الأربعاء، 29 أبريل 2009

كل الطرق بيني وبينك تؤدي إلينا





كل الطرق بيني وبينك تؤدي إلينا






كل المسافات أنذرت النهاية


بيني وبينك درب طويل


يلزمنا كي نجتاز المستحيل أن نكفر بهم


ويلزمنا كي نجتاز الرحيل أن نؤمن بكلينا


غيمتين رعدين


كنا


زهرتين شوكين


كنا

دمعتين حزنين


كنا ..




* * *




كل الطرق تؤدي إلى روما ، وكل الطرق بيني وبينك تؤدي إلينا ..




* * *




أكثر الطرق نورا ، تلك التي يرابط فيها الشيطان مسكنا ..


أكثر الطرق ظلمة ، تلك التي تختصر ميعاد المسافات مسافة واحدة .. !




* * *




الخوف أن تقودنا كل الطرق إليهم ولا نجدنا .. !




* * *




يقول فاوست : أحب من يرغب في المستحيل ..


وأقول له : الطريق إلى " المستحيل " طويل ..


وأقول لمن أحب : إثمك الوحيد هو أنك أحببت امرأة لا تعرف شيئا اسمه " المستحيل " .. !




* * *




وإن وضعوا العصابة على أعيننا ؛ فإن أقدامنا لا يمكن أن تعمى عن طريقنا ..




* * *




للطرق ذاكرة ، وطريقنا لا ذاكرة لها سوى في ذاكرة عقلينا ،


للطرق خارطة ، وطريقنا لا وجود لها في خارطة العالم ،


ولكنها منقوشة بسهولها وهضابها وجبالها بزلازلها وبراكينها


وعواصفهاوأفقها ونجومها وشمسها في خارطة قلبينا ..


للطرق غواية ، وطريقنا معبّدة بالملائكة ..




* * *




إن الطريق مظلم و حالك ، فإذا لم نحترق أنا وأنت ؛ فمن سينير الطريق .. ؟!




* * *




أحبك َ : عليّ أن أفتح كل الطرق حتى أصل إليك أحبك ِ : عليك أن تكسر كل الطرق حتى تصل إلي ّفهل من مفر ّ ..؟!

الثلاثاء، 28 أبريل 2009

صانع الأحلام



صانع الأحلام




لكل منا " أحلام " خبيئة في حيز ما من مشاعرنا التواقة إلى تحقيق كينونتنا من خلالها.. بعض الأحلام صغيرة بحجم كف اليد وبعضها كبيرة كساحة ملعب وبعضها فضفاضة كثوب امرأة بدينة وبعضها ضيقة كأنبوب مص .. والأحلام طويلة الضفائر تحتاج إلى تشذيب أما الأحلام المصلوعة فتحتاج إلى روح البعث .. بعضا منها تعرف طريقها إلى التحقيق وبعضها الآخر تتوه في تيه مستمر وقد تظل ضائعة الهوية لسنوات ..




معظم أحلامنا كانت رغبات نائمة على وسائد الأمنيات .. والأحلام أفكار نحن نصنعها ونحولها إلى أرض واقعنا ، نجعلها جزءا منا أو نريد أن تكون جزءا منا ربما لأنها تشبهنا أو تثيرنا .. ربما لأنها غريبة عنا وبدافع من الفضول نريد اصطيادها أو ربما لنزوة دهشة نندفع نحوها دون سواها .. ولا نتوقع قط أن أفكارنا البسيطة من الممكن أن تفعل شيئا جيدا يوما ما أو أن تضيف لنا شيئا ..




ولي قناعة أن الأحلام تنشطر إلى نوعين : هناك أحلام تعتمد على همّتنا وأحلام تعتمد على همّة الآخرين .. أما النوع الثاني فهو ما يشيب المرء حقا ؛ لأننا نستطيع تحريك أنفسنا لكننا لا نستطيع إجبار الآخرين على تحويل حلم يجمعنا معهم إلى واقع ؛ وذلك لا يتأتى إلا حين تكون رغبتهما متوحدة وتسير في الاتجاه نفسه .. وفي أحايين أخرى تكون الأيام هي عدونا اللدود لأحلامنا وبأهوائها الخاصة تحقق ما تريد وترمي ما لا تريد في قمقم الأمنيات ، ويظل حالمها يحلم باصطيادها يوما بعد يوم وقرنا بعد قرن .. وبعض الأحلام تكون مزعجة لصاحبها فلا تنفك عنه حتى تجد طريقها للتحليق في سماوات واقعه .. جميلة هذه الأحلام الدافعة لكنها إن تحققت بعد فوات الأوان فإن قيمتها الحقيقية بعدئذ تشيخ ..لا تختصر الحياة في حلم واحد بل عدد في أحلامك وأحلم بقدر ما تشاء ..




وإن مضى حلم فتش عن غيرة في كل أفق يطل عليك وعلى كل أرض تطأه قدماك .. وإن مات حلمك لا تيأس وجد طرقا أخرى لبعثها من جديد .. وإن انهار عنك حلم ما ابن حلما جديدا مكانه فلعل الحلم العتيق لم يبت لك الخير الذي كنت تريد .. ويجب على الإنسان أن يناضل في سبيل أحلامه فهي تحقيق لذاته الإنسانية في الوجود ..




