الاثنين، 30 أغسطس 2010

سجين لأنه عربي ..!



سجين لأنه عربي ..!

في مقال جميل للكاتب الإماراتي " أحمد راشد ثاني " والذي جاء بعنوان " سجين اللغة الواحدة واللغتين والشقيقة " * يسرد في مقدمته اعترافا مؤلما : " للأسف ، أنا سجين اللغة الواحدة ، ولعلي أحس بضغط هذا السجن حين يتحدث أصدقائي عن اطلاعهم على مواد أو كتب باللغات الأخرى لا أستطيع الاطلاع عليها ، وبالتأكيد ، فإن الفجوة في حياتي بيني وبين التكنولوجيا وخصوصا : الهواتف النقالة والكمبيوتر ، تعود في جزء منها إلى ضغط ذلك السجن ، بل وأكثر ، فالمرء يحس نفسه معزول في بلد يزخر بعشرات الجنسيات وبالتالي اتفقت حياتهم على الحديث بلغة مشتركة ، هي في حالة دولة الإمارات ومنطقة الخليج الإنجليزية ، ولقد خسرت كثيرا من الصداقات نظرا لضعفي في التحدث بهذه اللغة أوغيرها ، وتكبد قلبي إخفاقات لا أظنها ستحدث لولا هذا الشؤم اللغوي " ..

غصّة الكاتب تذكرني بالغصّات التي شعرت بها ، كلما وقفت أمام المكتبة التي تقع في وسط " كارفور" في مركز منار في رأس الخيمة ، وأنا أرى أمامي آلاف الكتب بلغات أجنية متعددة ، أقف بالقرب منها ، لكن دون أن أدنو منها كثيرا ، دون أن أجسها بيداي وأتملى في صفحاتها كأي قارئة فضولية ؛ خشية أن يقترب مني البائع وهو يحييني بلغة اسبانية سلسة كاسباغيتهم الشهية ، ولا أعرف ببلاهة بأي لغة أرد عليه تحيته الشهية تلك ..!

وأكبر الغصّات كانت في العام الماضي في معرض رأس الخيمة للكتاب ، وأنا عابرة بخفة بين ممراتها ، لأجد أمامي جمهرة من الكتب ، مغلفة بشكل مثير لعين الرائي ، اقتربت منها ، حملت إحدى تلك الكتب وكأني أحمل قطعة أثرية ثمينة ، قلبت بشغف أوراقها الناصعة بالكتابة ، آلاف الكتب متراصة على انتظار ، تتلهف من يمد لها يدا حانية ولكن لا احد سواي ، لأن صفحاتها تتحدث باللغة الأوردية ، ولم استغرب عدم وجود البائع متربصا مشتريه ؛ لأنه يعرف جيدا أن تلك الكتب وضعت في مكان وبيئة خطأ ، أم أننا نحن المخطئون ..!

تجرعت يومئذ سؤالي المحطم وأنا والجة الجناح الإيراني ، تفاءلت خيرا حينما حياني المسئول عنه بلغة عربية دون أن يغادر صوته بحّة الحروف الفارسية ، رددت تحيته بأفضل منها مع ابتسامة تقول له بأنها تأمل الحصول على مبتغاها ، كتاب يتحدث عن إيران كمدينة وتاريخ وجغرافيا ..
حوطني بابتسامة أكبر أشعرتني باطمئنان كبير ، بينما صوته يسحبني خلفه إلى كتاب ضخم ، عريض الصفحات وسميك الغلاف ، متنوع ، مليء بالصور ، تحفة حقيقية تحكي بعمق عن إيران ومدنها وتاريخها وجغرافيتها وبشرها ، يستعرض عنها كما أريد تماما ، كما كنت آمل تماما ، لكن ليس بلغتي بل بلغتهم هم ..!
ولكن تلك الغصات لا تموت ، بل إنها ترافقني في كل معرض كتاب أي أنها " غصّات سنوية " ، ففي معارض الشارقة وأبوظبي لطالما جنبت زوايا الكتب المعروضة بلغات عالمية ، ينتصب بالقرب منها مترجمو اللغة ومتحدثوها ، بينما أمرّ عبرهم كسيرة الجناح والفؤاد واللغة ..
والغصة ليست على مستوى القراءة والتثقف الأدبي ، إنها قائمة وموجودة على كافة المستويات في كل الدول العربية أخصها بالخليج ؛ فالخليج غدت اليوم قبلة شعوب العالم المختلف ، متفتحة عليها من أصعدة عدة .. لكن ماذا أخذ منها شعبها ..؟!
هل ساهم هذا الاختلاط بكل تحدياته في إشكالية التغير ..؟ هل عرف أهل الخليج كيف يتكلمون اللغة الهندية والانجليزية والفلبينية والفارسية وغيرها من اللغات رغم التحاشد المستمر عبر تلك السنوات ..؟!

يحاول العربي أو الخليجي تحديدا إلى أن يخاطب الآخر بلغته ، حتى وإن كانت الحروف تخرج منه مكسرة ولا يفهم منها سوى الإشارات كأنه يخاطب أخرسا ..!
لأننا وبكل بساطة مطلقة نؤمن بتفوقهم علينا ، هذا التفوق الذي يشعر به كل عربي عندما يرمق بإعجاب أصحاب اللغات الأخرى ؛ والدليل أن كل شخص لديه أكثر من لغة ، هو شخص متفوق ، ولديه مستقبل ، في دولنا العربية من يجيد لغة يجيد حرفة ..
لكن بالمقابل هل الأجنبي مهما كان انتماؤه فرنسيا أو يابانيا أو ألمانيا فكر يوما ما ، رغم أن الكثير منهم مقيم في دول عربية إلى تعلم اللغة العربية ، أو محاولة إتقانها ..؟!
إنه لا يريد أن يتعلمها ؛ لأن اللغة العربية بالنسبة له لا تشكل تفوقا في دولته ، فماذا يفعل الفرنسيون أو الايطاليون أو غيرهم باللغة العربية ..؟!
لهذا على العرب كي لا يخسروا رهان التفوق ؛ عليهم بالانفتاح من خلال إتقان لغات العوالم الأخرى ، ومن كانت له لغة واحدة فهو سجين العالم ..!

