السبت، 10 أكتوبر 2015

اعترافات مصوّر في نظام بشار ..!

اعترافات مصوّر في نظام بشار ..!

كنت اعتقد أن ما نشره الكاتب السوري " ممدوح عدوان " في كتابه " حيوّنة الإنسان " من أهوال تعذيب الجسد البشري و تحطيم كيانه الإنساني كليّا ، وكيفية تعاطي الأنظمة مع الجثث ، وكيف أنهم يقومون بإخضاع و تطويع جنودهم للتمثيل بتلك الجثث البشرية وتشويهها كما لو أنها حيوانات خُلقت لتُعذّب بوحشية ، بضمير ميت ومشاعر باردة ، كنت اعتقد أنه كان يبالغ بطريقة ما لاسيما و أن تفاصيل كتابه كانت في زمن ما قبل الثورات العربية ، في ذلك الزمن أجل كنا نسمع أن النظام البعثي يده من حديد على كل من ينقد السلطة ، لكنها وقتئذ كانت تمارس وحشيتها بطريقة سرية للغاية ؛ لتبقى صورتها ملمّعة أمام عدسات العالم ، ولكن الآن ، في زمن اهتياج الشعوب صارت تمارس استبدادها بطريقة علنية أمام العالم كله فالقناع سقط ، سقط تماما ، وصار شيطانها ينفث سمومه بجنون في سبيل الالتصاق بكرسي الحكم ..!
و ما قامت به صحيفة الجارديان من نشر مقابلة مهمة مع مصوّر بشار ، الذي كان يعمل في الشرطة العسكرية ، وكان عمله يختص بتصوير الجثث التي تموت أثناء التعذيب الجسدي في سجن النظام و المتظاهرين الذين يتم تصفيتهم أثناء المظاهرات السلمية هي خطوة جريئة لفضح هذا النظام الفاشي ..!
اعترافات هذا المصوّر نشرت باللغة الانجليزية ، وقام الكاتب والمترجم السعودي " خالد العوض " بترجمتها إلى العربية ونقلها للعالم عبر حسابه تويتر ..
يحكي المصور حكايته بالتفصيل مع كتمان بعض الأمور التي تخفي شخصيته ، خوفا من مطاردة النظام المجرم ، فقد كانت مهنته تنحصر في عمل يتطلب سرية تامة ، فالآلة في يده ستكشف طريقة هذا النظام الوحشي ، وتفضح تعاطيه مع شعبه ، طالما كنا نسمع ونقرأ عن هذه الحيوانية التي كان نظام بشار يمارسها بكل حقد تجاه شعبه غير أن ثمة هناك من كان ينكرها ، أولئك الذين باعوا ضمائرهم للنظام كانوا ينكرون و يتبجحون بأنها مجرد إشاعات كيدية يروّجها كارهي النظام ، لكن اعترافات المصوّر والوثائق المصورة التي التقطها بعدسته تؤكد أنها كانت من قلب الحقيقة ..
يسرد المصور كيف كان يطلب منه أن يتوجه إلى مكان إطلاق نار لتصوير الموقع ثم يذهب إلى حيث تحفظ الضحايا في ثلاجة الموتى لتصويرها ، يقوم بتصوير الجثث من 1 إلى 30 ثم يطلب منه الخروج فورا " نأخذ لقطات متعددة للجثة الواحدة ؛ لكي تسهل عملية البحث .. للوجه .. كل الجسم .. اليدين .. والصدر .. الأطراف " ..
هؤلاء الضحايا الذين قتلهم النظام ، كان ضابط المسؤول يقول عنهم بأنهم إرهابيين ، لكن المصور يؤكد بأنهم كانوا في مظاهرة سلمية و أنهم مجرد متظاهرين سلميين وكان زميل له يبكي قائلا : " الجنود شوهوا الجثث " كانوا يسحقونهم بأقدامهم ويقولون " ابن الزنا "..!
