الخميس، 30 أبريل 2015

صوتك إذاعي ...

صوتك إذاعي ..

أظرف التعليقات التي قيلت لي ، ولعلها أحلاها أيضا كانت عن حنجرتي ، عبارة عفوية ، سمعتها مرارا بتقدير في أكثر من جلسة ثقافية ، كان آخرها يوم الخميس الماضي في المقهى الثقافي في مهرجان الشارقة القرائي للطفل بعد تقديمي لجلسة الدكتورة نعيمة حسن النجار التي طوقتني بالعبارة إياها بمحبة عميقة : " ليلى صوتك إذاعي "  ..
الإطراء نفسه عزّز بعبارة أكثر إغواء من آخرين أثناء تقديمي لهم : " هذا الصوت يجب أن يقرأ الشعر " ..
هذه التعليقات التي التقطتها أسماع معظم الحاضرين في سقوف تلك القاعات التي احتوتنا ، كانت تلف الفرح حول قلبي الصغير في كل مرة بغبطة كبيرة ؛ لكن في الوقت نفسه تركتني أحلق معها بعيدا ، جعلتني أؤثث في داخلي أمنية كبيرة ، مجنونة ، ومستحيلة ، لكن لكونها أمنية ، ولأن الخيال الخارق يتكفل بكل جنون العالم ومستحيلاته ، ولأنها لا ولن تؤذي أحدا بل ربما ستمتّعهم ، ووحدي أجني عاقبتها خيرا أم شرا حين تتبدى أمامي ، كل ذلك أغراني في أن أتشبث بأمنيتي بتوق أكبر ، أردد وأنا مطبقة على أجفاني كالصبي الحالم في فيلم " طوق الحمام المفقود " الذي يجثو على ركبتيه كفارس أمام وردة حمراء يانعة مطبقا على جفنيه ببراءة فائضة مقربا رأسه الصغير منها ؛ لأنه أدرك بخياله الطفولي الفضفاض بأنها تحلم وهو يريد أن يسرق منها حلمها ..  
أما أنا بكامل خشوعي طوال درب أمنياتي سأردد : لو أن لصوتي مقومات أكبر ، لو أن حنجرتي تغدو سحرية كبطل شخصية الكاتبة الألمانية " كورنيليا فونكه " في روايتها الخيالية البديعة " قلب البحر " الرجل ، الأب ، الذي كانت حنجرته فائضة بحكايات الكتب التي يسكبها بمنتهى الشغف في روح ابنته ، الطفلة الصغيرة ، التي اعتادت أذنيها على سماع الحكايات ، والنوم على نبرة أبيها المضمخة بدفء القصص ، لعل هذا الإصغاء منها ، ولعل صوت الأب المخلص أثناء القراءة ، الصوت الذي يمنح كل كلمة حقها ، ويضع كل فتحة وضمة واستفهام وتعجب في موضعها الصحيح ، وكل فقرة يسردها بطلاقة تجنّب شخصيات الكتاب عاهات سوء القراءة ، وأكثر من ذلك أيضا هي التي منحت صوته موهبة فذة في إخراج الشخصيات من قلب الرواية التي كان يتماهى مع شخوصها بحسّه المذهل ، هذه الموهبة المكلفة ، الموهبة الغريبة ، والباهرة ، من لا يرغب بها ..؟
مهما بدت خطورتها لا يمكن أن يرفضها قارئ كتب مفتون بالحكايات التي يتلقاها ويعيشها كما لو أنها تخصه ، كما لو أن تلك الشخصيات كانت معه دائما كأصدقاء ، وعشاق ، وأعداء كذلك ..!
وما أكثر الشخصيات التي أريد أن انتشلها من الكتب بصوتي ، أرغب في أن أتأبط ذراعيها ونمضي معا  إلى عالمها الغامض ، أن أجس خيباتهم عن قرب ، أن أطير مع خيالاتهم ، أن أطبطب على دموعهم ، أن أتجمّل ، واكتئب ، أرقص ، أغني ، أتأمل ، أنام و آكل ، اكتب ، واقرأ لهم ومعهم ، أن نتلقى الحياة ونتعاطى معها بروح المغامرة التي تقتحم أرواحنا بخيالات مبهجة ..!
