الجمعة، 29 أغسطس 2014

التاريخ يسنيقظ في غرف النوم ..!

التاريخ يستيقظ في غرف النوم ..!

جريدة الرؤية ..

تفجر من وقت قريب خبر عن نية الكاتب الصحفي " ويليام ستادييم " على نشر قصة حياة " مدام كلود " الشخصية الأسطورية التي عرفت في باريس في الستينيات بالسيدة الأكثر حصرية في العالم ، والمدام كلود كانت المومس الأشهر في باريس وكان لها دار للدعارة تديره في الشانزيليزيه ، في زمنها لم يكن ينظر بازدراء إلى زيارة المومسات في ذلك الوقت ؛ ومدام كلود يبدو أنها امرأة غنية بالأسرار عن زبائن كثيرين من الغرب ومن العرب أيضا دأبوا على زيارتها باستمرار في دارها ، وقد صرحت من وقت قريب أن من ضمن زبائنها الدائمين كان كل من الرئيس الليبي الراحل " معمر القذافي " وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق " موشي ديان " والرئيس الأمريكي الأسبق " جون كنيدي " صرحت بأسمائهم وهي معبّرة بقولها :  "هناك شيئين سيظل الناس ينفقون المال للحصول عليهما هما الطعام والحب الجاهز للبيع .. وأنا لا أتقن إعداد الطعام" ؛ لهذا كان زبائنها من الأثرياء وذوي نفوذ أولئك الذين ينفقون الملايين على شهواتهم ، ويبدو أن حياة الرؤساء والسياسيين والطغاة كانت على وجهين ، وجه صارم وقبضة حديدية أمام جمهورهم من الشعوب ووجه غارق في ملذاته الخاصة في أقبية مظلمة حافلة بالأسرار ..!
في كتاب " نساء الطغاة " للفرنسية " ديان دوكريه " تسرد فيه حكايات ورسائل حب وإعجاب تلقاها طغاة معروفين في العالم من أمثال " هتلر " و " موسيليني " و " تشاوتيشسكو " و" ماو " وغيرهم ..
وقد حظيت مقدمتها اهتماما برسائل " هتلر " حيث تشير إلى أن الزعيم النازي كان أسطورة النساء في عصره ، النساء الألمانيات الشابات كن مغرمات به ، وكانوا يرونه القائد الوسيم ، لدرجة أن رسائل الإعجاب والحب التي تلقاها " هتلر " في زمنه من المعجبات تفوق رسائل التي تلقاها كل من " ميك جاغر " و" البيتلز " ، ومن حجم وكثافة تلك الرسائل عين " هتلر " مستشارا خاصا يتلقى تلك الرسائل ويقرأها ؛ كي يتعرف على أوضاع البلاد من خلال أولئك النسوة وأحاديثهن ، معظم تلك الرسائل التي كانت تعبر عن إعجاب بالنازي وشخصيته كقائد للبلاد بالنسبة لهن ، و" هتلر " كان يولي أهمية لما تقوله نساء وطنه عنه وهو القائل : " في السياسة يجب الحصول على دعم النساء ، أما الرجال فيتبعونكم لوحدهم " ..
ولم يكن من عادة الدكتاتور النازي من أن يرد على رسائل المغرمات به ومعبوداته أولئك اللواتي كن يترقبن بلهفة ولو سطرا واحدا من خط يده ، ولكن حين كان يستلم رسالة من معشوقة يجد أن لها نية على زيارة إلى برلين لتعبر عن حبها لقائدها المقدس وجها لوجه كان يطلب من مستشاره حينئذ أن يكتب ردا مقتضبا ليقطع نية قدومها إلى حيث هو ، وفي إحدى تلك الرسائل كتب مستشاره : " سيدتي ، أفيد بهذه الرسالة باستلام كتابك إلى القائد وأبلغك بأن هذا الأخير لن يورط نفسه من حيث المبدأ في أي قضية خاصة " ..
و من فرط عشق إحدى معجباته قامت بإرسال وثيقة زواج موقعة من قبلها وكتبت فيه : " بهذه الشهادة الموقعة تتخذك الآنسة آن ماري رسميا زوجا لها " على أمل أن يوقع " هتلر " الوثيقة فيكونان زوجان ..
بل حين كانت تصله رسالة مذيلة بأبيات شعرية تمجده كقائد متوحد كمثل هذه الرسالة التي تقول : " كلنا نهتف لهتلر / الذي يؤّمن لنا السلام والأمل / أنت ، يا مخلّصنا ! / نتحمل الأعباء واللوم ، ولا ننسى غايتك !/ عاش أدولف هتلر / العالم كله يصرخ عاش هتلر / البطل العظيم المحبوب ، وفاؤك وفاؤنا / لنحمده معا ، لنرفع سواعدنا ولنصرخ بصوت واحد " عاش هتلر"  .."
حينئذ كان مستشاره يرد على كاتبة الأبيات الشعرية نيابة عن " هتلر " والتي بدورها تنم عن غموض شخصيته كطاغية تمجده نساء بلده بشكل مفرط : " السيدة العزيزة ، يبلغك القائد شكره الصادق على رسالتك ، مع الأسف ، لا يمكننا أن نسمح لك بنشر هذه القصيدة ، فإن القائد يرفض ، من حيث المبدأ ، أي شكل من أشكال التمجيد لشخصه " وهذا الرد الغريب من الدكتاتور النازي يجعلني أستعيد شخصية الزعيم الكوري الشمالي والذي عرف عنه أنه يشتري شعراء بلده ؛ كي يمجدوه و أسلافه في قصائد عصماء وليس هكذا فقط ، بل يجبرهم على هجاء وذكر نقائض أعدائه في كوريا الجنونية ، باعترافات أدلاها الشاعر الكوري الشمالي " جانغ جين سونغ " بعد أن هرب من دكتاتورية الزعيم في كتاب أطلق عليه اسم " عزيزي الزعيم " وهو من ضمن آلاف الزعماء والرؤساء عبر العالم العربي والغربي يشترون شعراء لتمجيدهم ..!
ويقال إن " هتلر " كان يتضايق على الرغم من كل شيء من آلاف الرسائل التي كانت تصله ويراها بأن رسائل من نساء بلا حياء ، بل كان يرى معظمهن أشبه بنساء رخيصات ومومسات حين يصرحن بحبهن بشكل مبتذل وعلى وصف المؤلفة " دوكريه " : " تكززه التصاريح المجردة بالحب وتشله " ..!
ولكن أيضا التاريخ يثرثر عن علاقة مشبوهة بابنة أخته المدعوة " جالي " فتاة شابة صغيرة من عمرها كانت تساكنه في المنزل نفسه ، وكان يرفض أي رجل يحاول الاقتراب منها ، أو أي نوايا لخطبتها ، فقد كان يستأثرها لنفسه بل رسمها عارية واحتفظ برسوماته عنها في مكان سري ؛ كي لا يورط نفسه في فضيحة مشبوهة ، وهي التي انتحرت في النهاية بسبب معاملته المتقلبة وحبسه لها في عالمه الغامض  ..!
ولم يجد مهربا من حبه الغريب لابنة أخته " جولي " والتي حين قام بدفنها عبر بأسى بأنه قد " دفن عواطفه وتابوتها في الآن معا " سوى أن يختار " إيفا براون " عشيقة له ، كان كثيرا ما يعاملها بفظاظة بل يمنع مجيئها إلى برلين حيث يتواجد واختصر حبه لها أن يكون في ميونخ ؛ وهذا يؤكد انشغال الزعيم النازي الكلي بتحقيق غاياته في المجالات السياسية ، وإن كان ذلك على حساب حياته الشخصي ومتطلبات قلبه ، وهو الذي كانت نساء ألمانيا الشابات الجميلات مغرمات به ، وكن يتلهفن نظرة منه ، أو إشارة كي يخضن خضوعا كاملا للرجل الذي يرونه استثنائيا وقاعدا عظيما ، لكنه سبق وأعترف لرجل مقرب منه ، من أنه بعد الحرب سيتخذ " إيفا براون " زوجة له لأنها امرأة حياته الوحيدة ولكنه كان يسعى قبل ذلك دائما لإخفائها عن حياته السياسية دائما والاجتماعية أحيانا قائلا لها : " إيفا أنت لم تخلقي لمثل هذه الحياة الاجتماعية ، أنت غالية علي للغاية ، علي أن أحمي براءتك ، برلين هي مدينة الخطيئة ، العالم الخارجي قذر ومبتذل " ..!
وفي أحلك ساعات حصار برلين حين تخلى عنه كل أتباعه والعالم الذي تصوره في خياله السياسي الخصب ، لم تكن معه سوى المرأة التي أحبته ، واتخذته هاجسها الكلي والشامل ؛ لدرجة اللحاق به إلى برلين حيث الحرب والحصار ، في ذاك المخبأ أدرك " هتلر " الطاغية والمهزوم بأن " إيفا براون " عاشقة وصديقة حقيقية وتستحق عن جدارة في أن تكون امرأة حياته ومماته ، فتزوجها ، وفي الليلة نفسها أنهيا حياتهما بسُّم ثم بطلقة ..!
ولكن هناك دائما نساء سريات في حياة الرؤساء ولا يعرف عن وجودهن أحد ، بل ثمة هالة تسور وجودهن في حياتهم ، وكانت المرأة " ماغدا " في حياة " هتلر " تشكل الجانب الأكثر خفاء في حياته وتاريخه السياسي ، هذه المرأة التي كانت رفيقته وطباخته أيضا والمعنية بشؤونه السياسية وكانت السيدة الأولى بكل معنى الكلمة ، ولكن كان عليها أن تتزوج أحد رجال حزبه النازي ؛ كي تلعب دورها في حياته ، وكي تقنع العالم وقتئذ بوجودها قربه ، كان زواجها بوزير الدعاية مصلحة وسياسة ، استأثرها " هتلر " بشارته الذهبية الحزبية وقدمه لها قبل أن ينتحر ، فكان الأمر بالنسبة لها ذروة المجد في حياتها ، كيف لا وهي المرأة الوحيدة التي ناقشها على صعيده حياته العسكرية في أمور السياسة ، وكان يعتد برأيها كثيرا ، والتي بدورها دفعت ضريبة قربها منه فانتحرت وزوجها وزير الداعية للحزب ، ولكن قبل ذلك حقنت أطفالها الستة بالسم كلعنة أبدية كان يجب أن تدفعها العائلة بكامل أفرادها ؛ فقد عاهدت نفسها على أن ترافق " هتلر " في السراء والضراء ، والمرأة حين تعدّ بشيء بدافع الحب توفي به ..!
لم تكن دعابة ما أطلقه " أرنولد توينبي " أشهر مؤرخي قرن العشرين حين قال : " إن التاريخ يستيقظ في غرف النوم "..!
وأضيف : بأنه يموت أيضا في غرف النوم بل وينتحر ..!
ليلى البلوشي

الاثنين، 11 أغسطس 2014

أمريكا كما يراها " هنري ميللر " ..

أمريكا كما يراها " هنري ميللر "

قال " والت ويتمان " مرة عن أمريكا : " أعظم ما يتعلق بأمريكا أنها أرض الفرص الثانية يأتي إليها الناس لصنع بدايات جديدة ، أسلافك ربما فكروا في هذا أيضا .. هي أرض تحب أن تغفر ، أن تدع الإنسان من جديد بعد أخطائه الكثيرة "
ولكن " هنري ميللر " هذا الكاتب ، المواطن الأمريكي له رأي آخر تماما عن موطنه والذي لم يجد فيه ربما السلام الروحي الذي وجده في باريس مدينة النور فهاجر إليها ، ففي روايته " كابوس مكيف الهواء " يضع " هنري ميللر " في استهلاله رأيه الجاد والصريح والكلي عن الأسطورة الأمريكية ويفتح شرايينها على مرأى من العالم ، فيقول عن موطنه نيويورك حيث عاش : " وانتابني اتجاه نيويورك الشعور الدائم – بأنه المكان الأشد بثا للرعب على أرض الله ومهما تكررت مرات هروبي منه أعود إليه كعبد فار وفي كل مرة مع إحساس بالامتعاض منه وبالكراهية ، يزداد باطراد " ..
عاش " هنري ميللر"  في زمن متطاحن بالحروب ، وفي الزمن نفسه كان حلم كل فنان أو مبدع هو الذهاب إلى أوروبا حيث مهبط الفن والإبداعات الخلاقة في وقت كان يرى أن أمريكا لا مكان فيها للفن وللفنانين : " لكي يصبح المرء فنانا عليه أن يكون مجذوما أخلاقيا ، منبوذا اقتصاديا ، ومعاقا اجتماعيا ، وخنزير يقتات على الذرة يستمتع بالحياة أفضل من كاتب خلاق أو رسام أو موسيقي والأفضل أن يكون المرء أرنبا " ..
لكن نظرة " هنري ميللر"  للهوية تتباين عن نظرة الآخرين لها ، عن نظرة مواطن عادي ، فهو كاتب وفنان خلاق لديه شعور بأنه إنساني وعالمي أكثر من كونه منتم لهوية وطنية واحدة بحد ذاتها أي مواطنا كوسموبوليتانيا وهذا ما يؤكده بقوله : " إن ما أحاول أن أقول هو ما يلي : على الرغم من أني أمريكي بالولادة وعلى الرغم من أني أصبحت ما يسمى المهاجر من وطنه ، فإني أنظر إلى العالم ليس كموال لهذا البلد أو ذاك بل كأحد سكان الكرة الأرضية " ..
ربما كون الإنسان متعدد الهويات وكونه لا يؤمن سوى بالإنسانية هذا ما يجعله يقف بكل ثبات ويبرز موقفه الصارم تجاه كل ما هو نابع من سلطة ديكتاتورية مستبدة ، يجعله يرشق كل طاغية بجسارة حتى وإن كان في موطنه ، فهو يرى أن ثمة أسباب غزيرة لظهور الطغاة الأوروبيين والآسيويين ولكن الطغاة في أمريكا هم متعددو الرؤوس أولئك الذين يعتقدون أن الوسيلة الوحيدة للقضاء على من يجسدون الشر هو تدميرهم ؛ ليكسر الزجاج العازل الذي غلفته أمريكا نفسها طوال تلك القرون ، ويكشف عورتها ، ويفضحها ، لينهار القناع الأمريكي بقوله : " نحن متعودون على التفكير في أنفسنا بوصفنا شعبا متحررا ، نقول إننا ديموقراطيون ، محبون للحرية ، متحررون من الضغائن والكراهية ، هذه هي البوتقة ، موطن التجريب الإنساني العظيم ، كلام جميل ، مفعم بالنبل ، وبالعاطفة المثالية ، في الواقع نحن رعاع سوقة وقحون ، يمكن حشد انفعالاتنا بسهولة عبر المهيجين والصحفيين والمتدنيين الدجالين والدعاة ومن شابههم " ثم يضيف وجهة نظرة بعبارات تدعو إلى التأمل في التاريخ الأمريكي : " إن وصف هذا بأنه مجتمع من أناس أحرار كفر ، ماذا لدينا نقدمه للعالم غير الغنائم الوافرة التي نسلبها بتهور من الأرض تحت تأثير الوهم المسعور بأن هذا النشاط المجنون يمثل التقدم والتنوير ؟ " ثم يعود ليؤكد بأن أمريكا التي يراها العالم بأنها أرض الفرص أضحت أرض العرق والكفاح العبثيين ، والمشكلة كما يرى " ميللر " ليس في تحول هذا الكفاح بل في غايته : " إن الهدف من كفاحنا كله نسيناه منذ أمد بعيد ، لم نعد نرغب في التخفيف عن المضطهدين والمشردين ؛ فليس هناك متسع على هذه الأرض الشاسعة ، الخاوية .."
كأنه يذكر لا العالم بل أمريكا نفسها التي قامت على أرض كانت للهنود الحمر – السكان الأصليون – أولئك الذين سلبت منهم أرضهم واعتبرتهم همجيين ومنبوذين ، ليتهم أمريكا نفسها وينعتها بالصفات عينها بغضب إنسان يؤمن بالحق ولا يخشى من الاقرار به : " إننا لسنا فقط جهلة ، ومتطيرين وأشرارا في سلوكنا مثل الهمجيين الجهلة والمتعطشين للدماء الذين جردناهم من ممتلكاتهم وأعدمناهم لدى وصولنا إلى هنا – بل نحن أسوأ بما لا يقارن ، لقد انحللنا ؛ حططنا من قيمة الحياة التي سعينا إلى تأسيسها على هذه القارة "
ويضاعف لها اللوم حين يقر بأوضاع المشردين في بقاع القارة الأمريكية  : " نحن أغرز الأمم إنتاجا في العالم ومع ذلك عاجزون عن إطعام وإلباس وإيواء أكثر من ثلث سكانه " بمساحات الشاسعة لتي سلبتها أمريكا من الهنود تحولت مع الوقت إلى أرض يباب بسبب الاهمال واللامبالاة والطمع والتخريب وكأنه يؤكد أن أمنا الأرض تنتقم لسكانها الأصليون ، أولئك الهنود التي جردتهم أمريكا من ممتلكاتهم وأهلكتهم وحولتهم إلى مرحلة من الحضيض ليكونوا منبوذين ، أولئك الهنود كما يرى " ميللر " كانوا يبجلون الأرض ، فالغايات كانت سليمة والتربة غنية وخصبة ، وقد عاشوا في تناغم مع الطبيعة في وقت كانت ترى أمريكا بأنها حياة بدائية وهمجية وذات مستوى معيشي هابط ..!
لكن الضربة الموجعة على رأس السياسة الأمريكية حين يقول : " وخلال ألف عام من الحرب المتواصلة تقريبا لم تفقد أوروبا ما فقدناه نحن في غضون مئة عام من السلام والتقدم " هذا السلام الذي فقدته أمريكا كما يذهب " ميللر " لكي يعرفه الإنسان عليه " أن يجرب الصراع ، عليه أن يمر بالمرحلة البطولية قبل أن يتمكن من التصرف كحكيم ، يجب أن يصبح ضحية انفعالاته قبل أن يتمكن من التعالي عليها ، ولكي يستنهض طبيعة الإنسان الانفعالية لتسلمه إلى الشيطان وتخضعه للاختبار الأسمى ، يجب أن يجري صراع يتضمن شيئا أكثر من الوطن والمبادئ السياسية والأيدولوجيات "  ..
فــ" هنري ميللر " يؤكد بحزم بأن العالم الجديد لا يصنع ببساطة بمحاولة نسيان القديم ، العالم الجديد يصنع بروح جديدة ، بقيم جديدة قد تكون أمريكا قد بدأت بهذه الطريقة ولكنها اليوم مشوهة فهي عالم الأشياء ، الماديات التي تلهث خلف صناعة وتوفير كل ما هو سطحي وشكلي بينما الداخل يبدو كبئر مليء بالقذارة ومظلم وموسوس ومهترئ .. فهي حولت الإنسان من جسد وروح إلى آلة منتجة تسعى إلى ضخ الماديات والمنافع في مجتمع رأسمالي واستهلاكي ، قضت على الإنسان وعلى روحه ، ففي وسط عالم يلهث نحو الرفاهية من سيلمح المرارة في القلب ، ونزعة الشك ، والسخرية ، والخواء ، والعقم ، واليأس ، وانعدام الأمل الذي ينهش العامل الأمريكي ..؟ حتى الفرد الأمريكي نفسه لا يريد أن يرى في نفسه هذا ؛ لأنه ممتلئ بالبؤس ولأنه يريد وسائل الراحلة القاتلة وأنواع الرفاهية ويتبع خطاها كما جميع الحشد بلا وعي وبلا هدى وبتهور ..!
الأمريكي الذي يقف أمام حاجز المكوس تحت رمزهم الوطني المجيد فإن أول سؤال يطرح عليه هو كم معك من النقود ؟ فإذا لم يكن بحوزته نقود – كما يقول ميللر – بل فقط حب حرية ، فعليه أن يتمتم صلاة رحمة على شفتيه ، فإنه سيمنع من الدخول ويعود إلى المشرحة منبوذا كمجذوم .." هناك شيء واحد تمنحه أمريكا وهو ما يتفقون عليه كلهم حوله : المال " ..! بمعنى يمكن للإنسان الذي جيوبه فارغة أن يعيش في كل بقعة من العالم سوى أمريكا مهبط الماديات ..!
" ميللر " يرى أن التجربة الإنسانية التي ينشدها لن تنجح ما لم يكن هناك رجال حقيقيون " وخلف مفهوم الرجل يجب أن تكمن العظمة ، لا يوجد حزب سياسي قادر على جلب مملكة الإنسان ، يمكن لعمال العالم أن ينظموا ذات يوم إذا كفوا عن الإصغاء إلى قادتهم المتعصبين ، أخوية الإنسان " ..
ولكن يجب أن يكون الفرد إنسانا حرا وندا في الوقت نفسه ؛ فالعبيد لا يستطيعون الاتحاد والجماهير الغفيرة لا تستطيع الاتحاد والجهلة لا يستطيعون الاتحاد ، هذا الاتحاد الذي لا يحقق غايته إذا عجزنا عن إطاعة أرقى دوافعنا كما يؤمن الكاتب الأمريكي " هنري ميللر " ..

ليلى البلوشي

الثلاثاء، 5 أغسطس 2014

شيخوخة الكيان الصهيوني ..!

شيخوخة الكيان الصهيوني ..!

رفع بعض من اليهود لافطات تندد بما يمارسه الكيان الصهيوني في حربها على غزة متخذين موقفا كيهود عن رفضهم عما تمارسه إسرائيل باسم اليهود جميعا ، ذائبة إياهم تحت كيانها الصهيوني وهذا يبرز الفارق ما بين أن تكون يهوديا وبين أن تكون صهيونيا ..
مع العلم لا يتمتع كل اليهود بالامتيازات التي يتمتع بها الصهاينة وبقية اليهود ، وقد وصف الكاتب اليهودي " عاموس عوز " في روايته " قصة عن الحب والظلام " طبقات اليهود في المجتمع الإسرائيلي بأنه قد ذاق الخناق ببعض اليهود من الامتيازات المستثنية لبعض الطبقات مما حدا إلى الكثير منهم مغادرة أرض الميعاد إلى ميعاد بديل لهم وهي " أمريكا " ..
وقد أكد هذا القول المحامي اليهودي الأمريكي " فرانكلين لام " وهو من الكتاب الذي بشروا بزوال قرب إسرائيل ؛ حيث أشار في تقرير قد نشر له بأن أكثر من نصف اليهود المقيمين على الأرض يودون من مغادرة إسرائيل في الأعوام القليلة القادمة في ظل استمرار تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية لكثير من اليهود وقد أكد ذلك قائلا : " هناك نسبة كبيرة من المستعمرين الصهاينة في فلسطين التاريخية هم الآن على أهبة الاستعداد لاستعمال حقهم الطبيعي للمغادرة وفي نفس الوقت هناك مجموعة كبيرة من الفلسطينيين أصحاب الأصول التاريخية في البلاد أصبحوا ضحية التمييز العنصري وهم أيضا الآن على أهبة الاستعداد لاستعمال حقهم في العودة " ..
فالمحامي اليهودي يؤكد أن الحلم الصهيوني الذي قام في القرن التاسع عشر من أجل استعمار فلسطين كي تكون ملجأ آمنا ليهود أوروبا بعد حجة الهولوكوست أصبح اليوم في قرن الحادي والعشرين فاشلا ؛ فمعظم اليهود اليوم يرون في أوروبا وأمريكا الملجأ الآمن لهم أكثر من أرض فلسطين ولهذا بات الكثير منهم يتطلع في الهجرة إلى الغرب ..
وهو رأي يؤيده الكاتب الإسرائيلي " جدعون ليفي " في مقال له نشره في صحيفة هآرتس حين كتب موضحا : " إذا كان آباؤنا حلموا بالحصول على جواز سفر إسرائيلي للفرار من أوروبا ، فإنه يوجد الآن بيننا كثيرون ممن يحلمون بالحصول على جواز سفر ثان يفرون به إلى أوروبا " ..
ويبدو أن الأجيال الجديدة في إسرائيل ما عادت تتبع سياسة الصهاينة ولا تلقي بالا لأهدافهم في أرض فلسطين مما عزز فكرة الهجرة عند كثير منهم ، ولعل هذا ما جعلت إسرائيل تقر على ضرورة تدريس اللغة العبرية في مدارسها ، ولمزيد من الحرص والخوف يلجأ كثير من الأهالي من اليهود أولئك الذين يجيدون لغات أخرى غير العبرية ، نظرا لانتماءاتهم الأوروبية يحرصون على مخاطبة أبنائهم باللغة العبرية وحدها على الرغم أن كثير منهم يتحاورون فيما بينهم بلغتهم الأم دون أن يعلموها لأطفالهم ، وذلك خشية من هجرتهم إلى دول أوروبا وأمريكا ..
والمحامي اليهودي " فرانكلين لام " يؤكد أن تحول إسرائيل إلى دولة فاشية أضعف من أنصارها في المجتمع الدولي بل وسبب الذعر والاشمئزاز في نفوس كثير من اليهود في العالم الذين باتوا اليوم يتبرؤون من إسرائيل – الدولة التي أبادت القيم والأخلاق اليهودية العليا – حسب تعبير جماعة من اليهود المتحدين ضد الصهيونية ..
أما الصحفي " يوئيل ماركوس " فقد أشار قائلا بأن " الزمن لا يعمل في مصلحة إسرائيل ، سيحل الوقت الذي يبدأ فيه الجمهور يفهم فيه أن حكومته لا تحكم بل تحارب من أجل استمرار وجودها "
وقد عبرت إحدى فتاوي الحاخامات الإسرائيلية في نص من نصوصها مشيرة إلى أن إسرائيل تسمح بقتل غير اليهود سواء أكانوا رجالا أم نساء أم أطفالا لتحقيق غاياتها في البقاء على الأراضي الفلسطينية " اقتلوهم وجردوهم من ممتلكاتهم لا تأخذكم بهم رأفة لا تتركوا طفلا ، لا تتركوا زرعا أو شجرا ، اقتلوا بهائمهم من الجمل حتى الحمار " وهي فتوى أصدرها " مردخاي الياهو " ..!
وهذا يتفق مع ما أعلنه منذ وقت قريب الحاخام " دوف ليور " مبررا لارتكاب المزيد من المذابح في قطاع غزة وكان آخرها مجزرة الشجاعية بأن " إسرائيل مرجعنا ولذا ممكن قتل المدني بغزة دون التأكد أنه مهاجم " ..!
ولأجل استمرار وجودها فإن إسرائيل مستعدة حتى التخلص من اليهود ومن وزرائها الإسرائيليين حين يهددون خطرا على وجودها ؛ فـــ" مردخاي الياهو " أباح قتل وزراء إسرائيليين إذا ما وقعوا أو تنازلوا عن بعض الأراضي الفلسطينية ..!
وهذا ما يجعل حاليا حالات التنديد المستمرة من جرائم إسرائيل ضد الإنسانية تلك التي يعترض عليها الجيل الجديد من شباب اليهود اليوم ، موضحين للعالم الأجمع موقفهم من وحشية الكيان الصهيوني ونبذهم لكل السياسات التي تمارسها إسرائيل باسم اليهود لتحقيق مآربها الصهيونية وعدم ثقتهم بقياداتهم الإسرائيلية الفاسدة جعلهم يعلنون للعالم وللمسلمين والعرب موقفهم بكل وضوح : " نحن جيل شباب من اليهود الذين لن نصمت ولن نسمح لرؤساء الحكومات الاسرائيلية بالتحدث ونرى أن بإمكانهم أن يتحدثوا فقط في المحكمة الدولية فهي التي تحاكم مجرمي الحرب " ..
هؤلاء الشباب أنفسهم بدأوا يعون ويقتنعون أن أرض الميعاد ما عادت وجهتها في أرض فلسطين بل نحو أوروبا وأمريكا بحثا عن الأمان الشخصي والوطني المفتقد في ظل عدم وجود ثقة واحترام بين اليهود وزعمائهم الصهاينة ؛ ولهذا يؤكد المحامي اليهودي " لام " أن بعد 63 عاما على وجود الكيان الصهيوني وبإقرار معظم الكتاب من الإسرائيليين أصبح لدى قياداتهم تخوف كبير من " شيخوخة " دولتهم ومن زوال كيانهم ..
علما أن المفكر المصري الدكتور " عبدالوهاب المسيري " طرح عدة مؤشرات مهمة لقرب زوال الكيان الصهيوني وكان من ضمن تلك المؤشرات هي زيادة عدد النازحين لخارج إسرائيل واستمرار المقاومة الفلسطينية ..

ليلى البلوشي