الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014

طابور آيفون 6 أمام مكتبة كتب ..!

طابور آيفون 6 أمام مكتبة كتب ..!

جريدة الرؤية

تداول في وسائل التواصل الاجتماعية " الفيس بوك " و " تويتر " منذ وقت قريب ، خبر مع صورة شاهدة فنحن في عصر الصورة بامتياز ، الخبر يكتب والصورة تثبت ما يقوله الخبر بأن المئات من السعوديين أمام مكتبة " جرير " .. لوهلة حين تقرأ هذا الخبر تتفاجأ وتفرح في داخل نفسك لا سيما حين تكون قارئا أو كاتبا ، فإن الفرح يتمدد في قلبك الصغير ، ولا يذهب حيز تفكيرك سوى أن هؤلاء المزاحمون أمام مكتبة معروفة ببيع الكتب ونشرها يترقبون في طابور عريض لاستقبال كتاب جديد صادر حديثا ، وهذه الحادثة تذكرك كقارئ شغف يلاحق كل كتاب جديد من مكان إلى آخر بــــ " ظاهرة ثقافية " غدت عادة في دول أوروبا وأمريكا وبعض الدول آسيا ، حين يحتشد آلاف من القراء لينال كل منهم نسخته قبل أن تنفذ من كتاب الصادر حديثا لكاتب يحب أن يقرأ له ، أو يسعى لأن يقرأ عنه ، أو يقرأ له ؛ لأنه ببساطة يرى العالم بكل خرائبه ومآسيه وكوارثه وجمالياته ونبله وخيره في كتاب يفر منه وإليه ، كما حدث في اليابان حين اصطف مئات من القراء حتى ساعات الفجر الأولى متلهفين لشراء النسخة الأولى من رواية الكاتب الياباني " هاروكي موراكامي " الجديدة أمام مكتبة في طوكيو ، كما اصطف أيضا قراء رواية " هاري بوتر " صدور الجزء الأخير من الرواية ، وقراء آخرين تزاحموا لنيل نسخة من رواية " الرمز المفقود " للروائي " دان براون " .. فيالها من ظاهرة ثقافية ، ويا لها من عادة مدهشة ، ويا له من مشهد يخطف الأنفاس ، حين تشاهد أو تسمع أو تقرأ بأن أفرادا من شعبك أو جنسك أو قبيلتك أو من مذهبك – حسب التصنيف الديني – السائد للناس حاليا ، على الرغم من أنك ضد هذا التصنيف تماما بل ضد كل ما يخضع الإنسان للتصنيفات ؛ لينسفوا المفهوم الحقيقي للبشر في كونهم سواسية كأسنان المشط ، لكن هذا لا يتوافق ومصالح كثير من الأشرار في هذا العالم ، أولئك الذين هم عشاق التصنيف وأعداء كل من يلغي التصنيف ..!
تلقي بعقد التصنيفات خلف ظهرك ، وتحلم كخيالي بأن العالم القادم يسعى إلى تصنيف البشر على أساس أنهم قراء وغير قراء ، عشاق الكتب وأعداء الكتب ، أفرادا لا تعرفهم وليس لك صلة بهم ، ولكن الجامع الوحيد بينك وبينهم هو حب القراءة وشراء كتاب ..!
في السعودية ترى المشهد نفسه ، وترى الحشد الذي سبق ورأيته وقرأت عنه في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعية حين تداولوا صور مئات من القراء ينتظرون كتابا ، أجل لا بد وأنهم في انتظار صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب الذي يستقبلونه طازجا ؛ من هو هذا الكاتب العربي المحظوظ يا ترى أو الكاتبة المحظوظة ..؟ من يمكن أن يؤخر نومه حتى الساعة 12 تمام منتصف الليل سوى قراء مجانين أمثالك ..؟! هكذا تفكر لوهلة ، لكن مهلا جلّ توقعاتك ككقارئ تسقط في خيبة مريرة ، حين تكمل قراءة بقية الخبر المتداول والذي يقول بأن أولئك السعوديين متزاحمون أمام مكتبة " جرير " لشراء iphone6 ..!
تلملم خيبتك الكسيرة ، وتؤمن كقارئ أن ليس جميع الناس على سجية واحدة ، ولا تجمعهم الاهتمامات نفسها ، بل أنت أكثر الذين يؤمنون بالعبارة التي تقول : " لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع " ..!
لكنك في الوقت نفسه يقظ تماما لاختلاف توجهات الناس وسعيهم الحثيث تجاه ما تجلبه لهم التقنيات الحديثة من أجهزة منوعة ، وفي مجالات شتى ، وأنت نفسك تولي اهتماما ببعض أنواع تلك الأجهزة المفيدة ، ولست ضد انفتاح الناس على العالم ، ولكنك ضد هذا اللهاث الغريب لدى بعض الأفراد في - الوقت الحاضر - إلى مراكمة الأجهزة في بيوتهم وسياراتهم وفي كل مكان يكونون متواجدين فيه ؛ لمجرد استعراضها أمام الآخرين ، لمجرد أنه يوحي للعالم بأنه إنسان حضاري ، وأن أفراد أسرته حضاريون كذلك ، حين يهدي طفلا من أطفاله دون الثالثة جهازا الكترونيا مهما بدت استخداماته ، ثم يلتقط له صورة ليكمل مسلسل استعراضاته في الانستغرام بغية التباهي بطفله الحضاري ..!
 ولم يفكر قط أن طفله المسكين يحتاج إلى أب حقيقي يهتم به لا أن يهديه جهازا يحل محله ؛ لأنه كأب ليس لديه متسع من الوقت فهو مشغول في عمله أو مع أجهزته الخاصة حين يتواجد في البيت ، الطفل الذي يحتاج إلى حنان الأم واهتمامها المسؤول ، لكنه حين يولد هذا الطفل في عصرنا التقني ماذا يجد حوله ..؟ مجموعة أجهزة وألعاب الكترونية غزت أول وأهم أعوام انفتاحه على العالم ، فهو ما يزال في الأعوام الأولى من طفولته ، تلك الأعوام لا يدرك كثير من الآباء مدى خطورتها وأهميتها في حياة طفلهم ، تلك الأعوام الأولى هي التي تبلور شخصيته كإنسان بالغ حين يكبر ، ويعتقدون أن مجموعة من الأجهزة يمكن لها أن تصنع لهم طفل المعجزة ..!
تعود وتستعيد خبرات العالم الآخر وأفكارهم الحكيمة في تنشئة الأطفال ، فتقرأ أن في أمريكا عندما يدلف الصغار إلى أسرتهم لا سيما في أعوامهم الأولى ، فإن كتابا لابد أن يكون موجودا إلى جوار دمية الدب الشهيرة ، ووقت الاستحمام تجد كتابا بلاستيكيا جنبا إلى جنب مع اللعب التي تأخذ شكل المراكب والسفن في حوض الاستحمام مع الصغار ، وشيئا فشيئا يعتاد الأطفال ذلك ، وينتهي بهم الأمر إلى قبول الكتب باعتبارها جزءا مهما لا يتجزأ من حياتهم  ؛ فالآباء في الولايات المتحدة يعرّفون أطفالهم بالحضور المرتبط بالكتب ..!
وتقرأ أن في اليابان يخصصون للطفل غرفة مليئة بأجهزة وأدوات وأشياء مختلفة في مجالات شتى منها التقنية و الفن و القراءة وغيرها ، كل تلك الأشياء يجمعونها في غرفة واحدة ثم يراقبون توجهات طفلهم إلى أن تتجه ؛ ليقوموا بتنميتها له ..!
أما في دولنا العربية ، فإن معظم الآباء للأسف يضعون في يدي طفلهم جهازا يستهلك جل وقته ، ولا فائدة تذكر سوى أنه ينتقل من لعبة إلى أخرى ، وما من غاية سوى أن ينشغل الطفل فلا يسبب إزعاجا لوالديه  المشغولين بأجهزتهم ..!
سرعان ما يضجر الصغير ويسعى إلى تحطيم الجهاز الذي يرافقه حتى فراش نومه ، فهي في النهاية آلة ولا تحكي له قصصا بصوت أمه أو أبيه ما قبل النوم ، ولا تطبطب على حزنه حين يبكي ، ولا تمنحه الحب والحنان حين يكون في أمس الحاجة إلى حضن أم وقبلة من أب ..!
أعتقد أن لدى كل منا ما يكفيه من أجهزة ، وحان الوقت لنستعيد حياتنا قليلا التي أصبح العالم التقني يسلبها رويدا رويدا ..!

