحة وكاملات ، بينما النحيفة فلا حظوة لها في الزواج عند هذه القبائل حتى تسمن نفسها ..!


( 2 )

" تحولات الشحوم " *

مؤرخ الجسد والأستاذ الجامعي الفرنسي " جورج فيغاريللو " في كتابه الصادر حديثا تحت عنوان " تحولات الشحوم " يتحدث عن تاريخ البدانة من العصور الوسطى حتى القرن العشرين ..
فيغاريللو وكما أشار في كتابه إلى أن في العصور الوسطى ظهر ما يسمى بـ " الشخص الأكول " الذي كان يتمتع بحياة اجتماعية ومادية مرفهة ؛ فـ " كرشه " المتدلي دليل قاطع على نأيه عن هوة الفقر ، فالبدينون كانوا غالبا من فئات الإقطاعية في الحالات الطبيعية ..
ولكن النظرة التشككية بدأت حيال البدين منذ القرن السادس عشر – بدايات عصر النهضة الأوروبية – حيث ظهر ما يسمى بـ" غياب مفهوم الاعتدال لدى الأكولين " تبناها نقاد كثيرون .. وقد أشار المؤلف إلى شخصيات شكسبير الهامشية ، والتي كانت تتصف بالبدانة مثل شخصية السكير " فلاستفال " الذي حظي بتوصيفات مثل " صاحب البطن الضخم " و" شحم كبد الإوز " و " الآنية الاسبانية المدورة " .. ومع هذا القرن غدت البدانة نوعا من التخلف ..
و في القرن الثامن عشر ظهرت كلمة " البدانة " في قاموس " فورتيير " الصادر عام 1701م وجاء توصيفها القاموسي باعتبار البدانة حالة مرضية ، وعليه فرض عصر التنوير خطابا يدين فيه صراحة اكتناز الشحوم في الجسد الإنساني ..
واعتبارا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين ، اشتاحت العالم حمى إنقاص الوزن وظهر ما يدعى بـ " دكتاتورية المظهر " ؛ فزيادة الوزن هي " خطيئة جمالية " بمقدار ما هي " خطيئة صحية " ، وغدت البدانة دلالة من دلائل " الفقر " ؛ بسبب تناول كميات كبيرة من النشويات بعد أن كان دلالة ثراء في العصور الوسطى ، ومع طغيان ظاهرة " الكرش البرجوازي " واكبه أهمية " الميزان " في المنازل وظهور برامج غذائية " الريجيم " ، فالبدانة وكما يرى فيغاريللو أصبحت إحدى المشكلات الاجتماعية والصحية والجمالية ، التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار ؛ بسبب آثارها العامة فضلا عن آثارها الفردية ..


( 3 )

" كرش المثقف "

من وصايا الكاتب " وليام سارويان " للكاتب الشاب : " تنفس بعمق ، وكل بأقصى ما تستطيع من شهية ، ثم نم نوما عميقا وأضحك كالجحيم " ..
يبدو أن " القراءة والكتابة " سببان رئيسيان لفتح الشهية ، أو لنقل حمل لقب " أصحاب الوزن الثقيل " .. فأن تقبع في مجلسك على أقصى درجات الاسترخاء وبين يديك كتاب ، وأنت في سباق لاهث معه ؛ كي تنتهي منه لتبدأ بوليمة أخرى ، ومن خلال تلك الساعات خصوصا عند المنصرفين تماما عن العالم الخارجي من حواليهم تقديسا لمادة القراءة ، لا يقطعها سوى مواعيد الصلاة لأولئك الملتزمين بها – وما أقلهم – أو ارضاء فطريا لقعقعة المعدة التي لا تستغني عن حصصها من الطعام لعيني كتاب مهما كان قدره ..!
فتكون أشبه بفواصل إعلانية تنأى عينيك المرهقتين قليلا عما استحوذ عليك لبّك .. تلتهم وجباتك ، فالشهية بابها مفتوح على مصراعيه والقراءة تحتاج إلى عقل والعقل يحتاج إلى وقود قوامه في الزاد الذي يتدحرج إلى معدتك بسلاسة لذيذة .. فلا أسهل من عمليات البلع والمضغ والجرش والطحن والقرمشة والفرم والمص حتى آخر نتفة من القصعة التي أمامك ، بهمّة نملة تعد عدتها لشتاء شرير مقبل عليها .. !
وحينما تنتهي من وجبتك الرئيسية الثقيلة ، فإنك تدلل نفسك كما يدلل الدانمارك أبقارهم تماما ، فأنت ويا للإرهاق ..! قابع في جلستك المجهدة وجسدك يحفر في تربة أفكار غائرة في الكتاب الذي تقرأه أو الذي تعكف عليه تأليفا ، وأفكار ما بين كرّ وفرّ فلا مانع خلال ذلك استدعاءً للأفكار من جرش الفول السوداني المحمص أو طحن المكسرات بأنواعها المتبلة بطريقة عربية ، أو قرمشة برينكوز من عبوات الشبيس الكبيرة أو رقائق " ليز " فميزتها أنها تتلاءم وصفحات الكتاب الضخم الذي تمعن فيه بكل جد ، وإن كان الجو حواليك يغلي على درجة المائة الفهرنهايتية ، فإن آيس " باسكن روبنز " برعشته الباردة تدغدغ طاقتك لمجهود أكبر ، دون أن تحرم نفسك من صرعات الوجبات الجديدة فـ " آندومي " بخلطة الدجاج أو الخضروات هي الوجبة التي تحب أن تسحبها إلى جوفك بسلاسة مطلقة ، بينما أنفاسك تلهث خلف لهفة تخطف أبصارك في موضع مما تقرؤه .. ولا مانع من استرخاء على نحو آخر مع قطع من " الجالاكسي " الذي يذوب في الفم بنشوة مدهشة وقد تتضاعف الكمية ؛ فالدراسات أثبتت أهمية الشوكولاتة لتحسين المزاج وتنشيط الطاقة .. بينما قد يطلق الكتاب المنسجم معه عنان خياله فترتشف " الـ " ريد بول " لتحلق بجناحين من الطاقة مشاطرا بذلك خيال الكتاب ، ناهيك إلى مشروبات حارة ، ليكون " الشاي " مع سكر زيادة أو " النيسكافيه " مع حليب كامل الدسم وسيلتان لتنبيه ما لبس على العقل في جرم السهر ..
مع الأيام تغدو مثقفا حقيقيا وقارئا كبيرا مع شاهدين لا يكذبان أعين الآخرين قط فـ" كرشك " الكبير و" فخذيك " المشحمين خيرا دليل ..! مع رفيقين على ما يبدو سيرافقانك لزمن ممتد " السكري " و" الكوليسترول " وقد لا يغادرانك أبدا كلما فرط تدليلك لعادات القراءة ..!
لكنك تستطيع أن تستيقظ من هذا الكابوس بتخصيص – ساعة يوميا - تطلق فيهما ليس قدميك فقط ، بل عقلك لمتعة الانطلاق والصحة والرشاقة لتغدو كاتبا وقارئا يتمتع بصحة جيدة ..
ومجال الحرية شاسع بين الأخذ بنصيحة الكاتب " وليام سارويان " وبين ما تناوله المقال ، دون أن يفوتني تذكيركم بكابوس مرعب يدعى " شبح السمنة " اجعلوه نصب أعينكم كلما سولت لكم أنفسكم تدليل الكسل ..
وما ألذّ تدليله ..!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت قراءة مفصلة عن هذا الكتاب الصادر حديثا في باريس للمؤلف " جورج فيغاريللو " في ملحق " مسارات " التابعة لجريدة البيان الإماراتية ، العدد 104 ، 2010م .



الأربعاء، 21 يوليو 2010

دفتر الأبله



دفتر الأبله / هاكوب بارونيان


- ألم تقدم الفحص يا بني .


- نعم قدمته يا أبي .

- ألم يهد إليك أستاذك كتابا يوم توزيع الشهادات .

- كلا يا أبي .


- ولماذا ؟


- لأنني أنا أيضا لم أعط أستاذي شيئا في عيد رأس السنة يا أبي .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


هاكوب بارونيان :


من كتاب القرن التاسع عشر ، رائد الأدب الأرمني الساخر ، كان كاتبا تركيا بامتياز ، وقد كتب في مقدمة عمله الشهير " دفتر الأبله " : ( أيها السادة سأسخر ولست بحاجة إلى لحن أو بيانو كي أسخر )


هذه القصة القصيرة جدا مأخوذة من كتابه " دفتر الأبله " وهي عبارة عن قصص قصيرة جدا وحوادث يومية قصيرة يرويها بارونيان على شكل يوميات يعرض فيها وقائع الحياة وسياستها على طريقة السخرية محاولة الإصلاح من خلالها .

السبت، 17 يوليو 2010

أطفالنا بين جاذبية المجلات الالكترونية وحميمية المجلات الورقية


أطفالنا بين جاذبية المجلات الالكترونية وحميمية المجلات الورقية
استطلاع : إيهاب مباشر
جريدة الوطن " الأشرعة " ..

نشأت مجلات الطفل في العالم العربي عام 1870م بعد مرور أربعين عاما على صدور أول صحيفة للأطفال في العالم في فرنسا ، وأولى هذه المجلات العربية حملت عنوان " روضة المدارس المصرية " وكان يشرف عليها رفاعة الطهطاوي ، وبعدها صدرت مجلة " روضة المعارف " في لبنان ، ومجلة " الصبيان " في السودان ، مذ ذاك التاريخ توالى صدور مجلات الأطفال في العالم العربي ، وتربعت المجلات الورقية على عرش صحافة الطفل ، فنشأت " حميمية " من نوع خاص بينه وبين إصداره الورقي ، وبعد التطور التكنولوجي الهائل وثورة المعلومات والاتصالات ، توالى صدور المجلات الالكترونية الخاصة للطفل بشكل " جذاب " أغراه على التخلي – ولو بشكل مؤقت – عن مجلته الورقية ، ومنذ ذلك الوقت نرى أن الكثير من الأسئلة طرحت نفسها ، تماشيا مع هذا التطور ، وهذه الحرب الخفية بين الإصدارين ، فهل ستبقى المجلة الورقية محافظة على موقعها وتواصلها مع الطفل أمام المجلة الالكترونية ، أم سيأتي اليوم الذي تتلاشى فيه المجلة الورقية لحساب المجلة الالكترونية ؟ وما الدور الذي تقوم فيه مجلات الأطفال ، لبناء شخصية الطفل العربي ؟ وكيف يتواصل الطفل مع ما يتقدم له من أدب ، على المواقع الالكترونية ، وماذا عن تواصله مع المجلات الورقية ، محليا ، إقليميا ، عربيا ؟ وما الذي يميز المجلة الورقية وتفتقر إليه المجلة الالكترونية ؟ وهل يميل الطفل إلى المجلات الكترونية ، التي توجه إلى جمهور محدد من الأطفال ، وهل بعض المجلات الالكترونية ذا توجه إسلامي ، تقدم وجبة ثقافية كافية وكاملة للطفل ؟ وهل المواقع العربية الالكترونية للمجلات الورقية ، ومواقع المجلات الكترونية ، تلبي حاجات الطفل العربي ؟ مجموعة لا بأس بها من الأسئلة التي حملناها إلى كتاب أدب الطفل والمهتمين به ، فكان استطلاع " أشرعة " الذي حمل عنوان " أطفالنا بين جاذبية المجلات الالكترونية وحميمية المجلات الورقية " فإلى تفاصيله ..

أفضل حظا

بداية كانت مع الكاتبة ليلى البلوشي ، لبحث مصير المجلة الورقية وهل ستظل محافظة على موقعها وتواصلها مع الطفل أمام المجلة الالكترونية ، وما الدور الذي تقوم به المجلات الورقية لبناء شخصية الطفل العربي ؟ وكيف يتواصل الطفل معها ، فجاء جوابها من صميم تجربة واقع معاش ، فقالت : ( أطفال اليوم أفضل حظا بكثير من أطفال الزمن القديم ، حيث لم يكن ثمة وسيلة تثقيفية سوى الكتب المدرسية وترفيهية سوى التلفاز بقنواته القليلة وبعض مجلات التي تجمع ما بين التثقيف والترفيه ؛ رغم ذلك لا تجد طريقها إليهم إلا نادرا ..
طفل اليوم هجمت عليه وسائل العلم والمعرفة والتسلية دفعة واحدة ، فهناك مجلات متنوعة يجدها في أقرب بقالة لمنزلهم ، والتلفاز أصبح يدللهم فالبث مباشر على أربعة وعشرين ساعة يوميا بلا كلل يقدم رسوما متحركة وبرامج للأطفال متنوعة ، وهناك جهاز صغير وهو اختراع هذا العصر بكبسة زر واحدة يمسك الطفل بالكون في عولمة صغيرة هي عالمه الخاص ..
وكل جديد هو جاذب للطفل ، مادة اغرائية يبقى أثرها لفترة طويلة المدى ، لكن ما مدى استفادة الطفل الحقيقي من هذا الشيء الذي يراه مدهشا .. ؟
لا تتوقعوا مطلقا أن الطفل حينما يقابل شاشة الحاسوب أن يفكر بتنمية ثقافته ، أو أن يضغط على أزراره السحرية ليفتح أبواب المعرفة ، بل إنه على خلاف ذلك نراه ينطلق وبلا تردد ليتعرف على عوالم التسلية ، ومن لعبة إلى لعبة يشبع لديه حافزه الحركي ، وآخر ما يفكر فيه هو أن يلج مداخل المجلات الالكترونية المخصصة لمخاطبته ، فهو إلى اليوم لا ينكر وجود تلك المجلة الورقية ..

وسيط

وتضيف ليلى البلوشي : ( والطفل لا يفكر كما يفكر الكبار على أساس أن النشر الالكتروني بديل عن النشر الورقي ، بل كل له بروزه وكل ما يزال يحتفظ بمكانته ، الاختلاف يظهر حين يتوقف وصول المجلة المفضلة لديه ، فيكون النشر الالكتروني بديل بالنسبة له ، هذا إن كان الطفل تواقا للمعرفة .. وهنا نشير إلى دور الوسيط المجتمعي المحيط به ؛ فهذا المحيط إن كان يولي أكبر اهتمامه بالمعاملات الالكترونية فمن الطبيعي أن ينتقل الطفل تدريجيا إليها ، فكثير من المدارس اليوم تحتم على كل طفل أهمية وجود جهاز حاسوب خاص به ؛ كي يستقبل الفروض والمهام المدرسية من خلالها ، وكما أن معظم أمهات اليوم يتابعن مستوى أطفالهم في المدارس من المواقع الالكترونية التي تخصصها المدرسة لتلاميذها .. وقد يقرأ الطفل مجلة ورقية ثم يقابله في نهاية الموضوع الذي قرأه إحالة للمراسلة أو تعرف المزيد من خلال موقع الالكتروني للمجلة نفسها ، فكل هذه العوامل ذا تأثير كبير على تحول الطفل من النشر الورقي إلى النشر الالكتروني .. )

تجربة

( ومن موجب تجربتي الشخصية مع تلميذاتي بدأت أتماشى مع العصر الجديد ، فألزمت تلميذاتي على إرسال الملفات والفروض المدرسية على بريد مخصص لهم ، لكن من جانب آخر أحرص في حصص الاستماع والتحدث وهو فرع من فروع مادة اللغة العربية على اختيار قصة مناسبة من المكتبة وجعلها مصدر دراسة وتحوير ..
فما تزال المجلة الغنية بالصور والحكايات المثيرة محببة لقلوب الصغار ، ولكن لا ذنب لهم في أن العصر في كل يوم ينجب لهم اختراعا جديدا ، وكل جديد يحمل معه دفقة فضول ، وفضول الصغار أكبر بكثير من فضول الكبار .. ولا يمكن أن نلغي أهمية مجلات الطفولية للصغار ، فما تزال لمجلة ماجد الصدارة في حب الأطفال لقراءته كل أربعاء ، ولا يمكن أن ننكر مطلقا دورها الريادي الكبير في تنشئة الأطفال من جوانب عدة ، وغيرها من المجلات ذات تأثير على فكر الطفل ، وحب الأطفال لهذه المجلات هي من يبقيها حية إلى اليوم ، وإذا ما انطفأت رغباتهم نحوها ؛ فإن هذا سرعان ما سيؤثر عليها .. )

تفضيل

( ويأتي عامل التفضيل إذا ما اتصفت المجلة الالكترونية بعوامل يجعلها متفوقة على النشر الورقي من المؤثرات الصوتية والصور المتحركة ، لكنه يظل تفضيلا مؤقتا وليس له ثوابت ؛ لأن لا وجود للثوابت مع الكائن الصغير الذي نتعامل معه ، فهو حركي ، متقلب المزاج ، مرن ، من الممكن جدا أن يبدل رأيه بأسرع مما نتصور ، كاللعبة الجميلة التي يبكي من أجل امتلاكها وحين تشترى له يشبع منها بعد مدة زمنية قصيرة فيتخلى عنها بالتمزيق أو إهدائه لصديقه .. وإذا ما كانت ثمة ثوابت في حياة الطفل لخسرت دور النشر ، ولأعلنت كل محلات الألعاب إفلاسها ..!
و ثمة قاعدة مهمة موجودة في حسبان الطفل ، وهو أنه لا يلغ أي فن ، ولكن يتبع فضوله إلى كل ما يثيره ، فإذا ما كانت القصص مؤثرة ؛ فمن الممكن جدا أن يفضلها على ألعاب الحاسوب وهلم جرا ..)

ساحة شاغرة

(عندما نتحدث عن الطفل العماني نرى فجوات عديدة ، ماذا قدم المجتمع له ؟ من يكتب له ؟ هل هناك مؤسسة تعنى به ؟ هل هناك مجلات وملاحق تخاطبه ؟ وما دوره في مجتمع الكبار ؟
هناك جهود متفرقة ، يتيمة ، يقوم بها أنفار من الكتاب ، وهؤلاء الكتاب أيضا بحاجة ماسة لإلقاء الضوء عليهم كي لا يتخبطوا في ظلام الإنكار ، كي تستحيل جهودهم الصغيرة إلى مفاجآت كبيرة ، كي تنقل خطواتهم من حيز ضيق إلى حيز واسع ..
ساحة الطفل العماني ميدانيا ما تزال شاغرة ، وإذا ما انتقل إلى النشر الالكتروني وتعلق به فله عذره ؛ لأن العالم المحيط به لم يوفر له بدائل أخرى ، فلا مجلة تخاطبه ولا جهة معنية توفر ما يتطلبه ، فلا يبق أمامه سوى المجال الالكتروني ، هذا إن كان هذا الآخر متوفرا لديه ..ثم هل هناك مناسبات تختص بأدب الطفل سواء كتابات يكتبها الكبار للأطفال أو مسابقة لأقران صغار يكتبون لأطفال مثلهم ..؟ كل هذه الخطوات هي التي تدعم سياسية وفنية أدب الطفل في كل دولة ، وإن لم يكن لها وجود فمن النادر توقع نهوض هذا الأدب بشكل يسير ، فهذه المسابقات تحفز الكتاب ، وتخرج أسماؤهم إلى النور ، وتدفع بعجلة الأدب نحو التقدم ..)