العربي يشعر بالعجز في مدينة لا يتقن لغة أهلها ، لكن العكس بالنسبة للأجنبي في بلاد عربية ، فإن شعور العجز لا يكاد يطفو ؛ لأنه سيرى مترجما أمامه يحتفل به وبلغته ، ولأن على العربي أن يتنازل كي يتحدث معه بلغته والمفروض العكس لأنه في بلاد عربية ، حتى العمال الآسيويون نتحدث معهم بلغتهم ، ولم يحدث أن بادرونا بلغتنا العربية ..!
يكتب أدباء اللغات الأخرى بلغات عوالم أخرى ، يتسابق اليابانيون والصينيون الكتابة باللغة الفرنسية ، والاسبانيون والتركيون باللغة الانجليزية ، لكن هل سمعنا بأدباء من لغاتهم بادروا إلى كتابة رواياتهم باللغة العربية إكراما للشعب العربي ..؟!

لولا الانفتاح على مستوى الترجمة في الوطن العربي ، لما وصلنا شيء من لغات أخرى ، حتى الكتاب العرب المترجمون منهم حين يطلبون من كاتب لغات أخرى ترجمة أعماله إلى العربية ، تقبضه نعرة مفاجئة من الطلب ويعلق مندهشا أكثر منه مغتبطا : حقا ، لم أكن أعلم أن ثمة قراء من العرب يهتمون بقراءة أعمالي ..!
ولا نكاد نحيط بمغزى تعليقه أهو سذاجة أم براءة أم ماذا ..؟!

إذن على العربي أن يخبئ مرارة تفوق اللغات الأخرى في قلبه ؛ كي يرمم عقدة النقص لديه ، عليه أن يتعلم لغتهم ؛ كي يأمن شرهم كما أمرنا بذلك رسولنا الكريم ..

ولعل الحكمة هو أن نحذو حذو مراهقة أخبرتني عنها زميلة مقربة ، وهي واحدة من أولئك اللاتي جرفتهن حمى متابعة مسلسلات يابانية بلغتهم الأصلية ، والجميل في هذه التظاهرة هي أن ابنة أختها المراهقة مذ أبهر لبّها هذه المسلسلات ، لا يفارقها معجم اللغة اليابانية مع كراس من حجم كبير ، تسجل فيه كلمات باللغة اليابانية ، ثم تحاول فك طلاسمها من المعجم الذي بين يديها ، ومن ثم تسجيلها ومحاولة حفظها في كراسها الخاص الذي بات لا يفارقها ، ونجحت بالفعل في تحقيق معجزة إتقان بعض عبارات باللغة اليابانية ؛ والسر في تعلم اللغة هي أنها عزمت السفر إلى اليابان والعيش هناك ، وهي تستعد لحلمها - بدأب لا ينقصه الهمّة - مذ هذه المرحلة ..!

ويختم الكاتب " أحمد راشد ثاني " مقالته بسخرية رائقة وبحلم من هو سجين لغة واحدة ؛ فهو يريد أن يصاب بما يسمى بـ " متلازمة اللهجة الأجنبية " كالتي أصابت امرأة تدعى " سارة كولويل " كما حكى عنها في المقال ، ففي صباحات أحد الأيام استيقظت ولسانها يتحدث الصينية بطلاقة ، رغم أنها لم تزرها مطلقا .. كل هذا نتيجة صداع نصفي أثر في الدماغ بطريقة ما كما فسر العلماء جعلتها تتحدث بلغتهم ، والجدير بالذكر أن "سارة كولويل " البريطانية لا يعجبها تحدثها باللغة الصينية ؛ ولطالما شعر البريطاني وأمريكي والفرنسي بالتفوق على الصيني المسكين الذي هو الآخر يعاني من عقدة الأوروبي ..!
بينما كاتب المقالة أمنيته أن يصاب بهذه العلة ، ولكن بشكل أشد بـ " متلازمة لغات أجنبية " ؛ فأحلامه كثيرة لا تكتفي بلغة واحدة ؛ كي يصحو في الصباح يقرأ باليابانية صفحات من رواية لكاواباتا ، وعند الظهيرة يخرج إلى مقهى مطل على البحر ؛ كي يقرأ سونيتات شكسبير باللغة الانجليزية القديمة ، وليس لديه مانع أن يتحدث الفلبينية مع نادلة تدعى " بيتي " وهي أقدم نادلة في أبوظبي ، وأن يقرأ قصيدة الشاعر " ادغار آلان بو " بلغتها الأصلية ، وفاوست " جوته " باللغة الألمانية .....، ولا تكف سلسلة أحلامه اللذيذة الغارقة في أدبيات اللغات الأخرى ॥


ولي أنا الأخرى أحلام متعددة كأحلامه ولكن بطريقة أخرى ، حلمي أن أجلس مع الكاتب " باولو كويليو " وهو يحكي لي حكاية فيها الكثير من الحكمة بلغة عربية سلسلة ॥ وأن أتمشى مع الكاتب التركي أورهان باموق على أرض تركيا الخلاب ، بينما هو يحدثني بلغة عربية صافية عن آخر مشاريعه الكتابية ..


أن تفاجئني الكاتبة " ايزابيل الليندي " بكتابة رواية باللغة العربية وتطلب مني مراجعة كلماتها العربية .. وأن أثرثر مطولا مع الكاتبة " الفريدة يلينيك " على موقعها الالكتروني .. وأن يلقي الشاعر الأمريكي " تشارلز سيميك " قصائده الرائقة بحس عربي أصيل لا تشوبها شائبة .. وأن أستمع إلى تجربة الكاتب الصيني " داي سيجي " لإعادة تأهليه في الثورة الثقافية بصوته الصيني ولكن بلكنة عربية ، وأن أتوسل إلى الكاتبة " هيرتا موللر " أن تكفنا ذل انتظار رحمة المترجمين لأعمالها بلغتها ، وتقوم هي بهذه المهمة ؛ من أجل عيون قراءها العرب .. وأن أطالع مؤلفات " نيتشه " و" هاروكي موراكامي " و" جوته " و" بورخيس " و" مارسيل بروست " و " دوستويفسكي " و" كافكا " وغيرهم ، دون أن توسوسني مدى صحة الترجمات التي نقرأ بها أعمالهم العظيمة .. وأكون ممتنة لو أتابع في دور السينما فيلما لـ" انجلينا جولي" ، وهي تتحدث باللغة العربية وإلى ........ لا آخره ..
والأحلام لا تنتهي أبدا ، فمن يطارد حلما كيف يرتاح ..؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال للكاتب " راشد أحمد ثاني " ، نشر في جريدة " الاتحاد الثقافي " ، العدد 172 .

