شروط الزواج / الكاتب الإيراني كيومرث صابري
حينما خرجت من الدائرة ، بدأ الثلج ينهمر حبة حبة ، حينما وصلت إلى الرصيف ، كانت الأرض قد اكتست ثوب البياض على مد البصر .
رفعت ياقة معطفي ، وأخذت الطريق أمامي ، لا يزال أمامنا من الشتاء الكثير ، قلت لنفسي إذا استمر البرد هكذا ، فسوف نرى الويل حتى آخر الشتاء . حينما دخلت البيت ، شاهدت والدتي في الباحة تجمع الغسيل عن الحبل ، منذ عدة أعوام ، وأنا أمازحها عند هطول الثلج :
_ أماه ، جاءنا برد يقتل العجائز ! واليوم حينما هممت أن ألهج بهذه العبارة ، بادرت هي للقول :
_ يبدو أنه برد يقتل العزّاب ، أليس كذلك ؟ لم يكن في بيتنا عازب غيري ، أطلقت الوالدة مزحتها بعد عدة سنوات ! ذهبت مباشرة إلى غرفتي ، أوقدت المدفأة ورحت أتملى الصقيع من خلف النافذة ، سئمت النظر للصقيع ، في عالم الأخيلة المجنحة ، سافرت نحو فتيات الأقارب :
_ زري ؟ سيمين ؟ عذراء ؟ مهوش ؟ بروين ؟ على فكرة ، ربما جالت فتاة في خاطر أمي ، دفعتها لمزحتها هذه ... نيران فتيات الأقارب لم تسخِّن لنا قدح الماء ، في عالم الأخيلة المجنحة أيضاً ، هششت بعصاي على غربان فتيات المحلة :_ سوسن ؟ مهري ؟ مرضية ؟ ابنة كربلائي تقي ؟ ابنة جم بناه ؟ ابنة...؟لو لم تدخل والدتي الغرفة ، لما علم إلا الله .. كم كنت سأسافر مع هذه الأوهام ، قالت وهي تدفئ يديها :
_ قل لي ، ما رأيك في زينب ، ها ؟ ابنة آقا بالاخان ؟! يقولون أن القلوب سواق تلتقي ، ولكن ثبت لي يوم ذاك أن الأدمغة أيضاً سواقٍ تلتقي .... يبدو أن والدتي شعرت أني أفكر بهن ...
قلت لها : اسمعي يا أماه ، لحد الآن لم أقل أي شيء ، ومن الآن فصاعداً لك أن تفعلي ما تشائين...ولكن بالله عليك لا تلقي بنا في بئر؟
قالت : أبي بئر يا ولد ... أنا التي ابيضت جدائلي في هذه المحلة ، لا أعرف بناتها ؟ ابنة أقا بالا خان أنسبهن لك ، كلما رأيتها في الزقاق تخيلت يداها في يدك ، لقد خلقتما لبعضكما !
_ لا اعتراض لدي ، ولكن ماذا عن والدها ؟ هل يزوج أقا بالاخان ابنته لموظف مسكين مثلي ؟
_ ولم لا ؟ ... إنها ابنة آقا بالا خان على كل حال ، ليست ابنة السلطان .
_ ولكن آقا بالا خان ليس بالقليل ، أولاً هو ( آقا ) (1) وثانياً (بالا) وثالثاً (خان) (3) ... أليس ثرياً .. ماذا يعوزه إذن ؟ لا داعي للتفكير في هذه الأمور . دعني أتصرف أنا ... هل أذهب ؟
_ ولكن آقا بالا خان ليس بالقليل ، أولاً هو ( آقا ) (1) وثانياً (بالا) وثالثاً (خان) (3) ... أليس ثرياً .. ماذا يعوزه إذن ؟ لا داعي للتفكير في هذه الأمور . دعني أتصرف أنا ... هل أذهب ؟
_ نعم ، اذهبي وأعدي لنا الغداء ... أنا جائع جداً!
_ أذهب لأعد الغداء ؟
_ نعم ماذا إذن ؟
_ أردتُ أن أذهب لبيت آقا بالا خان لأتحدث في الأمر مع زوجته زرين(4) خانم ! .
_ بهذه السرعة ؟
_ ليس بهذه السرعة طبعاً ... أنتظر حتى العصر وأذهب .
تريثت قليلاً ثم قلت : _ حسناً , لا بأس !
انصرفت أمي فرحة نحو أعداد الغداء ، تمددت أنا على السرير لأفكر في زوجتي القادمة ...
البرد يشتد لحظة بعد أخرى ، برودة السرير تستفزني أكثر ، حقاً كأنه البرد قاتل العزاب الذي تحدثت عنه أمي !
********
حينما عادت ٍأمي من بيت آقا بالا خان كان الليل قد أرخى كل سدوله ، ولكن حتى في هذا الظلام ، يمكن رؤية فكها الأسفل ساقط لحاله وفمها فاغر من الوجوم .
_ ها ما الخبر ؟ وقفت في الغرفة كأنها ملك الموت أو من شاهد ملك الموت .
_ ألم أقل لك أن آقا بالا خان ليس قليلاً ؟ ... ماذا قال ؟
قالت بصوت مرتجف : لم يكن في البيت ، تحدثتُ مع زوجته ... وابنتها كانت أيضاً .
_لم يوافقوا ؟
_لا يمكن القول أنهم لم يوافقوا ، ولكن قالوا يجب على العريس أن يغير أصدقاءه .يرعى نفسه ومظهره أكثر ، ويعود في المساء باكرا إلى بيت ، ليتعود على ذلك من الآن .
_ ماذا قالوا أيضاً ؟ سألوا هل عنده بيت وسيارة ؟ قلت لهم : لديه ماكينة حلاقة ، وسيشتري السيارة لاحقاً إن شاء الله ! والبيت أيضاًً يمكن التفكير فيه ، أودع مائتي ألف تومان في المصرف ليضيف إليها قريباً ، والبيت أيضاً سيشتريه فيما بعد إنشاء الله !
_ ثم ماذا ؟ قالوا إن شهادته الدراسية جيدة ، لكن راتبه قليل ! وعليه أن يقدم قطعة ملك ضمن مهر العروس حتى لا يتحدث عنا الأقرباء بسوء .
_ ثم ماذا ؟
_ ثم إن ابنتي لا تجيد أعمال البيت ، لذلك عليه أن يستأجر لها خادمة وخادماً !
_ ثم ماذا ؟
_ ثم قالوا : فضلاً عن هذا أسمحوا لنا أن نفكر في الأمر ، ونتحدث مع والدها ، ونعلمكم الجواب بعد ثلاثة أشهر ! ... _ ودعتهم ورجعت ... وأنا أيضا ودعت أمي وذهبت لأقضي ليلتي مع الأصدقاء في لهو الشباب حتى لا يبقى اللهو حسرةً في النفس إذا تزوجت .
لم يخبرونا بشيء خلال الأشهر الثلاثة ، كانت الأيام الأخيرة من مهلة قانونية سبقت حكماً وزارياً بنقلي إلى الجنوب ، حينما كانت والدتي تحزم الأمتعة ، أوصت أقدس خانم زوجة جيراننا مرتضى خان ، أن تتصل في رأس نهاية الأشهر الثلاثة بزرين خانم وتكتب لنا النتيجة .
***********
وصلتنا رسالة أقدس خانم ونحن في الجنوب ، علمتُ أن زوجة آقا بالا خان بعثت في اليوم الأخير من الشهر الثالث خبراً : ( إذا لم يغيِّر العريس أصدقاءه فلا ضير , ولكن عليه أن ينفذ باقي الشروط ! ) بعد أشهر وصلت رسالة أخرى تقول :( قالت زوجة آقا بالا خان ، لا ضير إن لم يرع نفسه ومظهره ، لكن عليه أن ينفذ سائر الشروط . ) وبعد أشهر أخرى وصلت رسالة أخرى : ( لا مانع أن يعود متأخراً في الليل ، ولكن لا يتأخر كثيراً فتبقى ابنتي لوحدها ... وعليه طبعاً تنفيذ الشروط الأخرى !) الوقت ينقضي بسرعة ، بعد كل خمسة أو سته أشهر تصل رسالة من أقدس خانم تعلن عن إلغاء أحد الشروط السابقة : زوجة آقا بالا خان جاءت لبيتنا بنفسها وقالت : _لا داعي للسيارة أيضاً K لأن زحام الشوارع لا يشجع على اقتناء سيارة خاصة !... ولكن يجب أن ينفذ العريس باقي الشروط ! قالت لي زرين خانم في الحمام : قال آقا بالا خان البارحة : لدينا بيت ولا ضرورة لأن يفكر فيه ، لكنه يجب أن ينفذ سائر الشروط . ....آقا بالا خان وزوجته أخبروني البارحة :يمكن التنازل عن قطعة الملك في مهر العروس ، لكن الأمور الأخرى مهمة ! .