مزايا

المزايا التي تتسم بها كل من المجلة الالكترونية والمجلة الورقية كانت مدخلنا للحديث مع الكاتب حسن اللواتي فقال : ( هناك مجموعة من المزايا التي تتمتع بها كل من المجلة الورقية وأرى أن العديد من المجلات الورقية تتمتع بالتبويب الجيد والقدرات الإخراجية والفنية المتميزة إذ تشجع على متابعة المواد المنشورة وتحقق نوعا من الفائدة والمتعة ، وأحجام بعض المجلات يساعد على سهولة التصفح وفي المقابل فالمجلات الالكترونية تستخدم وسائط مختلفة تتمثل في الصوت والصورة والحركة والقدرة على التفاعل والتواصل المباشر بالإضافة إلى تجدد الموقع من ناحية الإخراج والمضمون ومزايا أخرى مثل سهولة التصفح وسرعة التحميل والعودة إلى المجلة في أي وقت مع الحصول على بعض أعداد قديمة وبالتالي هذا الأمر يساهم في استقطاب مزيد من القراء ..)

خصوصية

وعن توجهات بعض المجتمعات العربية والتي تنعكس على إصدارات الأطفال فيها ، وهل هذا يخدم أطفال العرب بشكل عام يقول الكاتب حسن اللواتي : ( الكثير من المجلات العربية تتمتع ببعض الخصوصيات الثقافية والاجتماعية المختلفة ، وربما يحق لها أن تقدم خدمات مثل هذه ولكنني مع المشاريع والأنشطة التي تخدم أكبر عدد ممكن من أبناء الوطن العربي خاصة أن العوامل المشتركة التي تجمعنا أكثر بكثير وهناك بعض المجلات التي تخدم قطاعا كبيرا من أبناء المجتمع العربي مثل مجلة أحمد الصادرة عن دار الحدائق اللبنانية ومجلة ماجد الصادرة عن شركة أبوظبي للإعلام ..) ..

طموح

وعن مدى استفادة من المواقع الالكترونية ، وهل تلبي الطموح ، يقول حسن اللواتي : ( المجلات الإلكترونية تعتمد على التقنيات الحديثة وتحتاج هذه المواقع إلى تكاثف مجموعة من الجهود والطاقات التي لديها إلمام ومعرفة متكاملة بهذه التقنيات بالإضافة التي لديها وعي بثقافة الطفل واحتياجاته وبالتالي يمكننا الجمع بين الاثنين بين الشكل الجذاب والمضمون الهادف والمتميز وهناك حاجة إلى فريق عمل من كتاب وفنانين ورسامين وأصحاب الخبرة في مجال تصميم المواقع وهندستها بالإضافة إلى أسرة التحرير الاعتيادية والمكونة من رئيس التحرير ومدير التحرير والمحررين والعالم العربي لم يستغل شبكة الانترنت كما ينبغي ..)