كما يرى " باولو كويليو ": ( يجب على الإنسان أن يناضل من أجل أحلامه ، ولكن يجب أن يعرف أيضا أن بعض الطرق عندما تبدو مستحيلة ، فمن الأفضل الاحتفاظ بالطاقة من أجل السير في طرق أخرى ) والشخص الذي تخلو حياته من الأحلام هو شخص هائم على وجهه في صحراء شاسعة من الفراغ والضجر ويبهت مع ضياعه قيمة الزمن ويترهل معنى الشباب الحقيقي فيه والأهم من ذلك العمر يتوه في لا شيء ..




( وقد يصبح العمر أحلاما نطاردها تجري ونجري وتدمينا ولا نصل ) كما يقول " فاروق جويدة " .. ليس مهما أن نحقق ما نخطط له يكفي أن نعيش لحظات الحلم ونحييه بخيالاتنا .. ولا تبتئس إن لم تجد أحلامك القديمة طريقها إلى النور يكفي أنك حلمت بها .. يكفي أنك كنت سعيدا حين كنت تحلم بها ..

الاثنين، 27 أبريل 2009

حين نقيس الحب بالمسطرة





حين نقيس الحب بالمسطرة ..




الحب .. طاقة من الزهور الخلابة يظل شذاها يضوع في قلب المرأة أبد الحب .. وهو هواء منعش متجدد بالنقاء والتحفز في حياة الرجل ..وكل ٌ في هذا الكون ينطلق من خلال " الحب " .. بدءاً من حب الله تعالى استكمالا إلى حب الذات ، الأشخاص ، العمل ، الأماكن ، الهوايات ...الخ .




فالحب شجرة وارفة تصل ظلالها إلى أبعاد شاسعة شساعة مشاعرنا تجاه المكنونات .. وحين نخص شخصا ما بحد ذاته بأحاسيس خاصة .. ونطوقه بهمس لا يشمل سواه .. جُل أحلامنا ورغباتنا ترقص في حدود مساحته فإن الحب هنا له لغته ومذاقه .. لكن تتفاوت نسب خلود هذا الحب مع الزمن حين تتبدى طوارئ أخرى في حياة الإنسان فقد تقهر بالحب وتسمو بها وقد تقهر هي الحب وتنتشل آخر نبض حميمي فيه .. فبعضهم يقيسون الحب بمقاييس خاضعة لها أبدا في لغة أهوائهم .. فإذا ما تعدى قياساتهم الدقيقة المرسومة عن رغباتهم فإنه يغدو في نطاقهم شيئا لا يطاق سرعان ما يطفئونه أو يرمونه بلا مبالاة كسيجارة بالية .. الحب الحقيقي هو أن نقبل الآخرين ضمن شروطهم .. فماذا لا نجعل طرفنا الآخر المكمل لنا في الحب يحبنا بطريقته .. بلغته .. بكيانه .. بحريته دون قيود نكبلها به ولا سلاسل نجره من خلالها إلى ما نريد ونتخطى ما يريده .. نتقبل منه ما نرغب ونأبى عن ما يرغب به هو ..




الحب عطاء متبادل تتساوى كفتاته بين الطرفين المبذولين .. وحين يبذل طرف والطرف الآخر يأخذ فقط فإن هذا الحب يتضاءل شيئا فشيئا حتى يترهل مع الزمن ويموت .. الحب كيان انساني موحد .. علينا أن نحترم فيه الآخر .. أن نترك له فرصة ليعبر فيها عن نفسه ، عن أحلامه بطلاقة .. معنى التوحد في الحب لا يعني التوحد في الأحلام .. لكل طرف أحلامه الخاصة يسعى إلى تحقيقها فهي تحقيق لذاته الإنسانية في الحياة .. ومن خلال غاية الحب الواحدة يساند الطرفان بعضهما البعض للسمو من خلال حياة صحية مبنية ضمن خطط صحيحة ومنطقية تناسب كلا الشريكين في الحب .. تتنفس مشاعرهما بعفوية مطلقة من أكسجين الحياة بألف أسلوب تتجدد كل يوم كالشمس وألف لغة تتألق كل مساء كالقمر ..




وحين يجد أحدهما أو كلاهما في دائرة الحب أن لغة الحب بينهما فقدت قدرتها على التواصل .. وفترت الأحاسيس .. تجمدت المشاعر الدافئة بينهما والغاية في بقائهما معا تلاشت أشبه بموعد تتواعد فيه الشمس مع الغيم فلا يلتقيان في أفق واحد .. فإن إقصاء الآخر لا يعني أنه غدا عدوا نتمنى له التعاسة في بقية حياته وربما العدمية عن الكون كله .. فإن هذا الشخص قد منحك يوما قلبه فلا ترميه له مغروسا بسهم بل قدمه له كما أودعه في قلبك في لحظة الحب .. ولا داعي التراشق بالجرح وليبقى الطرفان على وفاق الصداقة انطلاقا للأحاسيس الجميلة التي ضمت سقف قلبيهما يوما ما ولتقتات الذكرى الطيبة التي فرشت أرض غايتهما فيما سلف .. ولا تندم مطلقا على حب عشته ..




ففي الحب الإنسان رابح دائما كما تقول " غادة سمان " : ( في حالة الحب فالإنسان رابح دائما .. إنه يربح اكتشاف ذاته ومدى استعداده الحقيقي للعطاء ، ومدى قدرته على أن ينطلق ليحب العالم كله من خلال انطلاقته عبر حبه الفرد والخاسر الوحيد في علاقات الحب هو الذي لم يحب حقا ً ..!)

زهور بيضاء كملاءات المرضى ..







زهور بيضاء كملاءات المرضى..




سأحتضرك هذا الشتاء ؛


كما احتضر " رامبو " موته الأخير في شتائه الأخير ..


وسأحفل بك قصيدة رائقة يحتسيها الناس كما القهوة في كل وقت


وسأنثر ذكرياتك تابوتا لباب الجحيم


ألا يتعظ الكرام بالموتى ،


حين تغدو لهم الحياة مجرد ضحكة عابرة من فم طفل مجنون طعن بالحياة رغما عن أنفه ..!


وحينما تمرق السنون على رحيلك سأشتري زهورا بيضاء كملاءات المرضى في العيادات الباردة ،


لا ، لن أتركها بغباء عند شاهدة قبرك كما يفعل السذّج من البشر ..!


بل سألقمها للجائعين أولئك الذين لم يرجوا من الحياة سوى حلم منطفئ


ومائدة متخمة باللحوم الشهية لا أكثر ولا أقل .. !





ضفادع وبالونات ملونة ..


عشت طفولتي جريا في البراري

خلف طائرات ورقية

خلف سحال وضفادع صغيرة

كنت أعشق المطر حين كانت قطراته تتسلل في داخلي

ارتعش كما يرتعش الصحراوي في الاسكيمو ،

وكنت أرسم خطوطا كثيرة على الجدران خربشات لا معنى لها

طرقا متعددة أحلم أن أعبرها يوما

وجوها عديدة أتوق أن أصافحها بإعجاب مطلق

ابتسامات عابرة أخطها بنشوة لكل عابر حزين ..

ألهث مملوءة بالفرح إلى أقرب بقالة

أقتني كثيرا من البالونات الملونة

أنفخها من نشوتي

أطّيرها في الأفق هدايا للطيور العائدة من أقاصي الشمال ،

وحين تنفقئ في الهواء امتلئ حنقا وأبكي ثم أضحك ،

كان ذاك عالمي الصغيرعالمي الذي أحب ..


* * *


حين ازداد طولي وطالت ضفائري

اتسعت عيناي وأصبح فمي ممتلئا

غادرتني أشياء كثيرة

وبهت مع الأيام عشقي للمطر

تكاسلت لهفتي خلف الضفادع والبالونات الملونة ..!

وتركتني أحلام كثيرة ،

وما عادت ريشتي تنحت على الجدران أمنياتها ..

وضاعت كل الخطوط والدروب والوجوه التي صافحتها وأنا طفلة صغيرة في خيالي ..


* * *

مؤلم أن ترحل عنك أشياؤك الجميلة

مؤلم أن توقظ عيناك يوما على حلم رمادي

مؤلم أن تتجهم في وجه عابر سعيد ..!

وأضحيت مذ ذاك اليوم كلما رأيت ضفدعا شقيا ينق في الأرض ،

وبالونا ملونا يرقص مع الريح في السماء أتساءل : لمَ لمْ أعد أعشقك كما كنت ؟!

لمَ ..؟!

عمشه

عمشــــــــه
" لا حد للأزرق في مقلتيك ،كرمش الموج يهدر .. حين يحكي للبحر عشقه المخضب .."
ما أكثر ما تقولوا عنها .. مرة أنها ساحرة .. ومرة أخت إبليس .. و طورا ابنة العاهرة .. كنت صغيرا وقتها .. تلتقط أذناي الصغيرتان تلكم النعات التي يتقاذفون بها عمشه .. وعمشه هذه امرأة توارت في خيمة سوداء يستر بدنها من رأسها حتى أخمص قدميها .. مما يبرز قواما من الصعب تحديد دقة خصره وعضد عظمه .. كما كانت على عادة نسوة الحي تضع " برقعا " على وجهها .. لكن ما كان يميزها عنهن جميعا هو عينيها النجلاوين.. المخضبين بالأزرق .. فلم تكن عينا أمي كعينيها ولا خالتي ولا جدتي ولا أحد من نسوة الحي .. فقط عمشه تميزت بمحيط عينيها الأزرقين .. وما أكثر ما لصق بهما من أفواه القيل والقال .. فقد كنت اسمع أمي تقول لأبي وهي مضطجعة إلى جنبه على الحصير بينما أنا وأخوتي على جانب الآخر منه مع شخيرهم الذي يمزق صخبه الرتيب سكون النوم في كل ليلة .. سمعتها تثرثر في أذن أبي أن عينا عمشه ليسا أصيلتين ؛ فنساء البدو يتميزن بأعينهن الكحيلة السوداء .. أما عمشه فعيناها عينا رجل غريب وفد على الحي وكان عشيق أم عمشه حينها والتي كانت تعاشر معظم الرجال الذين كانوا يفدون ضيوفا على البدو من الحواضر وأكثرهم تجار وأصحاب حرف .. وكان الغريب والذي كان يدعى " عتيق " عيناه زرقاوان تماما كعيني عمشه ..
كما سمعت من فم جارتنا " أم سعيد " عندما كنت ألعب " الجحيف "(1 ) في حوش دارها مع صاحبي سعيد .. أن عمشه ساحرة .. وأن معشرا من الجن طوع أمرها .. وأن الغراب الذي يحوم بشؤمه في قطع الليل على البيوت إنما هو رسولها ولطالما صادفوه يتبعها كما يتبع الخادم أميره من مكان إلى آخر .. هكذا كن نسوة الحي بألسنتهن يلعكن حكاياتهن عن عمشه.. غير أن الرجال كانت أحاديثهم تحيك على وجه آخر .. وكان " عم عبيد " صاحب المقهى في الحي وكبار رجالها .. وكلمته لا تصل الأرض أبدا ..
وكم كنا نخشاه كما نخشى جسده الضخم وكرشه الكبير المخبأ في قعره بطيخة كبيرة يعوز إليها أيام القحط والمجاعة هكذا أسّر لنا صبيه " سعدون " .. كما أخبرنا أن " عم عبيد " يحب عمشه .. وقد صارح رجال الحي بحبه لها ورغبته بطلب يدها وعزز رغبته بأنها " امرأة وحيدة ومن العار تركها بلا رقيب ولا حسيب ولابد من اتخاذ موقف رجولي حيالها .. ولا ضير في أن تكون زوجتي الثالثة فشرع الله أحل لنا أربع .. " وحدث أن ذهب " عم عبيد " إلى دارها غير أن الباب لم يفتح .. وفي الليلة ذاتها داهمت حمى غريبة " عم عبيد " استمرت لمدة يومين وفي الليلة الثالثة فاح من جسده رائحة الموت .. وشيع أنها لعنة عمشه .. فتناءت عمشه عن ثرثرة النساء وعنعنة الرجال خشية من لعنتها عليهم وعلى أبنائهم ..
* * *
" يا برق ،انثرغواياك في الأفق العقيم ، واقذف في رحمه ، بهاءك العنيد .."
مرقت السنون .. وفتل شاربي .. واخشوشن صوتي .. وفي ليلة من ليالي الشتاء وقد غط معطف الصقيع ضواحي الحي الذي كان محتضنا هدوءه في فراشه البكر .. بعد ضجة الدفوف وزغردة الزغاريد وزنّرت الأضواء احتفاء بعرس صديقي سعيد .. كنت في طريقي إلى المنزل .. يعبر ظلي الزقاق الضيق .. يخال إلي من الهدوء المسترخي في ثنايا الزقاق كأنني في قرية مهجورة ينتشي التثاؤب في قعر بيوته الطينية و على نوافذه الخشبية المسدلة الأهداب.. وبينما خطواتي تكرع مسافاتها .. وخيالي يعزّي نفسه عن لسعات الصقيع على بشره بالفراش الدافئ الذي يترقب جسده .. صادفتها .. ولم أصدق عيناي .. عمشه .. إنها تلج بيتها .. كانت الطريق خالية إلا منها .. وعندما أحكمت الباب خلفها .. راودتني فكرة .. لطالما داعبت شجاعتي في صغري فكنت أتخوف وأتراجع .. وقررت الليلة أن أتشجع .. فخلعت نعلي ورفعت ثوبي بفمي وهممت بصعود الجدار الذي يفصل بين بيت عمشه ومطوع القرية الذي علمنا القرآن الكريم والحديث الشريف وحكايا الأنبياء والمرسلين .. وكان المطوع قد هجر بيته هذا بعد أن خصص له شيخ القرية بيتا ملاصقا له في المسجد .. صعد جسدي الجدار فأرخيت رأسي .. والليلة كانت ليلة حالكة جدا ينذر حداد أفقها عن مطر غزير ورعد وبرق .. وبعد أن اطمأن جسدي على الجدار الموازي لمنزل عمشه نصبت عيناي على النافذة التي شرعت للريح .. انبعث عنهما ضوء " فنر" (2)باهت .. يبرز عن جزء من الدار جدرانها متآكلة من أثر السنين وقد فحمت معظم أجزاؤها .. وعندما حرك الفنر من موضعه برز جانب السرير ..
تهادى الرعد يصفع الأفق المظلم بجبروته مما أفزع اطمئناني وأرعد فرائصي .. وعلى صوته انطفأ فنر عمشه فلعنت الظلام ألف مرة .. غير أن برقا قويا شق ضوئه رحم الأفق نفذ إلى نافذة عمشه .. حيث صوبت عيناي .. فهالني ما رأيت .. حاولت أن أتبين غير أن البرق أطبق فمه .. تلاه رعد مفزع .. فهدهد صدري المنقبض من هول الصدمة ..