الأربعاء، 25 أغسطس 2010

تذوق الكاري الهندي مع جومبا لاهيري



تذوق الكاري الهندي مع جومبا لاهيري

" جومبا لاهيري من نوع الكتاب الذين يجعلونك ترغب في أن تمسك بأول شخص تراه وتحثه على قراءة هذا الكتاب "

- آمي تان -
* * *

أول قصة قرأتها للكاتبة الأمريكية هندية الأصل " جومبا لاهيري " هي قصة " القارة الثالثة والأخيرة " يعود ذلك إلى عام 2006م من مجلة البوتقة _ مجلة فصلية تعنى بالأدب الانجليزي – تقدمها هالة صلاح الدين حسين ..
وهي قصة روتها -لاهيري - عن والدها الذي هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية مذ ثلاثون سنة ، ليقيم عند سيدة عجوز تناهز المائة وثلاث سنوات ، وقد حكت لاهيري قصة تلك المرأة والأجواء التي مر بها والدها خلال تلك الفترة حيث كانت هي ما تزال طفلة صغيرة ، وقد استغرقتها كتابة هذه القصة حوالي ستة أشهر باءت معظم مسوداتها بالفشل ؛ إضافة إلى جهود مضنية للحصول على نسخ من صفحات جريدة الباسطون جلوب من 20 يوليو 1969م ، وهو يوم هبوط سفينة الفضاء أبوللو II على القمر ، لكنها تمكنت في النهاية من مفاجأة والدها بالقصة التي خرجت بحلة فنية رائعة ..
تعد " جومبا لاهيري " كاتبة مهاجرة ، ورغم أنها ولدت في لندن ومن ثم ترعرعت في الولايات المتحدة الأمريكية ، إلا أنك حينما تطالع مجموعتها القصصية " ترجمان الأوجاع " تستشعر كأنما الكاتبة انبثقت بذرتها من صميم التربة الهندية ، فلم يفلح اغترابها عن وطنها الأصلي عن زعزعة تلك الأصول الهندية الكامنة في أعماقها ..
واذكر عددا لا بأس به من - الكتاب المهاجرين – استقطبتهم عوالم الحياة في أمريكا ؛ لتتفق تجاربهم مع تجارب " جومبا لاهيري " في عرض قصصهم ورواياتهم عنهم ، واستحقوا عليها جوائز عالمية من أمثال الكاتب الدومينيكي " جونو دياث " التي فازت روايته " الحياة الوجيزة والرائعة لأوسكار واو " بجائزة " بوليتزر 2008م " وهي الجائزة عينها التي فازت بها لاهيري لمجموعتها التي نحن بصدد عرضها " ترجمان الأوجاع " عام 2000م ، والكاتبة الأمريكية روسية الأصل " لارا فابنيار " وهي مؤلفة لمجموعتين من القصص القصيرة ، الأولى بعنوان " البروكولي وقصص أخرى عن الطعام والحب " 2008م ، والثانية بعنوان " هنالك يهود في بيتي" 2004م ، و رواية بعنوان " مذكرات شاعرة " 2006م .. وفي بريطانيا الكاتبة الهندية " كيران ديساي " كانت لها رواية تحكي فيها عن أوضاع المهاجرين وعزلتهم في بلاد الغرب ، وحصدت روايتها تلك على جائزة " بوكر " الرفيعة في الأدب ، والكاتب الأمريكي الصيني الأصل " ها جن " في مجموعته القصصية الأخيرة " سقطة طيبة " خاض في غمار تجارب المهاجرين من الصينيين ، أولئك الذين استقروا في حي فلشنج في كوينز بنيويورك وآثار هجرتهم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي ..

في " ترجمان الأوجاع " نجد في هذه المجموعة مع فنيتها المبسطة وحيوية حواراتها ، عادات هندية احتفظ بها المهاجرون بشدة ، كما تحتفظ المرأة الهندية المتزوجة بالمادة القرمزية ما بين مفرق شعرها .. لعلنا نشير إلى بعض منها :

* نلمس حب الهنود لبعضهم البعض في الغربة ؛ فالهنود يميلون لعيش ضمن جماعات كخليات النحل وقوافل النمل ، وكان ذلك جليا في قصة " عندما أتى السيد بيرزادة لتناول الطعام " فالقصة تحكي عن رجل وامرأته وطفلة في العاشرة من عمرها ، كان الرجل والمرأة يعيشان في حي لا يزورهم الجيران مطلقا إلا بدعوة ، ولا كان الأطباء يستجيبون لنداء المنازل ، تلك الوحشة هي التي دفعت الزوجين للبحث في سجلات جامعة " بوسطن " عن قادمين جدد يحملون جنسيات هندية ، ومن خلال كشف الأسماء تعرفا على " السيد بيرزادة " الذي جاء من " دكا " حيث ترك بناته السبع مع زوجته هناك ؛ لإجراء دراسة عن أوراق النبات في ولاية " نيو إنجلاند " ، فاتصلا به ليقيما بدعوته إلى منزلهم .. وهكذا كان " السيدة بيرزاده " يزورهم في كل مساء ؛ لتناول العشاء ومشاهدة التلفاز ..

* القصة عينها تحكي عن الانقسام الذي حصل 1947م ، الذي تحرر فيه الهنود من الاستبداد البريطاني ؛ ليغرقوا في وحل الحروب الأهلية بين المسلمين والهندوس .. كما جاء على لسان الأب وهو يوضح لابنته الفكرة بالإشارة إلى الخريطة التي أمامهم : " مثل الكعكة .. الهندوس هنا ، والمسلمون هناك ، ولم تعد دكا تابعة لنا " وتتساءل تلك الطفلة التي يدهشها هذا الانقسام رغم أن السيد بيرزاده ووالدها يتحدثان اللغة ذاتها ، وتضحكهم النكات ذاتها ، ناهيك عن التشابه في ملامحهم ، وجميعهم يأكلون المانجو المملح مع وجباتهم ، ويتناولون الأرز بأيديهم كل ليلة في طعام العشاء .. : " إن السيد بيرزادة بنغالي ، لكنه مسلم ، وهو لهذا يعيش في شرق باكستان ، وليس في الهند " هكذا فك والدها عقدة دهشتها من حيال هذا الوضع .. إذن الغربة هنا ذوّبت الاختلافات الطبقية والطائفية ، ليحل الحب وتقبل الآخر كما هو محلهما ..

