حتى نخاع الزمن
لا زلت أؤمن بنظرية الكاتب " آلان لايتمان " حين أشار في رواية " أحلام أينشتاين " بأن الزمن في هذا العالم يتمحور حول زمنين ، أما الأول فآلي وهو صلب ومعدني كبندول حديدي ضخم يتحرك جيئة وذهابا ، والثاني جسدي فيتقلب ويتعرج كسمكة في خليج ، الأول لا يلين بينما الثاني يتخذ قراره وهو يمضي ..
ذاك الزمن الذي نتخبط فيه باختلاف نوعيه ، إن لم تطاردنا عقاربه بلسعات سامة ؛ فإننا سنظل على الدوام مواظبين على تشجيب أعمالنا على عواتق التأجيل ، وبهذه الطريقة ستعم الفوضى إلى جانب الجمود الذي يترأس عرش اهتماماتنا البليدة بجدارة ..!
لهذا للزمن حضوره الدائم ، المهيب ، الكلي .. حضور حاد كالسيف .. وحين يعبر ، يعبر بجبروت طاووس دون أدنى التفات للوراء ..
ولكل زمن دفقة أداء مهمة .. مهما كانت تلك المهمة .. التي قد نحشوها في توهان أو عمل ، أو بحث ، أو انحياز أو انشغال أو عبث أو تأمل ..الخ .
تلك المضامين التي لا تسرمد عن أداء فروضها حسبما تستدعيه اهتماماتنا كبشر ، فلكل منا زمنه الخاص ، نمرره على قواعد النظام كممالك النمل والنحل وقد نلغي تلك الأنظمة فيحيا زمننا في بيات فصولي يدوزن كدورتها ، فهو يتمحور حول ثوان ودقائق وساعات تتلاقح فيما بينها باتصال ممتد ليشمل حجم أيامنا وشهورنا وسنواتنا ، وقد يستطيل إلى قرون إلى أن ينطفئ عن تاريخ هو سيرة مشوارنا في تداعيات الكون .. فالزمن هو السيد النهائي للإنسان والكون على حسب مارسيل بروست ..
ويتفاوت شمول أو ضيق قياسنا للزمن نزوحا إلى أعمالنا أو مجمل انشغالاتنا حيال عقاربها التي تسير في شموخ أبدي نحو الأمام دون أن تتأخر ولو لهيث ثانية ، ويبدو أن الروائي الفرنسي " مارك ليفي " استشف قيمة الزمن من أحقر ثوانيه وتفاوت تأثيره في الآخرين .. حيث يقول على لسان أحد أبطال رواية " ماذا لو كانت واقعية " : ( إذا أردت أن تعرف ماذا تعني انتظار عام من العمر اسأل الطالب الذي أنهى للتو امتحان نهاية السنة ، وإذا أردت أن تعرف معنى الشهر ، تكلم مع امرأة ولدت طفلا قبل أوانه وهي الآن تنتظر الساعة التي يمكنها ضمه إلى صدرها دون تعريضه للخطر ، وإذا أردت معرفة أهمية الأسبوع قابل عاملا في مصنع أو منجم يكد ويتعب من أجل إطعام أطفاله وزوجته ، وإذا أردت أن تعرف قيمة اليوم اسأل عاشقين مغرمين بجنون كيف يترقبان موعد لقائهما في اليوم التالي ، وإذا أردت معرفة قيمة الساعة فكر بالمصابين بمرض الخوف من العتمة ، إذا انقطع التيار الكهربائي ليلا ، وإذا أردت معرفة قيمة الثانية انظر إلى التعابير التي ترسم على وجه رجل خرج سالما من حادث مروع ، أما بالنسبة للجزء من الثانية فراقب أولئك الرياضيين الذين يتنافسون على نيل الميدالية الذهبية بالألعاب الاولمبية بفارق جزء من الثانية فكر بهذا الرياضي الذي يمضي حياته يتدرب ويتمرن كي يفوز على خصمه بفارق جزء من الثانية ..)
فلسفة " مارك ليفي " جمّلت لنا أهمية جزء من الثانية ، بينما ساعات الكثيرين تسيل على مدار أربعة وعشرين ساعة على فوضى الثرثرة والنوم والتلفاز وخياطة الإشاعات والحروب والفتن والانتكاسات والأحلام المجهضة ،..............الخ ، أكلموا أنتم حسبما اهتماماتكم الخاصة تستدعي ولا استثني زمني الخاص حتما .. !
* * *
" الوقت الذي نستمتع بإضاعته ليس وقتا ضائعا "
- براند راسل -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق