الأربعاء، 15 يوليو 2015

حرب على معالم الحياة والإنسان ..

حربٌ على معالم الحيّاة والإنسان ..!

يبتدئ الروائي الأمريكي " بول أوستر " كتابه السيرة الذاتية الذي يقع تحت عنوان " حكاية شتاء " بعبارة تجسّد موقع الإنسان منذ ولادته قائلا : " صحيح أن باطن قدميك مثبّت على الأرض ، لكنكلما تبقى منك معرّض للهواء" ..
فيزمن الحرب و العنف والقتل المجاني أصبح الإنسانلا سيما - العربي - ليس معرّضا للهواء فحسب بل صار معرضا لجميع أنواع التعذيب ، والقتل ، والتعدي و الاغتصاب ، وسلب وطنه ، وبيته ، وأرضه ، و روحه ، جلّ ما يملكه أصبح مهددا ، معرّضا للشّتات والضياع والتيّه ..!
في الوقت نفسه والزمن التعس نفسه ، صار مستبدوا الموت ، يتفننون في زهق أرواح مختطفيهم ،  فها هي داعش التي انبثقتمن حضيض الأرض حاملة معها لواء الموت ، الموت هو الفعل الوحيد الذي تمارسه منذ زحفهم كالجراد في بقاع الأرض ، فبعد جزّ الرقاب بالسكين وعرض الرؤوس البشرية أمام الملأ ، صارت تأتي الموت وتدعوه بطرق وأساليب غاية في الخسة والدناءة ، تظهر مدى الحقد الكامن تجاه كل معلم من معالم الحياة والإنسان ، فمن ضمن ما نشرته حسابات موالية لتنظيم الدولة صورا لطرق موت جديدة يتبعها التنظيم في إعدام المحكومين بهذه العقوبة ، ليتراوح التنفيذ ما بين الغرق إلى الحرق وصولا إلى التفجير ، ومنها أن يركب المحكوم عليه بالموت سيارة ثم يتم استهدافها بقذيفة RPG ، وصور أخرى يوضع فيه المحكوم عليهم على نسق واحد وتلغيمهم ليتم تفجير العبّوات بأجسادهم فيهلكوا حرقا وتمزيقا ..!
وكأن مستبدي الموت ينتهجون أساليب الموت نفسها في عنفها وشدتها وقسوتها ، فأساليب داعش لا تختلف وربما تكاد تكون مستعارة من أساليب الرئيس الكوري الشمالي الذي سبق و أعدم وزير دفاعه بأسلوب غاية في العنف رميا بنيران مدفع مضاد الطيران ؛ لتتطاير جثته شظايا مدماه ، كما خصص لزوج عمته إعداما من نوع خاص ، حيث جرده من ملابسه وألقى به إلى 120 كلبا تم تجويعها لمدة ثلاثة أيام ، والتي استغرقت أكثر من ساعة وهي تنهش لحمه وعظامه ، هذا الرئيس الذي يقتل لأسباب غاية في الحمق مثلها مثل داعش ومعظم المستبدين في العالم الذين يخترعون أسبابهم لقتل ضحاياهم ، لسحق روح بشرية حرم الله قتلها ، لكن في زمن الموت المجاني أصبح الموت رخيصا ، برخص قيمة الإنسان نفسه ، وصار الموت عنيفا ، ومتوحشا ، وبشعا ، وجماعيا ، يشمل الصغار والكبار ، النساء والرجال ، فسفاح الموت صار يلاحق دم ضحاياه بشبق مجنون ..!
وبعد أن أصبح الموت الجماعي يزهق مئات الأرواح في مجمع تجاري أو ملهى أو أماكن الفواحش كما كانوا يبررون وهم يسحقون الأرواح ، صارت فاجعة الموت اليوم في داخل أطهر أماكن الكون قاطبة و أكثرها أمانا ، صارت في المساجد التي يذكر فيها اسم الله عزوجل ؛ فبعد حادثتي مسجد العنود والقديح في السعودية ، الفاجعة بالفعل الإرهابي عينه تفجع الكويتيين في يوم الجمعة الماضي بتفجير انتحاري نفسه في أحد مساجد الشيعة وزهقت أرواح المصلين وهم ساجدون لله عزوجل ، وصائمون ، وفي يوم مبارك كيوم الجمعة ..!
 في اليوم نفسه جاء الموت جماعيا ليزهق أرواحا عديدة ، في كل من تونس و فرنسا ، تجعل الكلمات هي أيضا تعلن حدادها في حضرة موت هؤلاء الأبرياء ، لا ذنب لهم سوى أنهم تواجدوا في أماكن كان فيه داعش الموت يحوم بمتفجراته متعطشا للدم ..!
وهنا لا أملك سوى أن استعير تغريدة الشاعرة " سعدية مفرح " تعليقا على خبر تفجير انتحاري داعشي نفسه في مسجد الإمام الصادق في الكويت وانفجاران آخران استهدفا تونس و مصنعا في فرنسا : " عندما تستهدف داعش بيوم واحد ؛ مسجدا في الكويت وفندقا في تونس و مصنعا في فرنسا ؛ فإنها تعلن الحرب على كل عناصر الحياة : العبادة والعمل والترفيه! " ..