اليوم رأيت زينب نفسها في الزقاق ، المسكينة تملكها الهزال بشدّة...
قالت : أعيش حتى براتبه القليل ، ولكن لابد أن يستأجر لي خادماً وخادمة ! ...
***********
لا أدري بالضبط كم من السنين أنقضت ، لكنني أعلم أن ابنة آقا بالاخان بلغت السن الذي تسمى من تبلغه ( عانساً ). العوانس إذا كن واقعيات يجب أن لا يفكرن في الزوج ؛ لكيلا تنقبض قلوبهن كلما رنُّ جرس البيت !...شيئاً فشيئاً ، كدت أنسى الموضوع ... خصوصاً وأن أقدس خانم قطعت رسائلها ... حياتي كانت تجري في سياقها الطبيعي ، إلى أن وصلتني ذات يوم رسالة لم يكن لي عهد بالخط الذي طرز بياضها ، فتحت المظروف على عجل .
كُتب فيها : ( السيد برهان بور ) ... بعد التحية ، وددت أن أخبركم ، لأجل استئناف قضية زواجنا ، لا حاجة حتى للخادم والخادمة ، لأنني طوال هذه الفترة أتقنت في مدرسة بيتنا كل الأعمال المنزلية من طبخ وخياطة وتجميل وحلاقة وتطريز ، وحزت فيها على شهادة دبلوم . ( أنا بانتظار جوابكم , الجواب , الجواب , الجواب .... زينب ) .
في اليوم التالي ، حينما أفرغ ساعي البريد صندوق حارتنا كانت رسالتي ذات الأسطر المعدودة من جملة ما فيه من رسائل . كتبت لها : السيدة الفاضلة زينب خانم ! قرأت الرسالة التي بعثتها ، لكنني لم أفهم بالضبط من الذي تقصدينه من ( السيد برهان بور) ؟ إن كان قصدك أحمد برهان فهو يدرس حالياً في الصف الأول الابتدائي ولا شأن له بهذه الأمور ، وأنا والده ... ولا أعزب غيره في البيت ! أبلغي سلامي للوالد والوالدة ..... ( قربان علي برهان بور( . على فكرة ، نسيت القول أنني بعد شهرين من نقلي إلى الجنوب ، تعرفت على فتاة شيرازية سوداء الشعر والعينين ، لم يكن لديها أي تحفظ على أصدقائي أو مظهري أو تأخر عودتي إلى المنزل ، ولم تطالب بمنزل وسيارة وراتب ضخم أو قطعة ملك لمهرها ... فضلاً عن هذا ، كانت بارعة في الطبخ وأعمال المنزل ... والأهم من كل هذا إن والديها لم يكونا ( آقا بالاخان ) و( زرين خانم ) .
(1) بمعنى : السيد .
(1) بمعنى : السيد .
(2) بمعنى : الأعلى أو الرفيع .
(3) بمعنى : الإقطاعي .
( 4 ) بمعنى : عسجد أو ذهب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كيومرث صابري :
يعتبر كيومرث صابري رائد السخرية في عصر الجمهورية الإسلامية، وُلد هذا الرجل الذي اشتهر بلقب شخصيته الساخرة (كل آقا) عام 1942م في منطقة صومعة سرا، عاش طفولة فقيرة، اشتغل معلما ثم حصل على ليسانس في الآداب من جامعة طهران، ولج عالم الكتابة الساخرة منذ أيام شبابه الأولى، ثم كتب في مجلة توفيق الساخرة التي لم تدم طويلا، مما شجعه على تأسيس مجلة (كل آغا) التي ستكون أول منبر ساخر في إيران عام 1960م إذ استقطبت أقلاما شابة، ومنها تخرج الكثير من كتاب السخرية في الأدب الفارسي الحديث، حظي كيومرث صابري بثقة رئيس الوزراء الإيراني شهيد رجائي في صدر الثورة فعينه مستشارا ثقافيا وإعلاميا عام 1982م، إلا أنه استقال بعد عامين واعتزل العمل السياسي متفرغا للكتابة الساخرة المنتقدة للحكومات المتعاقبة، وفي العام 1999م لقبه الرئيس محمد خاتمي باسم (كل آقا) الشعب الإيراني، وفي العام 2003م أوقف صابري صدور مجلته (كل آقا)، وبعدها بفترة قصيرة توفي نتيجة إصابته بمرض السرطان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق