الاثنين، 22 أكتوبر 2012

هاشل : " بلى تستطيع ذلك " ..


 
 
هاشل : " بلى تستطيع ذلك " ..

 

نشر في الرؤية / العرب

 

يقول " باولو كويلو" : " احتمالية أن تجعل حلمك حقيقة هو ما يجعل الحياة ممتعة .." ويقول أيضا : " كلما اقتربنا من تحقيق أحلامنا أصبحت الأسطورة الشخصية دافعا حقيقيا للحياة .."

لا يوجد إنسان في هذا العالم ليس له أحلام .. مهما غدت تلك الأحلام كبيرة أو صغيرة .. قريبة أو بعيدة .. ممكنة أو مستحيلة .. فالخيال موّلد للأحلام والإنسان تواق ومتلهف دائما نحو بلوغ مسافة أحلامه والاحتفاء بها والكابوس الحقيقي حين يبقى الإنسان بلا حلم أو يكون فارغا من الأحلام ؛ ويذكر أن حكيما صينيا عزم الانتقام من عدو له ، فدأب على تحقيق كافة رغباته وعمل على توفير جميع الأحلام التي تاق لتحقيقها أو الحصول عليها .. وحين لم يبق للعدو شيء يطلبه أو يشتهيه فرغ قلبه من الحياة كليا ، ولم يطق هذا الفراغ المهول الذي سقط في هوته ، ولهذا لم تمر أيام قليلة حتى غادر الحياة كئيبا وبائسا وفارغا ..!

وكم من إنسان فنى في مجتمعاتنا العربية ؛ ليس لأنه بلا أحلام ؛ بل لأن أحلامه ردمت في جوفه قبل أن تنمو ..؟! هناك كثيرون لهم أحلام ولكن هناك أيضا من يمنع هذه الأحلام من أن تتحق في واقع جميل ..؟! ففي مجتمعاتنا الخليجية والعربية هنا لديهم هواية تحطيم الأحلام ويجدون متعة كبيرة في تكسير الطموحات .. هنا على الإنسان الحالم أن يذم حظه العاثر ؛ ولهذا يهرب آلاف العباقرة إلى الخارج إلى قارات ودول تستوعب عقولهم وأحلامهم وطموحاتهم ..!

 هذا عن الانسان العاقل الذي يجد حيلة في الهرب .. أما الذي لا تمكنه ظروفه من الهرب فأمامه درب شاق كي يصل إلى كوة أحلامه .. أما الإنسان المريض أو الذي يعاني من إعاقة ؛ فإن إعاقته الكبرى والأشد مرارة هو المجتمع عدوه الأول والذي يسعى سيرا حثيثا إلى غلق الأبواب في وجهه وإعاقة أحلامه وإعاقة محاولته في أن يكون إنسانا طبيعيا .. إلى إعاقة كل محاولة له في الحياة ..! الإنسان الذي لديه إعاقة في مجتمعاتنا العربية عليه وعلى أهله ومن حوله أن يدفعوا ثمن إعاقته وكأن هو من سبب لنفسه الإعاقة وهو من قدّرها على نفسه ..! هكذا يفعل المجتمع بهم حين يرفضهم وينبذ أحلامهم ويرفض كل طريق تفتح لهم ..!

لماذا كل تلك المقدمة وهل أنا أضخم سرد الواقع ..؟! خلال هذه السنة تحديدا كلنا عرفنا بحالة الشاب السعودي " عمار بوقس " الذي من خلال شبكات التواصل الإجتماعية استطاع أن يوصل للعالم العربي حكاية مشواره الشاق في مجتمع رفض فيه لأن لديه " إعاقة " فلاحقته سلسلة من الصعوبات في دخول المدرسة والجامعة حتى حصوله على الوظيفة .. وحكايته لا تختلف عن حكاية شاب عماني في مقتبل العمر يدعى " هاشل " والتي فجرت أيضا منذ فترة قريبة عبر وسائل التواصل الإجتماعية و" هاشل " لديه إعاقة مذ كان في الثالثة من عمره ولديه شقيقتان لديهما إعاقة أيضا ولكن بدرجة أقل منه وتلكم الشقيتين أكملتا الدراسة حتى وصلتا مرحلة حصول على شهادة ماجستير في مجال الحاسوب وبدرجة إمتياز و" هاشل " الشاب حين رأى أختيه ورغم الصعوبات أكملتا دراستهما حفز ذلك فيه إرادة قوية كي يكمل الدراسة وعزمه كان واضحا ؛ فعلى الرغم أنه يعيش مع أهله في الإمارات قرر أن يكمل لنيل شهادة الثانوية العامة في بلده عمان كي يتمم إجراءات دخول الجامعة .. ولكن وكما يقول القول الشائع :" تجري الرياح بما لا تشتهي السفن " ..! فالشاب الطموح وصاحب الإرادة والعزيمة " هاشل " رفض طلبه من قبل أكثر من جامعة ..! وجامعة حصرته في تخصص واحد فقط هو الشريعة ؛ بحجة إعاقته مع تبريرات كثيرة أبرزها أن مرافق الجامعة لا تسمح بذلك  ..!