وراح يرجو : " يا رب ضوء .. يا رب ألهمني ضوءا من فم البرق .. ضوء .. ضوء يا رب .. " ..
واستجاب الرب لرجائي ..فاشتعلت السماء مرة أخرى .. وعمشه في عريها تتهادى كالعرائش .. عارية كما ولدتها أمها .. ومن فم البرق رأيت أنها تدهن جسدها بمادة .. جلبت الريح القوية رائحتها إلى خيشوم أنفي .. كانت عطرية .. خمنت أنها " المخمرية "(3) أشبه بالرائحة التي شممتها من أمي ومن جارتنا " أم سعيد " .. وامتد مشطها يتخلل شعرها الليلي تسرحه من أعلى الغرة حتى أسفل الفخذين .. وأنا مبهور .. مبهور بالنهدين الذين حبسا أنفاسي .. خيالي .. كياني كله .. جسد بض .. شعر يسترسل كالحرير .. امتد من دارها حس ضوء خفيف .. افترشت عمشه بعريها السرير .. تتقلب فيه .. كأنها تضاجع شخصا ما .. وتصاعد عزف الرعد .. وانكمشت أنفاس البرق ودمعت السماء .. مطرا .. مطرا أغرقني دمعها الوحشي حد الحمى .. تقهقرت مبهورا .. وعمشه تتخبط في عمقي بعد أن تعششت رائحتها الفاتنة في روحي كله ..* * * " كان عطرك الموسوم يقطر في جوفي عبقا بنفسجيا .. واحمرا .." وبقيت لمدة ثلاثة أيام محموما .. اجتاحتني حمى كالتي اجتاحت " عم عبيد " ولا نجاة لي ؛ هكذا لهجن نسوة الحي مولولات عند رأسي .. وأمي كانت تنوح وصدرها ينتحب .. وكان صوتها يحوطني بأدعية الشفاء والرحمة وهي تستغيث ربها .. وسمعتها تنذر .. " تالله إذا شفيت يا راشد، لأصومن شهرا كاملا ولأذبحن بقرة اطعم من لحمها أهالي الحي " .. بعد مرور خمسة أيام .. تنفست أعضائي على رائحة " اللبان " و تمتمات أمي واستغاثاتها.. وغادرني التعب بلا رجعة .. وتذكرت عمشه .. التي بقيت طوال فترة الحمى تزور روحي من وعي إلى وعي .. وتركت أمي تراقص فرحها مع النسوة .. وذبحت البقرة وصامت شهرها المنذور .. وأنا كل يوم مرابط على سطح بيت المطوع وعيناي لا تفارقان عمشه وجسدها الذي يتلوى .. وثديها البرجي .. الذين دار عليهما رغباتي ولم استطع أن أتحمل أكثر من ذلك .. صارحت أمي .. " أريد الزواج " .. انشق فمها عن زغرودة صمت آذاننا ووسط الفرحة التي لم تدم عندما أخبرتها عن رغبتي بالزواج من عمشه.. فصعقت أذنها.. واتهمتني بالجنون .. وشاع الخبر من فم إلى فم .. وقيل " إن راشد ولد عفراء تخلل عقله الجنون .. يريد ساحرة .. لابد أنها السبب .. هي التي راودته عن نفسه .. شاب في مقبل فحولته .. وعمشه عاهرة كأمها ...
* * *
" مضيت حيث كنت ، حكاية تؤطر في علق الفؤاد ، طواه كفنا صوتهم ..وبعثه صوتي .."
قرر أهالي .. طرد عمشه نهائيا من الحي .. وحاولت ردعهم .. لكنهم وثقوا يدي ورجلي كما يوثق مجنون وألقوا بي في سرداب مظلم .. توجهوا إلى بيتها وغضبهم يشهر عصيه وخناجره رجالا ونسوة .. وأصوات تتهادى مع لعنات الريح الهمجية .. " إنها أخت إبليس.. ساحرة .. عاهرة كأمها .. لا نريدها في الحي .. إنها تغوي رجالنا " ..وقلبي كم كان يتمزق كما تمزق العاصفة شراع سفينة تهيج وسط المحيط .. وكسر الباب .. ولجوا بأقدامهم عتبة دارها .. و لم يجدوا عمشه .. فتشوا في الدار كلها .. وعمشه لا أثر لها .. لكنهم وجدوا على السرير صورة مؤطرة لرجل لم يتعرفوا عليه .. قيل إنه زوجها .. وقيل أحد عشاقها .. أو أحد الأبالسة أولئك الذين كانوا يمدونها بالقوة .. فكانت عيناه مخيفتان وأنفه ضخم .. يعلو وجهه بثور كثيرة وله أذنان كبيرتان .. واختفت عمشه وطوى خبرها مع الحي الذي خلا إلا من عواء الذئاب .. بعدما قهقرتهم الحضارة إلى المدن .. وكنت منهم ..وفي نهار مشمس الأفق .. كنت في سيارة " بيك آب " .. مرقت من أمامي فتاة دنت منها التفاتة .. صعقتني عيناها .. كبست بقوة على الفرامل حتى توقفت ..ترجلت من السيارة .. وتبعت خطواتها وصوتي يتخبط في أنفاس مناداتها : " عمشه .. عمشه .." وما إن تناءى إليها حسي حتى قفلت راجعة ثم دنت مني وهالت بكفها صفعة أسقطتني أرضا .. دوخت وسط زعيقها : (تبا لكم .. ولأساليبكم الرخيصة ..) ارتدت قافلة بعدما بصقت كل غضبها في وجهي .. غّيمت الرؤيا في عيني بينما تسابقت أياد مجهولة نحوي كحبال مشدودة وعلى سحناتهم نظرة انبهار ممزوج بسخرية .. وأصوات تتهادى بفوضوية من كل الجهات ( قدم في حياة وقدم في قبر ويبصبص على المراهقات في عمر أصغر أحفاده !) .. بينما حسي يهتف : " عمشه .. عمشه .. "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الجحيف : لعبة شعبية قديمة .(2)الفنر : مصباح إضاءة .(3)المخمرية : عبارة عن خلطة من العطور ممزوجة ببعض أنواع من الأعشاب العطرية .