" كوزيت " بطلة رواية " البؤساء " ، " آنا كارنينا " رائعة " ليو توليستوي " ، " جريجور سامسا " بطل العبقري " كافكا " ، زوجة الطبيب المبهرة في رواية " العمى " لــــ" ساراماغو " ، تلك الأمنية التي تندفع بحماس طفل هاجسه الاكتشاف ، فأجدني في جولة مع " أليس في بلاد العجائب " ونتآمر معا ضد الأرنب الأبيض ، فأحوله إلى ملوخية شهية ، وأعلق ساعته التي كان يثبتها على جيب معطفه الأسود كرجل أنيق على حائط المطبخ كذكرى ، وحين أشرع صفحات أكبر كتاب ضخم في مكتبتي المعنون بــــ " أين كانوا يكتبون ؟" و الذي يحوي بين جنباته على ذكريات خالدة ، صور بيوت ، غرف ، ردهات ، وحدائق أشهر الأدباء في العالم ، حينها أريد أن تستحيل غرفتي الصغيرة - كما يشاء صوتي الجبّار - إلى غرفة كتلك الغرف المأهولة ببصمة من دوّنوا التاريخ على هيئة حكاية مكتوبة فاخترعوا خلودها الأبدي ، فتمتزج روحي بعطر ساكنيها وعرقها ، بأرواح من سلموا رقابهم للحكايات التي كانوا يقتاتون عليها ؛ لأنهم آمنوا بأنها وحدها من ستعتني بهم بوفاء خالص حين يسلمون الرمق لرب الكون ،  فيسحبني صوتي إلى غرفة " مورافيا " التي تطل على البحر شاسع في عزلته الرهيبة ، اكتب فحسب ، وحين أتعب ، أتأمل الكائن الأزرق بصمته المهيب أمامي ، وحين أقلب الصفحة على منزل " أرنست همنغواي " أتجول في ملكوته ، و أمام طاولة الكتابة في مكانه ذاك ، وعلى هيئته الواقفة تماما حين كان فكره ينقل من قلب العاصفة رواية الشيخ والبحر آخذ غليونه و أنفث الدخان على ذكرى الرصاصة التي فشلت في مهمتها ؛ فلقد بقي صاحبها حيّا رغم أنف المسدس الغدّار ..!
 وفي عالم  " فرجينيا وولف " الذي يغلب عليه طابع الوحدة التامة سأنظم إليها وهي في طريقها إلى حتفها ، إلى نهر أوف ؛ كي أوقفها في آخر ثانية من زمن الحتف كما يحدث في الأفلام عادة ، فأحرر جيوب معطفها من الحجارة لتتحرر بدورها من ثقلها ، أوقفها لأقودها من يدها وهي منصاعة تماما كدمية مطيعة بعد صدمة النجاة إلى غرفتها الخاصة للكتابة حيث تترقب كل جزء منها انفجارها الإبداعي ، و أقنعها بكل ألفاظ الأمل التي كنت أنمّيها في جوفي كلما سقطت بأن قراءها ، قراءها المخلصون سيتعافون بفضل كلماتها وحدها رغم أنها مفقوءة بالجرح ؛ لأنها صادقة كحد سكين ..!
وبلا ريب سينحني صوتي بإجلال أمام " ليزل " بطلة " سارقة الكتب " للروائي " ماركوس زوساك " يتيمة الحرب التي قهرت ضربات المدافع بصوتها الحكائي المطمئن ، صوتها الذي أرغب دائما في استعارته حين أنكسر ، صوتها الذي خلق ليضمّد الأحزان ويرممّ أرامل القلوب ، الإجلال عينه سيكون ممزوجا بالنبل أمام الروائي " إنريكو دي لوكا " أمام رائعته " اليوم ما قبل السعادة " و أحد أبطاله الرائعين " دون رايموندو " - بائع الكتب المستعملة - الذي كان يعيرها للطفل الصغير بلا مقابل ؛ ليقينه التام بأن الكتب وجدت لتُقرأ ، اليقين نفسه الذي جعله أروع بائع للكتب المستعملة يمكن لقارئ أن يلتقيه ، العم " دون رايموندو " الذي أخبر الطفل الصغير إياه بأن أعمق حسرات التي صادفها في هذا العالم المثقل بعار الحروب ، هو فراغ جدار كان يسند يوما ، في زمن ما ، مكتبة مباعة ..!
يااااه ، كم أنا حالمة .. و كم خلاّقة هي الحكايات حين يكون لها صوت جبّار ..!
ليلى البلوشي

الثلاثاء، 21 أبريل 2015

فتنة الكتب الأكثر مبيعا ..!

فتنة الكتب الأكثر مبيعا ..!

اعترف أسطورة الإذاعة الأمريكي والذي عدّ عملاقا خلاقا من العصر الذهبي للإذاعة وكاتبا ومنتجا للمرئيات والمسموعات  " نورمان كوروين " قائلا : " لا اقرأ للكتّاب أصحاب الأكثر مبيعا ، لا أثق بهم " ..!
أجدني أضم صوتي لصوته و أعترف بأنني لا اقرأ لأصحاب الكتب الأكثر مبيعا على الأقل في عالمنا العربي وهي تهمة أرفعها عن قوائم الكتب الغربية ؛ فمعايير الغربيين في اختيار أكثر الكتب مبيعا لا يمكن أن تكون شبيهة في دقتها وفي جديتها معايير دور النشر العربية ، لذا معظم الكتب الأكثر مبيعا في قوائم الإصدارات العالمية لم تخذلني قط كقارئة على الرغم من أني كنت اقرأها بلغة وسيطة وكنت أضع كامل ثقتي في المترجم العربي رغم علمي بأن " الترجمة خيانة " كما يعترف بذلك أصحاب هذا الاختصاص ، وعلى الرغم من اللغة الوسيطة التي كنت أتفاعل بها مع الكتاب المترجم غير أنها كانت تفيض بالجمال ، المتعة ، الفائدة ، ودهشة التلقي لهذا الكتاب الغربي الأكثر مبيعا في العالم ..
ولكن الأمر يختلف تماما ويكاد يكون محبطا للغاية حين تقرأ كتابا من ضمن أكثر الكتب مبيعا كما يروج بعض دور نشر عربية ، وهي تستعرض تلك القائمة في واجهة الصفحات الثقافية لبعض الصحف ، وفي أثناء كل معرض كتاب عربي ، وغالبا تكون الأسماء نفسها مكررة مع كل كتاب يقومون بإصداره ، وهم يدركون جيدا أن القارئ الذي لا يقرأ سوى قوائم أكثر الكتب مبيعا سينساق كما تنساق الماشية إلى أقفاصها وراء تلك القائمة بفرح ساذج ، ويجدها مناسبة جيدة ليستعرض عضلاته القرائية ، حين يقوم بنشر صورة غلاف الكتاب الأكثر مبيعا في الانستغرام ، ويتسابق المراهقون والمراهقات في ذلك بعد تفشي موضة تصوير أغلفة الكتب ، في الوقت نفسه يفرح الناشر الفرح الساذج ذاته فخزينته وحده ستفيض بالمال ، بينما الكاتب المسكين لا يهمه من هذه الصفقة سوى أن يكون من ضمن قائمة الأكثر كتب مبيعا في كل معرض كتاب ، وفي كل مناسبة ثقافية ، أما مسألة قراءة محتوى الكتاب فهي غالبا خارج اهتمام كل من الناشر و القارئ و الكاتب أيضا ، وهذا أمر سائد في مجتمعاتنا العربية التي أصبحت تقيّم الكتب من ازدحام حفلات توقيع الكتاب لكاتب ما ، ومن تفشي صور غلاف الكتاب في مواقع التواصل الاجتماعية والانستغرام ..!
وعادة أكثر الكتب مبيعا حقا في العالم العربي هي الكتب التي افتضحت بأنها جنسية وهذا لوحده دافع كاف لتحقيق مبيعات هائلة تعود لخزانة دور النشر طبعا ، أو الكتاب الذي فاز بجائزة مشهورة وهذا دافع ممتاز لمن لا يقرأ سوى الكتب الحائزة على جوائز ؛ لذا فإن قوائم أكثر الكتب مبيعا في عالمنا العربي لا تحتاج سوى لناشر تاجر لديه ملصقات كافية لعبارة أكثر الكتب مبيعا يلصقها على الكتاب على سبيل الإغراء التجاري فيجد اقبالا كبيرا عند جمهرة من قراء لا يقرأون سوى الكتب التي تكون عليها ملصق أكثر الكتب مبيعا ، هذه الوسيلة نفسها أصبحت بعض دور النشر العريقة مضطرة باتباعها على كل كتاب فاز بجائزة عربية أو رشح لجائزة عربية بملصق حائز على جائزة أو رشح لجائزة لزيادة كميات الإقبال عليها  ..
مما لا شك فيه ثمة كتب عربية تستحق لكي تكون ضمن قوائم أكثر الكتب مبيعا ولكنها لا تجد طريقها إلى القائمة ، ربما لأنها لا تثير الرافعات الإعلامية التي تفتش عن كل ما يفرقعها ، في الوقت نفسه هناك كتب ضمن قوائم أكثر الكتب مبيعا وتستحق مكانتها بجدارة إبداعية غير أن خلط الحابل بالنابل جعل الأمر ملتبسا على القارئ الجاد و ظلم هذه الفئة في صدارتها تلك ..!
قال مرة ناشر أمريكي : " أسوأ قارئ هو الذي يشتري الكتاب لأن الآخرين قد تحدثوا عنه ولكن للأسف فهذا القارئ هو رأسمال دور النشر في العالم " ..
لكن الطامة الكبرى من – وجهة نظري - حين يلهث بعض النقاد إلى كتب الدعايات الإعلامية ، وحين يكون جل اهتمامهم الكتب التي حازت على جوائز ، ويستثنونها بالدراسات والتحليلات النقدية في سباق لاهث بين هؤلاء النقاد ، فتظهر مئات الدراسات النقدية حول الكتاب نفسه ، في حين هناك آلاف من الكتب العربية بغض النظر عن جودتها أو رداءتها على رفوف الانتظار تترقب فرصتها النقدية من نقاد متخصصين ، فإذا كان هذا حال بعض النقاد في عالمنا العربي فكيف سيكون إذن حال القراء ..؟!
بمن ستثق أيها القارئ .. ؟
أنا شخصيا ومنذ أعوام القراءة الأولى لم أكن أثق سوى بحدسي ، حدسي الذي قادني دائما وحتى هذه اللحظة إلى أروع الكتب عربية كانت أم أجنبية ولم يسبق أن خذلني حدسي بالقدر التي خذلتني بها قوائم الكتب الأكثر مبيعا عربيا ..
أيها القارئ ، يا من تريد أن تتشبع بالقراءة وهي تقودك بحب إلى عوالمها السحرية لا تملك سوى أن تثق بحدسك الذي يرتقي في كل مرة ليلائم ذوقك وفكرك القرائي ، الحدس نفسه الذي سيلتقي مع قراء آخرين في طريق القراءة ، قراء مكتشفين عن كنوز الكتب وأكثرها روعة وجمالا ودهشة وفيضا فكريا ..
 القراء المكتشفون ما أنبلهم في زمن غاب فيه الناقد المكتشف ليحل محله الناقد التابع ، وهذا ربما من حسن حظ الكتب ..!

ليلى البلوشي

الثلاثاء، 7 أبريل 2015

السارد العظيم إيتالو كالفينو

السارد العظيم إيتالو كالفينو

جريدة الرؤية ..

في رسالة بعثها الروائي الإيطالي " إيتالو كالفينو " إلى صديقه الروائي الإيطالي " ميكيلي " المعروف بروايته " منغوليا على خطى ماركو بولو " ما يميز هذه الرسالة القصيرة هي الحديث الموجز والعميق في آن عن كيفية كتابة رواية وقصة قصيرة ومقالة ، فالروائي الإيطالي " إيتالو كالفينو " في بداية الرسالة نراه يبدي نوعا من الحسد على سبيل المزاح لصديقه الروائي الإيطالي ؛ لأنه يعلم جيدا أنه يقضي جل وقته في كتابة أطنان من الروايات المحبوكة حول موضوعات شتى بينما يبدد هو وقته ، فقد كان يأمل أن يجمع قصصه القصيرة التي كتبها في وقت ما في كتاب قصير ، لطيف و أنيق ومرتب كما يعبر ، غير أن صديقه الشاعر والروائي والناقد الإيطالي " تشيزاري بافيزي " – أهم الأدباء الإيطاليين في قرن العشرين - رفض الفكرة موضحا له ربما بنزعة نقدية بأن القصص القصيرة لا تباع وأن عليه أن يكتب رواية ، غير أن " كالفينو " أباح لصديقه في الرسالة بأنه مستعد كي يقضي حياته جلها في كتابة القصص موضحا في اعترافه بميزة كتابة القصص القصيرة وكأنه يغازلها في قصيدة منمقة : " لا أشعر الآن بضرورة ملحة لكتابة رواية ، أستطيع كتابة القصص القصيرة لبقية حياتي ، قصصا لطيفة مقتضبة بحيث تستطيع أن تنهيها بمجرد أن تبدأ بكتابتها ، قصصا تكتبها وتقرأ دون أخذ استراحة ، مستديرة وكاملة كالبيض ، قصصا إن أضفت أو حذفت منها كلمة واحدة يتفكك النص كله " ..
وحين يكتفي من تبيان وجهة نظره في كتابة القصة القصيرة وميزتها الجمالية ككاتب عاشق لكتابة القصص القصيرة نراه في المقطع الآخر من الرسالة نفسها يفرد حديثا شخصيا عن رأيه في الرواية وكتابتها ، موضحا من خلالها الجهد الذي يبذله ككاتب كي يكتب رواية ، كتابة مشوبة بعاطفة متوترة : " أما في ما يتعلق بالرواية ، فدوما ما تحتوي على لحظات ميتة ، على أجزاء حيث تربط مقطعا بآخر ، شخصيات تشعر بأنها ليست مكتملة تماما ، تتطلب الرواية مقاربة مختلفة ، أكثر استرخاء ولا تتطلب أن تتوقف عن التنفس وأسنانك تصّر مثلما أفعل حين أكتب ، أكتب وأنا أقضم أظافري "
ثم يبعد عن نفسه تهمة خمول أفكاره الروائية في رأسه ، بل يقر بأن رأسه يفيض بأفكار روايات ، حتى أنه يستطيع أن يكتب عشر روايات ، غير أن ما يربكه حول مسألة كتابة رواية هو أنه يستطيع التنبؤ بالروايات الفظيعة حول الأفكار الروائية التي سيكتب عنها ، حيث لديه أفكار نقدية ونظرية متكاملة حول الرواية وهذا ما يربكه حين يعزم بكتابتها ..!
وتتجلى تلك الربكة في كتابة رواية عند " إيتالو كالفينو " حين يخبر صديقه بأنه يكتب حاليا رواية مثله مثل بقية أصدقائه الروائيين والروائيات ، شارحا له الصعوبات التي يواجهها ككتاب رواية تظهر في الوقت نفسه مدى دقته وجديته في مشروعه الروائي وهي درس لكل من يستسهل كتابة الرواية في وقتنا الحاضر : " الأبله المعتوه نيكوسيا يكتب رواية جيدة حول الانفصاليين الصقليين ، ستكون رواية ناجحة ، إذ لديه أسلوب خاص وجديد ، ناتاليا أيضا تكتب رواية ، شأنها شأن بافيزي ، أنا أيضا بدأت بكتابة رواية : كتبت أربع صفحات في أسبوع ، تمضي الأسابيع دون أن أستطيع إضافة فاصلة إلى الجملة ، تنقضي أيام وأنا أتساءل ما إذا كانت مفردة " تصعد " أنسب من مفردة " ترتقي " في تلك الجملة " ..
بعد أن يسرد لصديقه الروائي ميزة كتابة القصص القصيرة والوقت الذي يستغرقه في كتابة الروايات ، يتحدث عن المقالات الأسبوعية وما يحتاجه كاتب المقالات : " أضف إلى ذلك ، أنه يتوجب علي كتابة مقالات وهذا يقتلني ، الجميع يطلب مقالات وأنا أكتبها ؛ لأن كتابة مقال تستغرق نصف ساعة ، كتابة مقال وليس إعداد المقال ، فإعداد المقال يتطلب أن تقرأ كتبا ، أن تجد أفكارا وأن تشمّر ساعديك ، علاوة على ذلك ، أنا من ذاك النوع الذي ينتقل من قمة السطحية إلى قمة الدقة خلال لحظة " ..
في الرسالة العميقة نفسها يضع أنموذجا عن كيفية الإعداد لكتابة مقالة ، فلا تكمن صعوبة المقالة في تحريرها من الرأس ساعة الكتابة ، بل أثناء اختيار الفكرة المناسبة ، وأثناء القراءة عن تلك الفكرة ، والتي قد تستغرق أسابيعا ؛ كي تتأكد من ثلاث كلمات فحسب عن الكاتب الذي تكتب عنه ..
هذا الشرح المسهب تظهر شخصية " إيتالو كالفينو " ككاتب قصة ورواية ومقال وتحقيقات صحفية أيضا ، تؤكد للقارئ بأنه كاتب جاد في مشروعه الكتابي ، كاتب يتحرى الدقة في كل كلمة يكتبها ، بل كل كلمة لديه تخضع لجلسات من التحقيق والتأمل والرجوع للمعاجم والقواميس وقراءة كميات هائلة من الكتب ، ليقدم للقارئ مادة كتابية كثيفة الإبداع ، وكل من قرأ لــــ" إيتالو كالفينو " يدرك حجم الدهشات التي تحتويها كتابته ، كثافة الأخيلة ، وسعة الجهد المبذول في مطاردة الحكايات بفراسة واعية ..
ومن لم يقرأ بعد لـــــ" إيتالو كالفينو " عسى أن تكون هذه المقالة التي شرّحته داخليا ككاتب متعدد المواهب في شتى أجناس الأدب أن تغريه لخوض عوالمه الساحرة بحق ..

ليلى البلوشي