كأن هذا المجتمع يوحي للإنسان الذي لديه إعاقة على أن يدفن نفسه في تابوت ويغلق على نفسه جيدا ..! ولا اعتقد بأنني أبالغ في توصيفي ؛ فواقع الحال كاشف للجميع ..!

ولا أدري من هؤلاء .. ؟! بل من نحن كي نقرر عن الآخرين حياتهم وكي نملي عليهم ما نراه نحن ..؟! من نحن حتى نقرر أن ذاك الإنسان يصلح أو لا يصلح  سواء أكان موفور الصحة أو يعاني من عطب ما ..؟!

 هل يعلم محطمي الأحلام ماذا تفعل كلمة تشجيع واحدة .. ؟ هل يعلمون مدى تأثير التحفيز على قدرات الإنسان التي لا حدود لها والتي وظفها الله عزوجل في جميع بني البشر .. ؟!

لا يوجد إنسان في هذا العالم لا يستطيع .. الجميع يستطيع أن يفعل طالما هناك إرادة وعزيمة  وعندما تنتفي الإرادة فإن فعله لن يفعل بتأكيد .. لكن أن تتوفر الإرادة الحقيقية مع إنسان يراه المجتمع أنه لا يستطيع فيمنعه بشتى الطرق والحجج والتبريرات المحبطة ؛ فهذه جريمة كبرى في حق هذا الإنسان ؛ لأنه يريد ولكن إرادته مقيدة بسبب الآخرين ..؟!

لماذا السعي الدائم إلى خلق فئات مهمشة في مجتمعاتنا العربية ..؟! تلك الفئات التي يتم تهميشها غالبا من لديهم إعاقات في بعض المجتمعات .. حيث لا يكتفون بتهميشهم ، بل إنهم يخلون  مسؤوليتهم عنهم وعن حقوقهم ..! هؤلاء فئات عديدة ليسوا شراذمة قليلة ، ومن حقهم أن يمارسوا الحياة وعلى الدولة أن تقوم بتوفير كافة مستلزمات الحياة لهم كما توفرها لأي مواطن في الوطن فهؤلاء أيضا لهم حقوقهم .. لكن الأهم من كل ذلك هي كلمة " نعم " التي لها مفعول السحر .. هذه اللفظة بحروفها الثلاث هي من تفتح لهم أبواب المستحيل وتحوّلها إلى ممكن .. هي التي تنتشلهم من مستنقع الإحباط والكآبة والإحساس بالدونية إلى حياة مضمخة بالتفاؤل والأمل والإستمرارية وتحقيق الذات ما يسمى بــــ" الأسطورة الشخصية " .. فهل نحن - مسؤولين - كفاية لندرك تأثيرها الفعّال ..؟!   

ماذا سنخسر .. بل ماذا سيخسر هذا المجتمع حين يقول لمن هم بمثل حالة " هاشل " : بلى تسطيع ذلك ..؟

هاشل : بلى تستطيع دراسة الحاسوب .. حلمك الأجمل .. بلى تسطيع ذلك ..!

وهناك آلاف كــ" هاشل " في قائمة انتظار أحلامهم أن تنتشلها معجزة لفظة " نعم " .. أحلام بسيطة كمقعد في مدرسة أو جامعة أو وظيفة ..!

ليلى البلوشي

الاثنين، 15 أكتوبر 2012

دولة دكتور جيكل ومستر هايد ..!



 
دولة دكتور جيكل ومستر هايد ..!

 

نشر في جريدتي : الرؤية / العرب اللندنية

 

مشكلة كبرى في أمة تنّتقد بشّدة وما تنّتقده تقلّده بشّدة ..!

مشكلة كبرى في أمة تشّن هجومها على الناجح وتصفق للمتخاذل ؛ فالأول لا ينال إعجابهم لأنه يذكرهم بمدى خذلانهم .. أما الثاني فيواسونه لتماثل الحال ..!

مشكلة كبرى في أمة تنسى عيوبها المتراكمة والمتعاظمة وتعيب غيرها في هفوة خطأ مطبعي ..!

مشكلة كبرى في أمة تبقى على جهلها ومن ثم إن برز أحدهم مجتهداً بغضوه وحقدوا عليه وسخروا من اجتهاده ..!

مشكلة كبرى في أمة تقلّد كالإمعة كل ما هبّ ودب .. وإذا ما خالف أحدهم قانون التقليد الأعمى اسقطوه واعتبروه مختلفاً وشاذاً ومريضاً نفسياً ..!

مشكلة كبرى في أمة تهتم بكل ما هو وضيع وساقط وتافه وتطارد كالمسعور بكل من يأتي بإبداع ورقي وتميز وتعدّه مسيساً بأفكار شيطانية ..!

مشكلة كبرى في أمة لا تعترف بأخطائها ولا تعايش واقعها .. بل تبني حولها سوراً من الأوهام ومن يقوم بإيقاضها تعدّه خائناً وخائب النيّات ومحرّض ..!

في مجتمعاتنا العربية إذا ما ألقينا نظرة شاملة بانورامية سوف نجس نوعا من التناقض الفاغر ، أقرب ما يكون إلى إزدواجية ومبعث هذا طبيعتين يتصف بهما الإنسان العربي ؛ فهو أولا كان شخصا بدويا من عصور جاهلية ومن ثم أصبح إنسانا مسلما ترك عبادة الأوثان إلى عبادة رب واحد لا شريك له ؛ وهذه العبادة الربانية فرضت عليه فروضا كي تتحقق إسلاميته .. ومن هنا أصبح لدينا خليطين .. خليط عربي بدوّي وخليط عربي إسلامي في كائن واحد ..

ولعل موقف المسلمين الأخير من الفيلم المسيء للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – يبرز بوضوح هذين الطبيعتين ويكاشف أكثر الطبع البدوي الميال إلى العنف والقوة ..!

وثمة تناقض هائل ما بين قيم الإسلام وقيم البداوة من حيث طبيعتهما ، وهذا التناقض لم يظهر في عهد النبي وفي عهد أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب ؛ لأن الكفاح المتواصل ضد الأجانب وحّد الهدف وأشغل النفوس بمآثر الغزو والفتح وتأسيس دولة ..

يمككنا القول بأن النبي محمد – عليه الصلاة والسلام – قد وحّد القبائل العربية المتناحرة لأول مرة في التاريخ وقذف بهم إلى حرب الروم والفرس ؛ فقد كان البدو قبل النبي محمد يحارب بعضهم بعضا أما بعده فقد أخذوا يحاربون عدوا مشتركا ..

ولعل البداوة برزت أكثر في عهد عثمان بن عفان وهذا من سوء حظه ؛ حيث وقف الفتح فعاد البدوي إلى طبيعته إلى النزاع فيما بينهم فلو كان الفتح متواصلا حتى عهد عثمان بن عفان لما واجه المسلمون الإنتفاضة الكبرى التي هزت أركان المجتمع الإسلامي بأكمله ..!

ويحكى أن في أثناء تلك الأزمة شاور عثمان بن عفان بعض أصحابه لقمع الفتنة قبل اشتدادها ؛ فأشار عليه " عبدالله بن عامر " أحد ولاته على الأمصار أن يشغلهم بالجهاد وأن يجهزهم للمغازي حتى يذلوا ويدلقوا الولاء فلا يكون همّ أحدهم إلا نفسه ..!

وفي عهد " عثمان بن عفان " بدأت أول بادرة فجوة بين الحاكم والمحكوم ..! فجاء اقتراح الجهاد والغزو في محله ، فالطبيعة البدوية هي طبيعة حرب .. البدوي لا يفهم من دنياه غير التفاخر بالقوة والشجاعة والغلبة وهذه تؤدي عادة إلى حب التعالي والرئاسة والكبرياء والتفاخر وهلم جرا ..

واشتهر البدوي بأنه ميال إلى النزاع ، وكان يقال قديما أن البدوي إن لم يجد من ينازعه مال إلى نزاع الأقربين فيشتبك مع ابن عمه أو أخيه ..! وقد أورد الشاعر " القطامي " وهو شاعر جاهلي ذلك في قصيدة معروفة تقول بعض أبياتها :

فمـــن تكن الحضـــارة أعجبته *** فـأي رجـــال بادية ترانا

ومن ربط الجحاش فإن فينا *** قنا سلبا وأفراسا حسانا

وقد فسّر البروفيسور " فيليب " نزعة القتال عند البدو فقال عنها : " إن نزعة القتال أصبحت عند البدو حالة عقلية مزمنة فحياة الصحراء في رأيه على حافة المجاعة دائما .. والقتال بمثابة صمام أمان يمنع السكان من التكاثر ولهذا أصبح الانتقام وطلب الثأر أقوى نظام ديني واجتماعي في مجتمع البداوة .." .

كل ما سبق من طبيعة الإنسان البدوي في مجتمعاتنا العربية تناولها د. علي الوردي في كتابه " وعاّظ السلاطين " وقد فصّل رؤاه حول ذلك بشكل شامل وبين بشكل ملفت بأن هذه الإزدواجية التي أقرب ما تكون إلى انفصام في شخصية الإنسان يكون حين تتعارض قيم البداوة مع قيم الإسلام ؛ فكما وضحنا آنفا أن قيم البداوة ترتكز على سلوكيات وصفات أقرب ما تكون ذات صلة بالمفاخرة والمكابرة وهذه القيم تخالف الإسلام ؛ فالإسلام دين قائم على سلوكيات طيبة ويدعو بإستمرار إلى التواضع واللطف والتقوى والعدل والمساواة بين الناس ، بينما البدوي لا يستطيع أن يكون مسالما حقا إلا في بعض الأحيان وذلك حين يكون المجتمع الإسلامي في حرب مع أعدائه ..!

هذه الإزدواجية في المجتمع فرضت وجود سلطة متناقضة في الوقت نفسه ؛ ففي مجتمع تكون فيه القلوب بدوية بينما تكون الألسنة إسلامية لابد وأن يخلق عالما إزدواجية بشكل كبير ..!

والحكام عادة يمثلون في سلوكهم النمط الواقعي الذي يسير عليه الناس في حياتهم العملية .. ينطبق عليهم قول الرسول –عليه الصلاة والسلام - : " كيفما تكونوا يولى عليكم " ..

ولهذا لا نبالغ إذا قلنا بأن معظم طغاة العالم هم صناعة شعوبهم .. تلك الشعوب الصامتة .. الخائفة .. الشعوب التي اختارت الخضوع والإنصياع .. الشعوب المخدوعة في دوامة الأوهام .. الشعوب التي تنشغل بمصالحها الشخصية حين يصرخ الثائر بالحرية والكرامة وحيدا في شارع الظلم والطغيان ..!

اعتقد أن ثورات الربيع العربي شقلبت الأمور والقواعد والقوانين التي فرضها الطغاة طوال قرون الإستبداد و الظلم وتآكل الحقوق والحريات ؛ وعبرها عرفت الشعوب أنها لا يمكن أن تنعم بحياة كريمة وعادلة وحرة دون أن يكونوا هم أصحاب الفعل والمبدأ والإنطلاق .. وانتفاضات الشوارع وهتافات الحشود كانت خير دليل على ذلك ..!

رفعة الأوطان وتطورها ورقيها نحو مستقبل أفضل وفاعل وغني بالإنجازات بيد شعوب لا يخالف طبعها البدوي طابعها الإسلامي؛ يكونان أشبه بقالب واحد ممزوج بالأخلاق الحميدة والسلوكيات الرفيعة ؛ فلا يفصم الأوطان ويشتت مستقبلها سوى إزدواجيات بشر يخالف ظاهرها باطنها .. خائني الضمير والوجدان ..!

 

 

ليلى البلوشي

الاثنين، 8 أكتوبر 2012

تعطيل الحواس ..!


 
تعطيل الحواس ..!