السبت، 25 أبريل 2009

أنا وأمي وأختي حليمة

أنا وأمي وأختي حليمة

في كل صباح اجتث الخطى إلى الشارع العام .. حيث يكتظ بضجة أبواق السيارات وهي تشق طريقها في وسط الزحام مع أفواه تصارع لذة التثاؤب الصباحي ووجوه أخرى يعانقها الخمول .. وبائعي الجرائد وعمال نظافة بزيهم البرتقالي ونسبة شحيحة من أصحاب بعض المحلات التجارية التي تفتح مصراع عملها في بكرة شروق الشمس .. وأصحاب المقاهي الذين عهدتهم مذ بدأت أمارس نشاطي هذا في الصباح بعد ما طلبت مني أمي ذلك .. تقول إنها تخاف علي من لصوص الليل ومن بعض السكارى والشاذين في الطرق المدلهمة .. انتصب أمام إحدى السيارات من نوع " لاند كروزر ".. كم أعشق أنواع هذه السيارات التي تشي مظهرها بالعلو والفخامة ..

وكم أحلم أن أقعد في أحد مقاعدها يوما ما .. هكذا كنت أحدث أختي حليمة وفي كل مرة كانت ترمقني بنظرتها التي لا تخلو من العجرفة والقسوة وتسكتني بلغتها التشاؤمية .. صاحبها ذا وجه بشوش ينتعل نظارة طبية بعدسات دائرية تلاءم أرنبة أنفه الطويل .. أزاحم الخطى خشية أن تظهر العلامة الخضراء .. أصل إليه بأنفاس لاهثة .. أنقر على زجاج نافذته اللامعة جدا حتى أنني أرى انعكاس صورتي فيها وصور بعض المارة من خلفي .. يلتفت نحوي .. يشير إلى هاتفه النقال .. انتظر وعيني على ساعته الذهبية الغالية الثمن .. وأمنّي نفسي بأحلام اليقظة بامتلاك ساعة توفر علي عناء معرفة الوقت بالضبط في كل مرة أخرج فيها .. ينفقئ خيالي على صوت بائع الجرائد وهو يزيحني بقوة عن زجاج النافذة ويعرض جريدته على صاحب " اللاند كروزر " .. فيشرع النافذة وينقد البائع بعد تسلم الجريدة ..

وعندما أقف بدوري بالقرب من النافذة تزعق أبواق السيارات من خلفه فتمرق السيارة مسرعة مع الإشارة الخضراء .. فارتد قافلة بيأس إلى حيث كنت على الرصيف .. أتأفف من يومي وألعن صباحي .. وعندما أعود إلى البيت اشكي لأمي سوء الحال .. ترفع معنوياتي بكلماتها اللطيفة وتقول إنني لم اعتد بعد على العمل الصباحي .. بعد التبادل الذي حصل بيني وأختي الكبرى حليمة التي كانت تتذمر من الاستيقاظ مبكرا .. وعندما تعود أختي من نوبتها المسائية تغيضني بعجرفتها وبكسبها الوفير .. وتقول إنها حين كانت تكد في الصباح كانت كسبها يدرّ ، فتتهمني بالخمول وتنعتني بالغبية.. لكن أمي تفضي النزاع بيننا عندما تضع مخلفات الأطعمة الشهية التي تحضرها من بيت العمة شيخه .. وهي امرأة وسع الله عليها في المال والرزق .. وتعمل عندها أمي منذ أكثر من شهرين كخادمة تكنس وتطهو لهم .. وكل ما يزيد عن حاجتهم من الطعام تسمح لأمي بإحضاره لنا .. وما أشهى الموائد التي نتذوقها وما أغربها تلك التي تزيد من حفلات أعياد الميلاد ومناسبات أخرى التي نترقبها أنا وأختي بفارغ الصبر ..

وبعد الظهيرة ترسلني أمي إلى دورة تحفيظ القرآن في المسجد القريب لحينا .. حيث يجتمع جوقة من الصبية والفتيات الذين كنت أرى معظمهم أثناء العمل سواء في الأمسيات التي كنت اعمل بها وبعض وجوه كنت أقابلها في أصبوحات أيامي وهي تمرق من سيارة إلى سيارة بثيابهم المرقعة والباهتة .. كانت أمي لا تعي بتعليمي مطلقا وتكرر دائما أن شهادات ليست مهمة والكسب باليد أفضل .. لكنها عندما علمت أن هذه الحلقات تخصص في نهاية حفظ كل جزء من القرآن مبلغا نقديا قيّما .. حرصت من خلاله على مواظبة إرسالي وكذلك فعلن أمهات بقية الصبية التي كنت أعرف معظمهم .. وكنت في البداية اضجر من هذه الحلقات ولكنني تأقلمت مع الوضع تماما والمبلغ حفزني أكثر على الحفظ فقد كنت أردد كل ما يكرره المطوع على مسامعنا حينما أقوم بعملي بين السيارات وفي المساجد أو حتى بين المحلات التجارية حيث يتجمهر الناس للشراء ..