* يعيش الهنود غربتهم على طريقتهم ، بل نقول إنهم يفرضون على الغربة هنديتهم المهاجرة ، كما نرى في قصة " منزل السيدة سين " زوجها أستاذ جامعي حيث يعمل مدرس مادة الرياضيات ، تقضي " السيدة سين " معظم وقتها وحيدة ، لهذا تنشر إعلانا عن استعدادها لرعاية الأطفال ، وهكذا تجد نفسها ترعى الطفل " إليوت " وهو صبي في الحادية عشر من عمره ، في أثناء اعتنائها بالطفل تدأب " السيدة سين " على طبخ الأكلات الهندية ، بل تحرص في الذهاب إلى محل خاص لشراء السمك وتتفق معهم في حال وصول أسماك طازجة بمهاتفتها بذلك ، وكانت في أثناء فترة الطبخ هذه تسترسل في أحاديثها مع الطفل " إليوت " فتحكي له عن أمور وذكريات مرت بها في الهند ، فحكت له مرة عن قصة النصل الذي أحضرته من الهند : " كلما كان هناك زفاف في العائلة ، أو احتفال كبير لأي سبب ، كانت أمي ترسل لإخبار كل نساء الجيرة ، كي يحضرن أنصالا كهذا النصل ، ثم يجلسن في دائرة هائلة على سطح منزلنا ؛ يضحكن ويثرثرن وهو يقطعن خمسين كيلو جراما من الخضروات ، ويبقين على هذا الحال طوال الليل " .. بينما تجد في صوتها وحشة كبيرة عن الخواء المحاط بها وهي تسأل الطفل " إليوت " بقولها : " إليوت .. لو أنني شرعت الآن أصرخ بأعلى صوت ممكن .. هل تظن أحدا سيأتي إلي ؟ " فنراها تستأصل من ذاكرتها الجواب في حال إن كانت في الهند : " في بيتنا .. هذا هو كل ما يجب عليك فعله ، فليس لدى الجميع هواتف ، فيكفي أن ترفع صوتك قليلا ، أو تعبر عن حزن أو سرور ، وسوف تجد كل جيرانك ونصف جيران جيرانك قد أتوا ليشاركوك الخطب ، أيا كان ، ويساعدونك في الترتيبات " .. فيدرك " إليوت " أن كلمة "بيتنا " التي ذكرتها السيدة سين تعني بها بيتها في الهند ..
والحزن يكابدها حين يصلها خطاب من كلكتا ، يخبرها بأن أختها وضعت طفلة جميلة وهكذا تدرك بأنها لن تستطيع رؤيتها ربما لسنوات فلا تتعرف الطفلة على خالتها وقتئذ ..! وحين يطالبا أهلها في الهند بإرسال صور يبرز منها حياتها الجديدة يتأزم فيها الحزن بشكل كبير ..


* قصة " القارة الثالثة والأخيرة " وهي آخر قصص المجموعة تكاد تكون غنية بالعادات الهندية التي بثتها " جومبا " هنا وهناك ، فنجد في البداية أن الأب الذي سكن لوحده في أمريكا لم يفكر قط في أن يخون زوجته مع امرأته أخرى ، بل نقول تغيب في المجموعة كلها علاقات غير الشرعية التي يقوم بها الرجال في حال ابتعادهم عن زوجاتهم ، وكذلك الحال مع المرأة الهندية .. يفوح في هذه القصة تحديدا روائح الكاري الهندي مع البيض الذي يطبخه الزوج لزوجته حين قدومها من الهند ، دون أن يفوتهم تجريب بعض الوجبات الأميركية نحو وجبة " كورن فليكس " مع الحليب ، الذي دأب الزوج على تناوله في فترات الإفطار عوضا عن الأرز الذي اعتاد عليه معظم الأزواج البنغاليين كوجبة إفطار أساسية .. كما نرى التزام المرأة بالملابس الهندية الساري أو الشروال حيث كن النسوة الهنديات في أمريكا تحرصن على ارتدائه وتفضيله على الملابس الغربية ..
كما برز مبادئ الزواج التقليدي الذي يفرض على الرجل ، ففي القصة كان الزوج قد تزوج بناء على اختيار أخيه وزوجته اللذين كانا مقيمين في الهند ، دون أن تتدخل الغربة التي يعيشها في التخلي عن هذه العادة ..

" ترجمان الأوجاع " .. مجموعة أشبه بقطار تحفل فيه كل مركبة من مركباتها نوعا من الحياة ، لكنها تتفق بطريقة وأخرى في الروح التي تفرقع في سماواتها تلك الحكايات ، استرسلتها الكاتبة في تسع قصص بلغة سهلة تتسرب إلى القلب بهدوء ، وهو الهدوء ذاته تسرد به الكاتبة معظم قصصها القصيرة ..

والمجموعة أشعلت فيني – شخصيا – إضافة إلى - حكاياتها الطريفة - الرغبة في أن أذهب إلى أقرب مطعم هندي واطلب الكاري بالدجاج مع طبق من السمك بمتبلات هندية على طريقة جومبا لاهيري ..



الأربعاء، 18 أغسطس 2010

القاصة ليلى البلوشي : أواظب على الكتابة مثل نملة ..



القاصة ليلى البلوشي : أواظب على الكتابة مثل نملة

حوار : جريدة الخليج الإماراتية / إبراهيم اليوسف

१८ / ८ / 2010م


بعد مجموعتها" صمت كالعبث " انتقلت إلى الاشتغال في مجال “القصة الومضة” وقالت: مازالت أواظب كنملة على الكتابة في مجال القصة القصيرة وتعديتها إلى “القصة الومضة”، تلك التي لا تقل أهمية عن الفن القصصي ككل، فإن اقتصار موقف متكامل بشخوصه وخلفيات الزمان والمكان في عبارة، يكون أشبه بفلاش لا يصدم العين بضوئه الباهر فقط، بل يعصر العقل، ويجعل المرء إزاءها في هيئة دهشة، وهنا مكمن الإبداع في حد ذاته، فخير الكلام ما قل ودل كما أشار القدماء ...


