السبت، 31 أكتوبر 2009

أمنية في كهف التاريخ


أمنية في كهف التاريخ


" أطلت علي ّ من خارج الوقت

لتجتمع روحانا في زمنين مغايرين

زمن مختبئ في كهف التاريخ

والآخر يترنحّ نحو هاوية الموت

هل يمكن للأزمنة أن تتداخل

ثم تتوقف فجأة ؛

كي نلتقي في الحقيقة برهة "



عبد الحميد القائد

الخميس، 29 أكتوبر 2009

فلسفة المشي



فلسفة المشي


" عندما أحسُّ بحزن أبدأ بالمشي "


- جلال الدين الرومي -

* * *

أشارت دراسة نفسية حديثة إلى أن طريقة مشي المرء تدل على استقراره النفسي واتزانه العاطفي ، أو على اضطرابهما ، وعلى إحساسه بالحزن أو السعادة ، فالحزين يمشي ببطء وكأن قدميه تغوصان في وحل كثيف ويجر ساقيه جرا ، منحيا بظهره إلى الأمام ..
أما المتزن نفسيا والسعيد فإنه يمشي بخطوات ثابتة ، وينقل قدميه على الأرض بخفة وكأنه يطير ..
وقد قيل إن واثق الخطو يمشي ملكا ..
وللمشي فوائد جمّة لذلك ينصح الأطباء النفسيون أن تكون للمرء حصة من المشي اليومي الصحيح المعتدل ، لا تقل عن ثلث ساعة يوميا ؛ لأن جسم الإنسان المتحرك يكون منسجما مع الذهن واستعادة التوازن النفسي والهرموني وتنشيط أنسجة الجسم المختلفة ..
ويعتقد البعض أن للمشي جوانب جمالية وله تأثير على مستوى العلاقات الإنسانية ..

وفي معرض هذا الحديث تعود بي كراكيب الذاكرة الطفولية إلى حادث مرّ بي وأنا صغيرة ، فقد كنت أكشط الأرض الرملية بقدمي إلى المدرسة التي كانت قريبة من بيتنا وأنا منكسة الرأس وعيناي في الأسفل دون أن أكلّف نفسي عناء رفعه أو تحريك فضوله للاضطلاع على العالم الخارجي المحيط بي من حولي ، وكانت أمي ترقبني كل يوم وأنا اقطع الطريق في موعديّ ذهابي وإيابي وهي مرابطة قرب النافذة التي تطل على طريق المدرسة ، وفي إحدى تلك الأيام في ساعة الشمس الحارقة تحديدا كنت كعادتي خارجة من المدرسة أجر قدميّ جراَّ من ثقل الحقيبة المدرسية على ظهري الهزيل الذي احدودب من ثقلها ، فلم يكن في أيامنا حقائب تجر بعجلات كما الجيل الحالي الحاملين على كفوف الراحة ، بينما رأسي غائص في الأسفل اتجه نحو المنحنى تقودني خطواتي في طريقها المعتاد كما في كل يوم وفي الساعة عينها ، فإذا بسيارة مسرعة على حين فجأة تجتاز كشبح طريق المنحنى وكان بيني ومسافة السيارة أقل من ربع خطوة وكنت سأفرم تحت عجلاتها لولا صوت أمي الفزع تسلل إليّ من النافذة وهي تصرخ عليّ منبهة :" سيارة .. سيارة " ..!

ولا أدري كيف قدماي تحركتا بي إلى الوراء من هول الصدمة ، وتسمرت يومها مكاني ليس خوفا من الحادث الذي كان سيودي بي ، بل حصتي من التأنيب الذي سآكله من أمي التي كثيرا ما نبهتني على طريقة مشيي الغريبة ، وهي تدلق تذمرها كل مرة في وجهي : هل ضاع منك شيء ما على الأرض وتبحثين عنه ..؟!

وإلى اليوم أتساءل : ما تفسير المشي بخطوات انحنائية ورأس منكس في الأسفل على مستوى النفسي ؛ خصوصا هذه العادة ما تزال تلازمني حتى الآن ..؟!

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

الكفن


الكفـن / للكاتب الهندي : بريمشاند


ترجمها راكشاندا جليل وهانوكولينز‏



جلس الأب والابن بصمت عند باب كوخهما، بجانب نار خامدة، في حين كانت "بوديه"، زوجة الابن الشابة، تتقلب في فراشها، تعاني ألم المخاض. كانت تطلق من حين لآخر صرخة حادة تجعلهما يجفلان. وكانت ليلة من ليالي الشتاء. وقد نامت الطبيعة تحت غطاء ثقيل من الصمت وغرقت القرية كلها تحت جناح الظلمة.‏ قال (جيسوا): (يبدو أنها لن تنجو. أمضيت طول اليوم تركض غادياً ورائحاً، أدخل وألق نظرة عليها.‏


أجاب (مادهاف) بلهجة غاضبة: (إذا كانت ستموت، لماذا لا تقوم بذلك وتنتهي؟ ماذا أستفيد من النظر إليها؟).‏ ـ أنت شخص بلا قلب. ما هذه الخيانة لشخص عشت معه عاماً كاملاً.‏ ـ لا أستطيع أن أراها وهي تتضور من الألم.‏ إنهم من عائلة ( شامارس) من أدنى عائلات الطّوائف المنبوذة ، لأنهم يعملون بجلود الحيوانات ، واكتسب هذان الشخصان بالتحديد سمعة سيئة في القرية كلها.‏ كان "جيسو" سيء السمعة ؛ لأنه يعمل يوماً وينقطع ثلاثة أيام. أما (مادهاف) فقد كان شخصاً غير ملتزم ، إذا عمل لمدة نصف ساعة ، فإنه يتوقف ليدخن غليونه لمدة نصف ساعة ، لـهذا كان نادراً ما يحصلان على عمل ، وإذا كان لديهما حفنة من الحبوب في المنزل فإنهما يقلعان عن العمل.‏ يومان من التضور جوعاً يمكن أن يحثا "جيسو" على تسلّق شجرة ، واقتلاع بعض الأغصان الصالحة للوقود ، ليذهب "مادهادف" ويبيعها في السوق ، بعد هذا يتسكع الاثنان طالما أنهما يملكان مالاً.‏


لم يكن هناك بطالة في القرية ، إذ إنها قرية مزارعين ، وهناك الكثير من الأعمال اليومية التي يمكن أن يقوم بها الرجل النشيط ، ويُستدعى هذان الاثنان فقط عندما يكون رب العمل مستعداً لأن يقنع بالحصول على عمل شخص واحد من الاثنين معاً.‏ لو كان هذا الشخصان ناسكين متجولين ، فإنهما لن يتلقيا دعوة لممارسة طقوس الرّضا والثبات والضبط والنظام تلك هي طبيعتهما ، أتت إليهما بالفطرة ، كانت حياتهما غريبة حقاً ، لا يذخر منزلهما بأية ممتلكات دنيوية سوى قدرين من الفخار، ويغطيان عري جسديهما ببعض الأسمال البالية ، ويمضيان في الحياة ..


كانت حياتهما خالية من كلّّ الاهتمامات الدنيوية ، ويرزحان تحت الدَّين ، يكيل لـهما الناس الشتائم ، أو حتى يضربونهما ، ولكنهما لا يهتمان بشيء في العالم ، وهما شديدا الفقر حتى إنه لا أحد يتوقع أن يسترد دينه منهم ، مع ذلك يقوم بعضهم بإقراضهم القليل أحياناً.


ويقومان بسرقة بعض حبات البطاطس أو البازلاء من حقول الآخرين ويشويانها أو يقتلعان حزمة من عيدان قصب السكر ليمصّاها في أثناء الليل ، وقد أمضى (جيسوا) ستين عاماً من هذه الحياة التوكلية ، ويسير (مادهاف)، كابن بار، على خطى والده ، وهو بذلك يضفي المزيد من البريق على سمعة والده.‏ يجلس الاثنان الآن أمام النار، يشويان حبات البطاطس التي سبق أن اقتلعاها من حقل أحدهم ، توفيت زوجة (جيسو) منذ زمن طويل ، وتزوج "مادهاف" العام الفائت ، منذ دخلت زوجته منزلهم ، أقامت نوعاً من النظام في حياتهما الفوضوية ، وجاهدت كي تتخم معدتي هذين البائسين الوقحين ، وبوجودها ، ازداد كسل الأب والابن عما قبل ، وكذلك غرورهم ، فإذا أراد أحد أن يستخدمهم في عمل ما ، فإنهما يطلبان بوقاحة ضعف الأجر العادي.


هاهي المرأة الآن تحتضر وهي تعاني آلام الولادة ، بينما يجلسان ينتظران موتها ؛ كي يتمكنا من النوم بهدوء وسلام.‏ تناول (جيسو) حبة أخرى من البطاطس ، وقال وهو يقشرها: (اذهب وانظر ماذا حلّ بها. لابد أنها تحت تأثير شيطان ما ، وإلا ما الأمر؟ إذا طلبنا المخلّص الروحي، لن يرضى بأقل من روبيه).‏


كان (مادهاف) يخشى أنه إذا دخل الكوخ ، فإن "جيسو" سيقضي على معظم حبات البطاطس. لذا قال: (أنا أخشى الدخول).‏ ـ وممّ تخشى؟ سأكون هنا.‏ ـ لم لا تذهب وتراها؟‏ ـ عندما توفيت زوجتي، لم أتحرك من أمام سريرها طول ثلاثة أيام ، وفكّرْ فقط بأنها ستخجل مني إذا رأيتها مستلقية بهذا الشكل ، أليس كذلك؟ أنا لم أر حتى وجهها من خلف الخمار، فكيف الآن أرى جسدها المكشوف؟ لن تكون بحالة تسمح لـها بستر حشمتها ، إذا رأتني أمامها لن تتمكن من الحركة بحرية.‏ ـ كنت أفكر ماذا سيحدث لو كان هناك طفل؟ لا يوجد لدينا زنجبيل ، أو سكر أو زيت ، تلك الأشياء التي يحتاجها المرء لمثل هذه المناسبات.‏ ـ سنهتم بكل شيء، أرجو أن يمنحنا الإله الكريم طفلاً ، إن الأشخاص ذاتهم الذين يرفضون إعطاءنا بيزة واحدة ، سيدعوننا غداً لإعطائنا روبيات ، كان لدي تسعة صبية ، ولم يكن يوجد شيء في المنزل ، ولكن كلّّ مرة كان الله يساعدنا في محنتنا بطريقة أو بأخرى.‏ لا عجب أن تكون لـ "جيسو" مثل هذه النظرة في مجتمع تكون فيه حياة الكثير من الكادحين ليلاً نهاراً أقل من حياة "جيسو"، بينما تكون حياة أولئك الذين يعرفون كيف يستغلون الفلاحين، أكثر غنى. ويمكن أن يقول أحدهم إن (جيسو) أكثر ذكاء من الفلاحين، فبدلاً من أن ينضم إلى جماهير الكادحين الأغبياء ، التحق بعصابة الثرثارين التافهين السيئة السمعة ، على الرغم من أنه لا يملك الإرادة لإتباع قوانين الثرثارين المقاومين وتعليماتهم.


وهكذا، في حين أصبح بعض أفراد العصابة المتنافرة زعماء كباراً في القرية ، فإن الجميع يشير إليهم بإصبع الاستهجان ، وعلى أية حال ، كان (جيسو) سعيداً ، أولاً لأنه على الرغم من أسماله البالية ، فهو على الأقل غير مضطر لممارسة الأعمال القاصمة للظهر التي يقوم بها الفلاحون؛ بالإضافة إلى أنه لا أحد يمكنه أن يستغل بشكل غير مناسب بساطته وبراءته.‏ كان الأب والابن يتناولان البطاطس المشوية ، ويأكلانها ساخنة جداً ؛ لأنهما لم يأكلا شيئاً منذ البارحة، لا صبر لـهما الآن حتى تبرد فحرقا لسانيهما عدة مرات.


بعد التقشير فلا تبدو الطبقة الخارجية ساخنة جداً ، ولكن حالما يضع المرء لسانه عليها ، فإن الحرارة الداخلية تحرق اللسان والحلق والحنك ، كان من الأفضل ابتلاع تلك الجمرة الحارة بدلاً من إبقائها في الفم ، وحالما تصل إلى المعدة ، هناك ما يكفي من المواد لتبريدها.
وهكذا كان الاثنان يبتلعان حبات البطاطس الساخنة بأسرع ما يمكن ، على الرغم من أن الجهد الذي بذلاه ملأ أعينهم بالدموع.‏ في هذه اللحظة ، تذكر "جيسو" حفل زفاف "تاكو" الذي حضره منذ عشرين عاماً ، سيبقى يذكر طول حياته التخمة التي خبرها في ذلك العرس ، وما تزال ذكراها حية في داخله ، قال: (لا أنسى ما حييت ذلك الاحتفال, لم آكل حتى التخمة كتلك المرة. قدمت عائلة العروس وجبة بوريس لكل شخص ، كبيراً كان أم صغيراً ، حصل فيه على وجبة مطبوخة بزبد أصلي، وصلصة الثمار والأعشاب ، ولبن مبهر، ثلاثة أنواع من الخضار، خضار بالكاري ، ولبن مخثر، وحلويات ، كيف أصف لك نكهة الطعام ومذاقه ، وليس هناك نقص في أي شيء ، ويمكنك أن تطلب ما تريد وتأكل قدر ما تريد.


أكل الجميع إلى درجة أنهم لم يعودوا قادرين على شرب قطرة ماء ، واستمر الخدم في وضع المزيد من المعجنات اللذيذة المستديرة والساخنة في أطباقنا ، كنا نخبرهم بأننا لا نريد المزيد ، حتى إننا كنا نضع أيدينا فوق أطباقنا لنمنعهم من وضع الطعام ، إلا أنهم يصرون على تزويدنا بالمزيد.


وبعد أن غسل الجميع أفواههم، قدموا (التنبول) وحب الهال أيضاً ، ولكنني كنت أبعد ما أكون عن التفكير بأوراق (التنبول) ، كنت بالكاد أستطيع الوقوف على قدمي ، هرعت إلى دثاري ، واستلقيت عليه ، كم كان (ثاكور) رجلاً كبير القلب .‏ قال (مادهوف)، بعد أن استمتع في مخيلته بمذاق كلّّ طبق من هذه الأطباق الشهية: (لا أحد يقيم لنا مثل هذه الاحتفالات الآن).‏ ـ ومن يقيم مثل هذه الاحتفالات الآن؟ كان ذلك وقتاً مختلفاً تماماً ، الآن كلّّ شخص يفكر في أسهل الأمور وأرخصها ، لا ينفقون على حفلات الزواج ، لا ينفقون على الجنائز ، يجب على أحدهم أن يسأل مثل هؤلاء الناس أين سيخبئون كلّّ تلك الثروة التي ادخروها عن طريق سلبهم للفقراء..؟ عندما يتعلق الأمر بالادخار فإنهم لا يفكرون إطلاقاً بأسهل الطرق وأرخصها، وعندما يصل الأمر إلى إنفاق بعض هذا المال، يبدؤون الكلام عن التوفير.‏


ـ لابد أنك أكلت عشرين (بوريس)؟‏ ـ أكلت أكثر من عشرين.‏ ـ أنا كنت سآكل أكثر من خمسين.‏ ـ ما كنت لآكل أقل من خمسين ، كنت شاباً قوياً فظّاً ، أنت بالكاد تبلغ نصف حجمي.‏ بعد أن انتهيا من أكل حبات البطاطس ، شربا قليلاً من الماء ، وفي نفس المكان ، أمام النار الخامدة ، لفا جسديهما بمئزريهما ، واستسلما للنوم ، كانا يبدوان كثعبانين كبيرين ملتفين ، وما تزال "بودية" تئن .‏ في الصباح دخل "مادهاف" الكوخ ، فرأى أن زوجته أصبحت باردة ، كان الذباب يطن حول وجهها وكانت عيناها المتحجرتان تحدقان نحو الأعلى ، والغبار يلف جسدها ، أما الطفل فقد مات في أحشائها.‏


هرع ( مادهاف) ليخبر (جيسو) ، وبدأ الاثنان بالصراخ والعويل وضرب الصدور ، وعندما سمع الجيران بكاءهما وعويلهم هرعوا إليهما وحاولوا ، حسب عادة قديمة ، أن يواسوا المحروم ، على أية حال لم يكن هناك وقت للانغماس بحزن مفرط ، فعليهما أن يفكرا بتـأمين الكفن وخشبة المحرقة ، كان المال نادر الوجود في منزلهم كندرة اللحم في عش النسر .‏ توجه الأب والابن ، وهما يبكيان لرؤية زمندار القرية ، كان الزمندار يكره رؤية الرجلين ، وقد قام في مناسبات عدة بجلدهما بيديه من أجل السرقة أو لعدم حضورهم للعمل على الرغم من وعودهم بذلك ، سألهم الآن : ( ما خطبكما ؟ لماذا تبكيان ؟ نادراً ما أراكما هذه الأيام ، يبدو أنكما لا ترغبان بالعيش في هذه القرية بعد الآن ) .‏ قال (جيسو) وقد طأطأ رأسه وعيناه مغرورقتان بالدموع : (يا سيدي ، لقد حلت بنا مصيبة ، لقد ماتت زوجة ( مادهاف ) الليلة الماضية ، عانت من الألم طول الليل ، بينما جلسنا نحن الاثنين إلى جانبها ، فعلنا ما بوسعنا ، قدمنا لـها الدواء، ولكن كي لا نطيل عليك ، رحلت عنا ، والآن لم يبق لنا من يقدم لنا لقمة الطعام يا سيدي ، لقد هلكنا ، دُمِّرت حياتنا ، أنت سيدنا وزعيمنا ، لا أحد غيرك يمكن أن يؤمن لنا محرقة كريمة ، لقد أنفقنا القليل الذي كنَّا نملكه على العناية بها وعلى الأدوية ، والآن إذا سمح كرم سيادتكم ، لحصلت الفقيدة على شعائرها الأخيرة ، فأي باب يمكن أن نطرق غير بابك ؟ .‏ كان الزمندار صهيب رجلاً كريماً ، ولكن إظهار الكرم لـ (جيسو) كان أشبه بمحاولة صبغ ملاءة سوداء ، ودّ الزمندار (صهيب) لو يقول لـه اذهب إلى الجحيم ، فعادة لا يتكلف الرجل مشقة القدوم حتى إذا أرسل في طلبه .


والآن عندما أراد شيئاً أتى بكلماته المتملقة ، يا لـه من متسول كسول ..! ولكنه يعلم أنها ليست اللحظة المناسبة لإطلاق العنان لغضبه ، أو فرض عقوبات ، ورغماً عنه سحب روبيتين ، ورمى بهما على الأرض ، إلا أنه لم يتلفظ بكلمة تعاطف واحدة ، لم يقل كلمة واحدة ، ولم ينظر إلى (جيسو) ، كأنه قام بواجبه ، وأزاح حملاً عن كاهله ؛ ولأن الزمندار أعطى روبيتين فكيف يمكن لمرابيّ القرية وتجار القرية أن يجرؤوا على الرفض؟ عرف (جيسو) كيف ينشر خبر حصوله على المال من الزمندار (صهيب ) بعضهم أعطاه آنيتين ، بعضهم الآخر ساهم بأربع أنات ، وفي مدة ساعة ، تمكن (جيسو) من جمع مبلغ مُرضٍ يصل إلى خمس روبيات ، وحصل على بعض الحبوب من مكان ما ، وبعض الخشب من مكان آخر ، وعند الظهر توجه مع ابنه مادهوف لشراء الكفن ، تبرع بعض الأشخاص بقطع شرائح من خشب البامبو من أجل المحرقة. ، وأتى بعض النساء الرحيمات لإلقاء نظرة على الجثمان ، ذرفن بعض الدموع على عجزها وذهبن .‏ لدى وصولهما إلى السوق قال (جيسو) : (سيكون هناك ما يكفي من الخشب لحرقها ، أليس كذلك مادهاف ؟)‏ ـ أوه ، نعم ، لدينا ما يكفي من الخشب ، نحتاج فقط إلى الكفن .‏ ـ إذن لنذهب ونشتري نوعاً رخيصاً .‏


ـ نعم ، هذا صحيح ، سيكون الوقت ليلاً عندما نحمل الجثمان إلى المحرقة ، من سينظر إلى الكفن في الظلام ؟‏ ـ يا لـها من عادة مريعة.. ! من لا يملك حتى خرقة بالية يغطي بها عريه في أثناء حياته ، يحتاج إلى كفن جديد ومن صنف جيد بعد مماته .‏ ـ والكفن يحترق مع الجثمان ، أليس كذلك ؟‏ ـ أو تعتقد أنه يبقى سالماً ؟ لو كنا نملك هذه الروبيات الخمس من قبل ، كنا قادرين على شراء الدواء لـها .‏ استطاع كلّّ منهما قراءة أفكار الآخر ، لذا تسكعا في السوق بعض الوقت ، يتوقفان عند كلّّ دكان لتجارة الأقمشة : الحرير والقطن، إلا أنهما لم يعثرا على طلبهما ، كان الظلام قَدْ حل في هذا الوقت ، بشيءٍ من الإلهام الإلهي ، وجدا نفسيهما أمام حانة تودّي ، فدخلا بموافقة متبادلة غير ملفوظة ، وحالما أصبحا في الداخل ، وقفا لبرهة لا يدريان ما يفعلان ، ثم اقترب (جيسو) من الطاولة وقال: ( أعطنا زجاجة يا سيدي ) .‏


ثم طلب بعض الوجبات الخفيفة ، وسمكاً مقليّاً ، وجلس الأب والابن على الشرفة ، وبدآ يشربان بصمت أنيس .‏ بعد أن تجرعا بعض الكؤوس ، ثمل الاثنان بابتهاج تام.‏ قال (جيسو): ( ما الفائدة من وضع كفن فوقها ؟ إنه برغم كلّّ شيء يحترق مع الجثمان ، لن يبقى ليذهب معها إلى مقرها الثاني ) .‏ تكلم (مادهوف) وهو ينظر إلى السماء ، وكأنه يناشد الآلهة على الشهادة ببراءته الكاملة في الموضوع: ( إنَّها طريقة الحياة ، وإلا لماذا يدفع الناس آلاف الروبيات للبراهما ؟ من الذي يضمن إذا كان المرء سيستردها في العالم الآخر ؟ )‏ ـ الأغنياء يملكون مالاً يحرقونه ، إذاً دعهم يفعلون ذلك ، أما نحن فماذا نملك؟‏ ـ ولكن ماذا سنقول للآخرين ؟ ألن يسأل الناس أين الكفن ؟‏ ضحك (جيسو) وقال: (يا للجحيم سنقول إن المال سقط من حزام خصرنا ، بحثنا عنه ولكن لم نجده ، ربما لن يصدقوننا ولكن نفس الأشخاص سيعطوننا المال مرة أخرى ).‏ ضحك (مادهوف) أيضاً على هذه الثرثرة غير المتوقعة ، وقال : (كانت امرأة طيبة ، المسكينة ..! حتى بوفاتها ضمنت لنا وجبة مشبعة ! )‏ أتيا حتى الآن على نصف الزجاجة تقريباً ، طلب (جيسو) أربعة أرطال من البوريس ، بالإضافة إلى صلصة الثمار والأعشاب ، ومخلل وكبد مطبوخ ليؤكل معه ، هناك دكان أمام الحانة .


هرع (مادهاف) لتنفيذ طلب والده ، وعاد حاملاً طبقين من الورق ، بلغ ثمنهما روبيتين ونصف ، كلّّ ما بقي بحوزتهما بضع بيزات ، جلس الاثنان يلتهمان البوريس ، على طريقة سيد الغابة وهو يستمتع بصيد ثمين ، في هذه اللحظة لم يقلقهما خوف من مسؤولية أو اهتمام بفضيحة ، لقد تغلبا منذ زمن طويل على مثل هذه المشاعر المرهفة .‏ تحدث (جيسو) بنبرة فلسفية : ( إذا كانت أرواحنا ، بسببها ، حصلت على السرور، ألن يجلب لـها هذا الرحمة من الله ؟).‏ أحنى (مادهاف) رأسه باحترام وقال موافقاً : ( بالتأكيد ، يا رب أنت العالِم ، أرجوك أدخلها الجنة كلانا يصلي من أجلها من أعماق روحنا ، لم أذق مثل هذا الطعام الذي أكلته اليوم في حياتي كلها ).‏ بعد مرور دقيقة أثير شك في عقل (مادهاف) فقال : (أبي ، أقول: ألن نذهب نحن أيضاً إلى هناك في يوم ما ؟ )‏ امتنع ( جيسو ) عن الإجابة على مثل هذا السؤال الساذج ، إذ لا يريد أن تتطفل أفكار العالم الآخر على النعمة الحالية التي يعيشها.‏


ـ افرض أنها سألتنا هناك لماذا لم نشترِ لـها كفناً، ماذا سنقول لـها ؟‏ ـ سنقول لـها أنه ضاع.‏ ـ من المؤكد أنها ستسألنا..!‏ ـ ما الذي يجعلك تعتقد أنها لن تحصل على كفن ؟ هل تعتقد أنني مغفل ؟ هل تظن أنني لم أتعلم شيئاً طول الستين عاماً من عمري ؟ ستحصل على كفن ، وكفن جميل جداً أيضاً.‏ من الصعب على ( مادهاف) أن يصدّق ذلك ، فقال: ( ولكن من سيعطينا إياه ؟ لقد قضيت على كامل المبلغ ، ستسألني أنا وليس أنت ، أنا من تزوجتها ، ووضعت (الزنجفر) في شعرها لأعلنها زوجة لي )‏ ..أجاب (جيسو) بصوت غاضب : ( قلت لك ستحصل على الكفن ، لم لا تصدقني ؟ )‏ ـ ولكن من سيعطينا إياه؟ لم لا تخبرني؟‏ ـ أولئك الذين أعطونا إياه من قبل ، مع أننا ، هذه المرة ، لن تسنح لنا الفرصة لوضع أيدينا على المال .‏ مع تقدم الليل وازدياد بريق النجوم في السماء ، ازدادت الإثارة داخل الحانة بشكل ملحوظ . بدأ أحدهم بالغناء ، في حين انهمك الآخر بالتفاخر بمآثره البطولية ، وكان ثالث يتشبث برقبة رفيقه ، وآخر يحث صديقه على الشراب من كأسه .‏ ساد جوٌّ من الثمالة في الحانة ، حتى الهواء كان عبقاً بالسُّكر ، مما يجعل بعضهم يثمل من جرعة واحدة .


كان الهواء في الحانة مسكراً أكثر من أي شراب آخر فيها ، إن مشاكل الحياة تجذبهم إلى هذا المكان ، وحالما يجلسون فيه ، ينسى الرجال لفترة فيما إذا كانوا أحياءً أم أمواتاً؛ أو أنهم بالنسبة لذلك الموضوع ، لا أحياء ولا أموات .‏ مازال الأب والابن مستغرقين في الشراب بإسراف ، كانت أنظار الجميع موجهة إليهما ، يا لـهما من شيطانين محظوظين أمامهما زجاجة كاملة ..!‏ بعد أن أكلا حتى التخمة ، أعطى (مادهاف) ما تبقى من (البوريس) إلى متسول كان يراقبهما بنهم ، وللمرة الأولى في حياته ، اختبر شعور الفخر والسرور وبهجة العطاء .‏ قال (جيسو): ( هيا خذها ، كلْ حتى الشبع وامنح مباركتك ، هذا المال مكتسب لامرأة ميتة ، ولكن ستصلها مباركتك حتماً ، يجب أن تباركها بكل عرق في كيانك ، فقد تمّ الحصول على هذا المال بصعوبة كبيرة ! )‏


نظر (مادهاف) ثانية إلى السماء وقال: ( ستذهب حتماً إلى الجنة ، وستعيش كملكة في السماء).‏ نهض (جيسو) واقفاً وتحدّث وكأنّه يسبح في بحر واسع من السعادة : ( نعم يا بني ، ستذهب بالتأكيد إلى الجنة ، إنَّها لم تؤذ ذبابة ، أو تزعج شخصاً طول حياتها ، حتى بعد وفاتها ، سعت لأن تحقق لنا أعز رغباتنا ، إذا لم تكن ستذهب إلى السماء ، من سيذهب إذاً ؟ أهؤلاء الأوغاد الأغنياء البدينون ، الذين يسرقون الفقراء ، ولكي يكفّروا عن خطاياهم ، يغطسون في نهر (الغانج) ، أو يقدمون ماءَه المقدس في المعابد ؟ )‏ تبدد مزاج الرضا الذاتي ، فالتقلب صفة تميز حالة السُّكر ، بدأت الآن مرحلة الحزن واليأس .‏قال مادهاف : ( ولكن يا أبي لقد عانت المسكينة طول حياتها، وعانت الأمرّين قبل أن تموت ! ) بعد أن قال ذلك ، وضع يده فوق عينيه وبدأ يجهش بالبكاء .‏ حاول (جيسو) مواساته قائلاً: ( ما فائدة البكاء يا بني ؟ يجب أن تكون سعيداً ؛ لأنها تحررت من عالم المايا هذا ولأنها نجت من شراك الوهم ، إنَّها حقاً محظوظة لأنها تحررت من الروابط القاتلة لهذه الحياة ) .‏


في هذه اللحظة وقف الاثنان وبدآ ينشدان أغنية شعبية قديمة :‏ "أيتها الساحرة ! لا تبهرينا بعينيك .. أيتها الساحرة !..."‏ نظر إليهما المعربدون الآخرون في الحانة ، إلا أنهما ، وقد استغرقا في عالم من السعادة خاص بهما ، تابعا الغناء. ثم بدآ يرقصان ، يقفزان ويثبان ، وقعا على الأرض ، ثم نهضا ، التقيا ، وقاما ببعض الحركات الراقصة.


استمر هذا الأداء من الغناء والرقص الحيّ مدة لا بأس بها، حتى سقطا أخيراً في غيبوبة من الثمالة.‏


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


بريمشاند :


عاش بين عامي (1880 ـ 1936).

اسمه الأصلي: دانبات راي. يعتبر أعظم كاتب للأدب الهندي ظهر في هذا القرن. بدأ كتابته باللغة الأوردية، ولكنه تحول إلى الهندية لاحقاً. تتحدث قصصه ورواياته عن ريف الهند الذي يغوص بالفقر، وعن التحيز الطائفي، والتفاوت الاجتماعي.

من أشهر رواياته: سفادان (1919)، رانفابومي (19247)، والوشم (1936). قام بريمشاند بإصدار أكثر من ثلاثمائة قصة قصيرة، تنتشر في خمسة وثلاثين مجلداً. يتكرر في قصصه ذكر شخصيات من المجتمع الإقطاعي مثل: المرابين، مالكي الأراضي، كهنة القرى، العمال المنبوذين، والنساء المظلومات.

تظهر هذه الشخصيات فلسفته الإنسانية العميقة التي تجسدت بأفكار غاندي. كان للصحيفة التي رأس تحريرها (هانز) تأثير كبير. ترأس الاجتماع الأول لاتحاد الكتاب التقدميين الهنود في لاكنو، عام 1936م .

السبت، 24 أكتوبر 2009

مشيئة التلموديين


مشيئة التلموديين



في الصلاة التلمودية العبرية يقولون يوميا :


" الحمد لك يا رب أنك لم تخلقني امرأة "


فترد المرأة وراءه في صلاتها خانعة :


" الحمد لك يا رب أنك خلقتني بحسب مشيئتك " ..!

الثلاثاء، 20 أكتوبر 2009

تعليق على مقالتي ( حتى نخاع الزمن )



& تعليق على مقالتي ( حتى نخاع الزمن ) :



* هذا رد من الردود الكثيرة التي وصلتني على المقالة التي نشرتها في جريدة الوطن بعنوان ( حتى نخاع الزمن ) ، حيث علق الأستاذ ( محمد الغساني ) بأن له آراء حول الزمن ونظرياته ما لا يتوافق مع ما عرضته في مقالتي التي جاءت فيه بعض الآراء متناقضة ..

* رد الأستاذ ( محمد الغساني ) :

مرحبا ليلى
السلام عليكم .. تحية طيبة وبعد ،
موضوع النقد تفلسفي وليس تطرفي

بسم الله الرحمن الرحيم

( آينشتاين ) عالم فيزيائي له معتقدات بالزمن وصار الزمن تاريخ هذا العالم الفيزيائي ولا أنكر السمات التي تميز بها من روائع الحس والخيال ، ولكن معي ما أقوله :
من المعروف قواعد ونظريات العالم ( إسحاق نيوتن ) والتي اعتمد عليها الفيزيائي آينشتاين ليست جميعها بالقواعد التي يعتمد عليها علماء الفيزياء الحاليين وذلك لتناقض المسار والزمن والتي توضح لآينشتاين بنظريته التي اتخذها بأن الوقت والزمن أنما هو نفسه في كل مكان ولكن سرعان ما تتلاشى هذه الأفكار ..
وبعد فترة من الزمن علق الراوي ( ميكائيل جونيل ) بأن المفهوم الذي اعتقده آينشتاين خاطئ وذلك لاتخاذه النظرية التي تقول ( اتخذ العالم قاعدته الجديدة والتي تقتضي اختلاف الوقت والزمان باختلاف المكان ) والتي اعتمدها من قبل سطوح الفيزيائيين على صفيحة الزمن والمكان ..
لقد احترت ما بين نظرية مارسيل بروست ( الزمن هو السيد النهائي للإنسان والكون ) وما بين الداهية أفلاطون الوجداني ( الزمن هو فكر الإنسان وليس سيده ) يا سلام على التناقض ونحن نقرأ بدون تعليق رواية أحلام آينشتاين التي تناولها الكاتب آلان لايتمان حفيت باهتمام كبير وصدى بين الجمهور ولكن تناقضات الآراء استدعت الكاتب الخلوق الايطالي ( ناني روس ) أن يكتب بكل جرأة ويقول بأن الزمن في هذا العالم لا يتمحور حول أزمنة معينة وإنما يتمحور حول نوعية البشر ويضيف بأن البشر والطبيعة خلقهما الرب لكي يمحو الزمان ولك يكن يوما يتغلبن على الرب .. ) بالفعل مجاز ونظرية في غاية التحدي والفكر السليم لهذا الكاتب الذي لطالما قرأت عنه المزيد من نظرياته التي تستر عنها الناس ولم يستشعروا فيها ..
الكاتب الروائي الفرنسي ( مارك ليفي ) ألف العديد من الكتب الروائية ولن أخرج عن الموضوع موضوع ( ماذا لو كانت واقعية ) وأشاد به معظم الجمهور فيما انتقده البعض وذلك لسوء الترجمة بهذا الكتاب لهذا انقسم القراء ما بين معارض ومؤيد .. لن أتكلم إلا عن نفسي وما وجدت نفسي إلا متحيرا بين كتبه غير المترجمة والمترجمة ولأني أجيد اللغة الفرنسية قراءة وكتابة أجد نفسي عندما أبحث عن أساطير الفكر عنده وأحدث نفسي قائلا أتمنى لو لم أقرأ الفرنسية ليس تعجبا بس أختلس فكري بنظرياته المتناقضة ..
لا أدري هل الكتب المترجمة بالفعل سيئة الترجمة أم فكر الرجل يستأهل الإشادة ، في الأخير وجدت نفسي استشعر بكتاب فرنسي وروائي آخر ( زبخيت مكاو ) بعنوان الزمن والناس صفحة غريبة نوعا ما تطرق بداخلها عن وجود الزمن للحب وليس لينتهي وما من بشر في الأرض إلا وقد خلق للحب فقط ..
أخذت معنا واحدا فقط لكي أحل لغز متناقضات مارك ليفي ( الحب يصنع الحياة ) وليس كما يعتقد مارك ( الحب يزرع الناس ) .. وهنالك اختلاف وكما تطرقتي بكتابة ( ماذا لو كانت واقعية ) سنجد أنه تطرأ بالبطيء لكن يجد ما بحاجته الإنسان والتي يعتمدها البعض من فكره بالزمن الحالي والمنصرم أما العالم والكاتب ( زبخيت مكاو ) كان يتطرق إلى سرعة الزمن لكي يعيش الإنسان وليس أمامه إلا أن يتخطى عقبة الزمن ويتمحور حول نفسه ، ليجد نفسه أنه قد استوفى حياته بلذاتها ..
ما أجمل هذه العبارة : ( أعلم أن عودتي لجسدي تتطلب معجزة ولكن أنا أريد أن أعيش .. رغبة قوية بداخلي أن أعيش .. هنالك حب في حياتي أتمنى أن أعيش لأجله ..)
يا سلام روعة هذه الجملة أنها للورين الجميلة المعاقة جسديا والتي يرويها العاشق آثر .. إذن الزمن فكرة الإنسان وليس ملك الإنسان لابد أن يسرع لتعذيب وتضييق الزمن لكي يأخذ منه ما يجب أن يأخذه ..
أين اعتقاد آينشتاين من هذا الكلام ، أين الزمن الذي يثبت ولا يتغير أين قوله أن فيه أناس يعتقدون أن أجسادهم ليست موجودة يعيشون وفق الزمن الآلي يأكلون ويشربون بنفس الوقت حتى ممارسة الجنس بنفس ساعة الزمن ولا يمكن أن يمارس بغير هذه الساعة ولا يؤمن كما فعلها أفلاطون بأن الجنس حس ووجدان حتى ما أتفق عليه الجسدان .. كلام سهل أن نقرأه ولكن صعب أن نعلق عليه أو نظيف عليه لاعتقادنا فلاسفة الزمن الثابت هم الأجدر لهم أحقية التفلسف بنا كما يشاءون ولكن الزمن قد تغير ونحن أحق أن نتبعهم بمستورداتهم المصدقة من ذاتنا ليس من مجريات الزمن الثابت كما ينظرون .. اسمحيلي كلام لا ينتهي بموضوعك الجميل الرائع ولقد أخذت من وقتك ، الأصعب عندما قلت لكي انتقدك وهذا ليس بغرور مني ولكن عندما نتحدث عن الزمن لابد أن أستعين بمعرفتي لكن ابدي رأيي عند إبداعك الجليل هذه وجهة نظر مع قراءتي للتناقضات الغريبة ..
تحياتي واشكر كل الشكر لإتاحة هذه الفرصة لمناقشة مبدعة حيوية من بلدي الحبيبة وأفتخر أن أرى إبداعات وانجازات المتطورة ..
بالتوفيق لك يا ليلى ..
المرسل : محمد الغساني ..



* ردي على تعليق الأستاذ ( محمد الغساني ) :

الرد هنا انشطر إلى عدة أقسام وكل قسم يمثل وجهة نظر معينة :

1 ـ العالم الفيزيائي ( آينشتاين ) تمثلت لديه نظرياته عن الزمن ثم جاء ( ميكائيل جونيل ) ليفند نظريات آينشتاين عن الزمن لأنه يرى أن ( العالم اتخذ قاعدته الجديدة والتي تقتضي اختلاف الوقت والزمان باختلاف المكان ) ..

2 ـ أشرت إلى مفهومين متناقضين ، فمارسيل بروست يرى : ( الزمن هو السيد النهائي للإنسان والكون ) بينما أفلاطون يرى : ( الزمن هو فكر الإنسان وليس سيده ) ..