توجهات متنوعة

هناك بعض مجلات الالكترونية ذات توجه الإسلامي ، موجه للأطفال ، فهل تقدم هذه المجلات وجبة ثقافية كافية وكاملة للطفل ؟ ولماذا ؟ سؤال موجه للكاتبة خديجة الذهب ، فأجابت قائلة : ( في الحقيقة الاهتمام ينصب في اتجاه واحد لا يكفي للطفل ، وبالطبع التوجه الإسلامي لمجلات الأطفال ، توجه مطلوب وضروري لثقافة الطفل ، ولكن هذا الطفل بحاجة إلى مجلات ذات توجهات وأهداف متنوعة ، شاملة ومتكاملة في مختلف المجالات ، حتى تسهم هذه المجلة في إمداد الطفل بالمعلومات والمعارف التثقيفية والعلمية المتنوعة ، التي تثري حصيلة الطفل المعرفية وتغرس القيم الإسلامية والتربوية في نفوس الأطفال ، وتمدهم بكل جديد ومفيد ، ضمن حدود تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف ، فإذا توافرت للطفل المجلة ذات التوجهات التثقيفية الشاملة ، والمعارف المتنوعة ، عادت على الطفل بالفائدة لإشباع فضوله ، ورغبته في البحث والاستكشاف عما يدور حوله من الأشياء التي تثير فضوله وتزيد من رصيده المعرفي ، بما يتوافق ويتناسب مع اهتماماته وميوله ؛ فتترسخ المعلومات في ذهنه منذ الصغر ، ويختزنها في ذاكرته ، فتنمو مداره المعرفية ومهاراته وقدراته المختلفة ، التي تعبر من أهم المؤثرات في تكوين شخصية الأطفال ، ومساعدتهم على التفوق الدراسي ..
وبذلك يتحقق الهدف المرجو من هذه المجلات ، في إعداد جيل بناء ، متسلح بالعلم والإيمان ، وتتكون شخصية الطفل المفكرة والإبداعية ، القادرة على مواجهة الحياة في مختلف مراحل عمره ؛ فيصبح فردا فعالا مفيدا لوطنه وأمته .. )

تشويق وإبهار

وعما يجذب الطفل في المواقع الالكترونية تقول خديجة الذهب : ( أول ما يجذب الطفل ويشد انتباهه ويجعله يقبل بشكل لافت على الموقع شكل الموقع العام والجذاب ، وما يحتويه من عناصر جذب وتشويق وإعجاب ، عبر الصورة والصوت والحركة من صور ورسومات معبرة بالألوان الزاهية ، وصور معبرة ذات مستوى فني وجذاب ، من مواد ومعلومات سهلة الأسلوب ، لغتها بسيطة ومشوقة ؛ تسهل استيعاب الطفل لها ، وتغريه بالإقبال عليها ، وتحقق في نفس الوقت المتعة والتسلية له ، المجلة الورقية والمجلة الالكترونية ، لكل منها وسيلة للتواصل عن الأخرى ، ولكل منهما فائدتهما الخاصة ، فالمجلة الورقية هي الأكثر انتشارا بين الناس ، لما لها من مزايا وسحر خاص ، بتوفير الحميمية والألفة ، التي تربط الطفل بمجلته التي يمكن حملها ، والانتقال بها من مكان إلى آخر ، مثلا عند جلوسه بين أفراد أسرته ، أو في فراشه قبل نومه ؛ مما لا يستلزم وضعا ولا تجهيزا خاصا لجلسة القراءة ، فيبدأ بتصفح مجلته ، واستيعاب من معلومات متنوعة بداخلها ، وهذا ما لا توفره المجلة الالكترونية ، التي لا تمكن الطفل من لمس وتقليب صفحاتها بيديه ، أو وضع خط تحت مقطع ما شد انتباهه ،
كما أن المجلة الالكترونية بما تحتويه من غزارة في المعلومات ، وتنوعها صور ورسومات ملونة وأصوات صادرة ، بالإضافة إلى سرعة التنقل من موضوع إلى آخر ، فضغطة واحدة على زر تفتح له أبوابا متنوعة ، كل هذه العوامل المثيرة والشيقة ، تجذب الطفل ويتفاعل وينسجم معها ، وقد تشتت انتباهه وتجعله غير مركز على موضوع معين ، وبذلك يقضي الطفل أوقاتا أطول في التصفح واللعب والاستمتاع أمام شاشة الكمبيوتر ، ويمكن القول إن المجلة الورقية موجودة ولا غنى عنها ، والمجلة الالكترونية موجودة أيضا ولا غنى عن وجودهما معا تماشيا مع التقنيات الحديثة ومتطلبات العصر ..) ..