أما السجناء فأنكى أنواع التعذيب و أشده كان من نصيبهم ، كان يرى المصور أثناء التقاط الصور الأخيرة لهم آثار شمع محترق على الجسم ، و آثار موعد غاز على وجوه الضحايا وشعرهم ، كانت علامة الموقد الدائري المعدّ للطبخ مطبوعة على الأجساد ، ليس هذا فحسب ، بل كانت هناك جروح عميقة ، مليئة بالقيح وملتهبة ، لأنها كانت مفتوحة طوال الوقت بلا علاج ، أجساد كان مغطاة بالدم ، وكان الجنود يحركون هذه الجثث بأقدامهم بلا احترام " لم بحياتي شيئا كهذا ، كان النظام يعذّب السجناء لاستخراج المعلومات ، الآن يعذبّهم مستهدفا الموت تحت التعذيب " ..!
لقد تخلصت تلك الجثث من عذاباتها ووجدت في الموت راحة لها من كل شيء دنيوي ، لكن عذاب الضمير والرعب كان من نصيب المصوّر الذي كان يتخيل نفسه أو أحد أفراد أسرته مكان هذه الجثث المشوّهة ، لقد عذبّت بشراسة حتى كان الموت راحتها بل كان يشعر بأن خوفه متمدد ، خوف من الله عزوجل يوم الحساب " ماذا عسانا أن نقول عندما نسأل يوم الحساب : ماذا عملتم مع هذا النظام المجرم ..؟ لماذا بقيتم ..؟ هذه الأسئلة تخيفنا " ، خوف من النظام وشره لاسيما و أنه شهد وحشيتها بأمّ عينيه ، فقد كان يصفّي الجميع بأنذل الوسائل الموجودة على الكرة الأرضية ثم يقتلهم " رأى سامي مرة من خلال فتحة الجدار جنودا يجبرون شابا على قول : لا إله إلا بشار ، ثم قتلوه ، لا أريد موتا كهذا " ..
و الخوف من الثوار أيضا ؛ لأنه كان في نظرهم مع النظام وليس مجرد مصوّر يقوم بعمله ، هذه الأسباب المتكالبة عليه هي التي دفعته يعترف بكل شيء رآه و شهده بنفسه لأحد أصدقائه المقربين ، و بدأ ينقل له الصور بسرية تامة ..
لقد استطاع " قيصر " و هو اسم حركي لحمايته تهريب أكثر من 55 ألف صورة رقمية في وحدة تخزين بيانات USB خارج سوريا ، الصور التقطها بين عامي 2011م و 2013 م لأكثر من 11 ألف ضحية ماتت تحت التعذيب في السجون ، وقد أقامت الأمم المتحدة في مارس الماضي معرضا لجزء من هذه الصور مع التحفظ على شخصية المصور ، من خلالها تمكنت صحيفة الجارديان بعد جهد طويل من الوصول للمصور لإجراء هذه المقابلة ..
قام هذا المصور بشجاعة نشر الصور و ترويجها على الرغم من أن ذلك يكلفه حياته ؛ كي يعرف العالم جرائم بشار في حق الإنسانية ، في حق شعبه المعزول الذي فرّ أكثر من نصفه إلى خارج الديار و أصبح لاجئا في معظم دول العالم ، وعلى الرغم من ذلك المتحكمون بهذا العالم مازالوا يفاوضون السفاح بشار ، لقد كان هذا الأمر محبطا للغاية له ولكل من ساعده لنشر الحقيقة " نحن محبطون ، توقعنا ردة فعل أقوى ، بعد كل هذه الصور المروعة يقرر السياسيون التفاوض مع بشار " ..!
" الأصعب ليس أن يموت المرء ، بل أن يموت الذين حوله كلهم ويبقى هو حيّاً " كما ذهب الروائي " عبدالرحمن منيف " ، نحن الأحياء الأموات حقا ..!
كم عليهم أن يموتوا معذّبين ، وكم علينا أن نحيا لنتعذّب ؛ كي نشهد كل الجرائم الإنسانية و أسوأها في تاريخ البشرية  ..!
يا طلقة الرحمة  ..!

ليلى البلوشي

الجمعة، 2 أكتوبر 2015

أن تكون بائعا للشاي في الهند ..!

أن تكون بائعاً للشاي في الهند ..!

يبدو أن بائعي الشاي لهم حظ وفير ، بل إن مهنة بائع الشاي في الهند تحديدا هي مهنة أصحاب الطموح الذين يمكنهم من خلال ممارستها مع الكسب الجيد التخطيط بهدوء لأحلامهم ، أقول هذا وببالي ثلاث شخصيات عن بائعي الشاي في بلد كبير كالهند ، حققوا إنجازات تستحق الإعجاب وتثير الدهشة أيضا ..
الشخصية الأولى التي طرأت ببالي هي شخصية خيالية غير أنها تلامس الواقع الهندي وربما العربي أيضا ، الشخصية الشهيرة " جمال مالك "  في فيلم البوليوودي الذي حقق نجاحا باهرا " المليونير المتشرد " وهي رواية كتبها " فيكاس سواراب " ، المتشرد هو " جمال مالك " الطفل اليتيم الذي له أخ وتقتل والدتهما نتيجة الطوفان الطائفي ما بين الهندوس والمسلمين ، هذا اليتيم الذي يختار طريقا مغايرا عن أخيه أحد أعضاء العصابات الشريرة ، هذا اليتيم الذي يجد في مهنة اعداد الشاي للموظفين في شركة كبيرة فرصة لتحقيق أحلامه حين يحاول من خلال شركة الاتصالات الذي يعمل بها بائعا للشاي إلى محاولة الاتصال بالبرنامج الشهير " من يربح المليون " ويقف الحظ إلى جانبه حين يحصل على الخط و يرشّح اسمه ، فيصعد منصة المليون و ينالها بجدارة تثير إعجاب الجماهير الهندية الحاشدة ، وكما تثير في الوقت نفسه تشكيك وحنق رجال الشرطة ومقدم البرنامج ؛ فالشاب المتشرد المعدم أناّ له بهذا الكم الهائل من المعلومات ، وتلك المعرفة الثقافية ، وما هو في النهاية سوى بائع للشاي في شركة اتصالات كبيرة ..؟!
بائع الشاي الذي يستحيل إلى المليونير المتشرد الشهير يعطي العالم درسا لاسيما المثقفين والكتّاب منهم بأن أحد أهم وسائل المعرفة وتعزيز الثقافة هو اختلاط مع الناس و الاقتراب من همومهم اليومية ومعايشة تفاصيلهم ؛ كي يكون المرء صادقا كفاية وعلى درجة كبيرة من الخبرة التي يكتسبها رويدا رويدا مغموسة بمرارة التجارب الموجعة ، فتكون زاده الحقيقي في هذه الحياة المتشككة والمليئة باللعنات والطعنات أيضا ..!
أما بائع الشاي الثاني الذي رسم طريق مجده فأصبح رئيسا للوزراء في الهند الحالي هو " ناريندرا مودي " ، كان الثالث من بين ثماني أطفال لعائلة هندية بسيطة عمل في مراهقته بائعا للشاي في إحدى المحطات على الطريق السريع ، وعمل أيضا في مطعم للعمال النقل البري بولاية غوجارات ..
هذا الرئيس الذي يثير الجدل قبل ترأسه وما يزال ، الجدل حول حزبه المتشدد الذي كان قاتل غاندي أحد أعضائه ، وموقفه أيضا من المسلمين في الهند وهو الملقب بــ" تاجر الموت " لا سيما موقفه من قضية حريق قطار في ولاية غوجارات حين كان واليا عليها ووقف في صف الهندوس على حساب المسلمين ، الحادث الذي كان عفويا و أصبح دمويا بل ومدبّرا ؛ لعدم حكمة وربما طائفية رئيس الوزراء وقتئذ ..!
و على الرغم من جهوده الحثيثة على الصعيد الاقتصاد الهندي وهي لبّ برنامجه حيث وعد بأن يكون القرن الحادي والعشرون هو قرن الهند ، غير أن عليه كرئيس لجميع الهنود بكامل أطيافه الدينية ، عليه أن لا يكتفي بإعلان ذلك بل إثباته أيضا في أرض الواقع ؛ لينعم الشعب الهندي بحياة كفيلة بإسعادهم وطمأنتهم على كافة الأصعدة ..!
أما بائع الشاي الثالث المميز حقا فهو " لاكسمان راو " وهو رجل في العقد السادس من عمره تقريبا ، هذا الرجل المواظب الذي يتميّز شايه بمذاق طيب ، يقبل عليها رتل كبير من الناس المتجولين من كافة أرجاء الهند ، ومن يزور الهند سائحا أيضا ، فمقهاه ، الكشك الصغير المسجل من البلدية رسميا مشرع دائما حتى في أيام المطر الغزير..
ولد " راو " لمزارع تقع في ولاية ماهاراشترا غربي البلاد ، وانتقل للعيش في دلهي التي تعد مركزا لكبرى دار النشر الكتب باللغة الهندية وعام 1975م لتحقيق حلمه كي يكون كاتبا ..
وهو ليس بائع شاي عادي البتة بل حامل لدرجة بكالوريوس وتقدم لنيل درجة ماجستير ، هذا الرجل الذي لا يكل عن تحقيق طموحه لاسيما كمؤلف كتب حيث له مؤلفات تزيد عن أربعين كتابا ، وهو يستخدم المنصات الالكترونية ليبيع كتبه التي تحقق مبيعات جيدة وهناك إقبال جماهيري عليها ، فهو قريب من الناس ، ومن مشاغلهم ، ويحدث أنه يعرض مع الشاي مؤلفاته أيضا ، فينتشلها باهتمام كل قارئ مهتم بتفاصيل الحيوات التي يرويها " راو " وهي في النهاية تلامس حياتهم ..
وفوق إنجازاته التي نال عليها جوائز عديدة فهو إنسان تسمو روحه بالتواضع حين عبر قائلا : " يلجأ الكتّاب إلى العديد من الحيل لتسويق كتبهم وصناعة الأفلام ومسلسلات تستند إليها ، إنني رجل بسيط أتلقى جميع رسائلي بالبريد ، توجد كتبي في مكتبات المدارس والكليات والجامعات في المدينة و يطلب مني في أغلب الأحيان ، أن ألقي محاضرات في العديد من المدارس والكليات في أنحاء البلاد ، ما الذي يمكن أن يبحث عنه كاتب أكثر من ذلك ؟ " ..
بائعو الشاي الطموحين هم أنموذج حي ّ في عالم ضاج بالعطالة والخيبات المرةّ و سوء الحظ المزمن ، هم خير من يلهمون العجز في قلوب كل من هو يائس ، كل من يعتقد أن طريق بلوغ الأحلام يبدأ بوسائل غير مشروعة ، أو بسلوك درب ملتوٍ ، كل من يعتقد أن النجاح هو ضربة حظ ، أو أنه يجب أن يكون من الأعلى وحين يصل لمنتصف مبتغاه يسقط سقوطا مدوياً ..!
وحده الحقيقي يدرك أن المجد لا يبلغه الإنسان سوى من أول خطوات السّلم ، خطوة وراء خطوة حتى يصل لنهايته بصبر و أناة وكثير كثير كثير من التعب النفسي والجهد الجسدي وحين يصل سيشعر بقيمة وصوله القيّم ..

ليلى البلوشي

أنقذوا أنفسكم من هذا العالم ..!

أنقذوا أنفسكم من هذا العالم  ..!

" شيشرون " – خطيب روما - المميز ، فضح في زمن ما الإنسانية المدّعاة في نظرته الخطيرة و رتبهم على وفق مقاماتهم في الحياة ومدى استغلال الآخرين لهم  : " 1-  الفقير : يعمل ، 2- الغني : يستغل الرقم 1 ، 3- الجندي يدافع عن الاثنين ، 4- المواطن : يدفع للثلاثة ، 5- الكسول : يعتمد على الأربعة ، 6 _ السكير يشرب من أجل الخمسة ، 7- مدير البنك : يسرق الستة ، 8- المحامي : يغش السبعة ، 9- الطبيب : يقتل الثمانية ، 10 – حفار القبور : يدفن التسعة ، 11- رجل السياسة : يعيش من العشرة.. "!
ولعل المعادلة تلتقي بشكل ما مع مقطع من فيلم المصري " الكيف " 1985م ، حيث دار فيه حوار يستدعي الكثير من التأمل والإنصات ، الحوار الذي دار بين الممثل " جميل راتب " و الممثل " يحيى الفخراني " باللهجة المحكية ، خاطب فيه الممثل " جميل راتب " الذي كان تاجر مخدرات ثريّا شخصية " الفخراني " في الفيلم : " زمان كنت بخش الشاي بنشارة الخشب و أبيعه في بواكي شكلها حلو ، مكتوب عليها شاي " أبو الأصول " ، كسبت والماركة بقالها اسم وسمعة ، وفجأة النشارة غليت و النجارين اتملعنوا ، عبينا الشاي من غير نشارة ، تعرف حصل إليه ..؟ اتخرب بيتي وفلست ، الزباين طفشت وقالوا عليا غشيت الشاي ، مش باقولك مغفلين ..!
رد عليه " يحيى الفخراني " :  هم مش مغفلين اللي زيك أفسدوا ذوقهم ، عودتوهم على الوحش لغاية ما نسيوا طعم الحلو " ..!
أجل ، أصبح الإنسان في ظل هذه السياسات السائدة في وقتنا الحاضر مجرد رقم ، رقم مرهون بمزاجيات السياسيين _ أصحاب السيادات – في هذا العالم التي أسقطت في معادلاتها الإنسان ، السياسات التي تنتصر لهوى مصالحها العظمى و أطماعها الشخصية على حساب كائنات أخضعوهم وفق هواهم ، ترهلت دوافعهم في حياة طموح بعد أن تكالبت عليهم الحياة نفسها بمصاعبها ، غدوا مكافحين لترميم جراحات حياتهم اليومية من جوع و فقر و مرض و تشريد ، و علل اجتماعية واقتصادية عويصة ، شاغلهم لقمة العيش و إطعام أطفالهم ، حتى تناسوا متعة الحياة ولذائذها ، أما المطالبة بحقوقهم أصبحت غاية مستعصية في ظل قوانين تثقل كاهلهم ، قوانين ليست في مصلحة أحد سوى أصحاب القوة ، قوانين وضعت معظمها لتكميم الأفواه وترهيب الأفراد ، في ظل هذه القوانين التي لا تطبق سوى على الإنسان البسيط ، مهيض الجناحين ، مسحوق الحقوق تماما ، أما الثري فيجد ثغرة يفرّ منها أبدا ، والمشكلة ليست في اكتشاف الفساد و الاعتراف به ، فهذا مفروغ منه ، بل المشكلة أن هذا الفساد نفسه يتفشى بجبروت دون أن يجسر أحد على إيقافه ؛ لأن كل من رفع صوت ضميره أمام هذا الفساد المهول طُعن برمّح الغدر ، ولوحق بالمؤامرة ، والأجندة ، من جهلة الوطن ، الذين يعتقدون بأن وحدهم من لهم الحق فيه ، المخدوعين الذين يظنون بأن نقد مساوئ الفساد هو طعن في الوطن ، السُّذج الذين قدّسوا السلطات وأسقطوا مصلحة الأوطان ؛ و بسبب هؤلاء يمضي الفساد شاقا دروبه في كل الأصقاع بلا مواربة بل بكل وقاحة وجبروت ، بينما تحبس العقول التي عصت ، و تُعذّب الأجساد التي قاومت بشرف وجسارة من أجل مصلحة الوطن ..!
هناك من يعيش حتما على أعناق هؤلاء المرعوبين ، الجوعى ، المساكين ، الذين لا صوت لهم ، الذين وجدوا في السكوت ضمانا لئلا يسحقهم جلادو السلطة ، أولئك الذين يعيثون فسادا في الأرض ، يعيشون على حساب الجثث التي تتراكم كل لحظة أضعافا مضاعفة ، تتراكم هذه الجثث و بالقدر نفسه يتراكم الوجع في قلوب أمهاتهم الثكلى ، وجع مرّ ، كبركان يكوي الأفئدة ، أوجاع لم تجد عزاءها أبدا ..
تتراكم الجثث كما تتراكم مصائب الحزانى ، بينما أولئك الجشعون ، أصحاب السياسات ، يراكمون المليارات ، وعلى جيف تلك الجثث التي ينهشونها تتضاعف ثرواتهم يوما بعد يوم حد التجشُّؤ ..!
نعم ، نعم ، في السياسة الإنسان خاسر أبدا ؛ لأنه ضريبة السياسيين الأغبياء ، الأنانيين ، المستبدين ، المتعجرفين ، الحمقى – بلا شك – عديمي الضمير والوجدان ..!

ليلى البلوشي

نساء حوض الشهوات

نساء حوض الشهوات

" حوض الشهوات " عنوان رواية الكاتب  و الإعلامي العماني " محمد اليحيائي " الصادرة عن دار الانتشار العربي 2015م ، هذا العنوان الذي يحمل زخما مندفعا نحو التابوهات و تأويلات شتى في فكر كل ما يطالعه ، فهو حوض يترع بالشهوة كما يراه البعض ، أو حوض يتجلى فيه سيّر غامضة عن رجال من طبقات شتى تسردها امرأة غانية في شبق الليل كما قد يتخيله آخرون ، لكن مما لا شك فيه أن هذا الحوض يستدعي نساء كثيرات ، نساء فاتنات في قصر من قصور الملوك ، ونساء القبائل اللواتي عرف الدلال طريقه إليهن وترسّخ على شكل حوض فائض بماء الشهوة والحب من قبل بعولهن أو آبائهن :" الحوض الذي بناه جدي لبناته ، الوحيد في الولاية كلها " ..
ليس من السهل البتة أن تقرأ رواية تفيض بحكايات النساء ؛ لأن المرأة حكاّءة بفطرتها ، ليس من السهل أن تقرأ رواية تمضي نساؤها عبر دروب تاريخية مضمّخة بذكريات حيّة في فكر كل منهن وفق ما تجتر ذاكرتهن في زمن الحرب ، وفي زمن الرجولة التي تناسلت عبر دهر شديد الوطأة وشديد الملوحة كبحر أحلامهن الذي ظل الدنو منه مطعّما بالحرمان والعيب والحرام ..!
رواية " حوض الشهوات " تترافق ثلاث نسوة في داخل سرد متعدد الأصوات ، سرد مركّب يستدعي قارئا في تمام وعيه ؛ كي يتلمّس الواقع من الخيال ، الحلم من اليقظة ، اليقين من الوهم ، كي لا يتيه عن صوتهن ..
هؤلاء النسوة انتقلن عبر تلك التقاطعات في أزمنة متفاوتة ، لكن حكايتهن تلتقي على قدر ما تفترق ، كل منهن حاملة فتيل ذاكرتها المشتعلة على نار الحروب ، و الأزمات السياسية الوعرة ، بوجود رجال كانوا المعبر الأساسي لخوض تلك الأحداث المنغمسة بهزائم الحروب وانتصارات التاريخ ..
أولى نساء " حوض الشهوات " قوة وبأسا في الحضور هي " الزعيمة " ابنة البطل " مبارك بن حمدان " والتي كانت أقربهن إلى قلبه ، فهي " الزعيمة " كما لقبّها ، وهي التي قامت مقام الولد الذكر حين جعلها ترافقه في أعماله التجارية في سوق هو خاص للرجال فحسب ، لكن الأب كان يؤمن بقوة زعيمته و مدى استحقاقها ؛ كي تصون ذكره وتخلّده كأب و كبطل خاض حروب زمنه ..
" الزعيمة " التي انهارت كل أحلامها دفعة واحدة وبعنف حين همد الأب القدوة وسقط قتيلا في حرب ضروس ، تلك القدوة التي ظلت تفتش عنها طوال سنوات عيشها في كل رجل ولج حياتها المضطربة بعد موت الأب ، بحثت عنه في زوجها المزارع الفقير ففشلت ، وبحثت عنه في ابنها سلطان وفشلت ، وبحثت عنه في ابنها مبارك سمي أبيها – الجد البطل – و فشلت أيضا ، لقد انهارت قدوتها ، لكنها ظلت عنيدة لماضيها التليد ، وفية لبريق سيف الأب ، مخلصة لذكراه ، حتى أنها كانت كالجمل تجتر ذكريات نفسها مرة بعد مرة بلا كلل " لم أعرف إنسانا صلبا طموحا ثاقب البصيرة عنيدا في حلمه مثل أمي " ..
شخصية " الزعيمة " هي شخصية من صلب الواقع ، قد تستجلب الاحباط ، احباط لكل من حولها حين تأبى الاستمتاع بحاضرها و تقبّل من فرضهم القدر السيء عليها كما ظلت تعتقد بخيبة طوال الرواية ، حين تصّر على قلب الواقع الحاضر على وفق قوة حلمها وصلابة روحه ، غير أنها قوية وفي هذه القوة تكمن السر ، فقد كانت تسعى إلى دفع زوجها نحو حياة أغنى ، ودفع كل من ابنيها إلى حياة حافلة تليق بمقام ابنة " مبارك بن حمدان " ، حين أيقنت أنها فشلت تماما في استنساخه في واقع رجال أنجبتهم ..
قوة الزعيمة في تمردها على حاضرها وعنادها لماضيها كم هي قريبة لروح شخصية " متعب الهذال " بطل شخصية الروائي " عبدالرحمن منيف " في خماسية " مدن الملح " في الجزء الأول منه تحديدا حيث أسماه " التيه " ؛ " الهذال " الذي أعلن رفضه للهينة الأجنبية في أرضه ، وحين انصاعت أرضه وأهله و قبيلته عزم أن يختفي ، لعله في ذلك يعلن رفضه التام للحضور في زمن لا يشبهه ، زمن لا يليق بتاريخه ، زمن يسعى كما تصوّر لتشويه تاريخه الأبيّ في أرض جدوده ..!
المرأة الثانية من نساء حوض الشهوات هي " روز جلال " هدية الوالي ، ظل الغموض لصيق هذه المرأة التي جاءت إلى بيت " مبارك بن حمدان " فاقتحمته كالريح ، هي التي كانت الحكاية مثيرة بالنسبة للزعيمة وعلى وفق رؤاها : " تروي أمي الحكاية ، كل مرة بنغمة مختلفة ، الحكاية نفسها روتها روز مرات ومرات ، في كل مرة كأنها ريح خفيفة تنفض الغبار من البيت ومن فيه ومرة كأنها نبتة غريبة زرعت في تربية غريبة " ..
" زور جلال " كانت أمثولة الغموض والجمال بالنسبة للزعيمة ولها منزلتها الرفيعة ؛ لأنها هدية الوالي لــــ" مبارك بن حمدان " ، هي امتداد لتاريخه كبطل كما رأت الزعيمة بل آمنت ، لذلك صلة هذا الافتنان تداعى بمجرد موت " مبارك بن حمدان " ، وغدت " روز جلال " مجرد ماض بهت بريقه في حياة " الزعيمة " ..
لكن " روز جلال " نفسها كانت حكاية فتنة وإغواء كما روتها " ليلى سليمان " فهي المرأة المشتهاة التي تسابق الرجال لبلوغ شبقها لكنها كانت أعتى من ماء ذكورتهم : " كانوا ينهارون ويتراجعون منطفئين أمام القوة الخفية لالتماعة عينيها في الظلام حتى أن أكثرهم جرأة تمكن من ملامسة ركبتيها قبل أن يصاب بدوار يشبه دوار البحر .." .
أما " ليلى سليمان " المرأة الثالثة في " حوض الشهوات " هي رمز للمرأة المناضلة ، التي سعت على طريقتها الخاصة في مقاومة الفساد المستشري في البلد بالهجرة كأنها في هذا البُعد ، بُعد المسافات ، تصون بلدها وتكمم هزائمه في روحها الطليقة ، لتجد لها هناك في غربتها المديدة قرابة ثلاثون عاما مرفأ الكتابة ، فتجدد حكاية " حوض الشهوات " في ذاكرتها عبر الكتابة عن " روز جلال " كأيقونة ساحرة ، هي نفسها التي كانت الأيقونة في قلب وزمن " سالم مطر "  ..
" ليلى سليمان " التي قاومت مرضها بالكتابة واجترار أوضاع الغربة المُرّة بعيدا عن بلدها ، وعن رأس الخيمة حيث وِجهّة أحبابها ، هي نفسها التي حين رحلت لم ترحل حقا ، ليس في قلب وذاكرة " سالم مطر " فحسب بل في قلب وذاكرة كل قارئ واع ، لاحق بأنفاسه روحها طوال الرواية ، حتى أن الأشياء افتقدتها :" أصبح البيت فاغر فمه ينادي ليلى ، صورنا التي على الجدران و أرفف المكتبة وكومودينات السرير ، كتبنا التي على الأرفف " ..
ليس " سالم مطر " وحده آمن أن ليلاه لم تمت بل كل من طالع شخصية " ليلى سليمان " في قلب الأحداث ، فهي كانت تتوارى و تكشف عن نفسها بذكاء كما خطط " اليحيائي " في الرواية ثم علّق روحها المهيمنة على كل شيء كان يخصّها ، كانت بمعنى أدق حكاية يُروى عنها وراوية تروي في آن ..
وظلت حكاية هؤلاء النسوة مفتوحة على تأويلات شتى ، على نهايات لا قفل لها ولا مقبض ، على سرد مستمر في مخيلة القاريء ؛ كي يعيد إحياءها وفق انغماسه في روح النص الروائي  ..
ذهب " بل ولسون " في قوله مرة : " نحن ندرك أن الهزيمة الكاملة هي وحدها الطريق التي تجعلنا قادرين على أن نخطو خطواتنا الأولى نحو التحرر والقوة " ..
وهذا ما حدث تماما مع نساء حوض الشهوات ، كن مهزومات من الوطن ، من الرجال ، من الحروب ، كانت الهزيمة ، هزائم الحروب والحياة هي نبض تحديهّن وقوتهّن وشراستهّن و قسوتهّن ؛ لذا أصبحن كوشم مطبوع في ذاكرة الذاكرة  ..
لذا ظلت حكايتهن تدور كالرحى ، وخلفّن الذكرى ، الذكرى فحسب وراءهن و ثقبنّ سيرهن في أحشاء كل من أحبهن ، كل من كان قريبا منهن ، كل من مرّ عليه تفاصيلهن أكانت أمّا أو حبيبة ، هو اليقين نفسه الذي حفره مؤلفها " اليحيائي " على لسان " سالم مطر " الذي ظل وحيدا متوحدا يجتر ليلاه و أحلامه المقاومة معها :" الحكاية أكبر من أن تروى ، حتى هو ليس بمقدوره تذكر كل تفاصيل الرحلة ، هي رحلت وخلفت وراءها الذكرى ، والذكريات بقي هو من يجترها .."  ..

ليلى البلوشي