ليلى البلوشي

الاثنين، 22 سبتمبر 2014

رجل حياته مكتبة ..


رجل حياته مكتبة

جريدة الرؤية ..

" لم نكن نذهب إلى الكنيسة ، لكننا كنا نذهب إلى المكتبة "
هذا اعترف الروائي الذي ترشح لجائزة مان بوكر عدة مرات حتى نالها عام 2011م عن روايته " الإحساس بالنهاية " والقارئ الفذ مذ كان طفلا ، صياد الكتب الذي كان يلاحق الكتب من سماء إلى أخرى ؛ كي يحظى بالطبعة الأولى من كل كتاب صادر حديثا ، لتكون له مكتبة ضخمة ومميزة وحافلة بالكتب من بلدان مختلفة .. إنه الكاتب البريطاني " جوليان بارنز " الذي كان شغوفا بــالروائي " غوستاف فلوبير " ورائعته " مدام بوفاري " لتكون روايته الأولى بعد أعوام طويلة من صيد الكتب والقراءة تدعى " ببغاء فلوبير " ..
في مقالة مسهبة ونوعية بترجمة " آمال بن دالي " يسرد " بارنز " حكايته مع الكتب مذ كان في سن صغيرة في ظل أسرة كانت تعشق الكتب ولها مكتبة في البيت ؛ فجديه من أمه كانا مدرسين وكان لجده مجموعة أعمال " ديكنز" التي اقتناها عبر الطلب بالبريد ، و" موسوعة نلسون" من ثلاثين مجلدا أحمرا صغيرا ، و كان لدى والديه مجموعة كتب أكبر وأكثر تنوعا ، حتى أنه نشأ وفي اعتقاده أن كل البيوت فيها كتبا وبها مكتبة ، وذلك هو الوضع الطبيعي بالنسبة له ، فتلك الكتب هي للتعلم في المدرسة ، و للتزود بالمعلومات والتأكد منها ، وللتسلية خلال العطل ..
كان الطفل " بارنز " يتذكر جيدا كتب والده ووالدته وما كانا يحبانه ولم يشكل وجود اختراع " التلفزيون " عبئا بالنسبة له ولم يجرؤ " التلفزيون " أن يحل محل الكتب الأثيرة ولا أن يقلص من ساعات القراءة في الكتب ؛ فقد كان كلاهما مدرسان فخضع لرقابة صارمة وكان للكتاب احتراما في بيتهم الأسري .. ولكن يبدو في أمريكا شكل " التلفزيون " أزمة لدى الجيل الجديد مما جعل الرئيس أوباما يصرخ في أولياء الأمور قائلا : " ارحموا عقول أبناؤكم وأغلقوا التلفزيون " ..
كان لدى والده كتب مقالات " Fourth Leaders " الصادرة عن " التّايمز" أما والدته فكانت تستمتع بكتب " نانسي ميتفورد" ، كانت الرّفوف تحتوي كتبا مجلدة فاز بها والده في دراسته كجوائز لتفوّقه مثل " موسوعة النّثر الانكليزي" و " أعمال غولد سميث الشعريّة" ، ورواية " الدّير والمصطلى"  لـ" تشارلز ريد"  ، لهذا حين كبر " بارنز " كان من الطبيعي أن يسعى كجديه ووالديه إلى عادة اقتناء الكتب وقراءتها ، و يا لها من عادة حميدة ومثمرة تلك التي يعوّد الكبار فيها صغارهم على وجود الكتاب في البيت في مرحلة مبكرة من حياتهم .. والروائي " باولو كويلو"  سبق وعرض أهمية هذا الأمر مرة حين أشار بقوله : " في مرحلة مبكرة من العمر وعندما يدلف الصغار إلى أسرتهم فإن كتابا لابد أن يكون موجودا إلى جوار دمية الدب الشهيرة ووقت الاستحمام تجد كتابا بلاستيكيا جنبا إلى جنب مع اللعب التي تأخذ شكل المراكب والسفن في حوض الاستحمام مع الصغار وشيئا فشيئا يعتاد الأطفال ذلك وينتهي بهم الأمر إلى قبول الكتب باعتبارها جزءا مهما لا يتجزأ من حياتهم .." والروائي النيجيري " وول سوينكا " ذكر في كتابه " آكيه " التي تتناول سيرته في مرحلة الطفولة بأن والده كان ناظر مدرسة و كانت له مكتبة ، مما جعله وهو طفل يحمل كتبا أخذها من مكتبته ويتجه بها إلى المدرسة ، ليطلب من معلمها الالتحاق بها كتلميذ وكان يومئذ في الثالثة من عمره ..!