3 ـ الكاتب الايطالي ( ناني روس ) يرى بكل جرأة بأن الزمن ( في هذا العالم لا يتمحور حول نوعية البشر ويضيف بأن البشر والطبيعة خلقهما الرب لكي يمحو الزمان ولم يكن يوما يتغلبن على الرب ) ..

4 ـ الروائي الفرنسي ( مارك ليفي ) ثمة تعارض بين جمهور القراء على رواياته المترجمة ولغتها الأم ؛ لأن معظم الترجمات غالبا ما تكون رديئة ..

5 ـ كاتب فرنسي وروائي آخر ( زبخيت مكاو ) بعنوان الزمن والناس صفحة غريبة نوعا ما تطرق بداخلها عن ( وجود الزمن للحب وليس لينتهي وما من بشر في الأرض إلا وقد خلق للحب فقط) .. وهو نفسه الذي تطرق إلى ( سرعة الزمن لكي يعيش الإنسان وليس أمامه إلا أن يتخطى عقبة الزمن ويتمحور حول نفسه أنه قد استوفى حياته بلذاتها ) ..

6 ـ مفهومك وقناعتك الخاصة عن الزمن : ( بأن الزمن قد تغير ونحن أحق أن نتبعهم بمستورداتهم المصدقة من ذاتنا ليس من مجريات الزمن الثابت كما ينظرون ) ..

& تعقيبي الخاص من وجهة نظري الشخصية :

حول النقطة رقم ( 1 ) : في المقالة أشرت بقولي أنني ( أؤمن بنظرية الكاتب " آلان لايتمان " حين أشار في رواية " أحلام أينشتاين " بأن الزمن في هذا العالم يتمحور حول زمنين ، أما الأول فآلي وهو صلب ومعدني كبندول حديدي ضخم يتحرك جيئة وذهابا ، والثاني جسدي فيتقلب ويتعرج كسمكة في خليج ، الأول لا يلين بينما الثاني يتخذ قراره وهو يمضي .. )
كتبت هذا القول على إيمان وقناعة خاصة بي وليس من الضرورة أن يشاطرني أي كان على قناعتي هذه ، وكما أشرت أنت أن نظريات آينشتاين ثمة آراء متضاربة على حقيقتها وأن ميكائيل جونيل فنّد نظرياته حين رأى أن الزمن يختلف باختلاف المكان .. بالنسبة لي قوله واقعي جدا وآمنت به كما آمنت بقول آينشتاين وكلاهما عبر عن الزمن انطلاقا ربما من قناعات خاصة أو تجارب مرت عليها سنين ..
في نفس الرواية ثمة مقطع زمني آخر : ( الضوء يخطط الحياة في هذا العالم ، لذلك فإن الشخص الذي يولد عند الغروب يمضي النصف الأول من حياته في الليل ، يتعلم مهنا داخلية كالحياكة وصناعة الساعات ، يقرأ كثيرا ، يصبح مفكرا ، يأكل كثيرا ، يخاف الظلمة الشاملة في الخارج ، يحرث الظلال .. أما الذي يولد عند شروق الشمس يتعلم مهنا خارجية كالزراعة والبناء ، يصبح قوي البنية ، يتجنب الكتب والمشاريع الذهنية ، يكون مشرقا ولا يخش أي شيء ) ..
نظرية تخطيط الضوء في الحياة قد تكون صائبة وقد تكون خيالية تماما ؛ مثلها مثل أي نظرية قابلة للتطبيق أو التفنيد ، لكنها في النهاية نظرية وقفت عندها أنا مأخوذة بالتأمل والمتعة وقد يراها غيري أنها كلام فارغ ولا تمت الحقيقة بصلة ..

2 ـ حول النقطة رقم ( 2 ) : لا أرى تناقضا بين ما قاله مارسيل بروست بأن الزمن هو السيد النهائي للإنسان والكون ، وبين ما أشار إليه أفلاطون بأن الزمن هو فكر الإنسان وليس سيده .. التناقض هنا لا يؤخذ على الأقوال بل على فكر الرجلين ، فقناعة كل منهما حول الزمن تباينت ، زمن بروست من دون شك يختلف عن زمن أفلاطون ، وباختلاف الزمنين من الطبيعي أن تتوالد آراء في المفاهيم والنظريات ؛ لأن مع الزمن لا تبقى العقول كما هي ، فالرجل عندما يكبر لا يكون ذاك الطفل الذي كانه صغيرا .. بينما علينا نحن أن نأخذ ما يناسبنا ، وما يتوافق مع فكرنا والزمن الذي نعيش فيه ..

3 ـ حول النقطة رقم ( 3 ) : لا تعليق ؛ لأنني لم اقرأ عن ناني روس ومفهومه شيئا ..

4 ـ حول النقطة رقم ( 4 ) : بالنسبة للروائي الفرنسي مارك ليفي ثمة خلاف على عموم مؤلفاته ليست ترجماته فقط ، وأنا شخصيا حينما قرأت روايته ( ماذا لو كانت واقعية ) وجدت أن الترجمة ليست ذا مستوى وللأسف نادرا ما نرى ترجمات ذا مستويات عالية وأمينة في النقل من لغة إلى لغة ..
أما بشأن المقطع الذي اقتطعته من الرواية والتي يقول فيها الكاتب : ( إذا أردت أن تعرف ماذا تعني انتظار عام من العمر اسأل الطالب الذي أنهى للتو امتحان نهاية السنة ، وإذا أردت أن تعرف معنى الشهر ، تكلم مع امرأة ولدت طفلا قبل أوانه وهي الآن تنتظر الساعة التي يمكنها ضمه إلى صدرها دون تعريضه للخطر ، وإذا أردت معرفة أهمية الأسبوع قابل عاملا في مصنع أو منجم يكد ويتعب من أجل إطعام أطفاله وزوجته ، وإذا أردت أن تعرف قيمة اليوم اسأل عاشقين مغرمين بجنون كيف يترقبان موعد لقائهما في اليوم التالي ، وإذا أردت معرفة قيمة الساعة فكر بالمصابين بمرض الخوف من العتمة ، إذا انقطع التيار الكهربائي ليلا ، وإذا أردت معرفة قيمة الثانية انظر إلى التعابير التي ترسم على وجه رجل خرج سالما من حادث مروع ، أما بالنسبة للجزء من الثانية فراقب أولئك الرياضيين الذين يتنافسون على نيل الميدالية الذهبية بالألعاب الاولمبية بفارق جزء من الثانية فكر بهذا الرياضي الذي يمضي حياته يتدرب ويتمرن كي يفوز على خصمه بفارق جزء من الثانية ) ..
مارك ليفي هنا بلمحات بسيطة وواقعية كاشف لنا أهمية الزمن كفعل ممارس ، والمقالة التي كتبتها بمجملها تدور حول المفهوم نفسه ( ما أهمية الزمن لكل منا ) ؟
وكما أشرت في المقالة بأن للزمن حضور مهيب وكلي في حياتنا فنحن لا نعيش في فراغ لا نهائي خال من حقيقة الوقت ، يكفي وجود ساعة تنبهنا ثوانيها عن ذلك وعلى دوام .. ولولا هذا لكنا متسكعي الفوضى ، عدم وجود الزمن يعني عدم وجود تحفيزات تجبرنا على استنهاض نحو الأفضل كما يلغي التاريخ تماما ليس التاريخ العام فقط بل التاريخ الشخصي كذلك .. لذا لكل انسان زمنه الخاص يشغله كيفما يريد ، ومهما كان وضعه في زمنه الخاص فإن الزمن العام المتعارف عليه بساعاته وأشهره وسنواته في تراكض متسق نحو الأمام ، الزمن يمضي ولا ينتظر أحدا ، والمتأخر يدرك أن القطار فاته وعليه البدء من حيث توقف ..
أنا املأ زمني بالقراءة والكتابة والعمل .. الخ ، بينما غيري يملأ زمنه بأشياء أخرى واهتمامات مختلفة تماما ..

5 ـ حول النقطة رقم ( 5 ) : الكاتب الفرنسي ( زبخيت مكاو ) خصص الزمن للحب ، إذن على وفق نظريته فإن الشخص الذي لا يحب زمنه ضائع ؛ لأن اعتقاده قائم على أساس أن الحب والزمن متواجدان معا ، وإن وجد واحد مقابل الآخر فلا يستقيم الوضع .. وما أكثر الأفراد في عصرنا الحالي يعيشون بلا حب لكن أزمنتهم ممتلئة بهم وتمضي في حال سبيلها .. رغم أن ( الوقت الذي نستمتع بإضاعته ليس وقتا ضائعا ) كما عبر براند راسل ..
زبخيت مكاو قاس الزمن بالسرعة على حد المثال الذي طالما نبهنا على هذه الحقيقة ( الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ) ..

6 ـ حول النقطة رقم ( 6 ) : اختصر القول بانطباعك الذي تؤمن به والذي قلت فيه : ( بأن الزمن قد تغير ونحن أحق أن نتبعهم بمستورداتهم المصدقة من ذاتنا ليس من مجريات الزمن الثابت كما ينظرون ) ..

آراء ونظريات الآخرين هي التي زعزعت قناعتك التي تؤمن بها حول الزمن ، نحن نسمع ونقرأ ونأخذ عن الآخرين نعم ، لكن ليس من الضروري أن نؤمن بما يقولون ونكتفي أنه الواقع وعلينا الأخذ به ، العلم في تطور دائم ، مفهوم الزمن اليوم يختلف عن مفهوم الزمن في القرون السابقة ، وليست آراء العلماء مقدسة كالقرآن وينبغي عدم التعرض لها أو مناقشتها أو الإيمان بها كليا ..

* أود أن أشير إلى لمحة جميلة حول الزمن وعلاقته بالمسلم على وجه الخصوص :
نحن ـ المسلمين ـ أوقاتنا متوحدة مع الصلوات الخمس ، خمس صلوات كفيلة بتنظيم يومنا كله ( الفجر / الظهر / العصر / المغرب / العشاء ) هذه الصلوات على حسب مفهومي درج زمننا على الترتيب التسلسلي تجاه وقائع الأفعال التي تمارسها على دوام في زمننا الخاص ، ومن خلالها كذلك تتفاوت نسب احترامنا له ، فأنا لا استطيع أن أواصل نومي من الظهر حتى المغرب ؛ لأن ثمة فاصل بينهما يستدعي مني القيام به وهو صلاة العصر .. من هنا يأتي مفهوم الاحترام .. الشخص المحافظ على صلواته لا تشوب زمنه شائبة الفوضى .. هذا والله أعلم ..

أشكر الأستاذ ( محمد الغساني ) على الالتفاتات القيمة التي أشار بها عن الزمن وبعضها تعرفت عليها لأول مرة من خلال وجهات النظر المتباينة ، ويسرني أن استقبل كافة الآراء والتعليقات ووجهات النظر حول هذا الموضوع برحابة كبيرة ..

الاثنين، 19 أكتوبر 2009

اقتناص




ما أكثر الأهداف التي أريد اقتناصها ..!

السبت، 17 أكتوبر 2009

أفوكادوا تارة أخرى


أفوكادوا تارة أخرى

16

لا أدري لم خطر ببالي أن أرتدي ملابس خضراء .. ؟

وطلبت أيضا طبقا من السبانخ مع عصير أفوكادوا الذي أصبح مشروبي المفضل بعد إعلان أوبرا ..
لا أنكر ميلي في الفترة الأخيرة للون الأخضر بالمعنى الأدق هجومي عليه ، ولأني امرأة فضولية ..

ليس كثيرا ، لنقل بحدود بل فضولي يدور في دائرة " أناي " فقط ..
ولا أزعج الآخرين به قط .. لنعد إلى اللون الأخضر.. هذا اللون الذي يذكرني بالضفادع التي أحبها ..

ويذكرني بالعشب الطري حين كان أخي الصغير يسقيها ببوّله في الحدائق العامة ..
ويذكرني بجدتي ـ يرحمها الله ـ التي كانت تحب هذا اللون كثيرا ،
يذكرني بأطباء الجراحة وهم بمعاطفهم الخضراء ..
يذكرني بأشياء كثيرة ولو عددتها عليكم فلن أنتهي حقا ..
فضولي قادني إلى المكتبة ، فاقتنيت كتابا عن علاقة الألوان بشخصياتنا ..
ربما هذا الكتاب مصدر مهم جدا لي ؛ لأنني من النساء اللواتي يضجرن إبرام علاقة متوحدة مع الألوان

بل يملن للتغيير حسبما يقتضيه مزاجي الداخلي ..
والأخضر لون غني بالراحة والدفء .. بل أجزم أنه لون يفجر فينا أشياء كثيرة ..
ومن أروع ما قرأت على تأثير اللون الأخضر تلك التجربة التي أجرتها " لندن " على جسر " بلاك فرايار "

الذي يعرف بجسر الانتحار إذ تقع أغلب حالات الانتحار من فوقه ، فغيرت لونه الأغبر القاتم إلى اللون الأخضر ؛
فقلت حوادث الانتحار من فوره إلى الثلث ولعلها قد انعدمت نهائيا الآن أو في طريقها إلى الاختفاء ..
فإذا كان تأثير الأخضر على هذا النحو ، فإنني بدوري أنصح الأفراد خصوصا الأزواج على انتقاء اللون الأخضر

طلاء لجدران غرف النوم وغرف المعيشة ، أي معظم الغرف التي يعششون فيها معظم أوقاتهم ..
للاحتياط ليس إلا ...!

الخميس، 15 أكتوبر 2009

يا طلقة الرحمة ..!



يا طلقة الرحمة ! / يجي بوترامنت *


ترجمة : عدنان المبارك


( غير ممكن ان يلحقوا بي الأذى ). قالها بوكاتسكي حين وصلوا الى المكان. كانوا سبعة عشر شخصا في الزنزانة.
وما قاله ميّزه ، بصورة ما ، عن الآخرين. وهل كان ذلك ما يقصده؟. في كل الأحوال فعل الكثير لكي يزيد من هذا التمايز. مثلا لم يرد الجلوس. كانت الزنزانة مخصصة لسجين واحد. وفي أزمان ما قبل الحرب كان هناك سجينان فيها أحيانا.

أراد الألمان توسيع المكان لذلك رموا السرير والمنضدة والكرسي ، وصار الجالس يشغل حوالي نصف متر مربع.
وهكذا لم يقدر الجميع على الجلوس في آن واحد. حددوا أدوار الجلوس. وعندما أخبروا بوكاتسكي بأن دوره قد حان ، نظر بإستغراب الى القائل ثم الى الأرضية السمنتية الملطخة بوحل الخريف ثم الى بنطاله الجديد ذي اللون الرمادي الغامق ، وهز كتفيه. ( أتركوه ./ قال صوت قرب النافذة / غدا سيرجونا من أجل المكان ).

علت أسارير بوكاتسكي إبتسامة باهتة كانت تعني بلاشك : غدا سأعود الى المدينة. لم يناقشه أحد. كان أول من وقف قرب الباب. وطيلة الوقت كان يرفع ، بجهد، رجليه بالتناوب.( غير ممكن أن يلحقوا بي الأذى ). كررالكلمات بإصرار ، وهذه المرة ، مخاطبا نفسه. وفي الليل أدرك أن كلماته تعني الآن شيئا آخر يختلف عما كان في الليلة الماضية أو عند الدخول الى الزنزانة
أو حين اخذوه. وهكذا كبرت الكلمات. التفتيش ، الإعتقال ، الحبس في السجن. لغاية يوم واحد كان يؤمن بصورة عميقة وجادة أن هذا أمر غير ممكن ، لكن أقنع نفسه الآن بأن هذا الشيء قد حصل. وبهذه الطريقة أنقذ رأيه السابق : غير ممكن أن ... قبيل الفجر إتكأ على الباب. كان الملل قد بلغ عينيه اللتين تقافزت فيهما شرارات دم صغيرة.

لربما غفا. جاءته ، فجأة، رؤية قنبلة ساقطة ودوي وألم. فتح عينيه . وجد نفسه مطروحا على الأرضية ورأسه قد إستند الى الباب الحديديي .فتح الباب قبل أن يستعيد وعيه تماما ، وإلتمع ضوء ثم الألم مرة أخرى. أحدهم ركله مرة ثم اخرى. قفز و قد أعشى الضوء عينيه ، ثم اغلق الباب. جلس هناك مذهولا وليس حانقا. وبدأ يكرر كلماته بصورة آلية ( غير ممكن أن يلحقوا بي الأذى) لكن بصورة أبطأ( هذا إذا كان للأفكار أن تكون بصوت عال و آخر خفيض )، فرفسة الحارس أعطت مضمونا جديدا لهذه الصياغة اللغوية.
بإمكانهم أن يعتقلوه و يلقوه في السجن و يضربوه إلا أن كل هذا لاشيء أزاء أمر واحد كانوا قادرين على أن يفعلوه. لكنهم لم يفعلوه. ولم يذكر إسم هذا الأمر. ومضت أسابيع عدة.

القضية ما زالت عنده بالصورة المذكورة . وهكذا إستمر سقوط بوكاتسكي المحامي المعروف والموظف في قوم يسارية المنطقة ، المواطن الهاديء والمحترم والذي أصبح في أثناء يوم واحد، من دون سبب ، سجينا ومضروبا ومعرّضا للجوع. بالرغم من أن السقوط عميق وعنيف لايزال الرجل واقفا على قدميه . لقد آمن تماما بفكرة عدم المساس بشخصه.

لذلك تحمل الجو الخانق في الزنزانة، والقذارة والطعام الذي تفوح منه رائحة لفافات الأرجل ، والنوم جلوسا وهو يسند الرأس على الركبتين ، والرفسات وضربات الحراس. لقد وافق على حياة السجن الفظة ، حياة القذارة والجوع. ففي هذه الصياغة الكئيبة ثمة كلمة واحدة هي ذات طاقة منيرة ودافئة: الحياة. كانت الأحاديث تجري في الزنزانة وحتى أنه جرت نقاشات ، همسا بالطبع ، وكان هناك إثنان أو ثلاثة عرفوا كيف يمنحوا الهمس لهجة خطب الإجتماعات.

في البدء كانت مادة الحديث ما سينتظرهم . عامل السكك ذو انف كالمنقار وعينين حمراوين قال جازما بأنهم سيعدمون الجميع. الأكثرية إعترضت ، وكانت حججها مضحكة الى هذا الحد وذاك ، ومن نوع : هذا الشيء لم يفعلوه عندنا. اما في وارشو فهذا موضوع آخر. وعلت إبتسامة متجهمة اسارير عامل السكك. بوكاتسكي كرهه. وهو لم يشترك في النقاش لكنه إستمع بإنتباه الى كل ما قيل. لم يفقه عقل رجل القانون السبب في إمتناع الكل عن طرح مثل هذا البرهان القاطع كما يبدو : إنهم لا يلحقون بنا الأذى ولأننا لم نلحق الأذى بأحد. وكان يفكر بعامل السكك من خلال منظار الكراهية.

فهذا الرجل قام بلاشك بفعل يحاسب عليه ، والآن يجلس في زنزانتهم وذنبه يسقط كالسخام على الحاضرين أجمع . معلوم أن الألمان منتقمون. و جاء الوقت الذي أخذت فيه الأحاديث تحتضر ، فالمتناقشون صاروا قليلي الكلام . أما بوكاتسكي فعلى العكس . فقد غدا ذلك الشخص الذي لديه المزيد من القول. و أثناءها حدثت عدة أمور كانت تبدو كأنها لاتمت بصلة الى الحالة الراهنة و الأخرى المقبلة. إلا أن كل واحد شعر بشيء غامض بدأ يكبر ويثير القلق. للوهلة الأولى كانت تلك الأمور تبشر بالخير. ففي منتصف تشرين الأول لوحظ أن الحراس كفوا عن إقتحام الزنزانة وضرب السجناء و إطلاق الشتائم عليهم بسبب ضجة يثيرونها ومهما كانت خافتة. حتى أن عامل السكك قام بتجربة : دوّى صوته المبحوح من كثرة الهمس ، في الزنزانة كلها : تبّا لكل شيء. توجهت الأنظار صوب الباب .

بوكاتسكي القى نظرة مسعورة على العامل ، فهو يقف عند الباب و يتلقى الضربات على الغالب . أما جاره ، وهو موظف صغير في مجلس البلدية فقد حشر نفسه مختبئا بين أجساد السجناء. لكن لم يأت أحد. و ضحك عامل السكك منتصرا. و بعد الضحكة لم يحصل شيء أيضا. وهذه الضحكة جعلت الجميع يجمدون. ولم يعرف السبب.

بعدها بنصف ساعة تفوّه بوكاتسكي الذي لم يتحمل هذا الصمت الطافح بالمضمون المقلق ، قائلا: وماذا بعد؟ . لم يجبه أحد ولم ينظر إليه أي أحد أيضا، حتى عامل السكك لم يبد أيّ رد فعل صريح وساخر كالعادة. بعدها ببضعة أيام إستدعوا الموظف الصغير . عاد بعد ساعة و قبضتا يديه ملمومتان بقوة. أراد ان يخفي إرتعاش الأصابع. ثم جلس بجهد كبير أمام بوكاتسكي الذي كان قد إنتهى دوره في الجلوس. شعر أن يديه أخذتا ترتجفتان أيضا.

إستند الى الجدار بكفيه. ولخمس دقائق بذل جهده لكي يواصل الوقوف بهذه الصورة. إلا أنه خرّ الى الأسفل وهو يدفع من كان واقفا الى جواره. وجد نفسه جالسا جنب الموظف. أزاح برأسه سيقان الواقفين. وإقترب منه. نظر في عينيه. وكان الظلام قد خيّم. و نظر الموظف إليه أيضا. كان أكثر هدوءا وضعفا: / ماذا جرى هناك. لم يجب. كانت نظراته تكشف عن نفور و إمتعاض من هذا السؤال.. غير اللائق. / إنهالوا بالضرب ؟ ومرة اخرى كان النفي صمتا ولايخلو من الإستياء. / إذن مابك؟ مضت عشر دقائق ، ربما ربع ساعة ، حرّك الموظف بعدها رأسه ثم أخرى كما لو أنه قد إستيقظ في هذا الجو الخانق المعتاد وبعد أن إستنشق هناك هواء الأرض النقي. ألقى نظرات واعية وبدأ يهمس : / لا أعرف السبب في إستدعائي. سألوني عن إسمي ومهنتي ثم أمروني بالإنتظار. وبعدها أعادوني الى الزنزانة. / وهذا كل شيء ؟ إذن لم أنت مهموم؟ قد يطلقون سراحك. فأنت لم تفعل شيئا، مثلي والجميع.

جلس الموظف صامتا من جديد. بعد ربع ساعة بدأ الكلام : في الباحة مرّ ألماني. أحد رجال الأس أس. كان يقف مفتوح الساقين وفي يده قرباج يضرب به حذاءه الطويل بلا إكتراث. كان على الموظف الصغير ان يمر بجنبه. إذن نكس رأسه بإنتظار الضربة. / وماذا بعد؟ / لا . لم يضربني . حتى أنه لم يطلق ولو شتيمة واحدة ، حتى...

والظاهر أن هذه ال(حتى ) كانت ذا معنى كبير ومؤثر، فقد سكت مرة أخرى. / حتى أنه إبتسم لي . وفي الأخير نطق بهذه الكلمات. / إذن ماذا تريد ؟ / نطق بوكاتسكي مستغربا / من أيّ شيء أنت خائف؟ تمسّك برباطة الجأش. أعصابك منهكة. ( شفاب ) "1" القى بنظرة إحتقار عليك وها أنك منهار القوى. هز الموظف رأسه بالنفي : / لم يكن إحتقارا البتة بل ودا وإمتنانا. إبتعد بوكاتسكي عنه بصورة غرزية. ففي هذا الحديث كان يجري تحت السطح المفهوم والمنطقي تيار مظلم له منطقه الخاص والمفحم والغريب عن العالم الإعتيادي. بدأ بوكاتسكي يشعر به.

عرف بأنه يفند كل الحجج التي كان يطرحها بمثل هذا العناد في السجن. وبذل جهدا في الدفاع عن نفسه في أن يبقى في دائرة المفاهيم الطبيعية حيث إثنان زائد إثنين تساوي أربعة ، حيث النهار مضيء والليل معتم. قال بصعوبة وهو يكذب على نفسه: / ألماني إنسان. بينهم يوجد مثل هذا ولو نادرا وحتى في الأس اس. فأنا عملت في قوميسارية المنطقة و أعرف ألمانا كثيرين. صحا الموظف تماما . نظر الى بوكاتسكي ثم تكلم. وهذه المرة بصورة طبيعية: / قد تكون محقا إلا أن لدي إنطباعا آخر. نظر إليّ وإبتسم . إبتسامة دافئة وودية. لكن لا ، لا!. أنت قلت : ألماني إنسان. لا. الإنسان لاينظر الى الإنسان بهذه الصورة. كانت نظرته..

لا أعرف كيف كانت. النجّار القديم حين يرى بعد بطالة طويلة قطعا من خشب البلوط يفكر بهذه الصورة : أنشرها و أصقلها و أنجرها. إن قطعة الخشب هذه قريبة من نفسه. كان ينظر إليّ كما لو أنني إذا رجوته للبى الرجاء . كأن يعطيني سيجارة أو خبزا . كان ممتنا لي لأنني كائن و أحيا و أنني موجود هنا... لم يحتمل بوكاتسكي الأمر لأمد أطول. كان التيار الخطر و اللامعقول والمنطقي في لامعقوليته قد قوّض مخبأه الروحي ( غير ممكن ان يلحقوا بي الأذى ). صرخ في البدء لكن سرعان ما أصابه الذعر فإنتقل الى الهمس الشبيه بالفحيح: / هراء. غير ممكن أن يلحقوا بي الأذى. ماذا ؟ هل قاتلناهم ؟ قتلنا أحدا ؟ نسفنا القطارات ؟ حرقنا المستودعات ؟ لم نفعل شيئا ولن يفعلوا شيئا بنا...

نهض بصعوبة ونظر الى الاخرين. كانت رؤوسهم متدلية عدا إثنين أو ثلاثة إختلسوا النظر إليه. لم يأخذوا حججه التي كانت بيّنة ومقنعة تماما. نظر الى عامل السكك. وقطع هذا الوجه المكفهر عليه خطبته فجاة. إختنقت الكلمات في حنجرته ، وبدأ يفكر بدل الكلام. وهكذا إنتقل من صيغة الجمع الى المفرد ( لم أفعل ... ولن يفعلوا بي شيئا...).