وفي مواسم العيد كان المطوع يحرص على تسليم كل منا مظروفا خاصا نسلمه بأيدي أحد والدينا.. ويوم قدمته لأمي أطلق وجهها سرورا عندما وجدت في أحشائه مبلغا من المال ..
أما أمي فقد انكفأت في أيام العيد على أن تلبسنا ثيابا عتيقة ومرقعة في أكثر من موضع فأشبه ما نكون فيها كفزاع رث وسط مزرعة خصيبة .. تعلل أن ذلك يجعل الجيوب الجافة طرية والنفوس الشحيحة سخية .. وقد كان قولها صائبا .. فمجرد وقوفي على الرصيف قدمت لي عدة أوراق نقدية من فئة خمسة وعشرة دراهم .. وذلك قلة ما يحدث في الأيام العادية .. يمرق من أمامي أطفال في ثياب جديدة ناصعة النظافة .. وتحمل الفتيات مثيلاتي في السن حقائب يدوية مزركشة تتماثل مع ألوان ملابسهم الجميلة ومع لون الحذاء والإكسسوار كذلك .. إحداهن ترمقني بنظرة غريبة فتتهامس مع زميلاتها ثم يخطون نحوي جماعات كقطيع من الفراشات زاهية الألوان .. انظر إلى ثيابي الرثة فاخجل من نفسي وأتمنى لو أجري بعيدة عنهن .. اشعر وكأنهن يلتهمنني بضحكاتهن الساخرة ويحتقرنني بملابسهن الجديدة .. فأتقهقر بخطواتي إلى الوراء .. غير أن إحداهن تستوقفني عندما تهتف باسمي : " خديجة " .. تكرره على مسمع من الجميع : " خديجة .. خديجة " .. وتضيف بصوتها الناعم : " ألم تتعرفيّ عليّ .. أنا نوف " فأتذكر أنها إحدى حفيدات العمة شيخه .. تلك العجوز الغنية التي تعمل عندها أمي .. فيتسع فضاء ذاكرتي وأتذكر أنها هي من قدمت لي مصحف القرآن الكريم عندما اصطحبتني أمي في زيارة لبيتهم وعندما علمت أنني التحقت بحلقة الحفظ ولا أملك مصحفا خاصا بي .. أتذكر تلك التفاصيل التي تتلاشى بمجرد وقع الدراهم المعدنية اللامعة وهن يسقطنها الواحدة تلوى الأخرى في الكيس الذي أحمله ..


عادة لا انبس بشيء .. فقط أنقر على زجاج السيارة .. بعضهم ينقدني بمجرد أن يلقي نظرة خاطفة على وجهي الشاحب وعيناي المصفرتان من الداخل .. وفئة لا تقدم لي شيئا لكنها لا تحرم علي بابتسامة تخفي خلفها ستارا من الشفقة .. وفئة أخرى وما أكثرهم أولئك الذين إضافة إلى شحهم فإنهم يكيلون علي بأفظع أنواع الشتائم واللعان .. دون أن أعلم سر غضبهم عليّ ..!

وثمة وجوه تعودت علي كالعم صالح .. صاحب إحدى المقاهي الشعبية .. فكثيرا ما كان يربت على رأسي ويقدم لي قرصا ساخنا مدهونا بالعسل اللذيذ .. كالتي كانت أمي تعجنه لنا عندما يتوافر الطحين الذي توزعه الجمعيات الخيرية .. فتناثر عليها حبات السكر عوضا عن العسل الذي تذوقته لأول مرة من مقهى عم صالح .. لكنني أمقت تلك الأيام التي يغيب فيها العم صالح وينوب عنه شقيقه سلطان .. وهو رجل ضخم البنية ووجه يميل إلى الاسمرار مع حَول في عينه اليمنى .. فكثيرا ما كان يخيفني بصوته المنذر بالشرطة إذا ما وقفت أمام المقهى ..
فترتجف أوصالي من لفظة الشرطة .. فهم الرعب كله بالنسبة لنا .. خصوصا بعدما وقع لعادل الذي عرفت قصته من أفواه بعض الصبية من حلقة الدرس .. أنه في أثناء قيامه لعمله في أحد الأيام أمسك به صاحب إحدى السيارات من عنقه وسلمه للشرطة بعد ما كان يعترض طريقه في كل يوم يذهب فيه إلى دوامه الصباحي .. فادخل الإصلاحية لصغر سنه .. وبعد خروجه أصبح يمارس عمله بحذر مساء بالقرب من دور السينما والفنادق والملاهي الليلية حيث يغدق بعض السكارى بكرم ..


أحيانا أتخيل كل رجل في سيارته رجل شرطة .. وكثيرا ما أحلم بهم في كوابيسي .. فتضطر أمي إلى تخفيف من روعي .. وتطمئنني أن كل ما أتعرض له نتيجة تخيلاتي الواسعة لا أكثر .. أتعلم من أمي كثيرا وأنفذ كل ما تطلبه مني بحذافيره .. فقد بدأت بهذه المهنة في سن مبكرة من عمرها وكانت تحملني في حضنها وأنا رضيعة من بيت إلى بيت وهي تدمع أحيانا وترتجف شفتاها في أحايين أخرى .. وكانت بعض الأبواب ترحب مشفقة والبعض الآخر توصد بقسوة في وجوهنا .. وبينما كنت أبكي في ليالي الشتاء حيث يلفح عظامنا البرد القارس وكانت أمي تجرني من يدي أنا وأختي حليمة .. وكنا نلتصق بعباءتها الرثة ردعا للبرد وخوفا من بعض قاطعي الطرق الذين كانوا يرشقونا بنظراتهم المرعبة .. وبعد مرور سنوات غدت كل واحدة منا تتجه طريقا مختلفا تشير إليه أمي .. بعد أن تلقينا منها الدروس وبعد التدريب الذي خصصته لنا اسابيعا كي نتعود ونتقن المهنة .. وتلتقي ظلالنا عند نقطة الانطلاق .. فنضم أنا وأختي حليمة ما نكسبه من مال إلى كيس أمي .. و بعد إصابتها بالروماتيزم والتحاقها للعمل في بيت العمة شيخه .. أضحينا أنا وأختي حليمة نتناوب على العمل بين الليل والنهار دون أن يضمنا بقعة واحدة أو توقيتا واحدا ؛ لأننا كثيرا ما كن نتشاجر في وسط الطريق أو نتنازع على أولوية الوقوف عند سيارة ما تمر من أمامنا ..

وكثيرا ما كنا نتشاءم من الأيام التي يتضرج أفقها بغيوم رمادية حالكة تنذر عن أمطار وعواصف .. حيث تتصارع السيارات للخروج بعصبية من برك الوحل في الشوارع الرملية ومن المياه الطافحة في الشوارع المعبدة .. وكنت كثيرا ما أمنّي أمي بأن تسمح لي بأن أرتدي المعطف الذي يقي من المطر والبرد .. لكنها كانت تتذمر من ذلك وترفض الفكرة وترى أن أحدا لن يتصدق علي بدرهم واحد فالمعطف غالي الثمن قدمته لنا العمة شيخه كان لأحد أحفادها وقد دهشنا أنا وأختي حليمة من جدته وكأنه لم يعلق على مشجب كتف يوما ما ..
ولكن عندما تصفعني الحمى ويتعطل فيه العمل .. تتذمر أمي وتعبر عن ذلك لأختي حليمة وتردد بحسرة : " لو أنني سمحت لها بارتداء المعطف لما نهشتها الحمى " ..


وبعد عدة أيام استعدت فيه وعيي للعمل .. فخرجت مبكرة ونشاطي يشق دربه مع شمس الصباح كنحلة من سيارة إلى سيارة .. وقد حرصت جدا على تعويض أمي عن الأيام التي سقطت بها في فخ الحمى .. خصوصا أنني كنت احترق من الغيرة عندما اسمع أمي تحوط أختي حليمة بكلمات إطراء عن نشاطها وكسبها الوفير دوما ..
وعند الظهيرة عدت إلى المنزل للغداء .. وضعت كل ما جمعته في كف أمي وكانت سعيدة بكسبي ونعتتني بالنعات التي كانت تكيلها لأختي حليمة .. وكافأتني عن نشاطي بتقديم علبة بها أنواعا من الكعك اللذيذ .. أحضرته من بيت العمة شيخه التي أقامت حفلا بمناسبة نجاح إحدى حفيداتها في المدرسة .. بعدما طلبت مني أن اترك حصة أختي حليمة منها .. وكان الجوع يزعزعني ، فالتهمت حصتي وبعدما تأخرت أختي في المجئ مددت يدي إلى قطعة أخرى من حصتها .. وعندما سمعت نقرا على الباب وضعت العلبة جانبا حتى لا تصرخ علي أختي حليمة كعادتها دائما .. ولكن القادم لم يكن أختي بل كان رجلا في ملابس الشرطة وعندما أبصرته عيناي اختبأت خلف أمي بوجل كي لا يراني .. كذلك غلب الهلع على أمي التي تبدلت ملامحها بمجرد رؤيته .. وسأل الشرطي عن والدي فأخبرته أمي بحزن أنه متوفى .. لكن الشرطي رد بأسى عندما أخبرها أن أختي حليمة لحقت به بعدما دهستها شاحنة محملة بالبضائع وهي تقطع الطريق إلى إحدى السيارات في الطريق العام ..


بعد صدمة وفاة أختي حليمة تحطمت كينونة أمي .. حاولت أن أسعدها بالكدح ليل نهار في الشوارع العامة والمحال التجارية وبين الأزقة والمساجد .. فتركت حلقات الحفظ ؛ لأن ما كنت اكسبه يفوق المبلغ أضعافا .. خصوصا في شهر رمضان الكريم وموسمي العيد ..
وفي إحدى نوبات العمل .. انتصبت بوجهي الكسير عند إحدى السيارات الفارهة .. نوافذها كلها مطلية بالمخفي .. مددت كفي ككل مرة غير أنني صعقت عندما وقع نظري على شابة كانت تشبه أختي حليمة ولكنها في ثياب أنيقة ونظيفة جدا .. وعندما نقدني الرجل والذي كان يشبه الشرطي الذي أخبرنا بموتها رشقتني أختي بنظرات غريبة .. أدركت منها أنها تريدنا أن نمحوها تماما من سجل حياتنا وأن نعدها ميتة كما شيع عنها ..


ونسيت أمرها عندما نقدي صاحب إحدى السيارات المارقة من خلفهم فئة عشرة دراهم .. وعندما عدت للبيت لم أخبر أمي عنها ولم أجد سيارتهم بعد ذلك مطلقا ..