عن واقع القصة الإماراتية قالت: “إنها في تطور من دون شك، وهو تطور مدروس من قبل كتّابه، وثمة أقلام نسوية - بخاصة - من بين هذا المشهد تستحق الإشادة والمتابعة الدائمة، وهن أضفن أجواء حركية على مساحة الإبداع القصصي في الإمارات، فمن معينهن الفكري والخيالي نستشعر تجدداً حقيقياً ملموساً، ونجد جرأة عالية وروحاً شابة وثابة، معايشة للأجواء المحلية والعربية على حد سواء، ولكن من دون أن نغفل الجهود التي تبذلها الهيئات والمؤسسات الفكرية والثقافية في الإمارات، لضخ روح الإبداع والابتكار والتجديد في الجسد الثقافي في المنطقة ..


وعن اسهامها في مجال دراسات أدب الطفل قالت: ولوجي عالم أدب الطفولة كان مغامرة بحد ذاته، ومازلت أتذكر أولى اتجاهاتي لهذا المجال، كانت عبارة عن بحث أكاديمي - مشروع تخرج - قدم للدكتور القائم عليه وقت ذاك وهو “إبراهيم الغنيم”، لكن بعد التخرج اقترح عليه الدكتور أن أحول البحث إلى مشروع كتاب، وهنا بدأ توجهي إلى أدب الطفل ولا يزال” .
وأوضحت: “لي كتاب تحت الإصدار يدعى ب “تحليقات طفولية تحت فضاء الكتابة الإبداعية”، وهو عبارة عن دراسة نقدية لقصص من إبداعات طفلات لا تتجاوز أعمارهن الخامسة عشرة، قدمتها لي مشكورة الأستاذة “إحسان السويدي” مسؤولة المجلس الأعلى للأسرة، والقصص الدارجة في الدراسة كانت قد حازت جائزة المجلس الأعلى في مسابقات سابقة । ما أود الإشارة إليه أن هذه الكوكبة الطفلية بأناملها المبدعة، استطاعت من خلال إبداعاتها أن تقدم صورة مشرفة عن مستوى أدب الطفل في الإمارات .


وأعكف حالياً على جانب جديد في جوانب أدب الطفل، ولا يقل أهمية عن الجوانب الأخرى، وهو دراسة تعنى ب “رسومات الأطفال” وهو مجال فضفاض جداً، ولا أنكر أن تأليفي لهذا الكتاب هو مغامرة كبيرة، فمن خلال اطلاعي على دراسات السابقين على المستوى العالمي والعربي لم أجد اختلافاً بينهما، بل معظم الدراسات كانت تأكيداً لما قاله الدارسون الغربيون، وهنا مكمن المغامرة، فالطفل الغربي يختلف كلياً في مفاهيمه وأسلوب تربيته وبيئته عن الطفل العربي، وحينما يرسم فهو لا ينفصل عن تجربته الشخصية والنفسية والبيئية والأسرية أي العالم المحيط به، وإذا كان الغربيون يرون أن الأنف الذي يرسمه الطفل إن كان طويلاً شبيهاً بحد السيف، فهو مظهر من مظاهر القبح، بينما في بلداننا العربية فهذا المفهوم على النقيض تماماً، لذا حين يرسم الطفل العربي، فإنه لن يتحرر عن المفهوم البيئي الذي نشأ فيه، وهذه الدراسة بمجملها لا تزال قيد الكتابة والدراسة” .
وعن واقع أدب الطفل عربياً ومحلياً أجابت: “ثمة اهتمام ملحوظ جداً على مستوى الأدب المقدم للطفل، وعلى كافة الصعد، حيث يجب ملامسة حاجات الطفل ورغباته على المستوى السمعي والبصري والفكري، فهناك مهرجانات تقام على شرف الطفل، وهناك مسابقات سواء أكانت للكتاب في مجال الطفولة أو للأطفال أنفسهم، وثمة برامج هادفة تخاطب في الطفل فكره وتشحذ خياله، وهناك كتب إبداعية تتمتع بمسؤوليات ومعايير مناسبة جداً، كما هناك ألعاب تخلق متعة جديدة باستمرار .


وإذا ما تحدثنا على مستوى دولة الإمارات، فإنها سباقة حالياً في إثراء عالم الطفل بمشاريعه ومهرجاناته والكتب الصادرة، وفي توجهها الجاد هذا رصدت ميزانية ضخمة نتج عنها إطلاق مشاريع مختلفة । ولعل من أهمها جهود “مشروع كلمة”، فمن خلال المتابعة نرى كمّاً مدهشاً من الكتب المترجمة مخصصة للأطفال، وهي كتب عنيت برغبات الطفل ونفسيته وثقافته على مستويي الفكر والجودة في الإصدار” .


وقالت ليلى البلوشي: “أنا ضد الكاتب الذي يسوّر نفسه في مجال واحد مدعياً الإخلاص، فإذا كان الإخلاص هو مطلب نبيل في الحياة ففي الأدب هو غير ذلك، وطالما سمعنا من كاتب أعلن ولاءه للشعر ثم فاجأنا بإصدار روائي .
المبدع هو إنسان خلاق، فبواعث فكره من الممكن أن تقوده في اتجاهات عدة، متعتها أنها غير متوقعة .
وإن كنت شخصياً كتبت في القصة والشعر والمقال وأدب الطفولة، فإن لي طموح كتابة رواية، ولا أنكر أن تطور الفن التشكيلي في الخليج هو الآخر فتح شهيتي لهذا الفن، أنا لست فنانة ولكن أتابع وأقرأ في هذا الحقل وآمل أن أخوض هذه التجربة يوماً ما، وأضيف إليها مواهب أخرى كالتصوير الفوتوغرافي والكتابة السينمائية وفن الكاريكاتور .