كبر الطفل " بارنز " في عائلة كان دأبها أن تفوز بالكتب في المدارس التي التحقوا بها ، وكان يحق لهم أثناء فوزهم انتقاء أسماء الكتب التي يرغبون في الحصول عليها ، وهذه ميزة أخرى ملهمة لنظام التدريس في بريطانيا أو أوروبا عموما خلال تلك الأعوام ، كانوا يعطون الكتاب أهمية جمة ، وكانت القراءة جزءا لا يتجزأ عن عالمهم ؛ لهذا تحول من قارئ عادي إلى صياد حقيقي وشغوف بالكتب بعد أن تخطى مرحلة نيل الكتب كجوائز في المدرسة أصبح يلاحقها كقناص دؤوب لديه حاسة امتلاك الأشياء ، معنى أن تمتلك كتابا أنت قمت بشرائه وسعيت له بكامل رغبتك للحصول عليه " كانت هناك أولا إثارة ومعنى الامتلاك ، أن تمتلك كتابا محددا، كتابا اخترته بنفسك - كان ذلك يعني شيئا من تعريف الذات - وهذا التعريف بالذات يجب حمايته ماديا ، لذلك كنت أقوم بتجليد الكتب مع كتابة اسمي بخط اليد على زاوية الغلاف الداخلي بالحبر الأزرق الداكن مع وضع سطر بالأحمر تحت الاسم ، كان تعريف الذات هذا نوعا من السحر" ..
لكن " جوليان بارنز " القارئ أصبح مع الزمن يدرك روعة الحصول على كتاب مستعمل أو كتب " سبق امتلاكها " كما كانوا يطلقون عليها في أمريكا ، سبق وانتقل من يد إلى يد ، وتشعب في بيئات مختلفة عبر أجيال مديدة ، في أمكنة باردة وحارة ومعتدلة ، ومع قراء بأنماط متباينة ، وأمزجة غريبة ، وفي النهاية تكون أنت صاحب هذا الكتاب المستعمل ، إن روعة امتلاك كتاب مستعمل تكمن في فكرة الثقافة المستمرة ..
وبعد سنوات من الخبرة في شراء الكتب ومطاردتها أصيب " بارنز " بخيبة أمل من بعض الناشرين وبائعي الكتب ، فقد كان يتصور دائما أن جامعي الكتب هم أشخاص مستقيمون وصادقون ، لكن التجربة علمته أن منهم من لا يستطيع ضبط نفسه عن غشك والتلاعب بك ..
ولكن " جوليان بارنز " حين تحول من جامع كتب أو صياد كتب إلى كاتب يوم طبع روايته لأول مرة أصبح أقل اهتماما بامتلاك كتاب في طبعته الأولى " أنني لم أعد أحتاج طبعات أولى من أعمال الآخرين باعتباري قد نشرت طبعة أولى من عمل خاص بي ، حتى أنني بدأت ببيع الكتب ، وهذا ما كان سابقا أمر لا يمكن تصديقه ، لكن مع هذا ، فإن وتيرة شرائي للكتب لم تنخفض ، أنا أشتري الكتب أسرع بكثير مما يمكنني قراءتها ، لكن مجددا ، هذا يبدو لي طبيعي جدا ، كم ستكون محظوظا أن يكون حولك من الكتب ما يمكنك قراءته بكل الوقت المتبقي من حياتك " ..
وعلى الرغم من أن الكتب الرقمية سهلت عليه كثيرا عملية الحصول على أي كتاب يريده وبأسعار غير مكلفة بل أقل مما يكلفه الكتاب الورقي ، غير أن حبه العميق للكتب الورقية أقوى من أن يحل محلها الكتاب الالكتروني حتى لو أضافوا خاصية تنزيل الكتب بميزة الروائح ، يظل للورقي خصوصيته بالنسبة له ..
 وكقارئ شغوف طرح " بارنز " حكمته عن القراءة : " القراءة هي مهارة الأغلبية لكنها فن الأقلية " مضيفا  بأن : " الحياة والقراءة ليسا نشاطين منفصلين. التمييز بينهما زائف ، ... عندما تقرأ كتابا كبيرا ، فأنت لا تهرب من الحياة ، بل إنك تتورط فيها عميقا ، قد يكون هناك هروب سطحي - إلى دول أخرى ، عادات ، أنماط حديث – لكن ما تقوم به بشكل أساسي هو أنك توسع فهمك للنواحي الرقيقة في الحياة ، لتناقضاتها ، لمتعها ، لآلامها وحقائقها ، القراءة والحياة ليستا منفصلتين لكن متكاملتان ، ومن أجل هذا الواجب الجاد للاكتشاف التخيلي واكتشاف الذات ، يبقى رمز واحد فقط : الكتاب المطبوع " ..
لقد كلفت حب القراءة وجمع الكتب " جوليان بارنز " حين كان قارئا ؛ فقد عاش في الكتب ، ومن من أجل الكتب ، بـالكتب ومعها ، ولكن وفي السنوات الأخيرة كان محظوظا بما يكفي ليعيش حياة مريحة من ريع الكتب ككاتب وروائي لامع ..
ليلى البلوشي

الأربعاء، 17 سبتمبر 2014

الاثنين، 15 سبتمبر 2014

حين تعود إلى بيت لا يعرفك ..!

حين تعود إلى بيت لا يعرفك ..!

يقول جورج أورويل كناقد لظاهرة الولاء في عصور الاستبداد : " الولاء يعني انعدام التفكير ، بل انعدام الحاجة للتفكير ، الولاء هو عدم الوعي " ..
ظاهرة الولاء هذه تمددت وبشكل فاغر في تاريخ الصين ، في مرحلة الركود الفكري والثقافي بكل معنى الكلمة حين كان ولاءهم المطلق يسجد صاغرا لزعيمهم المستبد " ماو " .. في زمن تكون فيه " العودة إلى البيت " محفوفة بالمخاطر ، مخاطر قد تعرضك وأسرتك إلى خطر المجتمع الاستبدادي الذي قدر لك أن تكون أحد أبنائها ، أنت الفار من نظام قمعي ، أنت الذي حين نافحت بجسارة عن كرامتك كإنسان يطالب بالعدل والكرامة في وجه هذا النظام تعرضت لأنكى محاولات التعذيب الجسدي والنفسي ، ناهيك عن تداعيات الغياب عن بيتك ، وأسرتك التي غادرتها كمجرم ومتهم في نظر النظام الاستبدادي ؛ لأن ولاءك لم يكن ناصعا وبشروط الحزب ..!
ولكن مسألة الوجع ليست هنا بل حين تصدم على حقيقة بأنك أصبحت منبوذا في نظر ابنتك التي سكب فيها الحزب السياسي مذ قبض عليك كعدو لها ومذ كانت هي طفلة لا تتعدى الثلاث أعوام تحبو نحو عالم يقدس زعيم الحزب ويعلن الولاء له ليغدو الحزب أهم من العائلة ، أهم لها من كل شيء في الحياة من مقربين وأصدقاء ..!
هذه بعض حيثيات الفيلم الصيني " العودة إلى البيت " للمخرج الصيني " جانج ييمو" 2014م .. في تجربة مختلفة ونادرة في حياة الصينين كان قدرهم أن يحكمهم زعيم يدعى " ماوتسي تونغ " ويفرض على شعب بأكمله ما أطلق عليه " الثورة الثقافية " لتعيش الصين تجربة مريرة من العزلة وانكار الذات في ستينيات القرن الماضي ..
ولا يمكن للصين أن تنسى ماضيها ؛ لأنه ترك خدوشا لا يمكن نسيانها ، وحين انهار نظام حزبهم المقدس والزعيم الذي اعتقدوا أنه خالد مخلد ، وجد الصينيون أنفسهم يفرّون من ماضيهم المثقل بخيبات الأمل ومآسي الروح ، ذاك الماضي الذي سحق كرامتهم حين خضعوا بكامل ولائهم ، وخوفهم ، وعبوديتهم ، كبشر لصوت واحد ووجه واحد ، وحين فقدوا ما فقدوا من أحباء ورفاق في سبيل هذا الصوت المستبد المتوحد .. وحدهم المتمردون ، العصاة ، أولئك الذين كانوا ملعونين في نظر الحزب ونظر عائلاتهم وأصدقائهم ، هم وحدهم حق لهم الاعتزاز بإنسانيتهم التي عبرت عن نبذها للعبودية ، وتجسد ذلك في شخصية الأب في فيلم " العودة إلى البيت " الفيلم الذي ينتقد الثورة الثقافية في ظل أسرة صغيرة مكونة من أم وابنة صغيرة وأب متمرد على الحزب جُرّ كمعتقل إلى ظلمات السجن ، كخائن للزعيم وحزبه ، وقضى خلف القضبان عشر أعوام قبل أن يتمكن من الهرب من الحبس الذي قبع فيه تملؤه رغبة واحدة فقط هي " العودة إلى البيت " ليرى زوجته التي يكّن لها الكثير من الحب والحنين وابنته التي رآها آخر مرة حين كانت في الثالثة من عمرها ..
لكن " العودة إلى البيت " لا تغدو بالسهولة التي تصورها سواء حين هرب من السجن أو حين حصل على حريته بعد انهيار الثورة الثقافية وانتهاء العهد الماوي ؛ ففي المرة الأولى يكون شعار " الحزب أهم من العائلة " طاغيا فتجد الزوجة المغلوبة على أمرها وحرصا على مستقبل ابنتها كراقصة باليه تصم أذنها عن طرقات الأب ، الأم المترددة ، التي تدخل في دوامة من التيه والرهبة ، في حين تكون الابنة الوفية للحزب والحريصة على مستقبلها فيه لا تتوانى عن التبليغ عن والدها الذي يكتب رسالة للأم ويضعها تحت الباب ؛ كي تقابله في الساعة الثامنة صباحا عند محطة القطارات ، ولكن اللقاء لا يتم سوى عن بعد ، اللقاء الذي تنهار معه أشياء كثيرة ، فالابنة تبلغ عن أبيها الذي تراه خائنا للحزب أي خائنا لزعيمها المقدس " ماو " ..!
أما الزوجة ، الأم ، فهي التي تدفع ضريبة كل ذلك ، فكأم تمقت ابنتها وتطردها من المنزل ؛ لأنها كانت سببا في تسليم الأب للسلطات ، أما كزوجة وهنا المأساة جلها تسقط في دوامة فقدان الذاكرة ، فهي لا تسقط من ذاكرتها سوى زوجها المعتقل الذي لا تتعرف عليه في المستقبل ، بل يظل حبيس ذاكرتها في الماضي المدجج بالرهبة من الحزب ، وحين يعود هذا الزوج بعد انتهاء العهد الاستبدادي لا تتعرف عليه الزوجة ، وهنا تغدو " العودة إلى البيت " عصيّة بكل معنى الوجع الإنساني ..!
في الفيلم يعيش الأب دوره كأب فالابنة التي بلغت عنه تقوم باستقباله في محطة القطار ويغفر لها الأب كل ما جرى منها في الماضي ، غير أن دوره كزوج يكون المعضلة الأساسية في الفيلم ويكون سببا لعدم عودته إلى البيت ؛ فالزوجة لا تتعرف عليه وتعتقد أنه رجل غريب لا يمت لها بصلة ، الزوج بدوره لا يستسلم لتداعيات اليأس التي تزحف على قلبه شيئا فشيئا مع مرور عبء الزمن ، ففي البدء يعتقد أن الغياب الطويل هو السبب في سحق ذاكرة الزوجة ، لذا يسعى إلى حشد وسائل جمة ؛ كي يساعد زوجته على استعادة ذاكرتها المتوقفة على لحظة ترددها في فتح باب البيت المغلق للزوج المعتقل الهارب المترقب بلهفة للحظة اللقاء ، الباب الذي يظل مفتوحا بعد أن يتم القبض على الزوج في محطة القطارات كتأنيب حاد للزوجة في ضميرها الإنساني حين خذلت طرقات الزوج المنتظر خلفه ، وهي اللحظة نفسها التي استأثرت بذاكرتها في الامتداد عن مسافات المستقبل حيال كونها زوجة ..!
تلك المسافات التي يريد الزوج استرجاعها كمستقبل كي يحظى بحياة سرق ماضيها عنه وعن زوجته وابنته ، لكن الزمن لا ينصفه ولا ينصف الزوجة التي تظل عبر مرور الزمن المرأة التي تنتظر زوجها في محطة القطارات في خامس من كل شهر كما كتب الزوج في رسالة لها حين كان معتقلا ، الرسالة التي وصلت متأخرة ، الزمن نفسه يأتي كعقاب ويأتي كتأثير على ما يخلفه الماضي المؤلم من جراحات في الروح وتظل قابعة كظل شبحي للإنسان ، فمن تراجيديا فيلم " العودة إلى البيت " أن الزوجة ليست وحدها تترقب عودة الزوج إلى بيت قلبها وروحها لكن الزوج أيضا يقف بالقرب منها ينتظر عودة من نوع آخر ، عودة لقلب وذاكرة المرأة التي تقف بجانبه على أمل استرجاعها ، عجوزان في الحب والوفاء والوجع والانتظار الذي طال أمده .. !
المأساة الصينية التي اختصرتها عبارة أرسطو حين سئل : " من يصنع الطغاة ..؟ فرد قائلا : ضعف المظلومين " ..!

ليلى البلوشي

الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

جريمة الضرورة ..!

جريمة الضرورة ..!

جريدة الرؤية

شاهدت من وقت قريب فيلما انجليزيا يتحدث عن أزمة الزنوج كما أطلقت عليهم أمريكا في زمن العبودية وهذا الفيلم يدعى " Belle " ألهمت كاتبة السيناريو فكرة هذا الفيلم الذي يكشف عن قصة حقيقية من خلال لوحة انجليزية رسمت عام 1779م وهي لوحة لفتاتين شابتين في العمر نفسه وهما " ديدو إليزابيث بيل " وهي فتاة سوداء بجانب ابنة عمها " الليدي إليزابيث موراي " وهما تحتلان مساحة متساوية نسبيا في الاطار، وهو أمر غير مألوف في تلك الحقبة مهما أشعل فضول كاتبة السيناريو كي تعرف سر قصة اللوحة ، وبعد قراءات واسعة وعمليات بحث توصلت لقصة حياة الفتاة السمراء " بيل " أو " ديدو " كما أطلق عليها عمتها حين جاء بها والدها القبطان البريطاني وهي في حدود العاشرة من عمرها بعد أن فارقت أمها الحياة ، حملها إلى قصر عمه الذي كان حاكما للعدل في تلك الفترة في إنجلترا ، ولم يجد العم بدا من ضيافتها لكونها من دم ابن أخيه ..
الفتاة " ديدو " السمراء ترعرعت مع ابنة عمها " إليزابيث " في بيت يعمّه المحبة والاحترام بل استطاعت نيل محبة عم أبيها والذي كانت تناديه بأبي ، وبتأثير هذا الاحترام والمحبة استطاعت أن تؤثر على قراراته كرئيس للقضاة حين اشتهرت في انجلترا في ذاك الزمن مذبحة تسونغ حين ألقت سفينة إنجليزية بشحنة عبيد في البحر ومقيدين لينالوا الموت ، بحجة أن السفينة كانت ستهلك من حمولة هؤلاء الزنوج وبجحه قلة الماء والطعام ، ولكن الوثائق أثبتت غير ذلك ودحضت حججهم ومزاعمهم ، وكشفت أن السفينة رمت بشحنة العبيد ؛ لأنهم كانوا مرضى ، وإذا ما وصلوا إلى حيث يجب أن يكونوا كانت سيطالبون بتعويض وتأمينات لقاء هؤلاء العبيد المرضى ، الذين تعاملوا معهم وكما لو أنهم حيوانات وليسوا ببشر من لحم ودم ، وربما لولا الفتاة " ديدو " التي ولدت من أم عبدة وأب انجليزي ذو مراتب وأصول وعلى صلة قرابة من العم مانسفيلد رئيس القضاة لما حكم لصالح العبيد ولما طالب بقانون إلقاء الرق في بريطانيا ..
وإذا ما كانت " ديدو " بطلة فيلم " Belle  " استطاعت بتمردها وقوة شخصيتها التأثير في محيطها حول قضية العبيد ، فإن التاريخ يشهد ممارسات فظيعة في حقهم ، ليس فحسب في أقبية البيوت ، حيث كانوا عبيدا وخدما لأسيادهم ، بل على متن البواخر والسفن التي كانت تتاجر بهم عبر ممارسات تتسم بالقسوة الشديدة والدناءة ، ويذكر كتاب " أمريكا والإبادات الثقافية " ترجمة " منير العكش " بعض تلك الممارسات الفظيعة في حق الهنود والعبيد ، وفي حق كل إنسان ، كان خارج منظومة العرق والطبقية في زمن أسياد ذوي البشرة البيضاء ، حيث كان العيش السوي والحياة الكريمة محرمة سوى لبني جلدتهم ..!
ويستعرض الكتاب عدة حوادث شبيهة بقصة مذبحة سيونغ ؛ فقد كان المعروف لدى البحارة الإنكليز أن ما يسمى بغلمان السفينة وكان يعنى بهم العبيد هم في النهاية " زاد احتياطي من اللحم الطازج " حين تنتهي مؤنهم من اللحوم ، بل يقال إنهم كانوا يتناولون لحم الإنسان الطري وهم يتغنون فيهم شعرا غزليا ..!
وكانت بعض تلك القضايا تجد من يحاكمها في المحاكم بطريقة أقرب إلى الهزلية بأيدي قضاة بلا قلب عادة أو ضمير ، حيث حوكم بعض البحارة على قتل شاب في 17 من عمره وقتلوه على متن سفينة وأكلوه ؛ لأنهم كانوا جائعين وسط البحر ، وفي ذاك الوقت كانت المحاكم الأمريكية توصف قضية أكل لحم البشر بــــ" جريمة الضرورة " على الرغم من أنهم كانوا وسط بحار غنية بالأسماك لو فكروا بإشباع جوعهم الإنساني لكن نفوسهم الدنيئة أوزعتهم لالتهام لحوم بشرية لتقتات وحشتهم منها ..!
ومن ملاحظات القاضي الأمريكي وهو يطلق هذه الاصطلاحات يومها أنه قال  : " كان يجب إتباع أساليب أكثر ديمقراطية في اختيار الضحية " ..! نعم .. نعم ، فالغاية تبرر الوسيلة ، ويبدو أن الأحكام التعسفية في حق العبيد وجواز التهام لحومهم واعتبارها " جريمة ضرورة " دعت وزير الداخلية البريطاني في فترة حكم 1880 – 1885م " وليم هاركورت " يدلي بتصريح خطير حين قال : " القضاة الإنجليز في القريب العاجل سيقرون أكل لحم البشر ويجعلونه بديلا طبيعيا لدفن الموتى " ..! خاصة بعد أن ساد اعتقاد في تلك الحقبة لدى الانجليز بأن " أكل لحم الرجل الأسود يقوي الباه ويطيل العمر " كما كتب " غانانت أوبيسكير " – أبرز علماء الأنثروبولوجيا المعاصرين – وأستاذ هذه المادة في جامعة برنسون ..!
إذا كانت الجرائم الضرورة في عصور " الظلام " باسم العرق والطبقية ، فإنها اليوم ونحن في عصور " الجاهلية " بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى ومغزى تقترف جرائمها الضرورية باسم الدين ؛ يكفي أن تتأملوا أيها السادة والسيدات ما تقترفه " داعش " بحق كل من يختلف عن تصوراتها الدينية من ترحيل ، وهجر، ونفي ، وقتل ، وتدمير ، وقطع رؤوس ، وهتك شرف أرواح بشرية ، لندرك حجم الفجيعة الإنسانية التي نقبع في دركها ..!
في ماذا تختلف " داعش " عن أولئك القضاة الأمريكيون والإنجليز الذين حاكموا العبيد بنظرة احتقار عرقية وطبقية تحت مسمى قانوني وضيع " جريمة بالضرورة " ..؟!
خطر " داعش " الذي تمدد اليوم وسط خرس العالم كدولة اجمالي عدد سكانها حتى اللحظة يزيد على 8 مليون نسمة حسب جريدة نيويورك تايمز ، من سيدفع ثمن هذا الخرس العالمي عما تقترفه " داعش " سواكم يا عرب ..؟!

ليلى البلوشي