 

نشر في الرؤية / العرب

 

في كتابه " الحدس أبعد من أي حس " يرى الفيلسوف الهندي " أوشو " بأن جميع حواسنا معطلة .. لم يسمح لنا أن نكون طبيعيين ولذلك فقد الإنسان وقاره وبراءته وجماله وأناقته ..

" أوشو " ذهب إلى أن الحواس التي منّها الله تعالى للإنسان ضرورية ومهمة كي يعيش الإنسان سويا ويتمتع بالحياة ؛ ولكن في مجتمعاتنا جرى تطبيع الإنسان بوجه عام وبطرق مختلفة .. حيث جرى تطبيع الرجل لأن يكون عدوانيا وتنافسيا ومناورا وأنانيا بينما جرى تطبيع المرأة بأن تكون جارية ..!

كما هو معروف يولد الإنسان بكامل حواسه : البصر والسمع والشم والتذوق واللمس .. وتتكامل هذه الحواس كلما كبر واستطال .. لكن الملحوظة أن الإنسان حين تكتمل حواسه يسعى إلى تعطيلها جلها أو بعض منها حسبما يتوافق وطبيعة المجتمع حوله .. !

فهناك مجتمعات لها شروط معينة لقبول الإنسان رعية من رعاياها ؛ فمثلا تطلب منه أن يرى ويسكت كان حقا أم باطلا ما يراه ، أو تنبهه إلى أن يغلق فمه فللجدران أذان ..!

حكايات مجتماعتنا العربية هي أشبه بحكاية الضفدع الذي قطعت رجله .. حيث يحكى أن مجموعة من العلماء الظرفاء أجروا تجربة على ضفدع ، فقطعوا واحدة من أرجله الأربعة ثم قالوا له : " اقفز " .. فقز الضفدع .. فثبت العلماء هنا أن الضفدع قادر على أن يعيش بثلاث أرجل .. فواصلوا التجربة وقاموا بقطع رجلها الثانية .. فتبين أنها تستطيع أن تعيش برجلين ، ثم قطعوا الثالثة ، فالرابعة وقالوا له : " اقفز " لكن الضفدع عجز عن القفز ..! فتوصلوا إلى النتيجة العلمية والتي مفادها هي أنه عندما نقطع رجل الضفدع الرابعة تتعطل لديه حاسة السمع ..!

واضح إن " الإنسان السوبر الخاضع " هو الأكثر طلبا في مجتماعتنا العربية ؛ فهو الإنسان الذي لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم .. هذا النمط هو مرضيّ جدا من قبل السلطات وهو نموذج للعبد الصالح الذي لا في العير ولا في النفير كما يقول المثل الشائع .. هذا النمط البشري الذي ألغى بل أقفل على كافة حواسه ؛ كي يرضي مجتمعه أو كي يعبّر عن انصياعه التام وخضوعه الكلي فيكفي أنه يأكل ويشرب وينام ولا مطمح لديه غير ذلك في الحياة ..!

السؤال الذي يدغدغ حواس من هو محتفظ للآن بحواسه الأساسية : كيف يمكن للسلطة أن تقوّض الفرد في المجتمع وتخضعه كدمية ..؟!

الجواب ربما بسيط ؛ فهؤلاء الأفراد وصلوا لمرحلة الإشباع حتى تبلدت لديهم جميع حواسهم ؛ بمعنى أوضح " تعوّدوا " على تعطيل حواسهم وتجميدها .. وفي رواية " أعدائي " للكاتب السوري " ممدوح عدوان " يرد مقطع يوضح مرحلة " التعوّد " في الإنسان فيقول : " ذات يوم شرحوا لنا في المدرسة شيئا عن التعود حين نشم رائحة تضايقنا فإن جملتنا العصبية كلها تنتبه وتعبر عن ضيقها بعد حين من البقاء مع الرائحة يخف الضيق .. أتعرف معنى ذلك ؟ معناه أن هناك شعيرات حساسة في مجرى الشم قد ماتت فلم تعد تتحسس ومن ثم لم تعد تنتبه الجملة العصبية .. "

والأمر ذاته حين نمر على سوق يلوك بالضجة ، فإن الضجة عينها سوف تثير أعصاب الإنسان ولكنه مع مرور الوقت ستصبح جزءا من الإعتيادية ، وهذا يثبت موت الشعرات الحساسة والأعصاب الحساسة في الأذن ..!

يقال في أثناء الحرب اليابانية كانت هناك ملايين الجثث اليابانية متفسخة وممزقة ومتحللة وكان النتن المتصاعد يمنع الناس من النوم والأكل والراحة ، ولكن مع مرور الوقت ألف الناس الرائحة وما عادت تأثر فيهم ..!

 " فتصورا حجم من مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا ..! " هكذا ختم " ممدوح عدوان " عبارته عن ظاهرة " التعّود " وتعطيل الحواس الإنسانية ..!

والمشكلة أن هذا الفقد والتعطيل في الحواس يفقده الإنسان دون أن يشعر بفقدانها ، فهو فقْد لا يحدث ضجة كبيرة .. يفقد الإنسان " ذاته " فلا يشعر ولكن حين يفقد ذراعه أو ماله أو بطاقة الإئتمان فإنه يشعر ؛ هذا لأن المادي غلب الشعوري العاطفي في حياته ..!

والسلطة المقموعة لها دور كبير في تعطيل حواس الأفراد في المجتمع ؛ فهي تعد نشاط أي حاسة تحريضا عليها ، وعلى مصالحها ، على السلطة المطلقة التي استولت عليها ..! وواقع اليوم حافل بالتوضيح ، فالإنسان الذي يفتح فمه وكأنما فتح فوّهة الجحيم كل الجهات السلطوية حينئذ توّد فقط إبادته ..! وكلما أصغى السمع ليفهم ما يجري حوله ولينتبه على حقوقه المشروعة تلجأ السلطة إلى تسكيته بصوت الوعظ والتهديد والويل ؛ كي يهمد لسان الناطق بالحق ..!

وكلما سعى الإنسان في مجتمعه إلى الشعور بمسؤوليته كمواطن تجاه وطنه ، وتبدى هذا الواجب كمناداة نبيلة بإصلاح المجتمع ، وتقويمه ، وتطهيره من الفاسدين والمرتشين ، وأصحاب المحسوبية نرى أن السلطة والدائرين حول السلطة يقذفون تهما خطيرة كالخيانة والأجندة والسعي الحثيث لتشويه سمعة المواطن في وطنه كعدو للشعب ؛ لأنه رأى وتكلم ووظّف حواسه جلّها كي يؤدي واجبه ومسؤوليته كمواطن من الشعب تجاه وطنه ، ولكن السلطات تنبذ وتنفي وتلاحق وتسجن وتعّذب كل من ينافح عن حقوقه وهي السلطة نفسها التي تهتف بنموذجها المفضل والمقرب والمرضيّ ألا وهو " الإنسان السوبر الخاضع " معطّل الحواس كلياًّ ؛ فلا يرى ولا يسمع ولا يتكلم .. !

لكن هيهات تتمكن السلطة .. أيّ سلطة مهما بلغ وزنها وثقلها وحاشيتها أن تقضي على حواس إنسان قرر أن ينافح عن حواسه حتى آخر رمق كإنسان سويّ وحرّ.. وليس بعيدا هذا التحدي عن قول الشاعر " سميح قاسم " الذي قال : " ربما ترفع من حولي جدارا وجدارا وجدارا / يا عدوّ الشمس لكن لن أساوم / إلى آخر نبض في عروقي / سأقاوم وأقاوم وأقاوم .."

هنيئا لكل جسور محتفظ بكامل حواسه في زمن مات فيه الضمير وتبلّدت فيه الحواس البشرية ..!

 
ليلى البلوشي

الاثنين، 1 أكتوبر 2012

كيف انتقّم من عدوّي ..؟!


 
 
كيف انتقّم من عدوّي .. ؟!

 

جريدتي : الرؤية / العرب

 

كم أغبط اليابان ..!

دولة الحضارة والفكر والحداثة والتطور والقيم والنبل .. كم أغبط اليابان على روح تسامحها وعلّوها على سوقية الانتقام والتشفي مما لحق بها جراء الحرب العالمية الثانية ؛ فاليابان بعد الهزيمة أصبح همها الأول وغايتها العظمى هو أن تنهض وتلحق بركب الأمم العظمى ؛ فاختارت العلم وسارت نحو المعرفة سيرا حثيثا لأنها تعي أن العلم والمعرفة وحدهما هما يصنعان حضارة ورقي الأمم .. فبعد شهر واحد فقط من إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما .. معلم وتلامذته يعودون إلى أقسام الدراسة في العراء .. لم يكلفوا أنفسهم عناء جمع أحقادهم وبغضهم وكرههم للدولة التي قتلت شعبهم .. لم يعلنوا حرباً مقدسة بإسم إلههم لأخذ الثأر والقصاص .. لم يلتفتوا حتى إلى الماضي .. بل أخذوا العبرة واتخذوا من الهزيمة تحديا وإنطلقوا في البناء من الصفر .. اجتهدوا وتفانوا حتى أصبحوا ما هم عليه اليوم من تقدم وحضارة يشهدها التاريخ الحديث ..

من هنا يطفو إلى السطح مبدأ مهم من مبادئ بناء أي دولة من جديد بعد هدم نظام بائد ألا وهو مبدأ " التسامح " لنبني دولة عصرية ؛ فلا يمكن البناء مع التشفي وروح الانتقام ، والعقول الناقمة لا همّ لها في الدنيا سوى الانتقام من أعدائها وحين يغلب ذلك ويسود المجتمع ، فإن التأخر هو وحده سرعان ما سيطال هذه الأمم ..!

وإذا ما رجعنا لقراءة التاريخ فلسوف نصادف مواقف عظيمة لزعماء في التسامح الروحي الشامل تجاه أعدائهم ولعل أشهرهم " نيسلون مانديلا " فهو لم يصفي حساباته مع سجانيه ، ولم ينكل بكل من ساند التمييز العنصري ، ولم يلحق الأذى بأي كائن تعرّض له أو آذاه .. بل على العكس لقد صفح عنهم ، ولم يكتف بالصفح عن مضطهديه بل حرص على القيام بزيارة أرملة رئيس الوزراء السابق " فيروود " الذي كان أحد مهندسي التمييز العنصري لكي يقول لها إن الماضي طويت صفحته وإن لها هي أيضا مكانة في أفريقيا الجنوبية الجديدة ..

وإذا ما تأملنا في حضارتنا الإسلامية في عمق تاريخ العرب سندرك أن الحضارة الإسلامية كان من أهم دعائمها هو مبدأ " التسامح " وهو ما أعلنه أول من أعلنه نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم -  فحين فتح المسلمون مكة توقعوا أنهم سوف يعاقبون كفار قريش أولئك الذين آذوا رسول الله وتعرضوا له ووصفوه بأبشع الصفات وحاولوا قتله .. ولكن رسول الله يومئذ خاطب قريش قائلا لهم : " يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل بكم ..؟ " قالوا : " خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم " قال : فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته : } لا تثريب عليكم اليوم { اذهبوا فأنتم الطلقاء .. " من هنا انبثق شمس الإسلام ليعّم أرجاء المعمورة ..

وعبر رؤية شاملة إلى عالم اليوم ؛ يمكننا أن نجسّ بوضوح تقهقر مبدأ " التسامح " والصفح .. ولعل ثورات الربيع العربي تؤكد هذا الجانب المحبط .. ففي تلك الدول نتفاءل بسقوط الطاغية المستبد ونعتقد أن الصراعات تهدأ بسقوطه ، فإذا وراء كل طاغية طغاة آخرين وهم على أصناف .. صنف مع الطاغية الذي سقط نابذين فكرة سقوطه فيزرعون الفتن للتشفي والانتقام .. بينما صنف آخر حين يسقط الطاغية بدافع من القهر يقومون بمطاردة كل ما له صله بالطاغية وحاشيته ومن هنا يظل نار الصراعات مشتعلا والشعوب هي من تدفع ضريبة كل ذلك ..!

ما أحوجنا اليوم إلى مبدأ " التسامح " ما أعوجنا إلى إرسائه بقين وإيمان حقيقي في زمن ثورات الربيع العربي أن نتجاوز عن أحقادنا وأن نصفح عن أعدائنا وعن ماض تليد ؛ فلكي نبني حضارة راقية تليق بمستوى أوطاننا علينا أن ننسى ما تعرضنا له من ألد أعدائنا ؛ فالرغبة في الانتقام والرغبة في البناء لا يجتمعان على أرض واحدة وكذلك في نبض واحد وفي روح تأتلق في زخم السلام ..

وقد سئل حكيم : بم ينتقم الإنسان من عدوه ..؟ قال : بإصلاح نفسه ..!
 
ليلى البلوشي