الأحد، 8 أغسطس 2010

همبرغر مع صلصلة الشاي


همبرغر مع صلصة الشاي

( اترك وجبة العشاء لعدوك ) ..
هكذا ينصحنا المثل الصيني .. مع احترامي لأصحاب الشعوب ذوي العيون المسحوبة ؛ فإنني على الرغم من أني لا أعلم إن كان لي أعداء ؛ بالمعنى الفعلي لهذه الكلمة ؛ لأننا في زمن يختبئ فيه الأعداء في ملابس الأصدقاء ، أو كما أشار " ميلان كونديرا " في روايته " الهوية " أنهم غير مرئيين ، مغفلو الهوية والإرادات والقوانين ، فالتركيبة التي تتبدى لنا هنا سندعوها " أعدقاء " ، فعلى هذا السبيل لن استغني عن وجبة عشائي لأعدائي ، وإن كلّفني ذلك حفر قبري بملعقة وشوكة ، بل أفضّل أن ينام أعدائي وبطونهم تتعارك مع الجوع ؛ كي لا يمتد تفكيرهم إلى أقصى من حدود الطعام ، بفخذ دجاجة أو كبد عجل مشوي ، واسقط أنا من تصفية حساباتهم ..
" أعدائي / أعدائي / العالم مليء بالأعداء / ليس من مكان آمن " هكذا كانت تقول الشاعرة الأمريكية المنتحرة بالغاز " آن ساكستون " ..

الصينيون متسامحون كطبيعة وجوههم التي يتبادر للمرء أن لا مبالاة يسترخي فيها ، كيف لا ، أوليس إحدى الأمثال الصينية تقول : " لا تضرب المرأة ولو بزهرة " ..؟! غير أن اليابانيين ، فإنني لا أنكر تحبيذي لأسلوبهم في الانتقام ، خصوصا حين يكون للمرء أعداء بقامات مهمة ، فبضربة من سيف ياباني تستطيع أن تختصر المهزلة العدائية التي تطاردك بلا أدنى حق ، سوى شعور العدو المواري بأنك أفضل منه ؛ إذن على طريقة الألماني " نيتشه " الذي استنكر طبائع الأعداء فحللّ ذلك بضربة فلسفية لا تليق إلا به قائلا : " هو لا يعجبني "
- لماذا ؟
- " لأنه يتجاوزني " هل أجبتم أبدا بمثل هذا الجواب ؟ " ..

فإذا ما كان هذا العدو على – افتراض وجوده - والذي لا أعجبه ؛ لأنني أتجاوزه ॥فهو أحمق دون شك ..فليس الذنب ذنبي إن كان لا يتجاوز نفسه ..! بمثل هذا الجواب أقطع بالنصل ثرثرتي عن الأعداء ، وأفضل عوضا عن ذلك الحديث عن الطعام ، ويبدو أن المثل الصيني جرني بعيدا عن مداي ..

إن ألذ وجبة لدي في مصاف الوجبات اليومية الثلاث كما حدد لنا ، لا أدري من حدد لنا ذلك بالضبط ولماذا هي وجبات ثلاث ॥؟! ولكن بمجرد ما فطمتني أمي من حقي الشرعي الذي لا يتجاوز عن عامين ، وضعت في فمي رضاعة صناعية تلك التي لم تفارقني حتى بلغت سنواتي الخمس – نعم صدقوا ذلك انه اعتراف غير عادي - ، وكنت أحيانا أعّده بنفسي حين يأكلني خجل طلب ذلك من أمي ، لكن والدي الحنون دأب بحرص على شراء عبوات الحليب لي ، هزالي ذاك الذي لم تفلح أمي في القضاء عليه ، رغم أنها كانت تطعمني من الأكل الذي تعده في البيت جنبا إلى جنب ، إلى أن ألفيت قدماي تركضان نحو غرفة الطعام وذلك بعد سنوات ، أنا وأخوتي لثلاث مرات في اليوم الواحد ، وفي هذه المرات الثلاث كنت اسمع صوت أمي وهي تهتف لنا لتناول الطعام ، درجنا على ذلك كما درج " بافلوف " كلبه تماما .. صوت أمي لثلاث مرات في اليوم كان يساوي ثلاث وجبات ، أي سيلان اللعاب في تلك المرات الثلاث ..

استطيع القول إن وجبة الغداء كانت من ألذ الوجبات لدي ؛ ربما لأنها وسطية من حيث توقيت ، ففي الصباح من الممكن ألا أفطر وهذا ما كان يحدث غالبا ، لأن وجبة الإفطار تحمل مذاق التثاؤب والمدرسة والطبشور والمعلمة القاسية التي كانت تكسر عصاها على أصابعنا ، واستغنائي الذي غدا ممتعا مع الأيام ، وذلك حين اكتشفت في الأيام التي استغني فيها عن وجبة الإفطار اسقط مغشيا علي في طابور المدرسة الصباحي ، ومن هنا تضطر مديرة المدرسة مهاتفة أمي واصطحابي إلى البيت مبكرا ، فاختلس الوقت بحجة المرض ؛ لمتابعة رسومي المتحركة المفضلة في التلفاز ، كانت تلك هي حيلتي في سنتي الدراسية الأولى في المدرسة ..

أما في السنة الثانية ، افتعلت حيلة أخرى ولها علاقة بالطعام أيضا ، فقد كانت لنا معلمة تفرض علينا فروضا منزلية يومية ، فتأخذ كراريسنا بالترتيب وتدون بقلمها الأحمر الجاف التدريبات لقرابة ثلاثين تلميذة في الفصل ، واعتادت كل منا أن تذهب إليها بالترتيب كما نجلس في مقاعدنا الصغيرة ، ولكنني في يوم ما حين ذقت ذرعا بتلك الفروض المنزلية ؛ التي تمنعني من ممارسة حقي الطبيعي في اللعب ، وتقلص من ساعات مشاهدة رسومي المتحركة المفضلة ، عزمت بعناد طفلة صغيرة ألا أذهب ، وكانت تجلس أمامي فتاة بدينة جدا ولا يكاد يفرغ فمها من عمليات المضغ والبلع والطحن ؛ ولأن المقال ذا تأثير صيني يمكنني القول بأنها كانت في وضعها ذاك كصينيين على ما يبدو تأكل كل شيء يسبح سوى السفن ، وكل شيء يطير سوى الطائرات ، وكل شيء له أرجل سوى الطاولات ، كما اعترفت بذلك وبشهية كبيرة سيدة صينية في لقاء تلفزيوني ..!

بينما كنت لقلة الأكل على نقيضها تماما نحيفة كقلم الرصاص ، فاتخذت من بدانتها جدارا عازلا ، فالمعلمة حين ترفع رأسها كعادتها غالبا ستعتقد بأني غائبة دون شك ، ولم أتوقع أن حيلتي تنطلي على المعلمة المسكينة ، ومضيت لعدة أيام متتالية وأنا الحاضرة الغائبة ، ولكن خطتي انفقأت حينما تغيبت الفتاة البدينة ، وكم كان يوما شاقا علي ّ ؛ لأن المعلمة سجلت لي كل الفروض التي تغيبت عنها تباعا كما اعتقدت ..!

ظلت وجبة الإفطار ملغية لسنوات ، وكنت اهجم عوضا عن ذلك على وجبة الغداء ، والتي تكون عادة دسمة ، وفي فترة مراهقتي الحرجة زاد وزني قليلا ، وكان هذا بمثابة كارثة من ناحيتين ، أولاها خوفي في أن أغدو بدينة ويأتي من يتخذ مني جدارا فيختبئ خلفي لفعل ما ، وثانيها هذه الشراهة للوجبات المشحّمة ؛ لم تمر مرورا عابرا في جسد فتاة تخطت ثلاثة عشر عاما ..

ومن هنا فترت شهيتي للطعام تدريجيا ، وعوضا من أن أخطو نحو البلوغ خطوت مرتين نحو الطفولة ॥ وظللت لسنوات ووزني محتفظ بمعدله الثابت ، غدوت ورقة سحقتها شاحنة كما وصفتني زميلتي في الجامعة ، حشوت وحشوت وحشوت والنتيجة إياها ، ذهبت لطبيب مختص و سجل لي وصفات تضاعف من وزني ولكن وصفاته باءت بالفشل ، والمهنة الوحيدة التي لاءمتني في ذاك الوقت عارضة أزياء مع مؤهلات كان سيتمناها " فيرساتشي " دون شك لو كان حيا .. !

هكذا مرت الأيام ، وانا ارتدي ملابس بمقاس ابنة أختي الصغيرة ، إلى أن اكتشفت أهمية وجبة العشاء للنحيفين ، و كانت إحدى عاداتي هو تناول وجبة عشاء واحدة ، لكن في تلك السنة الشتوية ، وكما هو الحال في الشتاء الليل يهبط ضيفا مبكرا ولا يغادرنا إلى أن يتناهى صياح الديك ، كنا وقتئذ نتناول وجبة العشاء في الساعة الثامنة ، ولكن في تلك الأمسية الباردة شعرت بعد مرور ساعتين بأن معدتي فارغة وكأني لم أطعمها مذ فترة طويلة ، فهرعت لإسكاتها بوجبة خفيفة ، وعدت لمتابعة فيلم السهرة والذي كان يدعى وقتئذ إن لم تخني ذاكرتي " الإرهاب و الكباب " يؤدي بطولته " عادل إمام " الذي احتل المبنى الحكومي مع بعض رهائن وظل يضخ فيهم الأمنيات طوال فترة الرهن لعرض مطالبهم على الحكومة ، وفي النهاية لم يطلبوا سوى الكباب ، فقد كان حلم أولئك - المعدومين - تناوله ولو لمرة واحدة في حياتهم على الأقل ..!

ويبدو أن رؤيتي للكباب فتح شهيتي بطريقة ما في ذاك الليل الشتوي البطيء كالسلحفاة ، ولم تتمالك معدتي نفسها التي بدأت تطلق قعقعات صاخبة ، نتيجة لذلك وجدتني أهاتف كافتيريا الحي ليحضر لي صحن كباب حالا ..وأكلت بشهية مفتوحة .. خلال تلك الساعات تناولت ثلاث وجبات ، ومع الأيام أضحت عادة علنية ، ثلاث وجبات في فترة العشاء ، الأولى في الساعة الثامنة ، والثانية في الساعة العاشرة ، والثالثة في ساعة السندريلا الثانية عشر بعد منتصف الليل كما يقال ..

اعتاد مزاج معدتي على مغامرة تناول كل شيء مهما كانت غرابته وشكله ولونه ما عدا الشبوط ؛ لأن للشبوط حكاية مع اليهود ؛ فهي وجبة محببة جدا من قبلهم تعرفون لماذا ؟! لأنه ببساطة مقزز ..!
هكذا كان جواب أحد اليهود على سؤال امرأة أمريكية في فيلم أمريكي جمع بينهما ..
وشقلبّت القاعدة التي كانت تقول : كل إفطار ملوك ، وغداء أمراء ، وعشاء فقير ..وعليه زاد وزني بمعدل راقني جدا ، وكنت أنوّع في وجباتي ، فالأولى كانت أمي تحضّرها ، والثانية كنت احضّرها بنفسي ، والثالثة كان " إسماعيل " هندي الكافتيريا يحضّرها لي ، واذكر مرة طلبت من " إسماعيل " همبرغرا مع بيبسي ، لكنه مع العجلة نسي البيبسي رغم أن الهمبرغر دون البيبسي ثقيل على مزاج المعدة ، وهذا ما كنت اعتقده طوال تلك السنوات ، وكثيرة هي اعتقادات الآخرين فينا ونحن نستقبلها على عماء منهم ..!

" إسماعيل " حينما نسي البيبسي قد أسدى لي معروفين ، أولهما تحقيقا لرغبتي بالتخفيف من المشروبات الغازية ، ليس مقاطعة لأميركا التي تنتجها ؛ لأن الماما أمريكا رعتنا مذ كنا أطفالا ، بالله عليكم من أنتج حفاظاتنا عندما كنا صغارا ..! وكريمات - البيبي جونسون - التي كانت أمهاتنا تدهن بها أطرافنا الضئيلة لتطريتها .. هل كانت منتوجات عربية ..؟

المشروبات الغازية ، دققوا معي على كلمة " الغازية " .. " غازية " .. هي بالفعل تغزو أجسامنا بسمومها ، بالإضافة إلى كونها تحتوي على نسبة من الكوكايين ، فإن صبغتها السوداء فعالة في تنظيف المراحيض ..!
والمدهش أيضا أن أمريكا بلد العنصرية كما عرفنا عنها لقرون ؛ لم يدركوا أن الكوكا والبيبسي يعكسان لونا زنجيا رغم أنهم بغضوه لسنوات كان يجري في دمائهم ..!
ثانيهما أضاف لي نسيان " إسماعيل " مشروبي الغازي ، هو أنني التهمت الهمبرغر مع الشاي الذي كان لونه كلون البيبسي تماما ، والفارق أن الشاي حار والبيبسي بارد ..
وهذا الفارق الطقسي بين حار وبارد ، له الفاعلية نفسها ، تناول الهمبرغر مع البيبسي يزيل الثقل الذي نشعر به بهمبرغر دون بيبسي ، كذلك الشاي مع الهمبرغر يزيل الثقل الذي نشعر به ..
حينما اكتشفت هذه الفاعلية أصبح " إسماعيل " ينسى البيبسي دائما ، وغدوت أنا أحشو الهمبرغر بصلصة الشاي ، واااو ، كم هو لذيذ ، ألا ترغبون أن تجربوا فاعلية ذلك ..؟
ولا أملك سوى أن أترككم مع نصيحة بنكهة ألمانية على لسان الفيلسوف " نيتشه " :
" تذوقوا طعامي ، أيها الشّرهون ..!
غدا تجدونه أفضل ، وبعده ممتازا ..! "

الأربعاء، 4 أغسطس 2010

عين على الحياة


عين على الحياة

( هذا المقال بقي سجين ملفاتي ما يقارب عن سنتين ، لم أنشره ؛ ربما لم اقتنع بنشره أو ربما كتابته كانت تدريبا كحال معظم مقالاتي القديمة التي بقيت حبيس أنفاسها ، اليوم عزمت نشر هذا المقال ؛ لأن ثمة حاجة اقتضت نشرها ، هي لامرأة بائسة ..)

حياتنا شجرة تظلنا .. يشاطرنا في ظلالها أشخاص ناظرناهم بأعيننا مذ قذفنا من نبض الرحم ، فاتصلنا بهم ونستمر معهم أبد الدهر .. وبعضهم الآخر جمعنا بهم لقاء قدري ، يتلون تباعا لما نحياه معهم بعدئذ..

الحياة شئنا أم أبينا تمتطي مقاديرها ، وهنالك حالات حينما يغدو فيها الإنسان مكللا بالشقاء ، يشعر بأن النهار ساعاته ممتدة ، والليالي تطول بلا انتهاء وكأن الصبح سابر في نأيه ، لكن الذي يرى الأمل في كل همّ يجابهه يقهرها ، فالحياة تزدان في فساتينها الأربعة كيفما كانت طقوسنا ..

وقد تنفقئ أحداث ، أو تتبدى لنا أمور تذاع في وتيرة حياتنا الروتينية تلك التي غلبت على طباعنا ؛ بغرض التجريب أو لسبب طارئ أو قدر محتم عليه مجابهته ، ومنها تتبعثر أوراق حياتنا ، فمع الريح تتوه أو مع لجج البحر تغرق فنفقد ما نفقد .. فقط أولئك الذين يتعّظون تستمر الحياة في حضرتهم كمنطاد يمخر في عباب الأفق في كل الظروف ، وتظل أبخرتها مقاومة في وجه العاصفة ؛ كي تحلق إلى ما تحلم وترغب به ..

والحياة عندما تخلو من قيمة أو هدف فلا معنى لها مطلقا ، ويدور المرء في دهليز من الفراغ والضجر والموت البطيء هذا من وجه .. ومن وجه آخر هنالك أنماط بشرية يختصرون وجودهم في الكون على شخص أو غاية معينة ، وحين يرحل ذاك الشخص أو يضيع مبتغاه ، فإنه يضع نقطة في نهاية حياته لا يتعداها ، وأول ما يفكر فيه هي الوسيلة التي يقضي فيها على نفسه التي افتقدت وجودها برحيل ما يحبه وقد يكون " الموت " مآله الوحيد ، الرغبة الكلية الشاملة ، الربق المنقذ ..

وهذا يعيد ذاكرتي إلى سيدة انتحرت بحرق نفسها ؛ لأن زوجها قرر أن يتزوج عليها ورغم أنها أم لخمسة أبناء وتعيش في كفوف الراحة ، إلا أنها اختصرت وجودها في حضرة الزوج ، وحين أقر هذا الزوج قراره ؛ لعبت الوساوس دورها وأدركت أنها مقضي عليها دونه ، ففعلت ما فعلت .. وقد تكون امرأة أخرى في ذات الموقف ، وكانت ستتبع أسلوبا آخر ، فربما حرقت الزوج الذي قرر أن يتزوج لا نفسها ..!
أما المرأة الحكيمة التي تقع في مطب كهذا ، فإنها تركز جُل تفكيرها وكافة آمالها في أطفالها ، فتبدأ حياة جديدة من خلال تنشئتهم تنشئة صالحة وحين يكبرون أمام عينيها ، بارين بها ، ستعلم كم هي الحياة تعطي أكثر مما تأخذ .. الموقف واحد ، لكن الرؤية إلى الحياة تتناقض من عين لأخرى ..

وهنالك أشخاص يرون في كل " صدمة " و" مشكلة " حياة أخرى أعمق وأكثر معنى وفاعلية على مبدأ أن في داخل كل مشكلة هدية .. فمفهوم الحياة عند هؤلاء غير محدد بشخص أو هدف معين ، بل يرون في كل شيء فرصة لحياة أخرى .. لديهم إيمان عميق بأن ما يكرهونه خير وما يحبونه شر .. وبعد العسر يكمن اليسر .. فلا البكاء يدوم ولا السعادة تدوم .. ودائرة الحزن تتسع إذا ما أطلنا المكوث فيها وتضيق إذا ما قررنا الخروج منها .. فالأيام تمضي والساعات لا تتوقف عقاربها عن العمل من أجل حداد ما .. والرئتين تؤديان وظيفتهما الحيوية رغم الربو ..

( الحقائق المؤلمة الساحقة تفنى عندما نعرفها ونعترف بها ) كما يقول فيلسوف العبث " ألبير كامو " .. هذا إن سرنا على نهج اليونانيين القدماء ، أولئك الذين يتغلبون على الألم ومخاوفه بالألم نفسه ، فالذي كان يخشى رؤية الدم ، كانوا يحبسونه في غرفة غارقة بالدماء ؛ كي يعتاد على رؤيتها ويتغلب على مخاوفه ..نهج اليونانيين يرى أن المواجهة هو سيد الحلول ، بينما الهرب من مشاكلنا أو الخوف من مواجهتها وجها لوجه مع أنفسنا خاصة ؛ فإن حياتنا حينئذ لن تكون سوى مزيدا من الهروب والهروب والهروب ، والذي سيوّلد بدوره كثيرا من الاحباطات وخيبات أمل ، وهكذا يضيع معنى الوجود الإنساني في لا شيء ..