ومنذ إنفجر مرات عديدة كلما جاءت إشارات جديدة توميء الى النهاية المقتربة والمحتومة. أطلق خطبا كاملة عن ن أغاظته سلبية السامعين فطفق يتكلم همسا عن الثقافة الألمانية بادئا بإيرازموس الروتردامي إلا أن كلامه لم يؤثر فيهم. في الأساس لم يتوقع هذا الشيء . فقد كان يخاطب نفسه وكان يقينه التام الذي زعزعه مجرى الأحداث بحاجة الى سند متزايد القوة. كان يتشبث بكل سند. هل هناك نفع من ذلك؟. لحد ما . رغم أنه بدأ يفقد تدريجيا ، الإيمان بصيغته السحرية ( غير ممكن أن يلحقوا ...) التي أعانته خلال بضعة أسابيع تالية ، على طرد الأفكار عن الموت والتي تهاجمه من كل الجهات.

و الآخرون جرفتهم هذه الأفكار.. أحدهم صلى طوال اليوم ، و آخر نحب خفية وثالث كان يفكر بصورة محمومة بالهرب أما الأكثرية فكانت تنتظر الخاتمة بقوى خائرة. لم تتوقع أيّ شيء. إلا أن بوكاتسكي بقي ذا طراوة نفسية لحد ما حتى اليوم الأخير. فرائحة الموت التي سرت في نفوس هؤلاء الناس كإفيون ثقيل يجرّدهم من قواهم ، لم تصله بعد. إلا أنها نفاذة أكثر فأكثر كلما إقترب اليوم الأخير. وفي أحد الأيام فتح باب الزنزانة . دخل الحارس وأمر الجميع بالوقوف.

في الممر أمام الزنزانة وقف رجل بلباس مدني. وبصوت ينم عن الضجر سأل هل هناك من يعرف الألمانية. بوكاتسكي إندفع متطوعا, نظر الرجل إليه ببرود و أمره بترجمة بضع كلمات كان معناها بسيطا: كل السجناء إرتكبوا جريمة نكراء ضد السلطة الألمانية إلا أن الشعب الألماني يمنحهم فرصة لغسل الذنوب وهي أن يعملوا لخيره. ومن يظهر الإرادة الحسنة يمكنه توقع الشفقة أما الذي يحاول الهرب أو يظهر ولو أقل قدر من العناد فمصيره الموت.

نطق بوكاتسكي بهذه الكلمات وهو يلقي على الجميع نظرات الإنتصار. إذن رغم كل شيء كان الحق معه. ولم يدرك أن هذه الكلمات تفند أقوى الأسس في حججه(... غير ممكن ...لأنني لم أفعل...). ولم ينتبه الى السبب بل الى النتيجة. إذن الأشغال الشاقة ، السخرة ، المؤبدة. لكن ليس .. ليس ذلك الأمر الذي كان الجميع يفكر به. ومرة أخرى لم يذكر إسم هذا ( الأمر ). اخرجوهم من الزنزانة. مضوا أزواجا عبر ممرات السجن.

كانوا صامتين. الحراس وبنادقهم الرشاشة على بطونهم يدورون في المكان مثل الكلاب حول قطيع الخراف. و أطلقت البوابة صريرها ثم خرجت مجموعات جديدة من الزنزانات الأخرى . وفي الباحة كانت تقف شاحنات كبيرة. كان اليوم باردا. الزنزانات كانت باردة أيضا. زنزانة قديمة عطنة ومتفسخة كما الوحل المخضر. كانوا يتقون البرد بالتراص وتنكيس الرؤوس بين الأكتاف. كل واحد كان يهاجمة البرد بغدر.

وكانت الغيوم المعلقة واطئة ، والضباب وصل الأرض حادا. قطرات ماء صغيرة إستقرت على الوجوه التي نسيت عادة الغسل. بدأت الأسنان تصطك و الأصابع ترتجف. و صعدوا السيارات بصعوبة بالغة عبر قنطرة عالية. حشروا أكثر من اربعين شخصا وقفوا هناك مثل أوراق التبغ المصفوفة ، بإنتظار الرحيل . و الى جنب السائق جلس إثنان من الغستابو و بندقياتهما مصوبتان نحوهم، وآخران جلسا في الخلف بعد أن أزاحا باعقاب السلاح السجناء مترا واحدا. زمجر المحرك وفتحت البوابة ثم غادرت السيارات السجن.

وتلقى بوكاتسكي وهو لايزال منتشيا بالخبر المفرح الذي نقله ذلك الرجل المدني ، بإنفعال أشد ، منظر المدينة. كان يجيل النظر بعيني من تعافى بعد مرض طويل ، وبإحساس مليء بالجد ، في الشارع الرئيسي الذي يعرفه جيدا، فهو يمضي عبر خط مستقيم من الأسفلت صوب الأسفل، بيوت ذات طوابق قليلة العدد، كنيسة الأرثوذكس على اليسار تحيطها أشجار الحور ، والساحة الرئيسية . وهنا شعر برعشة خفيفة. نظر الى اليمين . فعلى اليسار كانت ساحة صغيرة لم يرد النظر إليها . هناك نصب الألمان مشنقة. عبروا الكنيسة الحمراء اللون والمبنية على الطراز الغوطي المقلد ثم الجسر الصغير وخطوط السكك. توقفت السيارة قليلا. احس بوكاتسكي فجأة بأن أحدهم يلكزه بركبته من الخلف.

أراد أن يلتفت إلا أن لكزة أقوى محذرة جاءته. سمع قرب أذنه همسا: / لنهرب . إنهم ينقلونا الى ( بياوا ). حاول أن ينظر الى المتكلم . كان مدهوشا ولم يفهم شيئا. رأى بطرف عينه خدا مجدورا . كان عامل السكك . وسرت رعشة باردة في ظهره ولم يعرف سببها، أهو الجوار مع هذا الإنسان غير اللطيف أم معنى كلماته المبهم لكن القائم. إذن الى ( بياوا ). ثم ماذا؟. ولم يجادله العامل. / إهرب !. همس مرة اخرى بصوت خفيض لم يسمعه بوكاتسكي في الواقع بل شعر به. بعدها أخذ ببطء وحذر ، بضع سنتمترات بعد أخرى، يقترب من مؤخرة السيارة .

تحركت السيارة مستديرة بعنف الى اليمين. ترنح الناس و إضطربت الحركة . عامل السكك صار قرب المؤخرة. وقف لدقيقة يجيل النظر في البيوت الصغيرة و الأخرى البائسة و أشجار الخريف العارية. وفجاة قفز الى الأرض وهو يصرخ / إهربوا ، غنهم ينقلوننا حيث الموت !. ضربت الصرخة السجناء وهم في مخاوفهم و آمالهم. بضعة أشخاص قفزوا الى الأسفل ، و صنع دوي البنادق السريعة بلمعانه الساطع جدارا من نار الى الأمام والخلف، وكان يصفر ويرتجف فاصلا إياهم عن الأرض. سجين ذو شارب تاخر قراره لثانية واحدة حاول القفز إلا أن الطلقات حصدته وتكوّر على الأرض. الأوائل أخذوا يركضون وهم يخفون رؤوسهم. الى اليسار كانت هناك مقبرة صغيرة. وبقفزات كبيرة توّجه عامل السكك صوب سورها ثم إجتازه و إختفى.

وكان شريط من طلقات البنادق السريعة يصفر على شواهد القبور الحجرية. ولم يروه أبدا. ربما كانت النجاة من نصيبه. إستلقى الآخرون في الشارع تحت الأسوار. توقفت الشاحنات الأخرى أيضا. بضعة حراس قفزوا منها و أخذوا يطلقون النار. إمرأة نظرت من نافذة بيت في ركن الشارع . إنهمر الزجاج المطحون.

إختفى الوجه وتساقطت أزهار البيلاركونيوم الهزيلة. و آخر إنسل وقام بقفزة لاتصدق فوق سور عال ثم إختفى . و إستمرت الحال نصف دقيقة. وعلا صفير حاد. عاد الحراس اللاهثون الى السيارات التي واصلت طريقها. وفي الشارع بقيت بضع جثث. و الآن وصل الرعب الى بوكاتسكي . فحين فاجأته النيران قبع على أرضية السيارة. شريط النار الذي أصاب الرجل ذا الشارب مرّ قرب وجهه وخيّل إليه أن الشريط أحرق جانب الوجه. وعندما تحركت السيارة أدرك فجأة بأنه جابه الموت مباشرة. وهذه الفكرة شلته تماما وعجز عن النهوض.

جلس على الأرضية تدفعه أرجل السجناء المترنحين. بدأ يعمل جهاز تفكيره الذي أوقفته الحوادث المفاجئة . ادرك بوكاتسكي العواقب المفزعة لفعلة عامل السكك. الألمان منتقمون. وكان بإمكانهم أن يقتلوا الباقين جزاء هذا الهروب. بإمكانهم؟ كلا. اكيد انهم سيقتلوننا. شعر بأن شفتيه باردتان مثل قطعتي جليد. نهض بصعوبة. و إتسعت حدقتاه ، فمنظر الشارع الرمادي اللون من تشرين الثاني أصبح في عينيه بألوان مكثفة إلى حد لايصدق. توقف تفكيره عند هذا الإستنتاج البسيط. و لم يفكر بأي شيء ولم يشعر بالنفور من عامل السكك ولم يتدارس فرصة النجاة.

وقف ونظر. صار الشارع الموحل المكسو بالضباب ، في وعيه ، الشيء الأجمل والأوحد والأبدي. على اليسار إنتهت البيوت الصغيرة. أسلاك السور الشائكة. وفي العمق مرتفع طيني صغير شديد الإنحدار، يبلغ سفحة بضعة أمتار. هناك مبنى طويل وواطيء ، من الطابوق الأصفر. كذلك كانت هناك بيوت أخرى. وصلوا البوابة. حارس من الغستابو ألقى نظرة عليهم وهو يكشف عن أسنانه. ربما كانت إبتسامة. قرب المبنى وقفت السيارة. أمروهم بالنزول. الطين كان منزّا. وهناك حفرة عميقة ترابها الى جانبها. وكان قد تشبع بالمطر وصار يلتصق بالأرجل.

وقفت هناك ثلاث سيارات أخرى . دفع الحراس الجميع في كتلة واحدة. ومرة اخرى جاء الرجل ذو اللباس المدني. نظر الى بوكاتسكي وامره أن يترجم. ( حاول بضعة مجرمين الهرب. لقيوا حتفهم. هناك شكوك بأنهم كانوا على إتفاق مع الباقين. في الواقع كان من الواجب قتل الجميع إلا أن الرايخ الألماني رحيم). تلعثم بوكاتسكي عند الجمل الأخيرة وسكت لثوان لكن نظرة حانقة من ذلك الرجل أنهت صمته. إذن البقية مصيرها الأشغال الشاقة. لكن قبلها عليهم أن يغتسلوا( أشار بيده الى المبنى الواطيء) و يخلعوا ثيابهم هناك ( وهذه المرة أشار بيده الى مبنى خشبي صغير). بدون حماقات و إلا لايمكن الإعتماد الى حد أكبر على التساهل الألماني. هجم الحراس على الحشد بضربات ماهرة من أعقاب البنادق.

صار شكله مستطيلا كأنه طابور طويل مزدوج. وصدر الأمر بالتوجه الى المبنى الصغير. وجد بوكاتسكي نفسه بجوار الموظف الصغير. مضى سعيدا . فهذه الأرجوحة العنيفة للحياة والموت حرمت ذهنه من كل حالات الوعي الفائق . ولم يعرف إلا شيئا واحدا وهو أنه حي. وهذه العودة الى الحياة جاءت بعودة العادات التي كان قد نسيها قبل بضع دقائق. سار في الوحل. وبصورة تلقائية أخذ يتفاداه لكي لايلطخ حذاءه ، وحتى أنه شعر بالبرد. كان المبنى صغيرا وقذرا.

حشروا فيه حوالي عشرين إنسانا. البقية دفعوها في العمق . أمروا الأوائل بخلع الملابس كلها . غمغم الموظف الصغير بكلمات ما ، ببطء. الناس يخلعون ملابسهم التي تمزقت و إتسخت في السجن . نظر الحارس الى المبنى ، وزمجر فيهم كي يسرعوا. الأحذية التي بقيت في الأقدام بضعة أسابيع خلعوها بصعوبة . كانوا يتأوهون. أحدهم اخذ ينطق بالدعاء بخفوت. سرت الرعدة في بوكاتسكي . ما الذي جرى له ؟ أهي ...؟.

وكان الموظف الصغير أول من خلع الملابس . كتفاه نحيلتان ومحدودبتان ، بطن مجعدة بدون هيئة. كان يرفع رجلية بالتناوب وهو يصرف أسنانه بفعل البرد ، وغطت جسده نقط صغيرة بلون القرمز. كان ينظر نافد الصبر الى الباحة. وفجأة تراجع الى الوراء وهو يصرخ: / إنه هو !. لم يفهم أحد كلامه. فمن هذا ال( هو ) ؟ لكن الكل أدرك ما المقصود. وهو أمر غريب وفظيع اأهم لم يولولوا ولم يبكوا. وقفوا للحظات من دون حراك ينظرون الى الموظف. وبعدها إنحنوا بصمت وفكوا أحذيتهم. خلعوا ملابسهم الداخلية بصعوبة كبيرة. فالإفيون شلهم بصورة مميتة حين كانوا في الزنزانات ولم تكن هناك حاجة الى خطبة الرجل المدني قبل خمس دقائق. من إستطاع ومن قاوم الإفيون قتل أو هرب مع عامل السكك ، عدا بوكاتسكي الذي لم يقاوم الآن، بعد الصدمة الأولى ، فضولا يائسا.

فقد نظر من خلال الباب الى الباحة. ومن صرخة الموظف توقع أن يرى ، ومن يدري كيف هو ، الموت حاملا منجله ، شيطانا ، وحشا ما غير بشري، إلا أنه شعر بخيبة لامعنى لها. ففي الباحة كان يدور الحراس و بضعة ضباط و ذلك الرجل المدني وواحد بلباس الأس أس. كان المدني يعنف الحراس. السبب هو بلاشك عامل السكك. كان يهددهم بالمحاكمة. ثلاثة عسكريين وقفوا أمام الحفرة وهم يتجادلون حول سعتها.

وبدا المشهد في عيني بوكاتسكي عاديا لحد الضجر. إلتفت مغتاظا الى الموظف وسأله بتجهم كما كان الحال حينها في الزنزانة: / من ؟. كان الموظف يقاوم الضعف ثم إرتسمت على وجهه ملامح حادة غير معهودة. فحّ من خلال اسنانه: / ذاك من السجن. هه. ذاك من إبتسم لي . أس اس . لكنني سأريه.. لم يسعف الوقت بوكاتسكي لكي يفهم جلية الأمر. فقد فتح الباب وظهر أحد الحراس. لم يقل شيئا بل أشار بيده : أخرجوا. إحتشدوا عند الباب عراة قذرين ومقرورين لكن العرق يتصبب من وجوههم. مرّت ثانية وأخرى و لا أحد قرر أن يكون أول من يخرج. تدافع من الخلف رجل متقدم في السن يغطي الشعر صدره. الموت المعلق فوق الرؤوس جاءه بشكل غير مألوف من الجرأة. إبتسم وتقدم بشجاعة وأناقة غليظة قائلا : أيها السادة. لقد طال خلافكم .إذا سمحتم .

بحكم السن لي الأولوية. دفع الكل وخرج. سمعوا صراخ الحارس : / هيّا هرولوا!. قفز الثاني. دفعوا بوكاتسكي. رأى الحراس والعسكريين يقفون في صفين متقابلين ينتهيان عند الحفرة وليس عند ( الحمام ). الأول سبقهم ببضع خطوات. قفزوا وراءه وسط صراخ الحراس وتحت ضربات هراواتهم المطاطية. أمام بوكاتسكي ركض الموظف. كانت رجلاه قصيرتين ومن المؤكد أنه لم يركض منذ ثلاثين سنة ولو عشر خطوات. وكان بوكاتسكي يهرول و يتلقى ضربات أكثر. همس بحنق ( إسرع ، إسرع). الرجل الأول وصل الحفرة.

وقف لحظة. دفعه ألماني وسقط فيها. الموظف حث الخطى فجأة ثم صرخ ( مسكتك أنت يا...) دفع الحراس المبهوتين و إخترق الصف متوجها صوب رجل الأس أس الوحيد في هذا المكان. كان هذا يسير بهدوء و البندقية الأوتوماتيكية معلقة على رقبته. وبعد ثانية واحدة كان الموظف الى جانب الأماني الذي أخذ يتلقى الضربات بقبضة معتادة على آلة العد الخشبية. راى بوكاتسكي كيف هجم العسكريون على الموظف . يدير الحراس بنادقهم .

الحفرة كانت عميقة بصورة مرعبة. يقف عند حافتها تلقائيا... يسمع الطلقة الأولى و يقفز. خلال ربع ثانية مخبولة تبدو له الحفرة المفر من الموت. في القعر طين ليّن غير كثيف. غاصت قدماه فوق الكعبين. قوة القفزة تدفع الجذع الى الأمام .يصرخ بوكاتسكي من ألم وحشي مفاجيء. أوتار القدمين المشلولتين تقطعت. ومن أعلى يسقط الآخرون. محنيين . يحلقون وحشرجتهم ذات أصوات عالية . يسقطون في الوحل على بطونهم ، على ظهورهم. واحد يرتطم بجدار الحفرة، يتدحرج و يسقط في القعر بوجه محروث مدمّى. ويزحف بوكاتسكي الى الركن المقابل. أصابه الرعب من أن يسقط احدهم و يهشم وجهه برجليه. من الأعلى يسمع صراخ حاد. دوي قصير الأمد للبندقية الأوتوماتيكية. لا أحد يقفز الآن .

فوق الحفرة يظهر الرجل المدني. يلقي نظرات متفحصة على الهيئات العارية التي تتلوى في الطين المنز. يدير رأسه وينادي . رجل الأس أس يأتي. إنه الآن فاقد الهدوء لحد الضجر بل هو مسعور يشفط الهواء بأنفه وقطرة دم تسيل وتتوقف عند شفته العليا. يشير الرجل المدني قائلا : تفضل!. دورك الآن. يدير رجل الأس أس بند\قيته الأوتوماتيكية ومن بطنه يقذف شريط النار تماما مثلما يرش حارس البيت الشارع بالماء. يرى بوكاتسكي كيف يتقافز ذلك الرجل ذو الصدر المغطى بالشعر. شيء رطب يلطخ وجهه. واحد يصرخ و آخر ينتفض ويتلوى. إذن هو الموت؟ هكذا هو ، بسيط وقذر وعاد. غذن هو الموت ؟. يسيطر عليه الان هلع حيواني. لا يفكر ابدا في هذه اللحظة. لايتصور أيّ شيء. غريزة فظيعة في بساطتها لكنها أخرى غير تلك التي عند الحشرات والأميبيا والزهور من نوع الحيوان ، فهي تأمر جسده الهامد ، تدفعه لكن الى أين ولأي غرض ؟ ومن أين على الغريزة أن تعرف.

و يغطس في الوحل تحت جثث الجيران التي بردت. يرقد هنا ملطخا بالطين الصبخي لاهث الأنفاس ينتظر طلقة ما ، على الفور.. تخترق جلده وتمضي أعمق ، تحرّك القلب ، وتأتي النهاية ، كارثة كونية ما ، غير ممكنة التصور في فظاعتها . لكن تمر ثانية، ثانيتان ، عشر ، اخذ يشعر بالإختناق.

يدير رأسه ويزيل الطين عن فمه ويكرع الهواء الحاد والنتن. ها أن دقيقة قد مرت. لا طلقة هناك. إذن هي النجاة ؟ هناك الآن شكلان للوعي عنده. لاغيرهما. الخوف من موت فوري. وشيء معاكس أيضا. إذن أنقذ نفسه؟. أخذ يصيخ السمع. ماذا يحث فوق؟ نجوم بعيدة حمقاء ، غيوم تشرين الثاني المعلقة على إرتفاع بضع مئات الأمتار ، وحافة الحفرة التي هي بعيدة بخمسة امتار. كل شيء الآن بالنسبة له هو الأعلى. صرخات ما. وعلى خلفية النجوم يبدو وجه رجل الأس أس. بوكاتسكي يغمض عينيه كالخنافس التي أصطيدت و يتظاهر بأنه جثة. صرخات ثم يسقط احدهم. وجبة جديدة تتهاوى.

واحد يسقط عليه. بوكاتسكي يصرخ من الألم. يكتم الصرخة كي لا يلحظوه. مرة اخرى ياتيه تشنج الخوف الفظيع: سيطلقون النار ثانية. يدفن نفسه في الطين تحت الجثث و يغمض عينيه بقوة ، أخذ يصلي : أيها الرب المقدس ، الجبار المقدس ، الخالد المقدس ، مريم المقدسة ، يوسف المقدس . ولايعرف نيّة الدعاء: هل يتوسل من أجل النجاة أم لكي لا يسمع أصوات البنادق. من سقط عليه أخذ ينتفض ويتلوى في تشنجات الإحتضا. شيء حار يسيل على ذراعه. دم . وعاد السكون ثانية. إذن انقذ نفسه مرة أخرى؟. يرفع رأسه وهو غير مصدق حظه الذي هو الأكثر غرابة في العالم !. إذن هو موجود ، إذن يحيا. وفي قعر الحفرة تكدست الجثث.

في كل مكان جثث فوق بعضها بعض. وفي الركن يحشرج محتضر وفقاعات وردية اللون تتقافز من فمه وتنفجر ، وخيطان رفيعان يجريان من زاويتيه على الخدّين. وتدوي الصرخات مرة أخر. ويقفزون. ومرة أخرى سيطلقون النار. بوكاتسكي يصم أذنيه ويختبأ تحت جثث لم تبرد بعد. و يأخذ بالهتاف العالي كما لو أن النجاة لمرتين قد شجعته على ذلك: أيها القديس أنطون ن، أيتها القديسة يادفيغا "2". ولم يرد أن يسمع البنادق الأوتوماتيكية. لم يسمعها. لقد نجا. وتكررت النجاة مرات عدة. ورقدت فوقه طبقة سميكة من جثث المعدومين. شعر بثقلها.

إفتقدت رئتاه المضغوطتان الى الهواء. وكان آمنا تحت الجدار. حينها كتب عليه أن يجرّب أشد عذاب. أدرك بأنه نجا من البندقية الأوتوماتيكية . ليس الأمر صدفة أو أن الطلقات كانت طائشة بل هذا يقين. فطلقة البندقية لا تخترق بضعة أجساد . إن الموتى يدافعون عنه. بدأ ذهنه يعمل حين تخلص من الخوف الحيواني . وماذا بعد ؟. لماذا لم يجنّ ؟ لماذا لم يشل الخوف آليات المخ؟. وعرف ماذا بعد... الموت بقسوته التي يعجز وصفها، الموت حين يدفن حيّا.

رأى مستقبله فجاة. أدرك أن ما كان يخشاه أكثر من غيره أصبح الآن منقذه الوحيد. البندقية الأوتوماتيكية. الطلقة. إستند على يده و أراد رفع جسده. سقط من جديد تحت ثقل الجثث التي تفصله عن النجاة. صرخ ، أنا هنا. أطلقوا النار. وأدرك أن هذا الأمر عبث لاطائل من ورائه. بدأ يتحرك طلبا للخروج ، وكان يلتوى وسط الجثث الزلقة بفعل الوحل والدم.

كانت خائرة لم تنتفخ بعد مما سمح بإزاحتها عن طريقه. وبعد دقائق اخرج راسه وبدأ الصراخ من جديد. كان رجل الأس أس يقف عند حافة الحفرة ، هادئا الآن ، فهجمة الموظف الصغير عليه والتي أثارت أعصابه قد أسكتها بإطلاق النار الإعتيادي. عندما سمع صرخة بوكاتسكي إلتفت ونظر إليه. و بعدها غستدار غير مكترث. مجموعة جديدة . شريط نيران جديدة. أبدل رجل الأس أس الملقم الفارغ في رشاشته بآخر قدّمه له أحد الحراس بكل همّة. نظر مرة أخرى الى بوكاتسكي. وجده لايزال حيّا. رفع حاجبيه بدهشة لا تخلو من الود. وهكذا بدأت اللعبة.

سقطت جثث جديدة و إنطلقت أشرطة جديدة من النيران و أبدل رجل الأس أس الملقم. بوكاتسكي ما زال حيّا. الألماني أبقاه حيّا عن عمد. و غقترب من الحفرة بضعة ألمان أدركوا الموقف بسرعة ولم يبخلوا على رجل الأس أس بإبتسامات المديح و الأقوال. أما بوكاتسكي فقد جن جنونه. وكل بضع دقائق كان يخرج من طبقة جديدة من الجثث والمحتضرين سالما حيّا أكثر من ذي قبل. أدرك بأن الآخر يتسلى. رجاه ، توسل ، صرخ ، أنزل اللعنات. وصلى.

وفي الأخير بدأ الجنون المنقذ يفتح الطريق أمام الوعي. أخذ كلامه يتلعثم. صرخ : أعطني الطلقة !. وصلى: أيها القديس يوسف جئني بالموت!. اخذ ينادي بصوت ليس من هذه الأرض، غير بشري: / يا طلقة الرحمة ! ياطلقة الرحمة!. و أبقاه رجل الأس أس طويلا في العالم. ثم نفد صبره بسبب تعابير الدهشة السوقية التي تعود الى روح الإبتكار والفكاهة لديه ، والتي لمسها حشد الحراس الكبير. إنتفض مستاءا. ولكي يغيظهم أطلق أكثر من دزينة من الرصاص في فم بوكاتسكي الفاغر والذي كان يصرخ من أجل الموت. رغم أن الدوافع لم تكن في تلك اللحظة إنسانية إلا أنها كانت من الناحية الموضوعية رحمة بلاشك . وكرحمة ستذكر لصالحه.

"1" شفاب هو إسم مدينة بافارية يطلقه البولنديون على الألمان بدافع الإحتقار.

"2" قديسة بولندية من القرن الثالث عشر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* يجي بوترامينت ( 1910 / 1985 )


كاتب و شخصية سياسية معروفة تتمثل حصيلته الأدبية بكثير من المجاميع الشعرية والقصصية والروايات وغيرها. وكان معظم ما كتبه مكرسا لفترة الحرب و الإحتلال النازي. وكان بوترامينت يرى ، وفق منظوره الماركسي ، الإنسان كجزء من عمليات التأريخ الكبرى مما يفسر إعطاءه للطروحات السياسية المكان الأول في تأليفه. فالتاريخ يتكشف في مؤلفاته من خلال السياسة ونزاعاتها ، إنها الساحة الكبرى لما يحققه الإنسان من إنتصارات وما يلحق به من هزائم. و في أدب بوترامينت تكتسب الأفكار شكلا سياسيا ، كذلك يكون التاريخ عملية على الإنسان أن يعرف أسرارها كما الحال مع عناصر الطبيعة. إلا أن التأريخ ليس عملية عشواء بل تتحكم بها قوانين معيّنة يكون التعرف عليها الشرط الأساسي للتوجه الروحي في العالم. وفي عام 1952 نشر بوترامينت روايته الضخمة ( ايلول ) التي تعد بمثابة بانوراما عريضة للمجتمع البولندي الذي فاجأه العدوان الهتلري في الأول من ايلول عام 1939. أما روايته ( ضعيفو الإيمان ) من عام 1967 فقد عكس فيها الصراعات السياسية من فترة ( عبادة الفرد) الستالينية. كذلك نشر مذكراته الضخمة المكونة من ثلاثة كتب بعنوان ( نصف قرن ) و سجّل فيها التبدلات الراديكالية التي مرت بلاده بها في فترة ما بعد الحرب .








الخميس، 8 أكتوبر 2009

سحر القُبلة



سحر القُبلة بين رومانسية الأنوثة ورغبة الفحولة


فادية عبود


القبلة درجات ، وللناس مقامات فالصديق لا يتساوى بالحبيب ، ولكن قبلة الحبيب لها دلالات ومعانٍ خاصة وفوائد صحية أيضاً .
العلماء يؤكدون أنه عندما يقبِّل الأشخاص بعضهما فإن 29 عضلة تشترك في هذا التقبيل ، وأكثر عضلة تعمل هنا هي العضلة التي تعطي للشفاه وضعية القبلة ، كما يتم حرق 12 سعر حراري في كل قبلة مما يساعد على الرشاقة . أما القلب فيخفق 150 ضربة في الدقيقة ، ويرتفع إيقاع التنفس من 13 حتى 60 ، ويرتفع ضغط الدم ويتمرن القلب كأن الإنسان قد ركض 100 متر .
اختبار نسائي ؛ لأن الرجال لا يعترفون بالرومانسية إلا قليلاً ، وغالبية تفكيرهم منحصراً في الجنس ، ولا يعيرون القبلة مشاعر رومانسية ، بل تكون بالنسبة لهم مدخلاً للجنس .


لقد كشفت دراسة أمريكية حديثة أن القبلة تختلف من الرجل عن المرأة ، حيث يلجأ الرجل إلى التقبيل كمدخلاً للمتعة وممارسة الجنس ، بينما المرأة تفعل ذلك لمعرفة ما إذا كان الرجل سيصبح شريكا محتملا لها ومعرفة مدى الحميمية بينهما.
وأتضح للباحثين القائمين على الدراسة من ستايت يونيفرستي في نيويورك أن النساء يركزنّ أكثر على القبل من الرجل.
وبحسب الدراسة التي نشرت في العدد الأخير من 'إيفوليوشيناري سيكولوجي' حسبما ذكرت صحيفة "القبس" ، فإن الرجل لا يميز كثيرا بين النساء عندما يتعلق الأمر بتقبيلهن أو ممارسة الجنس معهن، مضيفة إن الرجل مستعد لممارسة الجنس مع المرأة حتى من دون أن تكون لديه الرغبة بتقبيلها، وهو على استعداد للتودد إليها حتى لو لم ترق له.


نظافة للأسنان


التعبير عن الحب ليس الوظيفة الوحيدة للقبلة ، وإنما لها فوائد صحية كثيرة يفاجئنا بها العلماء يوماً بعد يوم .وعلى سبيل المثال لا الحصر ، كشف الباحثون في الأكاديمية الأمريكية لطب الأسنان، عن أن القبلة تساعد في حماية الأسنان من التجاويف والتسوس.
وأوضح المختصون، بحسب القدس برس ، أن التقبيل يشجع إفراز اللعاب الذي يمثل بدوره طريقة طبيعية لتنظيف وتعقيم الفم، فضلا عن احتوائه على أيونات معدنية تساعد في إصلاح الثقوب والشقوق الصغيرة في مينا الأسنان.

من جانب آخر ، أشار العلماء إلى عدة فوائد للتقبيل أهمها أنه يطرح الأدرينالين والأنسولين ويخفض محتوى الدم من السكر فيحطم السكريات والدهون والمواد الضارة .



لعلاج الحساسية


القبلات الحارة قد تكون علاجاً ناجحاً لمشكلات الحساسية عامة وحمى الكلأ (Hay fever) ، فقد أوضحت دراسة قام بها فريق بمستشفى ساتو باليابان على 24 رجلا وامرأة يعانون من الحساسية وحمى الكلأ وطلب منهم تقبيل كل رجل لرفيقته لمدة 30 دقيقة مع الاستماع لموسيقى هادئة ، فوجدوا أن تلك القبلات تساعد على راحة المريض من أثار الحساسية وتقلل من إنتاج مادة الهستامين التي تنشط ارتفاع درجة الحرارة المصاحبة للحساسية، بحسب صحيفة الديلى ميرور الانجليزية.

من جانب آخر ينصح المتخصصون في ازدحام السير بالتقبيل المكثف قبل السفر لمسافات طويلة ومرهقة ، فقد أظهرت الأبحاث أن السائقين أو السائقات يقودون عندئذ بهدوء واسترخاء.



بين الزوجين


القبلة ليست دائماً مقدمة لعلاقة جنسية بين الأزواج فقد تكون وسيلة للتعبير عن المشاعر والأحاسيس ، فهي أفضل وسيلة للاعتذار بين الزوجين ، كما أنها وسيلة ناجحة للتعبير عن الإعجاب أو الشكر أو التشجيع وما شابه ذلك .

وقد أجرت إحدى شركات التأمين على الحياة في أمريكا بحوثاً مكثفة حول أثر القبلة على حياة الإنسان فكانت النتائج الآتية :
* إن قبلة الصباح بين الزوجين تلعب دورا شافيا وعلاجيا أكثر من التفاحة .


* إن الشخص الذي تقبله زوجته في الصباح قبل أن يتوجه إلى العمل يكون أقل عرضة لحوادث السيارات وهو أكثر هدوءا أو تمالكا لأعصابه ويكون أكثر مقدرة على مواجهة المؤثرات والاضطرابات كما يحس بالهدوء الذهني والراحة والاطمئنان كما يحس بالقناعة والسعادة والرضا .

ويؤكد الدكتور كولمان : " إن البحوث التي أجريت على ألاف الأشخاص تؤكد أن القبلة في الصباح تطلق إفرازات معينة ومركبات كيميائية من خصائصها إعطاء الشخص الإحساس بالراحة والاسترخاء مما ينعكس على مشاعره الداخليه .

فهل تدرك الزوجة هذا وتعي دورها الإيجابي في منح زوجها الهدوء والسكينة بشيء يحبه ، إذاً فلتمنحه قبلاتها الدافئة ليبادلها بالمثل وما أجمل الحياة إذا كانت بتلك المشاعر والعواطف المتبادلة .
دلالات القبلاتللقبلات دلالات ومعانٍ تختلف حسب المواقف وطريقة التقبيل ، فإذا كانت القبلة على الجبين فهي تعني الإجلال والاحترام ، وإذا طُبِعت على الخد وتعني والاعتزاز ، أما قبلة الفم لا تكون إلا بين الزوجين أو الحبيبين وتنم عن خالص الحب والعشق والهوى ، بينما تُعني قبلة العين بالحنان ، والكتف بالفخر والاحترام ، أما قبلة القدم فتعبر عن الخضوع والولاء ولكنها غالباً تعبر عن الإذلال ، عكسها تماماً قبلة اليد التي تنم عن الاحترام والتعظيم ، وأخيرا لم يبقى الحديث إلا عن القبلة التي تطبع على النهد بين المتزوجين إنها تدل على رغبة وشوق للجماع .



القبلة عند الشعوب


مفهوم القبلات لدى الشعوب قديماً كان متبايناً حسب ثقافة كل شعب، فاليابانيون لم يمارسوا التقبيل في حياتهم اليومية، إلى أن اختلطوا بالحضارة الغربية، فتعلَّموا كيف يقبِّلون.

الصينيون كانوا يعدُّون التقبيل عملاً منافيًا للحشمة والأخلاق، سواء كان في السرِّ أو في العلن. ثم تغيَّرت نظرتهم إلى التقبيل بعد أن رأوا أن الغربيين يدعون إلى ممارسة التقبيل لما فيه من فوائد جنسية واجتماعية.

أما الإندونيسيون فقصروها على الخدِّ فقط . بينما جعل الهنود للقبلة معنيً رومانسياً ، وكتاب الحب عندهم (كاما سوترا Kama Sutra) هو رسالة تضمَّنتْ قواعد الوصول إلى المتعة الروحية والجسدية. والقبلة فيه ركن أساسي في الوصول إلى المتعتين، وتُسمَّى القبلة عندهم Chummi.

في روما القديمة كانت القبلة ظاهرة اجتماعية شاعت بين الناس في الأسرة الواحدة وبين الأصدقاء وفي الأسواق على أنها تحية. وتحوَّلتْ في عهد الإمبراطورية الرومانية إلى تعبير رومانسي، بدءًا من القبلة الزوجية التي كانت تتم في المذبح، وبها يبدأ الزواج، وهي تعبِّر عن تبادل "نَفَس الحياة" للوصول إلى الاتحاد الروحي.

التقبيل في أوروبا إبان العصور الوسطى كان مستخدَمًا، ولكن بحذر وفي الخفاء معظمه. وكان موضع القبلة يحدِّد مكانةَ كلٍّ من المقبِّل والمقبَّل: فالقبلة على الخدِّ أو الفم تكون بين المتماثلين في المرتبة الاجتماعية، والقبلة على اليد، ثم على الركبة، ثم على الأرض، تعني التفاوت في المرتبة الاجتماعية بالترتيب نحو الأدنى (ومن هنا جاء قولهم: "قبَّل الأرض تحت قدمي السلطان").

بينما احتل التقبيل في فرنسا في العصور الوسطي صفة اجتماعية. وكان الملك لويس الثالث عشر يقبِّل كلَّ امرأة في نورماندي بحجة منحها البركة الملكية! وقد اشتهرت "القبلة الفرنسية" French kiss بعد ذلك، وهي قبلة اللسان أو "قبلة الروح" كما تُسمَّى أيضًا، وكان يُنظَر إلى فرنسا من خلالها على أنها بلد الجنس.

في العصور الوسطى في انجلترا كان الفرسان يقبِّل بعضُهم بعضًا قبل البدء بدورات القتال التنافسية. والقبلة كانت تعني الثقة بالآخر فالاقتراب والعناق دليل ثقة بأن الآخر لن يعضَّك أو يطعنك. وكانت القبلة كذلك تعادل البصمة في العقود القانونية، يبصمها المتعاقد في أسفل العقد عند إشارة X. وفي عصر النهضة بقيت قبلة الصداقة. وكان المضيف يشجع ضيفه على تقبيل أفراد أسرته من الشفتين. ولكن في عام 1665، انتشر الطاعون الكبير في لندن واستمر عامًا كاملاً. فتراجع التقبيل خوفًا من العدوى، وحلَّ محلَّه الانحناء ورفع القبعة والتلويح باليد والمصافحة.



الشوكولاتة أقوى عزيزتي حواء


إن لم تكوني متزوجة الآن فلا تفكري كثيراً في القبلة وآثارها ، واحتفظي بالمعلومات السابقة من باب " العلم بالشيء ولا الجهل به" ، ونصيحتي لكِ إذا اعترتكِ رغبة في التقبيل الآن بتناول قطعة من الشيكولاتة إنها أكثر إثارة .
لقد أظهرت دراسة حديثة أن الشوكولاتة تخلق حالة من الإثارة تفوق ما تخلفه القبلة بين العشاق بعدة مرات.

السبت، 3 أكتوبر 2009

كذبة ..!


كذبة ..!


" ماذا يعني أن يكتشف الإنسان بين يوم وليلة أن كل ما فعله في حياته ضائع ،
كل ما فعله في حياته ما كان يجب أن يفعله ، وما لم يفعله لن يستطيع بعد اليوم أن يفعله ؛
لأن الزمان تبّدد بأسرع مما توقّع وما كان يظنه حياة ،
وما كان يعّول عليه قد انتهى قبل أن يبدأ ..
يكتشف أن الحياة قد مضت في الساعة التي يتأهب فيها لكي يبدأ الحياة .."


- إبراهيم الكوني -


من رواية " واو الصغرى واو الكبرى "