الاثنين، 31 أغسطس 2009

مقطوعة تدعى " اسمك "


مقطوعة تدعى " اسمك "



" اسمك " يستفز لساني
يبعثر " الأنثى " التي تسكنني
بفوضوية " الأنا "
أعلنتَ " تأثيثه " في َّ ..


* * *


اسمك " الرجولي " الوسيم
يبيح دماء " غيرتي "
الهاطلة احتراقاً في وجهِ كل " فِيه ٍ" تستنطقك ..


* * *


كم دهرا استغرقتني
تلك الأمنية بأن " أقذف "
اسمك خارج جغرافيتي.. ؟!
ياااه !!
متى سيتوقف نبضه عن " الرقص " في صدري ؟!


* * *


ليست كل الأسماء كاسم " رجولتك "
هناك رجال يحملون على " أكتافهم " أكثر من اسم !


* * *


عطشى هي " الألسنة "
التي لم تطبق على أهداب " اسمك "
وغرقى هي " الحروف "
التي لم تمخر عبابها في موانئ " جرسِك " !

* * *


ثنائي " اسم + ذاكرة "
أسماء تمَر مرور الكرام في شريط الذاكرة
أسماء جبُلت عليها الذاكرة
أسماء تُلتصق بجلود الذاكرة
تائهة
/
باطلة
/
معطلة
/
أسماء " الآخرين " عن نغمة التشَهي في احتواء ِ " معناك " .. !



2006 م



* ترجم هذا النص إلى اللغة البولندية في كتاب " بوسع قلبي " للمترجم يوسف شحادة ..



السبت، 29 أغسطس 2009

أجنحة للهبوط



أجنحة للهبوط


" لم أكن أعلم أن الله قد أرسل قبل مجيئي

لكل صحراء مجنونا

أجنحتي للهبوط فقط

إذن : كيف سأعود ..؟ "


موسى بيدج

الخميس، 27 أغسطس 2009

استجابات اللغة الواعدة في الأنا الاجتماعية في نص القاصة ليلى البلوشي " غبش الحي ّ"




استجابات اللغة الواعدة في الأنا الاجتماعية في نص القاصة ليلى البلوشي ( غبش الحي)


الدارسان : حسين الهنداوي – حاتم قاسم


الرأي الأول : حاتم قاسم ( البعد السيسيولوجي في نص غبش الحي )


نقف عند الرغبة و نسدل رواق الليل لنسبر الأنفاس المتصاعدة في رائحتها التي تستذكر الماضي بعبق الحاضر في مونولوج داخـلي يحاكـي الذات ببعد نفسي يتجاوز كل الأمكنة ليرسم لنا أفئدة حاضرة يتداعى فيها الحدث و أما المكان فهو القديم الجديد الغائب الحاضر بين رائحة الذكريات المنعشة و التضاريس القديمة التي ترسم على لوحاتها مكاناً لاستيقاظ الذات ، فالحي القديم بزخارفه و طوبـه وروائح البن و الشاي و الهيل و الزعفران و حكايا الجدة عن البحـر ووحوش الليل و أم الدويس ذكريات عالقة في اختزان الذاكرة المتوقدة بشحنتها العاطفية و بعدها النفسي الذي يعكس لنا رائحة الذكريات المنعشة 0


و تنقلنا الكاتبة عبر منهجية دراماتيكية لتصوير البعد النفســي بمونولوجـية الحدث ، فالتضاريس نفسها و المكان نفسه و لكنها النفوس التي تتغير وفق معطيات شاقولية تتقاطع في النقطة نفسها التي تكشف لنا جوانب القوة و الضعف في الذات البشرية عبر منهج سيكولوجي يلقي بموشوره على البعد النفسي و هذا ما عبرت عنه الكاتبة بالزوجات الثلاث وهنَّ يتآمرن على الرابعة فهي صورة تعكس بارتدادها بعداً نفسياً بنمطه السلوكي 0 (( يبدو أن زوجاته الثلاث يتآمرن على الرابعة ، إنها دائماً ضحية الغيرة 00))


فالصراع دائماً ينصب في نقطة الاهتمام ليؤطر الحدث في بقعة الضوء التي تسلط عليها الكاتبة أشعتها المشرقة فكينونة الحدث المشاكس عند المرأة بدأ منذ نزول آدم إلى الأرض إذا صحت المقولة الشعبية أن حواء هي التي أغوت آدم بأكل تفاحة الحياة مع أن القرآن الكريم أشار إلى أن كليهما أكلا من الشجرة و اشتركا في الجريمة نفسها0


أما أن تكون المرأة على الأرض وراء كل مشكلة فهذا ديدن المجتمعات المتخلفة التي يندفع فيها الرجال وراء انفعالات النســاء صحيح أن المرأة إذا همشت بدأت تغزل خيوط المؤامرات لإثبات وجودها ولـكن ذلك لا يتأتى في الواقع إلا في مجتمع رجولي ينظر للمرأة على أنها تابع لا قيمة له مع أن القيم الدينية الإسلامية تصر على أن النساء شقائق الرجال لهن مالهم و عليهن ما عليهم و الشيء الغريب في هذا النص و إن كنا لا نـرى أن زواج الأربع محل انتقاد لأن الله أكرم به النساء قبل الرجال لحكمة يريدها في مجتمعات كمجتمعات الخليج إذا لم يحسن الرجل قيادة المركبات الأربع فإنه لا شك واقـع(( في حيص بيص )) بحيث يرضي واحدة و تبقى الأخريات في موقع السخط و صناعة المؤامرة 0


و النقطة الثانية التي تعالجها الكاتبة هي نزوة كبار السن مع الفتيات المراهقات بحيث تجعل هذا المعجب يدفع كآلة صرافة من أجل إشباع نزواته 00


الذي لبس البخل ثوباً و جعله شعاره المتحرك وهذا يؤكد اجتماعياً سمات الكثير من الرجال في مجتمعات الكاتبة الذين و إن كانوا في سـن الشــيخوخة ما زالوا يحلمون بالفتيات المراهقات 0 فصورة المرأة عند الكاتبة ما تزال تؤكد على نقطة حبك المؤامرات و صناعة المشكلات وكأنها استقت من معين القرآن الكريم ما ورد في سورة يوسف و في حق هذا النبي النقي (( إن كيدكن عظيم )) 0


الرأي الثاني : حسين الهنداوي ( اللغة الشعرية في نص غبش الحي)


تختزن ذاكرة القاصة ليلى البلوشي في نصها غبش الحي لغة شاعرية ذات أبعاد قزحية فهي بكلماتها و حروفها تبعث في النفس الشـوق إلى الالتقاء بالمجهول الذي يتمثل بما يرسمه الواقع المأساوي من مشكلات أبطالها المرأة فقولها :(( إنه الحي القديم 0000 ، تفوح منه روائح البن والشاي والهيل والزعفران )) (( هكذا توحي ملامحه القابضة و عيناه الغائبتان عن سمرة هذا القمر في يومه المحاق )) 0(( على ما يبدو أن قصة حبه وصلت لطريق مسدود ظاهر ذلك من فمه المفتوح كالجرافة تقصم كل ما تراه 00 تطحن00 تفرم000 تحطم 000تبلع 000تجرش 00تهرمش ، ببساطة تحول من آكل للأخضر و اليابس 00 البارد و الحار 000المالح و السكري ))0


يشير إلى أن لدى القاصة مخزوناً لغوياً يحمل على جناحيه آفاق الخيال القصصي المتمثل بالصورة الفنية في الحي الذي تحول إلى مقهى تفوح منه رائحة البن و الشاي و الهيل و الزعفران ناهيك عن صورة القمر الذي تحول من وجهة نظـر الكاتبة إلى رجل أسمر ذي ملامح قابضة و عينين غائبتيــن و كأنه في يومـه المحاق 0


كما أن استعمال الكاتبة للتشبيه في وصف الفم بالجرافة التي تقضـم كل ما تراه يحيلنا إلى قدرة الخيال الاصطفائي عند الكاتبة إلى اختزان الصــور الواقعية و تجسيدها بصور واقعية مماثلة و إن كان ذلك لا يرتقي إلى ابتــداع الصورة المثلى للقيمة الإنسانية 0 فقد تحولت عين الكاتبة إلى ( آلة تصويــر الواقع المعاش ) ولكنها في العبارة التالية استطاعت أن تحول المجسـدات إلى معنويات و المعنويات إلى مجسدات فقد تحول هذا الإنسان من وجهة نظرها من آكل عاطفياً إلى أكلٍ للأخضر و اليابس و كأنها تؤكد على الجشـع النفسي الذي يقف وراء نفوس بعض الرجال 0


موقف لا شك أنه يصور واقـع النفــوس المريضة التي تحولت الحياة لدى أصحابها إلى ماديات محسوســة ذات فائدة متناسين رفعة القيم و سمو الإنسانية و جمال العاطفة الحقيقية الصادقة 0 (( هل يتحول الدكتور صالح الأحمدي مستشار لغة الجسد إلى مهمهم يبحث عن مادية الحياة تاركاً وراءه صوت المؤذن يحيك نسيجه الدافئ على أسقف الحي الذي ما يزال غارقاً في أحلامه )) ..




* نشرت الدراسة في 12/ 6 / 2006م في عدة دوريات ومواقع ..

غبش الحي ّ


غبش الحيّ


حل ّ الليل .. توشح الحي بصمت رهيب يشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة ، ولج من بوابتها وأنفاسه تتصاعد شهيقا زفيرا ، إنه الحي القديم بزخارفه وطوبه القديم ، تفوح منه روائح البن والشاي والهال والزعفران ، كأنها ساكـن جسده وعقلـه ، إنه الحي الصاخب فـي النهار وما يلبث أن يكتسح بسواده العتيد فيرحل غارقا في سباته الليلي ، نائيا عـن الحياة بكل تفاصيلها المادية والمعنوية ، كل بقعة من مساحة هذا الحي تحكي قصة .. تلكم القصص المنطوية في جدرانها ، المخبئة بتفاصيلها الدقيقة في عقول الجدات و التي تنساب عفو اللحظة حينما يحكينها لأحفادهن ، " رحمة الله عليك يا جدتي " ..

كنت دائما تتحفينا بحكاياتك الجميلة عن البحر ، عن وحوش الليل ، عن" أم الدويّس " وملاحقاتها المرعبة للنساء والأطفال ، يالـ لذة الذكريات الحميمة القديمة التي تهزنا كبندول لا يكف عن الحركة ، انعطف يسارا حيث رائحة الذكريات المنعشة تنبعث من طرقاته الغائرة رمالا ، ونفسه تحدثه بجمالية تضاريس القديمة .. تابع سير أقدامه إلى أن أوصلته إلى مكان قد ألفه.. " مطعم السهرة " ..

إنه الاسم ذاته لم يتغير شيء ،البقعة المستيقظة الوحيدة النابضة حسا فيها ، سرى في جسده شعور مريح وهو يهدد " حمدا لله لم تجرى عمليات جراحية للحي " جلس على المقعد ذاته والطاولة الفردية ذاتها ، وأنفاس من الدخان تنفث من أفواه تخفي تحت ألسنتها خناقات تكاد تصرخ ، ألقى نظرة على الرجل القاعد أمامه .. فقط تفصلهم عدة خطوات ، كان ذو كرش كبير ورأسه موصولة بصلعته التي اعتنى بتلميعها جيدا لا يدري لم خطر بباله أنه خرج من منزله بعد خناق مصدوم بينه وبين زوجاته الأربع ، هكذا توحي ملامحه القابضة وعيناه الغائبتان عن سمرة هذا القمر في يومه المحاق ، يبدو أن زوجاته الثلاث يتآمرن على الرابعة ، إنها دائما ضحية الغيرة والمؤامرات السرية ، قطع عليه النادل ذو أكتاف عريضة حبل أفكاره حاملا معه " المنيو " ، رفع عقيرته وكأنه يخاطب زرافة ذا رقبة طويلة ، ممتلئ قليلا واختفت شفتاه تحت شاربين كثيفين معقوفين إلى أعلى كجناحي نسر قد نكسا إلى الأسفل كراية سحقتها الهزيمة ، إنها معركته مع النساء ..

أجل ، فوراء كل هزيمة رجل امرأة .. كما قال أستاذ المحققين الذي تتلمذ على يديه " توكو موري " في المسلسل الكرتوني المحقق كونان " أن وراء كل جريمة غامضة امرأة " لو اتكأنا على هذه المقولة فمعنى ذلك أن وراء كل مصيبة امرأة .. ووراء كل خسارة امرأة .. وراء كل حرب امرأة.. ووراء كل إرهاب امرأة.. ووراء كل زلزال امرأة.. ووراء كل مجاعة امرأة.. الخ

يـاللهول .. ! اكتشاف عبقري عظيم " النساء وراء كل شيء في هذا العالم " رحماك يا ربي.. ! أخذ منه قائمة الطلبات نظر فيه وهو يحاول إخفاء غبطته من الاكتشاف الجديد الذي توصل إليه، وهم ّ بتمرير إصبعه على المأكولات.. بدأها بقسم المعجنات ، فطائر لبنة ، زعتر ، جبنه تركية ، كرافت ، جاوزها إلى مأكولات مشوية .. رولكس ، مكسيكي ديلايت راب ، راخ زنجر.. " راخ " ، أطلق ضحكة داخلية يبدو أن هذه الوجبة منسوبة للموسيقي العالمي " باخ " ..!

حدث نفسه: يخترعون أسماء غريبة والطعم واحد هذا ما يطلقون عليه بــ " خداع المستهلك " ، قسم المأكولات البحرية .. ربيان عادي ، ربيان خصوصي ، نغر ، فيليه سمك ، ألطق زفرة .. تنفس صعداء .. أغلق المنيو ثم نظر إلى النادل : أريد كوب شاي ( كَرَك ) يضبط المزاج .. تركه النادل وعلى وجهه علامة استفهام كبيرة ، عدّل من جلسته ، وضع رجلا على رجل ، سمع سعلة من المقعد الذي بمحاذاته كان الرجل يسعل بشكل مريب وكأن روحه تخرج من جسده ، وعيناه محمرتان من أثر السعال ، ما لبث أن هدأت سعلته ثم أشار للنادل أن يحضر له شيشة بنكهة الفراولة ، كان يطلق دفقات من الدخان في الهواء وهو يفتل شاربه مع ابتسامة تزين شفتيه ، كما لو كان منشغلا بفكرة داخلية يستمتع بها ، حدثته نفسه بضحكة على رجل إياه إنه على حافة القبر وتجاعيد تكاد تلتهم ملامحه الغائبة ينفث دخان الفراولة وحبيبته ذات العشرين تتخايل راقصة أمامه ، يبدو أن الفتيات هذا الزمان يفضلن رجال من هذا النوع يدفع ويدفع كآلة صرافه متحركة فلا متعة تضاهي متعة ملاعبة مراهقات حسناوات ! ذلك جليّ على وجهه المنطفئ شحوبا من ملاحقة المراهقات ، كما أن عينه اليسرى ترمش بشكل مريب ، ترك الرجل المسن مع خيال حبيبته ، جاءه النادل حاملا معه صينية عليها كأس من الماء وقدح من الشاي (كَرَك ) ، تذكر صديقه القديم " بو راشد " المنعوت بالبخيل كان إذا ما شعر بالعطش فإنه يطلب كل شيء إلا الماء ، وإذا سئل عن السبب فإنه كان يجيبنا بقاعدته العجيبة " بأن الماء يحضر مع القائمة مجانا أما إذا طلبته أنا بنفسي فمعنى ذلك سأدفع ثمنه من جيبي ..!

" وكثيرا ما كان يردد قوله تعالى الذي حفظه عن ظهر قلب: ( ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين ) ، وكغيره من الذين تظاهروا بالزهد في الدنيا وُورِيَ في قبره أما ثروته الضخمة التي وصلت الملايين يتمتع بها غيره الآن !

لكم آلمه عدم تمتعه بثروته ، رشف عدة رشفات من الشاي ، شعر بأن رأسه قد أعيدت له توازنه، نظر من حوله ، حيره الصمت المستبد على المكان ، يبدو أنهم ضجروا من الكلام والثرثرة طوال النهار ،والغريب في الأمر أن كلا منهم اختار المكوث لوحده على طاولة خاصة دون رفقة تآنسه ..! أدار رأسه في كل الجوانب ثم رفع يديه وظهره مستند .. إنه التمرين الذي اعتاد ممارسته حين يجلس طويلا على الكرسي، رفع رأسه من جديد وقعت عيناه على شاب ذو تقاطيع وسيمة، كان طاولته زاخرة بمأكولات من شتى الأنواع، المشوي والبحري وسلطات متنوعة..الخ ، كان فمه ممتلئ وهو يحشوه بحبات من الكبة المقلية من الطبق أمامه ، تفَرّس في وجه مرة أخرى ، أطلق صيحته الداخلية : آها ، يبدو أن قاعدتي عن النساء كما استنجت آنفا صحيحة ، نعم ففمه يبوح بكل شيء ، إنه يعاني من أزمة عاطفية ، ويحاول حلّها وفكها من خلال الأكل ، على ما يبدو أن قصة حبه وصلت لطريق مسدود ، ظاهر ذلك من فمه المفتوح كالجرافة تقضم كل ما تراه .. تطحن ، تفرم ، تحطم ، تبلع ، تجرش ، تهرمش ، ببساطة تحول من آكل عاطفيا إلى آكل للأخضر واليابس .. البارد، الحار.. المالح.. والسكري، إنها مسألة خطيرة فعلا ـ أعانه الله ـ أما هو فيضل أن يحتفظ بنصيحة أحد الشعراء ( وعش خاليا فالحب أوله عنى.. وأوسطه سقم وآخره قتل ) ، لا يهم إنه لا يستطيع الاستغناء عنها سيعودان لبعضهما، حينئذ سينحف كشجرة سرو عندما يعود إليها مرة أخرى أما هي فحتما ستكون كشجرة بلوط ، إنها القاعدة المعروفة في عالم العشاق بعد الزواج " الرجال ينحفون كالعصا والنساء ينتفخون كالبالون " .!

رشف رشفات أخرى من القدح ، نظر إلى ساعته ، نهض من مكانه بعد أن دفع الفاتورة .. ألقى نظرة أخيرة على الجالسين في مقاعدهم أخرج من جيب قميصه بطاقات بيضاء دونت عليها عبارات بلون كحلي.. الدكتور صالح الأحمدي مستشاري لغة الجسد وخفايا الشخصية، سلمها بيد النادل وهو يهمهم : في الطابق الأول.. شقة رقم 3، ثم مضى في سبيله مودعا حيّيه القديم الذي فارقه منذ أكثر من عشرة أعوام..
مضى وصوت المؤذن يحيك نسيجه الدافئ على أسقف الحي الذي ما يزال غارقاً في أحلامه ..

الأحد، 23 أغسطس 2009

الساكنات في قلوبنا



الساكنات في قلوبنا



من يتكئ مثلي مساء كل جمعة وحدقتيه مصوبتان كفوّهة مسدس على قناة mbc1 وعقرب ساعته يزنّر رقاص مؤشره على إيقاع الحادي عشر .. سيعرف أن حديثي يشمل مسلسل درامي خليجي يحبطنا في نهاية كل أسبوع بحلقة أكثر إحباطا من أختها المعنون بـ" الساكنات في قلوبنا " ..


مسلسل محبط جدا ، تدلّت حلقاته بقيود خانقة على كل من عنق المرأة والرجل .. والمرأة كالعادة كائن حبيس كعصفور مسكين في قفص المظالم والتضحيات والقلب النقي التي تتنفس على أحلامها الموبوءة وأمانيها المقهورة ..
أما الرجل هو الوحش الهمجي والسفاح والظالم الذي عيناه لا تنامان ، السيد الذي تموء له المرأة بخضوع أمرك مطاع ..!

هذا السجل العتيق في تاريخ الجينات البشرية في تكرر مستمر كدورة الحياة فكل جزء منها يتمطى في نظام دقيق ومحكم وحريص ..
طوال تلك الأعوام والمجتمع يعيد ويكرر وينبش ما دفن وترسب ولكن مع كل جيل تجدد بحذاقة في سرد أسلوب النقاش والعرض بحيل مفبركة .. ولا تفعل غير ذلك حقا !
فعلى من سنلقي اللوم .. ؟!
هل سنشهر أصابعنا بحنق على الرجل بأنه الوحش الذي لابد له من ترويضه .. أم أننا سنضّخ حناجرنا بمستوى أعلى من الصراخ الذي استنفذ منه ما استنفذ في المطالبة في فك قيود المرأة ..؟!
أم سنقف محايدين حتى تتساوى كفّة الميزان بين الطرفين ، فنعلل بأن الرجل يتصرف على ذاك النحو حرصا منه على أنثاه .. أو نعلن إن المرأة من حقها أن ترسخ وجودها في المجتمع بقواعد معينة ؟


فعبر أحقاب تاريخية ماضية كان الوضع الفطري يصنف المرأة بأنها الجارية التي تقيد بالأصفاد وتجر من عنقها شهية البياض والنعومة بأيد جلادين بلا ذنب ؛ سوى أنها إغراء يهدد سلامة المجتمع الشرقي المحافظ .. وهو ليس بالشيء المدهش وتاريخ مكرر يتكرر بأشكال وتحت مسميات مختلفة تتخفى في زي تنكري تستدعيه الحياة المتطورة ... لكن تبين في وسط دهشتنا أن " الرجل " أيضا يجرجر بالأصفاد ذاتها و للأسف هنالك جوقة من الرجال مقيدين حقا ..!


الرجل كائن بشري وجد نفسه في مجتمع مضمخ حتى أعلاه بالقيم الاجتماعية المتسلسلة ببعضها في دوران لا نهائي .. في دوران محكم الأقفال .. وثمة صوت أعلى منه يأمره بالرجولة المنفوخة بالعنف والقسوة والسيطرة ، فإن عصا غدا فأرا وإن ترققت مشاعره أحتقر إلى قائمة بلا شخصية ..!


إذن الرجل مكبل مثله مثل المرأة تماما .. فلماذا نحاكمه بالمقصلة وحده في هذا الواقع المطوق بالمتاريس ؟!
والرجل ليس ملام حين يتصرف على ذاك النحو ؛ لأن تلك التصورات الخاطئة حفرت فيه منذ خشونة أظفاره فانتشر فيه السوس .. فما نتيجة سعي المرأة إلى الخروج من أقفاص والمطالبة بالحرية إن كان العقل الذكوري مبرمج على تفكير آلي كهاتف محمول درج على تقنية ثابتة ..؟!


مازلنا نبرر قولنا في كل مرة بأن الوعي هو هدف تلك الدراما المعروضة .. وهل بعد ذاك الكم الهائل من العرض عبر تلك القرون أفلحنا في إعدام سوء الظن على مستوى الأجيال ؟!
المجتمع ككل متآمر على ترسيخ تلك الغمزات اللاذوقية في الحدود الفاصلة بين الرجل والمرأة والتي لوثتها إكراهات الموروث وأصفاد التناقضات التي تتصافح بأيد مرفهة بقفازات الرياء .. حتى في مجال الإعلانات التجارية دائما تسعى إلى تشييء المرأة كدمية والتي تثير شبق الرجال .. فلماذا هذا السعي الملّح على حفر مثل هذه الصور المتكررة وتحطيم مُثل الثقة المتبادلة بين الرجل والمرأة ..؟!
ثمة عقد اجتماعية متوارثة لا غرض منها سوى أن تكون البنت كأمها وجدتها ويكون الرجل كوالده وجده كساعة مهما طرأ تغيير على شكلها الخارجي تبقى عقاربها لاهثة بالطريقة المكررة نفسها ..!


فالمجتمع العربي وكما عبر المستعرب الشرقي الياباني " نوبوأكي نوتوهارا " في كتابه " العرب من وجهة نظر يابانية : " مشغول بفكرة النمط الواحد على غرار الحاكم الواحد ، والقيمة الواحدة والدين الواحد وهكذا ، ولذلك يحاول الناس أن يوحدوا أشكال ملابسهم وبيوتهم وآرائهم ، وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد وخصوصيته واختلافه عن الآخرين ، أعني يغيب مفهوم المواطن الفرد لتحل مكانه فكرة الجماعة المتشابهة المطيعة للنظام السائد ، في هذه المجتمعات يحاول الفرد أن يميز نفسه بالنسب كالكنية أو العشيرة أو بالثروة أو بالمنصب أو بالشهادة العالية في مجتمع تغيب عنه العدالة ويسود القمع وتذوب استقلالية الفرد وقيمته كانسان يغيب أيضا الوعي بالمسؤولية " ..


كثير من النساء تشامخن إلى أعلى مراتب الوظائفية مثلها مثل الرجل ، لكن هل كفّ الرجل عن ممارسة تسلطه عليها ؟
ماتزال أعداد مهولة من النساء يعانين على أيدي الرجال على كافة الأصعدة النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية .. فهل مراكزهم الوظيفية فعلت شيئا ؟
وإن فعلوا كان فعلهم بإتباع سياسة الإكراه .. وليس على أساس من الود الإنساني والتفاهم .. أي أن الرجل لم يفعلها عن طيب خاطر وتفهم منه .. بل ربما خضوعه كان يقنِّع وراءه دوافعا شخصية ..!


المطلوب أن يعامل كلاهما آخره بإنسانية مطلقة على دعائم التكامل لا كمنافس لابد من قهره ، فلكل منهما أحلامه التي يسعى لتحقيقها ولكل منهما أحاسيسه وطموحه وأهدافه في الحياة .. والكف عن الضغط الوعظي الذي يتقاذفه كل طرف على الآخر بطريقة همجية ..
هنالك صراع مخيف بينهما في تصاعد بركاني تتسارع خطواته ولا تبطئ .. تتسع ولا تضيق .. ثمة فوضى أخلاقية تتبهرج في عرض مفاتنها .. فغرت فوهة التأرجح المضني الذي سبرنا فيه دون أن نحدد مسارنا بين أحكامنا الأخلاقية الصميمة والأحكام الاجتماعية المتوارثة حتى وقعنا في فخ التناقض .. !


المجتمع ليس بحاجة إلى تحرير لا المرأة ولا الرجل .. قبل تحرير ذينك الجنسين يجب تحرير الأفكار المتعفنة المتكئة على ترسبات ديناصورية التي تجتر تعاليمها كشيء مقدس لا يمكن الحياة من دونها ..
السر في القلب هذا العضو العضلي الممتلئ بالحجارة ، هذا العضو الذي يحلم بالشمس ونفض الغبار وخيوط العنكبوت التي تشابكت حوله كغابة مهجورة تغصنت فيه الأحاسيس كفروع متخدرة مشلولة لا روح فيها .. فعندما نضخ الحياة في القلب سيطلق أحاسيسه بعفوية دون رهبة سرعان ما يضخ طاقة هائلة في الأدمغة التي كانت معطلة عن التفكير الإنساني كجبل هامد .. إن مجتمعاتنا بلا عافية ؛ لأننا لا نعرف كيف نحب كما عبر الشاعر نزار قباني .. ينقصها الرحمة والرأفة ، بل ليس لديها ما يكفي من الدين ليجعلهم على وفاق مع بعضهم البعض ..
المطالبة بالكف عن ترميم القيم الاجتماعية المحنّطة .. إن التلميع يعلو كل شيء سوى المشاعر الإنسانية يتفشى فيها الصدأ يوما بعد آخر ..
المطلوب ترقيع منطاد الثقة التي انفقأت فتخبطت في فوضى السقوط .. نحن نعيش في مجتمع مطارد بالشك بامتياز .. أشرك بغرسه في تربة عقولها كلا الجنسين بلا تبرئة أي منهما ..


فالأم على سبيل المثال في بريطانيا تقول لابنتها التي تسير في الشارع : ( انتبهي وأنت تسيرين في الشارع ، فأنت لا تعرفين من هو الرجل الذي ستقابلينه عند المنعطف فقد يكون ذلك الرجل هو فارس الأحلام ) .. والأم في خليجها إلى محيطها تقول لابنتها التي تسير في الشارع : ( احذري وأنت تسيرين في الشارع ، فأنت لا تعرفين الرجل الذي ستقابلينه عند المنعطف فقد يكون دنيئا وقد يخطفك ويغتصبك ) ..!
وكل جيل يترعرع على الاستفهامات نفسها : لماذا الرجل مطارد بسوء الظن دائما ؟ هل حقا هو كائن متوحش ؟ ولكن ماذا عن آبائنا واخوتنا وكل رجل قريب لنا أو تعاطينا معه ؟ وهل حقا المرأة مصلوبة أبدا على سجية السقوط في مستنقع الرذيلة بسهولة ..؟ هذا ما يدعى بسياسية التعميم المرضي التي ماتزال مترئسة بجدارة في برمجة عقول الشرقيين .. فيتفاقم من جيل إلى جيل بالتوارث دون أن نحرك ساكنين .. !

ثمة خوف .. فالرجل الذي يكون كالخاتم في يد المرأة ، لا يكون كذلك إلا بدافع خوف .. والمرأة التي تكون جارية في يد الرجل لا تكون إلا بغريزة الخوف الذكوري المتسلط عليها كذلك .. !


ثمة جهل .. ومعظم الذين تتصف أدمغتهم بالجهل هم طبقة المتعلمين للأسف ، الأميّ أكثر مرونة في التقبل من المتعلم حامل درجة دكتوراه .. فالأول ينطلق من بساطته والأخير من دكتاتورية الأنا ..


إنها أنفاس حق لدعم المجتمع الأسري على قواعد الثقة وأسس الحب والتأثيث النقي .. بعد نبذ التورية الاجتماعية وردم الأفكار الجاهزة التي يرتوي عليها الأجيال بالتناوب فالكل يلج من الدهليز نفسه ويتوه فيه دون الجرأة بإسدال القناع عن حقيقة قذارتها ؛ من أجل بناء جيل جديد له رؤاه وحريته و التحرر هنا لا يعني تحررنا من أخلاقنا وثيابنا وعاداتنا والمثل الاجتماعية الأصيلة ، بل التحرر هنا مصلوب على الآلية في ممارسة قوانين اجتماعية متوارثة تخلو من أي معنى انساني .. تحرر العقول المحشوة بالأفكار السلبية التي ليس منها غرض سوى أنها تعلن تعبدها للأزلام الجاهلية التي عفى عليها الدهر والتي ما تزال تؤدي فروض طاعتها بصورة ساذجة تتكشف عن هشاشة أصحابها وتناقضاتهم .. لنعبّد ذاك الدهليز وليكن الطريق أمامنا فيسحا باستقامة كالصراط المستقيم ..

الجمعة، 21 أغسطس 2009

عابرة



عابرة


" فأقنع نفسي :

بأن المسافات ، كذب خطى

والصداقات ، كذب أنيق

والنساء الجميلات ، ............

تكرار آه "


عدنان الصائغ


من ديوان " غيمة صمغ "

الاثنين، 17 أغسطس 2009

رائحة الأنفلونزا


رائحة الأنفلونزا

13

فكرة خارقة عن عاداتي التي احتفظت بأصالة روتينها حتى الآن ،

في أن أقضي نهاري بطوله وعرضه في مقعد لا أتزعزع عنه كسجين مربوط بقيد ،
لكنها فكرة معجنة بالاختراع .. والحاجة اللئيمة هي التي خضعتني لذلك ..!
ولكن لا بأس من المجازفة أحيانا ..
في الماضي حين كان المطر يرقص رقصته الشهيرة مع الغيمة ،
كان ذلك سببا كافيا بالنسبة لي للبقاء كتمثال شمعي ،
حتى يأمر الله السماء بعقم مؤقت عن الحبل ..
أو حين يرتسم على وجه النادل عبارة : ( عفوا سنغلق ) ..
ولكن الآن فكرة السير و الخنازير تبخ الأرض من حولنا برائحتها النفاذة دون كمامة واقية مرعبة جدا ؛

لعل من محاسن نعاتي العتيقة هو أنني لا أحبذ مصافحة الناس باليد ،
إضافة إلى الجلوس والفضفضة معها كذلك ..
وهكذا لن أكون شاذة عن هذه القاعدة على الأقل في هذه الأيام ..
بفضل سيرة الخنازير السيئة ،
والتي على ما يبدو سأدين لها كثيرا شريطة أن تبقي رائحتها بعيدا عني .. !

الأحد، 16 أغسطس 2009

رؤية نقدية تحليلية لـ " قصة سلامة " للكاتبة الإماراتية أسماء الزرعوني




رؤية نقدية تحليلية لـ" قصة سلامة " للكاتبة الإماراتية أسماء الزرعوني (*)




" عندما وجدت كتب أطفالنا في المكتبات مجرد صور بلا معنى هدفها الربح المادي ، حملت على عاتقي وبجهد ذاتي هم رفد الطفل بالفائدة .. ".


" أسماء الزرعوني "

كاتبة إماراتية تحمل في داخلها هاجس الكتابة الإبداعية للطفل ، وهي الحاصلة على جائزة الشرف من دائرة الإعلام والثقافة بالشارقة في مجال الكتابة للطفل عام 1996 م ، كما أنها تسهم في مجال أدب الطفولة من منطلقات عدة ، وقد اختيرت مجموعة من قصصها لمقررات وزارة التربية والتعليم والشباب في دولة الإمارات ، ومن بينها هذه القصة التي وضعت تحت ضوء التحليل ..


" ملخص قصة سلامة " :


( ترعرعت سلامة بين الرمال الذهبية والعشب الأخضر ، جمعت بين شموخ البداوة والكرم ، وصادقت سفينة الصحراء وشربت حليب البقر .
كانت سلامة في الثانية عشرة من ربيع عمرها ، كانت تعشق المغامرة وتبحث عن الجديد في العلم والمعرفة ، ولها أخوان هما خالد وسيف يكبرانها بسنوات ، ويدرسان في القرية المجاورة ، أما سلامة فقد كانت تدرس في مدرسة القرية مع زميلاتها ..
وفي أيام العطلات كانت سلامة تتولى مهمة رعي الأغنام ، لتساعد أبويها ، هكذا نشأت سلامة تقضي يومها بين العلم والعمل ، وكانت أمنيتها في أن تكون طبيبة ، حيث كانت تذهب لجارتها أم خلفان لتتعلم على يدها الكثير من الطب الشعبي .
كان حلمها في أن تصبح طبيبة يراودها في الليل ، أما في النهار فكانت تسرح وتمرح بين المراعي والأغنام ، وفي ذات يوم وبينما هي تلهو وتمرح مع صديقاتها ، فجأة سمعوا صوتاً غريباً ، فانتبهت سلامة للصوت فذهبت وزميلتها موزة صوب مصدر الصوت ، فوجدوا سيارة ترجل منها رجل وامرأة ، فقال الرجل :
أنا طبيب وزوجتي طبيبة ، جاء تعييننا في قريتكم ؛ رحبت بهما سلامة و أحست بسعادة تفجرها ، ولم تستطع مقاومة فرحتها فقالت : أنا سعيدة بلقائكما وسنأتي لزيارتكما ، فأنا أحب مهنة الطب ..
فعادت سلامة إلى المنزل والسعادة لا تسعها ، وذلك لشعورها بأن حلمها بدأ يتحقق ، و أخذت سلامة بالتردد على المستشفى دائماً وعملت كمساعدة فتعلمت أموراً كثيرة منها إعطاء الحقن للمريض ، وعملية تدليك القلب والإسعافات الأولية ... الخ .
ومرت العطلة ، فبدأت معها الدراسة وفي أحد الأيام نظمت المدرسة رحلةً ترفيهية إلى مزرعة قريبة من القرية ، فجأة في الحديقة أصيبت موزة بلسعة سامة والكل أصيب بالذعر ما عدا سلامة ، فإنها قامت بإعداد الإجراءات الأولية ، وأخذوها إلى أقرب عيادة وانتشر الخبر في القرية وهنأ الجميع سلامة وقدموا لها الهدايا وكذلك كرمتها المدرسة ، هكذا كانت سلامة محبة للعلم والعمل وعاشقة للصحراء ورمالها الذهبية .. )

هذه القصة بأحداثها الاجتماعية ركزت على ثلاثة محاور : الأسرة / البيئة / العادات ، ومن خلال هذه المرتكزات تمضي أحداث القصة بتسلسل وترابط تتخللها العقدة ثم يُسدل الستار نهاية مضمناً بحلٍ مناسبٍ يترك أثراً طيباً في نفس الطفل ..
والقصة موجة لأطفال ما بين ( 9- 12 ) سنة ، وموضوعها يدور حول أسرةٍ تعيش في بيئةٍ ريفيةٍ ، تتراءى لنا الطفلة سلامة وهي محور الحدث ببساطتها و أحلامها الطفولية بين أرجاء هذه البيئة الريفية التي تطغى عليها البداوة بعاداتها وتقاليدها السائدة .
وتظل الأحلام ترسم طريقها وتستقر بدورها في مخيلة سلامة ، ويظل أملها الوضاء في أن تصبح طبيبةً يتغلغل في أعماقها ويأسر كيانها ، وتمضي أيام الطفلة سلامة بروتينها المعتاد ما بين تسريح الأغنام واللهو والمرح وبين أسرتها وتقديم العون لهم ، حتى يأتي اليوم الذي تتغير فيه الأمور وتتقلب الأحداث ، ويقترب حلم سلامة بالطب فيخرج من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة والواقع بقدوم الطبيب مع زوجته الطبيبة للعمل في القرية ، فكانا هما بؤرة الخير وسفينة العبور لسلامة نحو تحقيق جزء من حلمها وذلك بالسماح لها بالعمل كمساعدة في العيادة مع الطبيب ، فتعلمت من ذلك الكثير من الأمور الطبية مثل حقن المرضى وعملية تدليك القلب و أسماء بعض المسكنات والإسعافات الأولية .. الخ .
وبهذا التسلسل المنطقي تدور الأحداث ، إلى أن نصل إلى لحظة تأزم الموقف ، ويكون ذلك عندما تنظم المدرسة رحلة ترفيهية قريبة من القرية ، وفي أثناء الرحلة تصاب موزة صديقة سلامة بلسعةٍ سامةٍ أثناء لعبها في المكان ، فتبادر سلامة لمساعدتها ، فينتشر الخبر في القرية ويسعد الجميع ، فيتم تكريم سلامة على الملأ ، هكذا كانت سلامة الطفلة المحبة للعلم والعمل تمضي بتفانٍ نحو تحقيق أحلامها ..

إن هذا التسلسل في الأحداث ، وهذه المنطقية في تصوير الموضوع ، ألبس القصة ثوب الواقع ، ولقد نجحت القاصة في نقل هذه الواقعية بصورةٍ لائقةٍ مناسبة لمستوى عقل الطفل والمرحلة التي يمر بها ، فخط سير الأحداث كان في تلقائية ميسرة وكأن الكاتبة استوعبت عقلية هذا الصغير ، فلم تسكب الأفكار دفعةً واحدةً بل على شكل جرعات وتزيد هذه الجرعات بكميات موزونة في لحظات مناسبة ..
وبهذه الواقعية تجري الأحداث وتكمن أهمية نقل الواقع بصورة فنية في كونها " تؤسس وتبين شخصية الطفل من خلال تعريفه بسلبيات وإيجابيات هذا الواقع " ..

قلنا إن القصة تسير سيراً تدريجياً من بدايتها لنهايتها ، و اعتماد الكاتبة أسلوب السرد المباشر ، وهو الأليق في قصص الأطفال و أنجح الوسائل لرسم الشخصيات بالصورة التي نريد نقلها للطفل ، فهو يعطي القلم الحرية في الحركة ، والانسيابية في التعبير وهذا ما وصلت إليه الكاتبة ، فكان ذلك جلياً من خلال عرض المقدمة التقليدية ، فهي تسرد الأحداث فتصف لنا الأجواء والأحوال السائدة ، ومن خلالها تعّرف الطفل منذ نقطة الانطلاق ولحظة البداية حقائق الأمور ، فتعطيه فكرة بسيطة عن الشخصيات المحورية في القصة ودورها في نضوج الأحداث ، كنحو: " ترعرعت سلامة بين الرمال الذهبية والعشب الأخضر ... " وأيضا " كانت سلامة في الثانية عشرة من عمرها ، أخذت الجمال من السمار الخليجي ، وازدان جمالها الطفولي بضفيرتيها الطويلتين " .

وكأن الكاتبة من خلال هذه المقاطع تعطي للطفل تمهيداً عن الشخصية التي سترافقه إلي نهاية الأحداث ، وهذه المقدمات غالباً ما تكون عليها قصص الأطفال ، فندر أن تبدأ قصص الأطفال بحوارات بين الأشخاص ، ولعل ذلك عائد إلى أن عقلية الطفل لا تزال غضة لا تستوعب الأمور على حقائقها ، فلو بدأت القصة مثلا بحوار على لسان الشخصية الرئيسة وهي محرك الأحداث ، ولم يوضح القاص أهم الجوانب التي يمكن أن تعرف الطفل وتعطيه لمحةً ولو بسيطة عنها ، فهل يا ترى ستنجح هذه القصة وبهذه المقدمات في جذب الطفل وعقله الطفولي وأفكاره البسيطة وخياله المحدود لتقبل الفكرة ؟!
أفلا يشعر بغموض الأحداث وملامح الشخصيات وأن هناك خيط مفقود ؟ خصوصا إذا كان من صفات العقل أن نحكي له يريد أن يلم بالقصة من السطر الأول وليس من الصفحة الأولى ..

إذن فالمقدمة في القصة التي نستعرض أحداثها جاءت موجزة وموضحة لما سيأتي بعدها ، حيث تتابعت الوقائع بطريقة منطقية ، وخطوط الأحداث تكاد تنفك بسهوله عن بعضها وبمنتهى الذكاء يسفر عن قدرة الكاتبة وخبرتها في هذا المجال ، فإذا كانت هذه إيجابيات أسلوب السرد المباشر في قصص الأطفال ، فإن كاتبتنا المربية الفاضلة أعطت الحوار حقه في تثبيت الفكرة وتوضيحها ، بل إنه يقوم بدور المنفذ ، فالطفل يتعب من القراءة القصص ذات السرد الطويل ، قد تنفره عن القراءة وبالتالي يكون الحوار المنفذ والسبيل ليتنفس هذا القارئ الصغير ويتتابع الأحداث مع هذه الاستراحات اللطيفة ، فعملية التوازن والتراوح ما بين السرد والحوار مهم جداً في قصص الأطفال خاصة مع المرحلة العمرية التي تناسب و أطفال هذه القصة ، فهذه العملية تتباين مع كل مرحلة عمرية يعيشها الطفل ، فتحقق التوازن هنا يصبغ القصة بصبغة حلوة يتعايش معها الطفل .

وتتحرك شخوص الشخصية عبر هذه الوقائع حركة حيةً هادفةً تحقق المراد والغاية من العمل ، فتنقسم هذه الشخوص إلى قسمين و تشمل " الشخصيات الرئيسة " ، وهي التي تخدم الهدف الذي كتبت لأجله القصة وتمثلها سلامة ، هذه الشخصية التي تحاط بها المثالية من كل صوب ، كيف لا ؟

وهي الطالبة المثالية في المدرسة ، وفتاة المطيعة والمرحة بين أفراد أسرتها ، وهي المثقفة الطموحة تسعى وتعمل بجد لتحقيق حلمها في أن تصبح طبيبة ، وقد رسمت الكاتبة هذه الشخصية بصورة نامية ، بحيث تتطور تدريجياً ، فسلامة تحب مهنة الطب وهذا دفعها إلى أن تذهب إلى أم خلفان لتتعلم منها و تأخذ بعض المعلومات عن الطب الشعبي ، هكذا تسير الشخصية مع هذه الوقائع المنطقية إلى أن تلتقي بالطبيبين فتقوم بوظيفة المساعدة لديهما ، هذه هي الشخصية الرئيسة بمحورها ، وكلنا يدرك مدى أهمية هذه الشخصية عند الطفل ، فالطفل يتعايش مع شخصية سلامة ويرى نفسه من خلال طموحها ومثاليتها ، وحلمها ورغبتها و أملها في بلوغ المجد ، وهكذا يعيش الطفل ويشعر بل ويتحدث مثلها تماماً في أثناء القصة .


ومن هنا نقول إن شخصية سلامة تخلو من العيوب ، شخصية مثالية وتكاد تصل إلى الكمال ، وكان بإمكان الكاتبة أن تدخل بعض السلوكيات غير اللائقة على الشخصية ، فلماذا سعت الكاتبة أسماء برسم سلامة بكل هذه المثالية ؟!
لابد و أن هذا السؤال بدأ يتحرك ويدور يمنه ويسرة في أذهانكم ، ولكن سنؤجل الإجابة عنه إلى موضع عرض القيم المستمدة من هذه القصة ، فالحديث عنه سيطول ويحتاج إلى مساحةٍ أوسع من هذه المساحة ..

والشخصية الرئيسة في القصة تتمحور حول الأحداث بطريقةٍ ترضي الطفل وتسهم في تعايشه معها لمراعاة الجوانب النفسية والتربوية ، ولقد برز ذلك في عدة مواقف فقولها : " جلست سلامة تفكر في مخلوقات الله من جبال و أشجار .. " وقولها أيضا : " استيقظت سلامة على صوت أمها ، فأسرعت نحوها تقبل رأسها وتعتذر عن تأخرها في النوم " فهذه المواقف تشف عن القيم النفسية التربوية الكائنة في ثنايا هذه الشخصية ، أما بشأن الشخصيات الثانوية وهي التي تساعد في رسم الهدف ، فكثرت في القصة والمتمثلة في الطبيب وزوجته ، الوالدين ، أم خلفان، وصديقات سلامة "عفراء ، موزة ، نورية ، اليازية .. الخ " ، وكلها سُيرت بحيث تخدم وتساند الشخصية الرئيسة ..

وكل هذه الشخصيات تناسب البيئة الريفية التي تدور حولها الأحداث ، فالشخصيات بأحداثها وخط سيرها ونموها وكل ما يحاط بها تمثل البيئة الريفية في منطقة الخليج بعامة والمجتمع الإماراتي بخاصة ، ولعلنا نبرز بعض هذه المظاهر من خلال القصة ، فنبدأ أولاً من ناحية رسم الشخصيات ، فشخصية " أم خلفان " يمكن أن نقول بأن هذه الشخصية التقليدية ووجودها منطقي وضروري فرضته طبيعة بيئة الريف ، " فأم خلفان " هذه المرأة كانت تقوم بدور الطبيب في القديم ، فمعرفتها الطب الشعبي وهو المداواة بالأعشاب الطبيعية منحها هذه الوظيفة ، فنظراً لصعوبة العيش في القديم ، وعدم توافر المواصلات للذهاب إلى المستشفيات التي كان مقرها المدن ، كل هذه المظاهر والصعوبات جعلهم يلجئون إلى الطب الشعبي ، وقد كان هناك بعض النسوة يقمن بعملية ولادة النساء ومداواتهن ، كما كن يقمن بمعالجة الأطفال الصغار وكانت عدتهن في ذلك أدوات بسيطة، ومن هؤلاء شخصية " أم خلفان " فبخبرتها كانت تقوم بهذه الأدوار المهمة حالياً ..

ولا تزال القصة مكتظة بملامح بيئية أخرى مثل مهنة رعي الأغنام والمواشي ، وحلب الأبقار ، والإفطار المكون من الخبز والعسل الطبيعي والحليب الطازج ، الأطعمة التي وضعت في الصرة ، انتشار أشجار السدر والنخيل ، وكل هذه المظاهر بيئة عاش بينها آباؤنا و أجدادنا ..

بل إن أسماء الشخصيات منتقى من البيئة أيضاً نحو " سلامة ، عفراء ، يازية ، موزة ، نورية .. الخ " .
ومن هذا المنطلق نقول بأن الكاتبة وفقت في إحاطة القصة بإطار بيئي تقليدي ، فالإطار يحيط بالشيء من كل جوانبه وكذا الكاتبة عملت على رسم البيئة رسماً ماهراً بمظاهره وشخصياته ، فكل ما يحيط بالشخصية بملامحها الصحراوية و ألبستها التراثية وعقليتها وطبعها كلها مستمدة من البيئة الإماراتية القديمة ، فأحدث اتصالاً وثيقاً رائعاً بالبيئة المكانية والزمانية والتي كانت واضحة كالشمس في نهاره ومتلألئة كالقمر في ليله ..

وتستمر الأحداث في النمو حتى تصل إلى العقدة بحبكتها الفنية ، ولقد برزوا في القصة بشكل واضح ، و كان ذلك في تسلسل الأحداث وبدئها بمقدمةٍ سريعةٍ من خلالها تنتقل سلامة بين الرمال وحبها للعلم وشغفها برعي الأغنام وميلها للمرح والبهجة ، ثم بدأت العقدة بتفكيرها بمستقبلها و أمنيتها بأن تكون طبيبة حتى وصلت الأحداث ذروتها وذلك بتحقيق حلم سلامة بأن أصبحت مساعدة مؤقتة للطبيب ..

أما الحل الذي كان بمثابة مرسى للسفن بعد رحلةٍ بحريةٍ شاقة ملاءى بالمغامرات ، فالطفل الصغير يهمه أن يعرف نهاية كل مغامرة ، فهو يتعايش مع القصة منذ لحظة الانطلاق والبدء والتي تتخللها أحداث إلى أن وصلت إلى النهاية ، فكان ختام القصة بنهاية سعيدة ، تتمثل بتكريم المدرسة سلامة وتقديم الهدايا برهاناً على مثاليتها و عملها بجدٍ واجتهادٍ ، وهذا الحل إيجابي منطقي يتوافق وأحداث القصة وخط سيرها ..

وبعد هذه النهاية السعيدة المبهجة تبقى التساؤلات حول القيم التربوية والسلوكية التي يمكن أن تستقر في نفس الطفل ، كما أننا نضع علامة استفهام حول نوعية هذه القيم التي تم غرسها ، فهل هي أخلاقية ، اجتماعية ، وطنية ... الخ ؟

* فمن القيم التربوية والسلوكية في القصة :

1 ـ وجود القدوة الحسنه الممثلة في شخصية سلامة وهذه قيمة من القيم الأخلاقية ، ولعلكم تذكرون التساؤل الذي طرحناه سابقا والذي يدور حول سعي الكاتبة إلى رسم الشخصية الرئيسة بكل هذه المثالية ؟
نقول أن سعيها انطلاقاً من قولها : " ماذا أقدم لكم في زمن الانترنيت و الفضائيات التي أبعدت أطفالنا عن القراءة ".
فهي تسعى من خلال هذه المثالية المرتسمة في الشخصية بأن تقرب الأطفال إلى القيم وهذه المثالية حتى يتخذوها قدوةً صالحة لهم ، و كان بإمكانها أن تصور لنا القصة في بيئة غير بيئة الريف وكما كان بإمكانها أن ترسم شخصية مغايرة تماماً لشخصية سلامة ، ولكن التطورات السائدة وظهور التقنيات المتطورة ، أخلق فجوة بين تمسك الطفل بعاداته وقيمه وبين مسايرة التقدم ودعاوى التطور نحو الأسوأ ، ومن نتاجها تقليد الأطفال وانطباعهم وميلهم للعادات الغربية ، استيراد أفكارهم الهدامة ، فصارت الشخصيات الغربية نحو " باربي ، والت ديزني .. الخ " هي القدوة للأطفال و أصبحت الصغيرات يقلدن باربي في شكلها وملبسها.. وما إلى ذلك ، و كأنه حصار أحيط بأسوار وعوالم أطفالنا ، وهذا ما أكدته القاصة حينما قالت : " وكم أشعر بالأسف حين أرى القارئ الصغير مأخوذاً بالغرب وشخصياته حتى رسمها على دفاتره و أقلامه ، ولم نقدم نحن لكم شيئا جميلا فأحببتم باربي وشخصيات والت دزني المستوردة .. ".
فكانت شخصية سلامة بعاداتها وتقاليدها وبملامحها البسيطة خير نموذج وأمثل قدوة للأطفال في هذا العالم الذي بات إنذار خطر لأطفالنا جميعا ، فكان دافعاً لإبراز الصفة المحلية ومدى تأثيرها ..

2ـ ومن القيم الرائعة شعار يكاد يلمحه الجميع بأن تحقيق الأماني لا يكون إلا بالإرادة والعزيمة القوية .

3 ـ والقيم الدينية تمثلت في تقوية الروح الإيمانية الصادقة ، وكان ذلك من عدة مواقف
مثل :
* جلوس سلامة تحت شجرة السدر فأخذت تأكل منه ثم حمدت الله وشكرته على أنعامه .
* وتأملها في مخلوقات الله عز وجل من جبال وأشجار .. الخ

4ـ ومن القيم الاجتماعية ، عدم مخالطة الغرباء وأخذ الحيطة والحذر منهم ، ذلك من خلال مجيء الطبيبين ، فأخذت موزة تتجه تجاه السيارة لكن سلامة حاولت منعها من ذلك لعدم معرفتهم بهم .. وسيادة روح المحبة والألفة بين سلامة و أخويها وصديقاتها وكل من كان حولها ..

5 ـ أما الأهداف والقيم الوطنية والتي حاولت القاصة من خلالها تثبيت المفاهيم التقليدية الأصيلة في نفوس الأطفال فتمثلت في عدة مظاهر تهدف في مكنونها إلى تعريف الطفل بأسس مجتمعه ..
وبعد تناولنا للجانب النقدي الأدبي ، ننتقل إلى الجانب الفني ، ويشمل الإطار الخارجي المحيط بالقصة ..

* النقد الفني :

القصة ذات حجم متوسط ومناسب جداً والمرحلة العمرية التي كتبت لأجلها ، هذا بالإضافة إلى أن الغلاف جاء سميكاً وجيداً غير قابلاً للتمزيق بسهولة ، كما أنه يتضمن العنوان المكتوب بصورة مفهومه وبحروف كبيرة وواضحة بحيث يقرأها الطفل بسهولة ..
و أضافت الألوان الجذابة مع الصور اللافتة في القصة خيالاً جمالياً في غاية الإبداع ، فكانت الصور معبرة تُغني الموضوع وتثريه ، بحيث يفهم الطفل من خلال هذه الرسوم الجميلة حقيقة كل موقف وطبيعة كل شخصية مرسومة ، والذي زاد من جمالية هذه اللوحة المبهرة الملونة بألوان الطبيعة وضوح الأحرف والكلمات مع تناسب المسافة بين الأسطر بحيث يتابع الطفل قراءته بكل متعة ومرح ..
لكنها لو شكلت الكلمات بالحركات لكان أفضل حتى يقرأها الطفل و يتفهم مواضع اللغوية للكلمات ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( * ) : هذه الدراسة التحليلية مختصرة من كتاب ( أدب الطفل في دولة الإمارات ) ، ليلى البلوشي وأخريات ، نشر مشترك بين المجلس الأعلى لشؤون الأسرة – إدارة مراكز الأطفال والفتيات ، ودائرة الثقافة والإعلام ، الشارقة ، ط1 ، 2007 م .

الجمعة، 7 أغسطس 2009

صوت أحلامي



صوت أحلامي


" لست شاعرا

إنما لابد من مهنة ما

لست عاشقا

إنما أكتب بياض امرأة بيضاء

ليس لأحد أن يصدقني

وإلا سأعترف ذات وقت

بأني قشّرت برتقال الصيف

وأوقعت الشمس الغاربة في شباكي "


محمد العبدالله




الثلاثاء، 4 أغسطس 2009

تشكيلية الصورة القصصية وبصرية العلامة عند القاصة ليلى البلوشي



تشكيلية الصورة القصصية
وبصرية العلامة

د. محمد صابر عبيد

تنهض بنية القصّ في مستوى أصيل ومركزي وحيوي من مستويات حداثة صنعتها على فعالية التشكيل الصوري، ولاسيما حين تشتغل القصة على تفعيل الحسّ الأنثوي ببلاغته الإيروتيكية الظاهرة أو المتخفيّة، إذ يتمرأى الجسد في الصورة وهو يعمل على تجسيد الرؤية وتوسيع حدود المجال الصوري للأشياء والتفاصيل والظلال والتخوم .
قصة ((الرجل الذي سيعقد قرانه عليّ)) للقاصة ليلى البلوشي من مجموعتها القصصية الموسومة بـ ((صمت كالعبث))(*) تفيد كثيراً من فضاء الرؤية القصصية السابقة، وهي ترتهن بمثول الحسّ الأنثوي ببلاغته المتشظية في أكثر من اتجاه بين يدي زمنية فعل القصّ، لترسم تشكيلية صورتها في ميدان السرد، وتفعّل بصرية العلامة فيها من أجل اللعب على إشكالية حضور الزمن وغيابه .
عتبة عنوان المجموعة القصصية ((صمت كالعبث)) المبنية بناءً بلاغياً تشبيهياً يشبّه ((الصمت)) بـ ((العبث))، ينطوي على مفارقة ظاهرة بين حركية العبث وثبات الصمت، غير أن شعرية التشبيه تتمظهر من خلال كشف الغطاء الحاجب للصمت بدلالة العبث الموازية، إذ تنبثق دلالة جديدة تقود الصمت إلى الحركة الصاخبة التي تأخذ من العبث صورة الاضطراب الحركي المنفلت، أو أن العبث يتحجّم لينتهي إلى ثبات يناظر معنى الصمت، في مقاربة جدلية تتنوع فيها دلالة الحركة والثبات وتتغيّر بحسب حساسية القراءة التي ستنتهي إليها قراءة قصص المجموعة .
واستناداً إلى مغزى عتبة العنوان هذه ورمزيتها فقد تناثرت في فضاء المجموعة شبكة من عتبات أخرى، تقديماً وإهداءً واختتاماً، في السبيل إلى دعم عتبة العنوان وتكثيف حضورها السيميائي والرمزي والتشكيلي في القصص جميعاً .
عتبة التقديم تسعى إلى مقاربة جدل السكون والحركة والصمت والصوت، المنبثقة أساساً من جدل ثنائية عتبة العنوان ((صمت كالعبث)) الضاربة في دائريتها الدلالية، وعتبة التقديم مأخوذة من توماس مرتون بالنصّ الآتي:

((أبق ساكناً، أنصت إلى أحجار الجدران .. أبق ساكناً، وحاول أن تنطق اسمك
في الصمت))

وهو نصّ ينهض على مقولة يطلقها راوٍ محاوِر ويوجهها إلى آخر محاوَر ينتظر نصيحة ما للخلاص من أزمة يعيشها، فشبكة الأفعال الأمرية المؤلّفة للسياق (أبق/أنصت/أبق/حاول)) تتجه نحو مفردات صمتية مهيمنة على فضاء المقولة ومحرّكة لفعالياتها ((ساكناً/أحجار الجدران/ساكناً/الصمت))، غير أنّ الفعل المؤوّل ((أن تنطق)) يخرق حجاب الصمت ويحرّض عبر ((اسمك))، بكل ما تعنيه دلالة الاسم من مرجعيات أسطورية ودينية وثقافية ورؤيوية تعريفية، لينبثق الصوت الاسمي محطماً للسكون، ومضاعفاً لإيقاع أحجار الجدران، وخارقاً للصمت، بحيث يسهم الاسم المنطوق وكأنه المفتاح السحري الذي يحوّل الصمت إلى عبث حركي لا يمكن إيقافه .
تمضي عتبة الإهداء في السياق ذاته لتحاكي على نحو ما عتبة العنوان وتخصبّها وتضاعف خصوصيتها التعبيرية والتشكيلية:

((إلى العبث الذي علّمني العبور إلى الحكاية بلذّة الصمت ..))

إذ تحضر مفردة ((العبث)) ومفردة ((الصمت)) بتشكيل جديد، يعطي للعبث موقع المعلّم للذات الراوية ((الذي علّمني))، وهو يفضي إلى مضمون التعليم وصورته ((العبور إلى الحكاية))، إذ تتجسّد فكرة الحركة الناقلة من ضفة إلى ضفة ومن مسار إلى آخر، وحين يكون المسار والآخر والضفة الأخرى ((الحكاية)) فإن الفكرة الحركية تغتني اغتناءً سردياً، وتتصل فوراً بالأداة ((لذّة الصمت)) وهي تنتقل بالصمت من حالة السكون والركود والثبات إلى أقصى الحركة والدينامية والفعل بدلالة اللذّة .
أما عتبة الاختتام التي تقفل بها القصص حفلها السردي:

((أحرقني كي أضيء))

بديل فإنها تنطوي على رمزية إيروتيكية مثيرة، تتمظهر بين فعل الاستدعاء المشحون برغبة إيروتيكية عالية التدليل، وفعل التحصيل الأنوي ((أضيء)) بعد الأداة الناصبة المحوِّلة ((كي))، لترسم صورة سردية تقوم على تشكيل جسدي يوحي بحصول فعل خارق انتهى فيه الحريق إلى ضوء ونور وبهجة وفرح .
تستهلّ قصة ((الرجل الذي سيعقد قرانه عليّ)) ـ بمضمونها العنواني الذاهب إلى تجلية الحسّ الأنثوي بفضائه الإيروتيكي الواعد ـ، حفلها السرديّ بمنطق أمري يقتضي تغيير وضع جسدي ما إلى وضع آخر :

"ابتسمي" ..
هكذا أشارت عليها المصوّة الفلبينية بعد أن سلّطت على مساحة وجهها الأضواء
الكاشفة ..
تبع ابتسامتها خاطر مخاتل "ستكون الصورة هذه المرّة مختلفة .. سأبدو فاتنة ..
نعم .. سأبدو فاتنة"

إذ إنّ تغيير وضع الفم إلى حالة الابتسام بحسب الإشارة الصادرة من المصوّرة الفلبينية يؤكّد استجابة جسدية تقليدية من أجل الوصول بالصورة إلى أكثر حالة مثالية ممكنة، ثم ما يلبث أن يتعرّض الجزء الأوسع من الفم ((مساحة وجهها)) إلى الضغط الضوئي للمساعدة في إنجاز المهمة ذاتها .
على النحو الذي تتحقق فيه فوراً الاستجابة التي تنطلق من قاعدة الجسد وإغراءاته عبر الخاطر المخاتل الذي رافق الابتسامة المطلوبة، وأنتج إحساساً مختلفاً ضاعف من قدرة الجسد على الإغراء ولفت الانتباه ((سأبدو فاتنة .. نعم .. سأبدو فاتنة))، في حوار مخاتل أيضاً بين فضاء الصورة وحقيقة الجسد عبر علامة الوجه والابتسامة .
ينتقل الراوي كلي العلم من عتبة الاستهلال إلى عتبة التوغل في تاريخ الصورة أو سيرتها في المشهد القصصي، ليروي جزءاً من ذاكرة هذه الصورة وهو يتجوّل في إحساس صاحبة الصورة في بحثها عن جمال صوري، يضمن لها جمالاً مُتمنّى يبلغ حدّ الفتنة ((سأبدو فاتنة/سأبدو فاتنة))، بوسعه أن يجعلها قابلة لأن تكون موضع قبول وإغواء من طرف الآخر (الذكوري) المقصود منذ عتبة العنوان :

وسوس داخلها بذلك .. بعدما طلبت منها المصورة أن تدير جسدها نحو اليسار
وترفع كتفيها قليلاً..خضعت لها بينما حملها خيالها إلى ومضة أول صورة شخصية
في حياتها .. يومها أيقظها والدها مبكّراً .. كي تلتقط صورة للجواز .. ومشيا معاً
إلى يمين الشارع العام بينما النوم كان يعبث بوجهها .. وكلتا كفيها كانتا تتناوبان
على خنق تثاؤب كان يستفزّها بين فينة وأخرى .. اقتعدت كرسياً مترهل الجلد بلا
ظهر ولا أذرع .. والدها يصافح "شفيق" المصوّر الهندي.. طلب منها أن تنظر إلى
الكاميرا بشكل مستقيم..وهو يتلو عليها بلغته المكسّرة تاريخ الصور العريض الذي
التقطه لها وللعائلة وللحيّ كلّه ..
وبعد مرور خمس دقائق كانوا قد تسلّموا الصورة ..
"ستكون عيناها ناعستين .. وهالات سوداء خانقة حولهما بدتا كأطلال شبحين ..
طلبت أن تعتدل في جلستها .. وأن تشدّ ظهرها جيداً ثمّ سلطت الأشعة الضوئية
ذاتها ..
"تبّاً لشفيق .. ولأيام شفيق" ..
قذفت لعنتها في سرّها له بينما كانت تنقد بابتسامة واسعة العربون للمصوّرة
الفلبينية ..
***

فجملة ((حملها خيالها إلى ومضة أول صورة شخصية في حياتها)) تعود بالشخصية الأنثوية الخاضعة لسلطة الصورة، إلى تاريخ الصورة وسيرتها لبناء هيكل الإحساس وتشييد رؤيته في المشهد القصصي، بوصفه الأداة الفاعلة في تركيب المقولة الأنثوية التي تسعى القصة عموماً إلى تقديمها إلى المتلقي .
الجسد هنا يخضع للضغط والتعديل من أجل أن يتهيأ وضعه للوصول إلى أمثل حالة لبروز جمال الوجه وفتنته، على النحو الذي يمكنه تحقيق أكبر قدر ممكن من الإغراء والإغواء والإثارة، ويتمثّل ذلك عبر الإشارات الآتية ((وسوس داخلها/تدير جسدها نحو اليسار/ترفع كتفيها قليلاً/خضعت لها/يعبث بوجهها/كلتا كفيها كانتا تتناوبان/اقتعدت كرسياً/ ستكون عيناها ناعستين .. وهالات سوداء خانقة حولهما بدتا كأطلال شبحين/تعتدل في جلستها/تشدّ ظهرها جيداً/ابتسامة واسعة))، وكلّها إشارات تشتغل على مناطق الجسد من أنحاء وزوايا مختلفة، لكنها تسهم في ترتيب وضعه من أجل غاية واحدة تتمثّل في حشد ما أمكن من طاقات الجسد لتقديمه كما يجب عبر الوجه في الصورة .
يلعب الزمن هنا لعبته في صياغة أنموذج تلقّي الصورة المنتظرة على النحو الذي يُلهب الحماس الإيروتيكي ويفعّله، حين تتحوّل الصورة (صورة الوجه) إلى بصري عن الجسد وممثّل له في منطقة الآخر الذكوري، فتصبح مصدر قلق لصاحبتها لا يمكن أن يتوافر لها الاطمئنان من دون أن تراها وتثق بفتنتها :

لم تستطع النوم .. ظلّ أرق الصورة يلغم حواليها أطيافاً من القلق .. حتى غلبها
غلس طفيف .. تفقأ على ضجيج المنبّه .. هرولت بعد أن غسلت وجهها وارتدت
ملابسها على عجالة إلى الاستديو بينما غفير من الكوابيس كان قد تسلّق عقلها حتى
غدا كصهريج عائم ..
ولمّا تسلّمت الصورة خفق قلبها وارتعشت حنجرتها فرحاً: "ياااه .. أهذه أنا؟"
كانت بين فينة وأخرى تسترق النظر إلى الصورة وهي في طريقها إلى المنزل ..
ومع كلّ نظرة تعقّب بكلمات تغمرها نشوة "ما أجملها".. "لا بدّ أنها ستعجب الجميع"
"سينبهرن بها صديقاتي" ... إلخ ..
قربت الصورة من صدرها معانقة إياها .. وهي تتذكّر صديقتها منال .. "يا ترى
سيكون حظي كحظها .." منال هي أول وجه التقطتها عدسة تلك الفلبينية .. ومن
حسن حظها أنها في الأسبوع ذاته تقدّم لخطبتها شاب وسيم خفق قلبه هياماً حين
وقع نظره على الصورة ..
"سيشاهدها الرجل الذي سيعقد قرانه عليّ .. وسيخفق قلبه كذلك" .. قالت ذلك بخفر
بينما قهقه داخلها بنشوة ..
***

إن المقدمات الانفعالية والعاطفية التي سبقت تسلّم الصورة ورؤيتها تنبىء عن حساسية نوعية بالغة الخصوصية حيال العلاقة بينهما، على النحو الذي تحوّل فيه اللقاء بالصورة وكأنه لقاء بالجسد في تطلعه وحالته المتمناة، بحيث تجلّت وضعية الانبهار عن استغراب وكأن الرائية للصورة ترى شخصية غيرها ((ولمّا تسلّمت الصورة خفق قلبها وارتعشت حنجرتها فرحاً: "ياااه .. أهذه أنا؟"))، فخفقان القلب وارتعاشة الحنجرة الفرحة والصيحة الاستفهامية المتعجبة من أنويتها في الصورة، تحقق نوعاً من المفارقة البصرية بين الصورة ومعرفة الذات على حقيقتها .
لذا فإن الصورة أصبحت هي البديل واستعاضت بها الفتاة عن جسدها، وبدأت تشتغل عليها في إطار لفت انتباه الآخر الذكوري وإغوائه وتوريطه، لا سيما وأن هذه التجربة سبق وأن نجحت مع صديقتها ((منال)) حيث التقطت لها المصورة الفلبينية صورة، وتمكّنت هذه الصورة من تحقيق المراد ((في الأسبوع ذاته تقدّم لخطبتها شاب وسيم خفق قلبه هياماً حين
وقع نظره على الصورة ..)) .
إن جملة ((حين وقع نظره على الصورة ..)) توحي وترمز إلى أن الصورة هي الأساس في إنجاز الحلم في اللقاء المصيري مع الآخر الذكوري، وهو ما يضاعف من مشاعر وأحاسيس بطلة القصة في أن تحقق حلمها، بعد أن تؤدي صورتها الوظيفة المصيرية التي سبق لصورة (منال) أن أدّتها بعد أن صورتها المصورة الفلبينية .
تنتقل القصة انتقالة زمنية محسوبة بدقةّ تمثل نصف عقد زمني ((خمس سنوات))، لتعيد إنتاج الحال السردية عبر رسم الصورة ذاتها، حيث تتغيّر كلّ الأشياء من حولها بما فيها صورتها ومصوّرتها بقوّة هذه السنين الخمس :

حرصت على هندامها جيداً .. غدا وجهها أكثر امتلاء .. وعينيها أكثر انبهاراً
بخطوط الآي شدو حسب الموضة الدارجة.. كثّفت طبقة البودرة وأضفت رشّة
من البلاشر المخملي وصبغت الشفتين المكتنزتين بلون زهري لامع ..
اقتعدت الكرسي ذاته قبل أكثر من خمس سنوات.. حتى أن المصورة الفلبينية
تكتّل جسدها امتلاءً مغرياً .. وطال شعرها الكثّ المنتصب حول كتفيها كشال
حريريّ ..
رعشت رعشة انبهار .. كلّما تأملت الصورة ..
وظلّ انبهارها يردّد "الرجل الذي سيعقد قرانه عليّ ستبهره الصورة بلا شك" ..
***

إن جملة ((غدا وجهها أكثر امتلاء)) زائداً جملة ((المصورة الفلبينية تكتّل جسدها امتلاءً مغرياً))، تعكسان معاً أنموذجاً جسدياً لفعل الزمن لا يخلو من تفعيل ما للحس الإيروتيكي الماثل في القصة، ومع تغيّر كلّ شيء بمرور هذا الزمن إلا أن الإصرار على تشغيل الصورة بوصفها أداة للإغواء والإغراء والإثارة تبقى ماثلة كما هي، من دون أيّ حساب لآلة الزمن الضاغطة وهي تفعل فعلها في العناصر والأشياء والثوابت والمتغيرات .
إذ إنّ الجملة الوصفية اللافتة ((رعشت رعشة انبهار .. كلّما تأملت الصورة)) توحي بثبات إحساس البطلة عند خط شروع القدرة على الإبهار عبر الصورة، على النحو الذي تتحوّل فيه الصورة إلى بديل عن الجسد والحياة والأمل والتطلّع والمستقبل، وتصبح هي مركز الفعل والسرد والاستقطاب والاستحواذ والتشكيل .
ومن ثمّ يسمح الفضاء الوصفي والسردي والحواري المونولوجي لاستظهار اللازمة السردية المتنوّعة (("الرجل الذي سيعقد قرانه عليّ ستبهره الصورة بلا شك"))، وتشغيلها ضمن نسق تعبيري وأدائي ثابت بإزاء كل المتغيرات، بحيث تبقى ((الصورة)) هي العلامة الجوهرية للمراهنة على بقاء الأشياء كما هي، في إطار قوّة التمسّك بالفكرة المركزية التي توجّه الأدوات وعناصر التشكيل نحو تحقيق الحلم .
في تطور زمني آخر للقصة تمضي البطلة في رحلتها قُدُماً مع (الصورة) من أجل الوصول إلى حالة الإنجاز المصيري في بلوغ منطقة الآخر الذكوري، إذ تتجلّى الطبقة الزمنية الجديدة عن تغيّر عميق في المكان والجسد، لكنّ الصورة تبقى بحكم فعاليات الإخفاء والتجميل والتزيين قابلة للإبهار في فضاء الحلم والمتخيّل :

تغيّر الاستديو قليلاً عن السنوات المنصرمة.. عن آخر زيارة لها منذ ثماني سنوات
.. لمست ذلك وهي تتأمل روعة الأرضية الرخامية اللامع .. والأضواء غدت أكثر
إشعاعاً وهي تتدلّى كقطوف عنب في قاع السقف .. والجدران صقلت بورق مزركش
ولكل جدار من الجدران الأربعة طابع خاص .. وبدت الفلبينية أسمن .. وقد ترهلت
رقبتها قليلاً وبدت عينيها أكثر ضيقاً كحبتي زيتون ..
نظرت لبؤرة العدسة بعدما تأكدت من وضع الكريم الذي يخفي آثار التجاعيد المبكّرة
حول العينيين والفم ..
" الرجل الذي سيعقد قرانه عليّ .. ستعجبه الصورة .. نعم بلا شك" .. كانت تهتف
بذلك كلما تبحلقت في الصورة ..
***

إن مضيّ الزمن ((السنوات المنصرمة/عن آخر زيارة لها منذ ثماني سنوات))، تتفاعل مع التغيّر الحاصل في المكان ((روعة الأرضية الرخامية اللامع/الأضواء غدت أكثر إشعاعاً/الجدران صقلت بورق مزركش))، والتغير الحاصل في الشخصية المركزية ((بدت الفلبينية أسمن .. وقد ترهلت رقبتها .....))، فضلاً على التغيّر الذي حصل للبطلة في السياق ذاته ((تأكدت من وضع الكريم الذي يخفي آثار التجاعيد المبكّرة حول العينيين والفم ..))، على النحو الذي تجلّى فيه تأثير السنين على الأشياء كلّها .
غير أنّ اللازمة التي تُظهِر تشبّت البطلة بالصورة بوصفها عنواناً لشخصيتها ما زالت قيد العمل والسرد معاً ((" الرجل الذي سيعقد قرانه عليّ .. ستعجبه الصورة .. نعم بلا شك"))، بحيث تمركز العمل السردي على تشكيلية الصورة القصصية بمنظورها العلامي القائم على الترميز والتدليل، ضمن سياق إيروتيكي ماثل في باطنية الإشارة الصورية حين تتحرّك دائماً نحو الآخر الذكوري الحلمي والمتمنى .
إلا إن الحماس يتراجع شيئاً فشيئاً مع فعالية تأثير الزمن في الأشياء لتتكثّف مساحة السرد وتتقلّص حيويتها وحركيتها، بالنظر إلى طبيعة شخصية البطلة التي أخذت تتفاعل مع الأشياء ببطء وتنظر إليها بافتعال وتشيؤ :

كانت حركتها ثقيلة وهي تقترح عليها أن تختار الخلفية التي تلائم ذوقها .. واللون
الذي ترغب في أن يكون خلفية للصورة .. الأصفر، الرمادي، الفوشي ، الأخضر،
الأزرق.. إلخ.. جعلت وجهها يضاجع الكاميرا بدقة متناهية.. بعد أن وضعت شالاً
يخفي ترهل عنقها ..
"الرجل الذي سيعقد قرانه عليّ .. ستلائمه الصورة .. نعم ستلائمه .."
كانت تؤكد ذلك وهي تتأمل تقاطيعها ملوّنة بطيف من الأزرق الهادىء ..
***

فثقل حركة الصور وأدوات الجسد ((حركتها ثقيلة))، والتصريح بالرغبة الإيروتيكية عن طريق مضمون الصورة ((جعلت وجهها يضاجع الكاميرا بدقّة متناهية))، على الرغم من فشل أدوات أخرى في الوصول والبلوغ والفعل ((وضعت شالاً يخفي ترهّل عنقها))، إذ يتراجع حماس قدرة تشكيلية الصورة على الإبهار والإعجاب وتكتفي بالملاءمة (("الرجل الذي سيعقد قرانه عليّ .. ستلائمه الصورة .. نعم ستلائمه .."))، في دائرة من التأكيد المفتعل ((كانت تؤكّد)) والتأمل المحمول على أمل مخنوق ((وهي تتأمل تقاطيعها ....))، في السبيل إلى حشد الموقف السردي بأكبر طاقة ممكنة على الاحتمال والمواصلة .
ثم ما تلبث اللقطة القصصية الاختتامية أن تحسم الأمر بعد أن تتكشّف الرؤية السردية عن تدهور الحال التشكيلية الصورية، إثر وصول البطلة إلى أرذل العمر وهي تتشبّت تشبّثاً خائباً بالصورة، وقد التقطتها فلبينية جديدة بعد موت الأولى بموت عمرها وعمر مساوٍ لها من حياة البطلة، وآلت الأشياء كلها إلى غياب وشيك :

التقطت لها الفلبينية الجديدة الصورة بعد أن فارقت القديمة حياتها .. نظرت إليها
بصعوبة .. ثم أمسكت بيدها المرتعشة لتدسّها مع رفيقاتها في الألبوم الضخم ..
آلاف الصور على مدى ثلاثين عاماً.. وعيناها تنتقلان بنظارتها السميكة من صورة
إلى صورة.. روحها يرفرف شامخاً في الأفق .. بينما شفتيها الخاويتين إلا من سن
واحدة تردد:
"الرجل الذي ثيعقد قرانه عليّ ثتعجبه الصور .. نعم .. أنا متأكدة" ..!

إذ إن التأكد من قدرة الصورة على جذب إعجاب الرجل الذي سيعقد قرانه عليها، يصطدم بتغيّر صوت (السين) إلى (ثاء) في ((ثيعقد/ثتعجبه))، على النحو الذي تبدو فيه الصرخة المرافقة ((نعم)) وكأنها تعني ((لا))، والجملة المثبتة ((أنا متأكدة)) منفية قطعاً .
وإذا ما تابعنا تطوّر العلاقة مع الصورة وقدرتها الإيروتيكية على جذب الآخر الذكوري وإغوائه وتوريطه، سنكتشف أنها مرّت بمراحل عبر المشاهد السردية على النحو الآتي ((سأبدو فاتنة/سيخفق قلبه/ستبهره الصورة/ستعجبه الصورة/ستلائمه الصورة/ثتعجبه الصورة))، وهو تطوّر تراجعي ينتهي إلى حقيقة أن ((الرجل الذي سيعقد قرانه عليّ)) في ثريا العنوان ظلّ غائباً حتى لحظة الإقفال الأخيرة، بالرغم من حضوره القهري على لسان البطلة وهي تتشبّث بالصورة التي تراجعت هي الأخرى، لتغيب في ظلّ الغياب العام الذي لفّ الصوت والصورة معاً .

(*) صمت كالعبث ، ليلى البلوشي، مركز نهر النيل للنشر، ط1، 2008، مصر: 27 ـ 32.