ليلى البلوشي

في حديقة حمود الشكيلي ..

في حديقة حمود الشكيلي

حين أعود إلى طفولتي كتلميذة ، فإنني لا أتذكّر من المنهاج المدرسي شيئا ، ولعل ذلك أمر طبيعي تماما ؛ لأن تلك المناهج ليست للتذكّر بقدر ما هي معرفة القواعد ، المعرفة التي ترسبت في حيز ما من أعماقنا ، لكن ما يذكر وما نتذكّره حقا هي الكلمات ، النصائح ، التوجيهات ، الوصايا ، الإرشادات ، نبرة معلم حكيم و معلمة حكيمة ، مهما تباينت تسمية ما يقوله المعلم وما تقوله المعلمة من خارج المنهاج الدراسي هو ما يترسخ حقا في أعمق حيزّ من قلب الذاكرة ..
حين أعود إلى تلك الطفولة العتيدة أتذكّر عبارة معلمة اللغة العربية حين شاع في جيلنا قراءة روايات عبير المترجمة ، التي عُرفت بأنها تحوي على عبارات وكلمات غير لائقة – كما كنا نسمع من الكبار – حتى أنها كانت ممنوعة في البيت وفي المدرسة أيضا ، ومن كانوا يجدون بحوزته رواية من إحداها كان يعاقب كما لو أنه اقترف إثما ، وحدها معلمة اللغة العربية لم تر في قراءتها أي غضاضة بل وضحت بعبارة ذات مغزى نبيل : " اقرأن كل شيء طالما الوازع الديني موجود " ..
ومذ يومها صرت اقرأ كل شيء ، المرغوب والممنوع من الكتب ، لعلني كنت بحاجة إلى تلك العبارة التي قالتها معلمة اللغة العربية كي انطلق بجسارة إلى عالم الكتب والقراءة ؛ فالمعلم هو دائما قدوة ، وجل ما يقوله مقدس ومن هنا اكتسب المعلم مكانته الراسخة في معظم دول العالم لا سيما الدول الحديثة ..
اليوم وأنا أتأمل كتاب " شعلة حديقة الكلمات " التي جمعها و أعدها وقدم لها الكاتب العماني " حمود حمد الشكيلي " أكاد أجس تلك الشعلات التي أطلقها المعلم " حمود " في شرايين طلابه وطالباته ..
فكرة هذا الكتاب تذكرني بتجربة المصور الأسترالي " جيمس موليسون " الذي أخذ على عاتقه تأليف كتاب يكون عنوانه " حيث ينام الأطفال " يحكي تفاصيل غرف الأطفال ومكان نومهم في سعيٍّ جديد من نوعه ، و من خلال كاميرته وثق تجربة آسرة لعدد من الأطفال عبر العالم المترامي ، هناك في أوطانهم ، الثرية منها والمعدمة ، المخملية لبعضهم والمتعثرة لبعضهم الآخر ، كوّن من خلال كتابه ظروف الحياة التي يحياها الأطفال في بيئاتهم ، تغدو لمن يطالع الكتاب مع ملصقاته كصلاة تأملية طويلة عن معنى الوجود وغايته ..
ونطالع في حديقة الكلمات للشكيلي قصص قصيرة جدا تناثرت كزهور الربيع بجمال ، تفاوتت درجات نضجها ، معظمها تفيض بالدقة والرصانة ، المثابرة في انتقاء الفكرة ، وإن جاءت أغلبها عفوية ، وهنا يكمن منبع جمالها الأخاذ ، تلك العفوية التي لا يتقنها سوى الصغار لعقولهم الغضة ولنفسياتهم التي تقبل على الحياة بكل محبة و حماس ..
من بعض لك القصص المتقنة كما لو أنها صاغتها أنامل كبيرة ، قصة " الفكرة " للطالب " محمد البادي " حين كتب : " سأل الطالب معلمه : أعطني فكرة قصة ، رد المعلم : إذا أعطيتك فكرة تكون ملكي " ..
أما في قصة " أكلت المعلم " للطالبة " سارة باعبود " فنجد الرؤية المجازية التي ختمت بها الطفلة أقصوصتها الذكية : " وعد المعلم طلابه بالحلوى ، لكنه في اليوم الثاني نسي الحلوى ، فأكل الطلاب المعلم " ..
وتتجلى الطرافة بكل أبعادها في قصة " نملة " للطالب " مروان العدوي " : " نملة صغيرة ، ذات جسم وعقل قادر على احتلال العالم ، لكن قدم الإنسان ثقيلة جدا " ..
والطرافة عينها يجسها القارئ في قصة " في السرير " للطالبة " سماء العدوية " التي تلامس واقعا يمر به معظم الصغار في سن معينة : " تسخر المثانة من المنبه ، تؤدي وظيفتها في الصباح أبكر منه " ..
وفي قصة " الفشل " تتجلى الطرافة مع الواقع أيضا على شكل أقصوصة حوارية من معين الطالبة " لينا طه " : " سأل الأب ابنه : لماذا رسبت ؟ فرد : من كان بجانبي لم يذاكر " ..
" شعلة حديقة الكلمات " حيث الحياة يمكن جدا أن تلتقي عناصرها الكونية في قصة قصيرة جدا من بضع كلمات متراصة بحكمة .. هو الكتاب الأول من نوعه من معين فكر الأطفال ، ولكن يكمن أهمية هذا الكتاب بأنه ثمرة حقيقية عن الجهود التي يبذلها المعلم في سنوات التعليم انتصارا للموهبة ، انتصارا للخبرة التي ترسخت في عقول الطلاب والطالبات بفضل معلم واعٍ وقادر على انتاج جيل ينطلق نحو التفكير الإبداعي و الإنجاز الفكري في مجالات الحياة ليس في الأدب فحسب ، وهنا تكمن وظيفة المعلم الحقيقي ..
اذكر مرة في حوار مع الروائية السعودية " رجاء عالم " أثناء نيلها جائزة البوكر العربية عام 2011م عن روايتها " طوق الحمام " اعترفت بأن اتصالها المباشر مع الأطفال نظرا لوظيفتها هو ما عمّق رؤاها السردية في الكتابة ..
اعتقد ومن واقع - تجربتي الشخصية - أن أكثر وظيفة تلائم وشخصية الكاتب هي وظيفة التعليم ؛ لأن المعلم سيتعاطى مع أرواح جديدة تنجب جديدها في كل عام ، ولأنه يكون على اتصال مباشر ويومي مع عقول و أطباع ونفسيات حقيقية تجسد الواقع بأشكال متباينة  ..

ليلى البلوشي