الاثنين، 24 فبراير 2014

تاريخ النجومية

تاريخ النجومية

الرؤية

تتفشى في وقتنا الحاضر ظاهرة ما تسمى " صناعة نجم " تتلفت حواليك وتقلب في القنوات التلفزيونية وفي الصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعية لتجد أن كلها تتآمر بطرق شتى على " صناعة نجم " ..!
لأهمية هذه الظاهرة في الغرب والتي انتقلت عدواها إلى ردهات العالم العربي الشرقي سعى المؤلف " فريدانفليز " إلى تأليف كتاب عنونه بـــ" تاريخ مختصر للنجومية " في 322 صفحة ..
يذهب " فريدانفلير " أن عصرنا هو عصر النجومية بامتياز ومبعث ذلك هو الدور الكبير الذي تلعبه مختلف وسائل الإعلام وفي مقدمتها التلفزيون ، وهو يؤكد أن هذه الظاهرة وجدت مجسدة قبل حوالي 200 سنة بشخص " اللورد بايرون " فاللورد كان قد أصبح " نجما " شعبيا وحقيقيا على طريقته ، من خلال نمط حياته وموهبته الشعرية ، هذا اللورد الذي استيقظ ذات صباح ليجد نفسه مشهورا ..
ويشير إلى أن ثمة كتاب آخرين قد حصلوا على " النجومية " عبر براعتهم ، وتلك البراعة لم تكن في الكتابة فحسب ولكن أيضا في شهرتهم الحصول على انجازات رياضية ومن هؤلاء الكتاب " أرنست همنغواي " و " نورمان ميللر " ..
يرى " فريدانفلير " أننا نعيش فترة انعطاف حقيقي في مدلول " النجومية " في ذلك أن الصعود الكبير لما يسميه المؤلف بــ" وسائل الإعلام الاجتماعية " مثل " تويتر " و" الفيس بوك " و" يوتيوب " غير كثيرا من وسائل بلوغ النجومية وذلك يمكن للمرء أن يتصرف وكأنه " نجم " حقيقي لدى من يتوجه إليهم ..
أما البرامج التلفزيونية من نوع " ستار أكاديمي " وغيره من البرامج التي أطلقت كالصاروخ في صناعة " نجوم " كانوا قبل مرورهم في مثل هذه البرامج " مغمورين " لا يعرفهم أحد وفي مدة قصيرة أصبحوا من المشاهير ..
ولا يتردد المؤلف في هذا الإطار أن يبدي نوعا من الحنين إلى نمط من الشهرة كالذي عرفته " مارلين مونرو " أي الحنين إلى نمط من النجومية والشهرة الذي زال أو ربما تراجع كليا في عصر متلاهث غدت فيه الشهرة بطعم الوجبات السريعة التي يلهث خلفها الجميع ..!
في ذاك العصر الذي كان فيه " صناعة النجم " تكلف وكان سعيا حقيقيا وجادة وخاضعا لطموحات كثيرة وصعوبات جمة ؛ فالنجم السينمائي في عصر " مارلين مونرو " أو " غاري غرانت " كما يؤكد " فريدانفلير " : لم يكن نجوم السينما أكبر من الحياة التي يمثلونها على الشاشة فحسب لكنهم كانوا بمعنى ما يمثلون طموحات أمة " ..
" صناعة نجم " أفراد يصنعهم مؤسسات داعمة تحولهم من أفراد عاديين إلى " نجوم " وفق ما يتوافق وتوجهاتها ، تلك التوجهات التي تمليها على الجمهور عبر دعايات ضخمة تبرز الكائن الإنساني على أنه كائن من معجزة متدفق بالمواهب العالمية التي تجعل منه ماركة عالمية ..!
أو يسعى معظم أفراده سعيا حثيثا إلى " النجومية " عبر وسائل أتاحها هذا العصر وبدعم شخصي ، تلك الوسائل التي قضت - حسبما أراه شخصيا - على ما يسمى بــــ" احتكار النجومية " وفي الوقت عينه جعلت من " النجومية " المتاحة للجميع بين ليلة وضحاها تفقد هيبتها المعهودة في زمن " النجوم " ..!
ليلى البلوشي

الأربعاء، 19 فبراير 2014

صعود الدول النامية

صعود الدول النامية

الرؤية

يذهب الكاتب والباحث " تشارلز كيني " في كتابه " رأسا على عقب .. لماذا صعود الباقي جيد بالنسبة للغرب " إلى أن الغرب يعيش حاليا فترة تراجع أمام عجزها تجاه المشكلات التي تواجه العالم ، كالأزمات الحالية الجارية على أرض الواقع كالحرب الأهلية في سوريا واضطرابات التي تمر بها مصر وغيرها من الدول والقضايا التي تمس العالم على أصعدة عدة ..
فأمريكا مهددة بفقدان زعامتها الاقتصادية وريادتها الدولية واحتمال انحدارها إلى المرتبة الثانية في ظل صعود دول أخرى آسيوية كالصين والهند ، لكن الكاتب يرى على الرغم من ذلك يجب على الغرب ألا يقلقوا تجاه ازدهار الحضارات الأخرى ؛ فهذا الصعود من الدول النامية قلص من أزمة الهوية التي كانت من قبل فاغرة بينهم والدول النامية ، فقد أدى التحسن السريع والمطرد في الرعاية الصحية وانتظام الملايين في سلك التعليم ، وتوفير قدر أكبر من الأمن والسلام ، وتنامي الحريات ، إلى تراكم المكتسبات في الدول النامية واقترابها تدريجيا من الغرب ، وهو أمر لا ينبغي أن يخيف الغرب ، وفقا للمؤلف ، إذ إن أي تقدم لباقي الدول العالم يعني استفادة الغرب من الفرص الهائلة لدول أخرى مزدهرة ، فالولايات المتحدة وأوروبا مثلا استفادا كثيرا من تنامي التجارة مع العالم وتدفق الاستثمارات خلال السنوات العشر الأخيرة ..
ثم يطرح أن حالات التراجع والأزمات التي يعيشها الغرب خارجة عن إرادتها فما يحدث حاليا أن الدول الناشئة بدأت تحقق معدلات نمو كبيرة ، فالصين التي تعتبر الأكبر من حيث تعداد سكانها في العالم بلغ معدل نموها الاقتصادي في الفترة بين 2010 و2012 حوالي 9 في المئة ، فحاليا " النموذج الصيني " يشكل دفعة اقتصادية هائلة لها تأثيراتها الجمة على خريطة العالم ، بدأ نهوضه الحقيقي في العام 1978م بعد مرور سنتين على وفاة " ماو تسي تونغ " انتقل الحكم إلى رجل قصير القامة في الرابعة والسبعين من عمره كان قد نجا بأعجوبة من حملات تطهير الثورة الثقافية التي تفشت وبشكل كبير في عهد " ماو تسي تونغ " ، وهذا الرجل كان يدعى " دنغ كسياو بنغ " ظهرت ما تسمى ظاهرة " تصيين العالم " ، أما الهند فنمت بمعدل 7 في المئة خلال الفترة ذاتها ، وقد أصبحت الهند قوة اقتصادية متماسكة و صاعدة رغم عدد سكانها الذى يزيد على مليار نسمة ، وفي عام 1998 م أعلن رئيس الوزراء الهندي عن مبادرته قائلا : " سنجعل من الهند خلال 10 سنوات قوة عظمى لتكنولوجيات المعلومات ومن أكبر المنتجين والمصدرين في عالم البرمجيات" .. تبوأت الهند المكانة الثانية في العالم في تصدير البرمجيات فقد نجحت كمصدر أول لمحترفي تقنية المعلومات في العالم ..
 و يدحض الكاتب فكرة أن صعود باقي العالم والتوجس منه قد يخصم من فرص الغرب وتفوقه ويجعله بالضرورة أقل ازدهارا ، بل يذهب إلى أن تقدم الباقي يعني فتح أسواق جديدة للمنتجات الغربية ، كما أن انضمام شرائح واسعة حول العالم إلى الطبقة الوسطى يعني استهلاكا أكبر للخدمات والبضائع التي قد تنتجها الشركات الغربية ، فالبلدان الناشئة ببنيتها التحتية الأفضل من السابق وتشريعاتها المتطورة تشكل فرصة للصادرات الغربية واستثمارات الشركات الأميركية ..
ثم يطرح المؤلف كحلول للتغلب على الأزمات التراجع الاقتصادي هو من خلال فرض الرسوم الجمركية العالية، وكبح الاستثمارات الآسيوية ، ووضع قيود صارمة أمام المهاجرين ، بينما يقول الكاتب إن أول المتضررين من هذه السياسية سيكون الغرب نفسه ؛ لأنه بحاجة إلى الانفتاح على العالم أكثر من أي وقت مضى ، الغرب المتوجس أو بالمعنى المتخوف تجاه كل ما يكون كعبء على حضاراتها الممتدة مذ قرون ..!
عالم اليوم فرض تغيراته على الصعيد الاقتصادي وعلى الغرب تقبل فرص اندماج مع الحضارات الأخرى لتقليص حد الهوة التي كانت سائدة منذ سنوات سالفة ، و لتستمر عجلة التقدم العالمي وتكون في صالحهم ..

ليلى البلوشي

السبت، 8 فبراير 2014

طقوس أورهان باموق في الكتابة ..!

طقوس أورهان باموق في الكتابة ..!

نشر في آراء ..

" ثلاثون عاما وأنا أكتب " ..
ظل الروائي التركي الحائز على جائز نوبل للأدب " أورهان باموق " يردد هذه العبارة ببراءة طفولية التي لا يمكن له كتابة رواية دون حضور وميضها .. يرددها بحاسة مفرطة تشعره بمذاق الصبر واللذة الذي قطعه في أشواط  مشواره الأدبي ؛ فالمدة الزمنية الشامخة تتجلى فيها مهنته الأحب ، بالشيء الذي يمده بالحياة وهي كتابة الروايات ..!
أعوام الكتابة الثلاثون تتسلقه كقدر لذيذ ، حيث تكمن سعادته المثلى . العظمى . الكاملة .. حين يلتهم جرعته اليومية من الأدب ، تلك الجرعات يلقمها كمريض على موعد يومي مع ملعقة دوائه .. ارتبطت تلكم الجرعات اليومية بذاكرته مذ طفولته حين اكتشف بأسى أن مرضى السكر يحتاجون حقنة كل يوم وفكر أنهم نصف موتى مثله ؛ هم يحتاجون إلى دواء ليبقوا وامضين بالحياة كل يوم يمضي بهم .. وهو بالمقابل يحتاج إلى الأدب . القراءة . الكتب . الكتابة . الإلهام . الأفكار .. ودونها هو نصف ميت ..!  
وحين تأمل ذاته مع الأدب وأولئك المرضى نصف الميتين رأى أنه لا يختلف عنهم " لابد أن اعتمادي على الأدب يجعلني نصف ميت بنفس الطريقة ، خاصة أنني عندما كنت كاتبا صغيرا شعرت بأن الآخرين ينظرون لي كإنسان مقطوع عن العالم الحقيقي ومن ثم محكوم عليه أن يكون " نصف ميت " ، أو ربما التعبير الصحيح هو " نصف شبح " .. أحيانا كنت حتى أستمتع بفكرة أنني ميت بالكامل وأحاول أن أتنفس لأعيد الحياة إلى جثتي عن طريق الأدب " ..!
أما عن الغياب الزمني عن حواس العالم الخارجي بكل ضجيجه انتصارا لزمنه الداخلي ، لحواسه الضاجة بالأفكار والرؤى والإلهام ؛ ففي هذا يعبر باموق واصفا بدقة حاجته ككاتب إلى فكرة منعزلة تبعث الحياة في عالمها الخاص : " الجوع الحقيقي هنا ليس للأدب وإنما إلى غرفة أستطيع فيها أن أكون وحيدا مع أفكاري ، في مثل هذه الغرفة أستطيع إبداع أحلام جميلة عن نفس الأماكن المزدحمة تلك اللقاءات العائلية والمقابلات المدرسية والوجبات الاحتفالية وكل الناس الذين يحضرون ... ، أصنع من قوام العالم المعروف عالما جديدا " ..!
أما عن الوقت الذي يقضيه في غرفته وحيدا ووحدها أفكار تهجم على عزلته ؛ لينتشل منها ما يضاعف من ابتكاره لعالمه الكتابي أو كقارئ جيد يحفز من خلالهما بهجته الداخلية فيقول : " أفضل علاج على الإطلاق ، وأعظم مصدر للسعادة هو كتابة نصف صفحة جيدة كل يوم ، لمدة ثلاثين عاما كنت أقضي معدل عشر ساعات يوميا وحدي في غرفة ، أجلس إلى مكتبي ، وإذا أحصيت فقط العمل الجيد الذي يمكن نشره ، فإن معدلي اليومي سيكون أقل كثيرا من نصف صفحة .." !
وهذه النصف من معدل طول الصفحة وعشر الساعات التي يقضيها وحده مع أفكار تتزاحم وتتراخى وتعلو وتسقط تعتمد على معيار الجودة الذي يخضع لمحاسبة صارمة ، ودقيقة ، وحساسة .. وهذا مصدر من مصادر تعاسة الكاتب كما يعترف " باموق " : " معظم ما أكتبه لا يرقى إلى ما أرى أن المعيار القياسي للجودة في نظري وهذا مصدر عظيم من مصادر التعاسة ..!" ..
ما الذي يجعل الكاتب يستمر في الكتابة كل يوم أو بشكل مستمر ..؟! إنه الأمل وحين يتشبث بخيط هذا الأمل فإن إلهامه الكتابي .. الدفق الإبداعي سيبقى حيويا .. مؤججا بالأفكار والاستمرارية " الكاتب الذي يعتمد على الأدب مثلي لا يمكن أن يكون شديد السطحية لدرجة أن يجد السعادة في جمال الكتب التي كتبها هو نفسه ، ولا يمكن أن يهنئ نفسه على عددها أو ما حازته هذه الكتب .. فالأدب لا يسمح بوجود مثل هذا الكاتب الذي يدّعي أنه ينقذ العالم ؛ بل إنه هو الذي يعطيه الفرصة لإنقاذ اليوم ، وكل الأيام صعبة على وجه الخصوص عندما لا تمارس أي كتابة ، والنقطة المهمة هي أن تجد أملا كافيا لتستمر حتى نهاية اليوم .." !
لكن حين تكون الفكرة مستعصية .. حين تعاند الفكرة الخيال .. حين تتحمس كمشهد مكتمل ثم سرعان ما تنطفئ فإن المزاج كله يبدو تعيسا " لا استطيع أن أفقد نفسي في كتاب . أولا يتغير العالم أمام عيني ؛ يصبح بغيضا بدرجة لا تحتمل والذين يعرفونني يمكنهم رؤية ذلك يحدث ، لأنني أنا نفسي أصبح مماثلا للعالم الذي أراه حولي ، على سبيل المثال تستطيع ابنتي أن تعرف أنني لم اكتب جيدا في ذلك اليوم عندما ترى اليأس القانط على وجهي في المساء ...، وإن استطعت العمل بشكل جيد يمكن أن أنقذ نفسي من الوقوع في انسحاب تام إلى حالة الميت الحي " ..
أحيانا الحياة تخيّر الكاتب ما بين الكتابة أو نفسها .. ما بين مشاغلها الخارجية التي تهطل من سماوات شتى كالسفر ، ودفع فواتير الغاز ، أو الخدمة العسكرية ، أو شئون سياسية ، أو عوائق أخرى التي تتسرب في داخل الكاتب كالإسمنت ، وما بين الحياة الأخرى الغائرة في عمق الروح .. ولكن هل ستتنازل الحياة عن حقوقها في حياة الكاتب ، هذه الحياة التي تتآمر لتبقى ..؟! وبتعبير " أورهان باموق " : " هذه التعاسة من المحتمل أن تنمو ؛ لأن الحياة مليئة بالأشياء التي تتآمر على إبعاد الشخص عن الأدب " ..!
كأن الكتابة جدار .. جدار أشبه بحاجز نفسي يقينا مؤامرات الحياة التعيسة والمضجرة ، بل الكتابة هي سلوى كما أنها غطاء يقينا من شرور الآخرين " نستلهم الرواية من الأفكار والعواطف والرغبات والغضب وهذا نعرفه جميعا ، ولكي نستعد أحباءنا ، ولكي نقلل من شأن أعدائنا ، ولكي نمجد شيئا نغرم به ، ولكي نفرح بالكلام الذي نؤلفه بأنفسنا عن شيء لا نعلم عنه شيئا ، ولكي نجد البهجة في أوقات ضاعت ونتذكرها ، ولكي نحلم بفعل الحب أو القراءة أو الانهماك في السياسة ، ولكي ينغمس كل واحد منا في قلقه وهمومه الخاصة وعاداته الشخصية كل هذا وأي عدد من الرغبات الأخرى الغامضة .." !
ولكل كتابة متماسكة خطة تحكم ربطها عبر أفكار صغيرة سرعان ما تكبر بنفسها عبر لهيث حكايات يخيل لوهلة أنها على قرابة كعائلة واحدة ، وكل منها تعرض ذاتها بطريقتها الخاصة ، عبر كاتب يحيا في أجوائهم الداخلية ، ويخير الزمان والمكان المتخيل ، ويرسم شخوصا وكأنه مجموع شخوص بأسماء متعددة ، ويحدث كثيرا ويحدث غالبا أن تعاند الخطة خيال الكاتب ؛ فتعبر عن نفسها بنفسها أو بتعبير رولان بارت " الرواية تكتب نفسها بنفسها " .. وهكذا تنحت معظم الروايات قوامها " وقبل أن أبحر سوف أكون قد وضعت خططا : قسمت القصة التي أريد أن أحكيها إلى أقسام ، وقررت أية موانئ سوف تزورها سفينتي وأية أحمال سوف تحملها وتنزلها طوال الطريق وأكون قد قدرت وقت رحلتي ورسمت بيانا بمسارها ولكن لو أن الريح هبت من مناطق غير معلومة وملأت أشرعتي وقررت تغيير اتجاه قصتي ، فلن أقاوم .. فإن ما تسعى السفينة إليه بغابة التوهج هو الإحساس بالاكتمال والإتقان في لعب طريقها وقد نشرت جميع قلاعها .." !
ما القوة التي تتكئ عليها الرواية بثقة ، وتباهي بها ، تمضي معها إلى دروب حكاياتها بعزيمة ولذة مشتهاة ..؟! إنه الإلهام .. من الإلهام يمتص رحيق حكاياته الخلابة " إن كتابة رواية هي الانفتاح على تلك الرغبات والرياح والإلهامات .. وأيضا على تلك الفجوات المظلمة في عقولنا ولحظاتها الملتفة بالضباب والسكون .." !
ما الرواية ..؟ تتباين وجهات نظر كل روائي عن آخر .. وعند كاتب روائي ثري كـــ" أورهان باموق " تصادف أكثر من تعريف للرواية في خياله السارد " فما الرواية إن لم تكن قصة تمتلئ أشرعتها بتلك الرياح ، قصة تجيب وتبني على إلهامات تهب من مناطق مجهولة ، وتقبض على كل أحلام اليقظة التي اخترعناها من أجل اختلافنا وتبايننا ، فتجمع كل هذا معا في كل له معنى .."
تتماهى تعريف الرواية عند " باموق " وتنساب عبر صور وأشكال ومعان متعددة ؛ ففضاءات الحكي لديه شاسعة كما ربق أحلامه الفسيحة " الرواية هي وعاء يحمل داخله حلما بعالم نتمنى أن نحتفظ به حيا إلى الأبد .. الروايات تتماسك بالقطع الصغيرة من أحلام اليقظة التي تساعدنا من لحظة دخولنا إليها على نسيان العالم المضجر الذي نتوق إلى الهرب منه وكلما كتبنا أكثر كلما أصبحت تلك الأحلام أكثر ثراء واتساعا وأكثر تفصيلا .." !
الكتابة ليست علاجا فقط ؛ بل هو اكتشاف المجهول .. وجس ما لا يمكن النيل منه عبر الواقع .. الكتابة مشروع خيال .. والخيال مشروع اختراع " نحن نكتشف العالم من خلال الكتابة وكلما عرفناه أفضل كلما كان من الأسهل أن نحمله معنا في كل مكان داخل رؤوسنا وإذا كنت في وسط رواية وأكتب جيدا ، أدخل إلى أحلامها بسهولة ذلك أن الروايات هي عوالم جديدة نتحرك داخلها بسعادة من خلال القراءة أو حتى باكتمال أكبر عن طريق الكتابة : والروائي يقوم بتشكيل أعماله بتلك الطريقة التي تجعله يحمل بسهولة أكبر الأحلام التي يتمنى التعبير عنها .."!
من متع الكتابة العظمى وجل عنفوانها إنها كما يعبر " أورهان باموق " " تقدم تلك الأعمال السعادة للقارئ اليقظ ، فإنها أيضا تقدم للكاتب عالما جديدا متماسكا ومتكاملا يمكن أن يفقد نفسه داخله ويبحث عن السعادة في أية ساعة من ساعات اليوم ، لو كنت أشعر بأنني قادر على خلق ولو جزء دقيق من مثل هذا العالم المدهش المعجز ، لشعرت بالرضا في اللحظة التي أصل فيها إلى مكتبي ومعي قلمي وورقتي " ..
وحين يبلغ سرد الكاتب قمة إبداعه وينتهي من عمله ويقدمه كهدية مذهلة .. ككتاب مكتمل وفي الوقت نفسه متفرد بنفسه ومستقل عن كاتبه .. يرى مجده الذي يقبل عليه الناس ويتقاطرون من أرجاء شتى .. كل ذلك يجعله يتساءل بحيرة كبرى ولها رعشة لذيذة في آن " كيف يمكن لعادة تعتمد على مباهج ومتع شخص واحد أن تنتج عملا يستمتع به كل هذا العدد من الآخرين ..؟ "
قيل إن الطفل في أعماق الكاتب هو الذي يقوم بجميع الأدوار .. هو الذي يسرد .. يرقص .. يبكي .. يغني .. يحتفل .. يتشاءم .. شقي ومجنون ولعوب ومتزن وخامل وكسول وعبقري " إن أعظم فضيلة للروائي ذي الخيال المبدع هي قدرته على نسيان العالم كما يفعل الاطفال ، أن يكون غير مسؤول ومستمتعا به ، أن يلعب حول المكان – بقواعد العالم المعروف – ولكن في نفس الوقت أن ينظر عبر رحلات خياله المحلقة بحرية إلى المسؤولية العميقة الخاصة بالسماح فيما بعد للقراء أن يفقدوا أنفسهم في القصة .." !
لكن ما سر الطفولة في حياة الكاتب .. الروائي ..؟! السر يكمن في تلك البراءة الطفولية " القضية التي رفعت ضدي والمآزق السياسية التي وجدت نفسي فيها حينئذ ، حولتني إلى شخص أكثر " سياسية " و" جدية " و" مسؤولية " مما أردت أن أكون : حالة وضع عام محزن ، وحالة نفسية أكثر مدعاة للحزن ، دعني أقولها بابتسامة .. كان هذا هو السبب في أنني لم أقدر على الدخول إلى البراءة الطفولية التي بدونها لا يمكن لأية رواية أن تكون ممكنة " ..!
لكل كاتب زمنه الخاص .. الزمن الذي يرتاح له وينتمي إليه بكامل وعيه .. هذا الوعي الذي يسبر مرحلة اللاوعي بمجرد ما تجسه روح الكتابة وإلهامها وألقها المبهر .. الزمن الذي يكتب فيه فيحيا وجودا آخر .. مع أشخاص وبيئات ووجوه وأسماء تبرز إلى الواقع وتحجب وجود الكاتب . المؤلف . الروائي " كنت أظل أستيقظ كل صباح مبكرا جدا ، قبل وقت طويل من استيقاظ الملايين العشرة من سكان إسطنبول الآخرين ، وأحاول الدخول إلى الرواية التي كانت ترقد هناك غير مكتملة في سكون منتصف الليل ، كنت أفعل هذا لأنني كنت شديد التوق للعودة إلى عالمي الثاني المحبوب وبعد أن أجهد نفسي كثيرا ، كنت أبدأ في جذب خيوط صغيرة من رواية من رأسي وأراها تتلاعب أمامي .. " !
هناك وصفة سحرية سار على تطبيقها الروائي " أورهان باموق " كانت وراء كتابة الروايات السبع التي كتبها حتى وقتنا هذا ، تلك الوصفة أو المبدأ ما يسميه " باموق " تدعى " الكاتب الضمني " يقابله في تواز أشبه بلقاء ودي " القارئ الضمني " .. بناء على مبدأ قدمه الناقد والمنظّر العظيم " ولفجانج إيسر " * ...
فمن هو " المؤلف الضمني " الذي يكون وراء كل كتاب يا ترى ..؟ يصف معناه ومغزاه وتفاصيله الروائي " أورهان باموق " بقوله " عندما كنت أحلم بالمشاهد والعبارات وتفاصيل كتاب آخر بدلا من إكمال الرواية التي كنت أكتبها بالفعل ، قفزت هذه النظرية إلى ذهني ، ولازمها الإيحاء التالي : لكل رواية لم تكتب ثمة مؤلف ضمني .. وهكذا فلا يمكن أن أكون قادرا على إكمال هذا الكتاب إلا عندما أعود مرة ثانية لأكون هذا المؤلف الضمني .."
ويتعمق التوضيح أكثر حين يسترجع " باموق " الأعوام الثلاثون لدرب الأحلام والإلهامات والرؤى والأفكار والمشاق والصعوبات والخيبات والآمال ، الذي قاده إلى ما هو عليه اليوم من كاتب روائي عظيم " إنني أفهم الآن لماذا ، لمدة ثلاثين عاما ، كرست كل قواي لأن أصبح الكاتب الضمني لتلك الكتب التي أتوق لكتابتها .. ليس من الصعب الحلم بكتاب .. إنني أفعل ذلك كثيرا ، مثلما أقضي الكثير من الوقت في تخيل نفسي شخصا آخر .. الأمر الصعب هو أن تصبح الكاتب الضمني لكتاب حلمك ، وربما يكون هذا أكثر في حالتي لأنني لا أريد سوى أن أكتب روايات طموحة ، سميكة ، كبيرة ، ولأنني أكتب ببطء شديد هكذا " ..!
لكن كاتبا بحجم " أورهان باموق " لا تفتر عزيمة طموحه الجبار أي إحساس باليأس والاستسلام بل يمضي بثقة كبيرة نحو أرض أحلامه ليكتب عنها كما لو كانت واقعا ، كما لو أنها صارت حقا " فبعد أن نشرت سبع روايات ، أستطيع أن أقول باطمئنان إنه حتى لو كانت الروايات تأخذ بعض المجهود ، فإنني قادر عن ثقة بأن أصبح المؤلف الذي يستطيع كتابة كتب أحلامي " ..
رواياته السبع التي تركها خلفه كما يعبر " باموق " كان وراءها كاتب ضمني " كل هؤلاء الكتاب الضمنيين السبعة يشبهونني ، وعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية أصبحوا يعرفون الحياة والعالم كما يرى من إسطنبول ، كما يمكن رؤيته من نافذة نافذتي .."
ويظل أعظم أمل يرفرف في حياة كل كاتب هو أن يظل كاتبا منتجا لكتب بأفكار عظيمة تتوق لها روح الكتابة وروح القراء المخلصين " إن أعظم أمل لي أن أستطيع كتابة روايات لثلاثين سنة أخرى ، وأن يكون هذا عذرا يجعلني قادرا على أن ألف نفسي في شخصيات أخرى جديدة " ..!
ونحن كقراء وكمحبين لكاتب بخيال خلاب وفاتن كـــ" أورهان باموق " نرجو أن يظل يسرد لنا سحر حكاياته اللذيذة ، أن يظل يكتب لثلاثين سنة أخرى روايات ضخمة وسميكة وطويلة عن شخوص تشبهنا ، نقبض من خلالها على أحلامنا الشاسعة .. تنبض قلوبهم كما لو أن قلوبنا هي التي تنبض بالحب والوفاء وذاكرة عميقة المدى ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخذت عبارت الروائي " أورهان باموق " من كتابه ( ألوان أخرى ) من مقالة " المؤلف الضمني "  ، دار الشروق ، ط2009م ..
*ابتدع الناقد "ولفجانج إيسر" نظرية أدبية رائعة تضع القارئ هدفا لها ، فهو يقول إن معنى الرواية لا يكمن في النص ولا في السياق الذي يقرأ فيه ، ولكن في مكان ما بين الاثنين ، وهو يؤكد أن معنى الرواية لا يظهر إلا بعد قراءتها ومن ثم فعندما يتحدث عن " القارئ الضمني " فهو يعطيه دورا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه ..

ليلى البلوشي

الخميس، 6 فبراير 2014

حين تكون في بيروت شريد الهوية ..!

حين تكون في بيروت شريد الهوية ..!

الرؤية / آراء

عندما انتهيت من قراءة الرواية اللبنانية " شريد المنازل " لكاتبها اللبناني " جبّور الدويهي " تذكرت موقفا موجعا كنت قد مررت به في إحدى معارض الكتب عندما انتقيت بعض كتب من دور نشر لبنانية ، وبعد نقد ثمنها قلت للبائع الشاب على سبيل المزاح : " ألا تهدون زواركم الكرماء كتابا مجانيا ..؟ " تبسم البائع اللبناني لمزحتي ثم قال بنبرة مضمخة بالحزن ومشوبة بالقهر : " الشيء الوحيد المجاني في هذا العالم يا سيدتي هو الدم العربي .. وحده رخيص ومجاني ..! " ..
رواية " شريد المنازل " تتناول مسألة الأزمة التي تمر بها " لبنان " تلك الأزمات التي تحمل لون الدم نفسه ورائحة الموت المتفحم نفسه ، ولكن ما يميز هذه الرواية هي شخصية البطل " نظام " هو شاب لبناني عربي يولد في عائلة مسلمة سنية له أم وأب وأخت تكبره وأخوين توأمين يولدان بعده بأعوام ، هذه العائلة في إحدى أشهر الصيف تعزم على الاصطياف في مكان يسكنه نسبة كبيرة من المسيحين ، وهناك يلتقي الولد الشقي " نظام " بعائلة مسيحية عندما تقع الكرة التي كان يتقاذفها مع رفاقه في بستان رجل مسيحي يدعى " توما " يقطنه مع زوجته " رخيمة " على الرغم من كل الثروات التي يتمتعان بها لم يرزقهما الله بأولاد .. كان وحيدين كورقتين يابستين على الرغم من ربيع قلبيهما واعتادا على حياة بلا أطفال ، ولكن الطفل " نظام " بخفة فراشة ضوئية ينير حياتهما ويعتادان على وجوده ، الحياة نفسها تكون كريمة معهما فلا تمانع عائلة " نظام " من زياراته المتكررة لبستان هذين الزوجين المسيحيين ، ومع مرور الوقت تتأزم حالة أب " نظام " الذي يكون مطلوبا في لبنان ، فيضطر إلى الهروب إلى سوريا مع أسرته ويبقى نظام مع العائلة المسيحية وتتعهد برعايته ، ويدخل مدرسة مسيحية ويبقى " نظام " في عهدة العائلة المسيحية والكائنين الطيبين " توما " و " رخيمة " حتى يغدو شابا بقامة سامقة ..
حين يكبر " نظام " يعزم على السفر إلى " بيروت " حيث الحرب والأزمات كي يلتحق بالجامعة ويغدو محاميا ، ولكي ترخي العائلة المسيحية مساعيه للسفر والابتعاد عنها تشترط عليه أن يعمد كمسيحي كشرط كي يسمحان له بالسفر إلى " بيروت " ويفعلها " نظام " ثم يحمل حقائبه إلى عالم متداعي التقلبات والأزمات .. ويحمل بطاقة هوية تترك خانة الدين فارغة عندما أخرجها له " توما " المسيحي الذي تولى رعايته طوال تلك الأعوام مع زوجته ..
" نظام " الشاب الوسيم الطيب والحبوب ، يحبه الجميع ويصادقه الجميع يغدو كتركيبة فريدة من نوعها ، فهو لا يشعر بأنه مسيحي أو مسلم حتى من حوله لا يشعرون بذلك بل يرون فيه " إنسانا " يلتف حوله في الشقة التي استأجرها في " بيروت " رفاق على أشكال وأسماء ومذاهب منهم المسيحي والمسلم واليهودي وبلا دين .. هؤلاء الرفقة الذين انفضوا من حوله ليس بإرادتهم أو رغبتهم بل تداعيات السلطة والأزمات الدينية هي التي جعلت كل واحد منهم يرحل إلى منفى بعيد عن ضجة مدينة تحيض حربا مستمرا ولا تنفك عن إجهاض جثث وضحايا ..!
" نظام " في هذه الرواية هو شريد الهوية ، ضال الانتماء بين عائلتين مختلفتين واحدة يحمل اسمها وثانية يحمل كامل مشاعرها ، وبين ديانتين مختلفتين فكل من " توما " و" رخيمة " عايش بينهما أجواء الحياة المسيحية بينما مع عائلته التي يحمل اسمها كانت له فيها عمتين إحداهما تحرص على إسلاميته وتذكره دائما بأنه مسلم سني .. كان " نظام " جامع الديانتين باختلاف صارخ فهو مسلم عمد في كنيسة ثم دفن في كفن كالمسلمين في بستان " توما " المسيحي ..!
هي حكاية " بيروت " التي يحاولون اغتيال روح إنسانيتها في بلد حين تحمل هويتك في جيبك عليك أن تحترس فأنت معرّض بسببها لموت وشيك أو حياة طويلة ؛ وهذا يعتمد على الذي يستوقفه ليسألك عن هويتك عن مذهبك بالتحديد ، فإن استوقفك " مسيحي " وأنت " مسلم " أو استوقفك " مسلم " وأنت " مسيحي " فعلى الدنيا السلام .. هكذا غدت الحياة في " بيروت " لا تعبر دون أن تصرّح بهويتك الدينية ..!
لم يدرك " نظام " يوما هذا الاختلاف فهو " بيروت " التي تحب الجميع وتشرع ذراعيها للجميع مهما كان جنسه أو دينه أو لونه أو اسمه أو شكله ، ولهذا قتل ومسلسل هذا القتل عرضه ما يزال مستمرا باسم الدين ..!
من يمكنه أن يلوم أزمة الإحباط واليأس التي يمر بها شباب العالم العربي وهم يولدون على ضربات المدافع ويترعرعون مع البندقية التي تكون في سذاجة الطفولة لعبتهم شاءوا أم أبوا ، سرعان ما تغدو هذه اللعبة مع الزمن سلاحا اعتياديا يحمله في حله وترحاله بأعذار تبدو مألوفة ولا ينكرها الوطن الذي يحيا فيه كوسيلة الدفاع عن النفس .. يدافع عن روحه وعن دمه وشرفه وأرضه ضد من ..؟ ضد عدو هو نفسه كان أخا وجارا وصديقا ، لكن حالة العماء التي سادت على وعي الإنسان هي التي أحالته من آدمي إلى وحشي بفعل عقول همجية غذّته العنف ، وغذّته منهجا ومذهبا متوحدا ، وأوحت إلى روحه جسارة أن يكون المرء مختلفا وأن كل اختلاف هو خروج عن الملة ، هو كفر ، هو تجديف ، وإلحاد ، هو جهنم .. على هذه المسوغات وغيرها يشهر فوهة سلاحه نحو أخيه المسيحي إذا ما كان مسلما أو جاره المسلم إذا ما كان مسيحيا ؛ من طلقة واحدة طائشة أطلقت سهوا أو عمدا اشتعلت أوطان وحضارات وأرواح بريئة واغتالت ابتسامات ضحايا الاقتتال الطائفي اللعين ..!
ماذا يمكن أن تقول لمدينة فخمة بجرحها كــ" بيروت " والتي لطخت زهرة فتنتها في مستنقع الهوية الدينية حتى ما عدت تعرفها ..؟!
لا أقول سوى : باسم الله .. باسم الرب .. باسم الدين عليك السلام يا " بيروت " ...

ليلى البلوشي