الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

قيادة السيارة : ليس من اختصاص النساء ..!

قيادة السيارة : ليس من اختصاص النساء ..!

الرؤية / العرب

تقول الروائية التشيلية " إيزابيل الليندي " : " التغيير الحقيقي يحتاج إلى قوة نسائية في إدارة العالم " ..!
النساء وحقوقهن في عالم ذكوري : ما لونها . ما شكلها . ما طعمها . ما رائحتها ..؟
سأحكي لكم قصة كفاح امرأة في زمن أوروبي ، حيث كانت المرأة في ذاك الزمن الغارق في مستنقعات الجهل والتخلف ما هي سوى قطعة أثاث ، سلعة للمتعة ولإنجاب الأطفال فقط ..!
ولكن هناك نماذج من نساء لم يخضعن للمجتمع البطريركي ، بل نبذن فكرة أن يكن مجرد أدوات إنجاب وحبيسات أربع جدران بينما ثمة رجل يسلبهن حقوقهن ، رجل يشاركنه الحق في الحياة ، رجل يعملن معه جنبا إلى جنب في الزراعة والصناعات اليدوية ويديرون شؤون المنزل ورعاية الأطفال ويتدبرون سبل العيش الكريم في المجتمع الذي ينبذهم ، وكل ذلك بأجر بخس وغالبا بلا أجر ، وبلا حقوق ، وقائمة طويلة من واجبات فرضت عليهن عنوة ..!
من ضمن قافلة النساء المكافحات ، الذكيات ، امرأة تدعى " صوفي جيرمان " هذه المرأة كانت تعشقن الرياضيات ، وعشقها الفطري للعمليات الحسابية دفعها إلى تعلم القراءة ، في زمن كان تعليم البنات فيه عارا ، تعلمت صوفي قراءة لغة الأرقام وفي الليل كانت تحلم بأرخميدس ..!
ولكن عندما عرف والدها بذلك ، منعها قائلا : هذا ليس من اختصاص النساء ..!
وعندما أسست الثورة الفرنسية المعهد البوليتيكنيكي كان عمر " صوفي جيرمان " ثمانية عشر عاما ، أرادت دخول المعهد ، فأغلقوا الأبواب في وجهها قائلين لها بقسوة : ليس من اختصاص النساء ..!
وحين رفضت مساعيها الجادة للانضمام إلى معهد يحكمه رجال عقولهم متحجرة ؛ لم تجد بدا من مراسلتهم عبر البريد ، فقد كانت ترسل أعمالها بالبريد إلى البروفيسور كان يدعى " ليغران " ولكن ليس باسمها الحقيقي بل باسم مستعار ذكوري ، حجبت أنوثتها تحت اسم رجل " أنطوان أغوست " ؛ كي تتخلص من عبارتهم التي تطاردها في كل مرة بجفاء مرير : ليس من اختصاص النساء ..!
ظلت المرأة المكافحة " صوفي جيرمان " وباسم ذكوري مستعار تراسل المعهد البوليتيكنيكي والفيلسوف المسؤول حوالي عشر سنوات ، وبعد هذه السنوات الطوال اكتشف البروفيسور أن الرجل الذي يراسله المدعو " أنطوان أغوست " هي نفسها " صوفي جيرمان " ..!
منذ ذلك حين صارت " صوفي جيرمان " هي المرأة الوحيدة في أولمب العلم الأوروبية في علم الرياضيات ، تعمقت نظرياتها ومجال دراساتها بعد ذلك في عوالم الفيزياء ، حيث طورت دراسة السطوح المرنة ، بعد قرن من ذلك ساهمت إضافاتها في بناء برج إيفل فضلا عن إنجازات أخرى ، ولأنها في عالم ذكوري محض ومستعبد ، وأناني ، نقشت على البرج أسماء عدد من العلماء الذكور ، ولكن اسم " صوفي جيرمان " أسقط عمدا وظلما ..!
وفوق هذا في شهادة وفاتها الذي صادف عام 1831م ، كتبت أنها ذات دخل وخجلوا من كتابة أنها " عالمة " وصاحبة إنجازات في علوم الرياضيات والفيزياء ، وظل شبح عبارة " هذا ليس من اختصاص النساء " يحوم حولها حتى بعد وفاتها رغم إبداعاتها المتميزة والجريئة كامرأة في زمن الكفاح وهضم الحقوق ..!
حكاية " صوفيا جيرمان " كانت في أعوام التخلف عام 1831م ، حيث كن النساء لا شيء غالبا ، لكننا اليوم في عام 2013م .. ولو تأملنا قليلا في عوالم نساء العرب ، بالأخص الخليجية منها ، بالأدق السعودية ؛ فتصوروا أننا في هذا الزمن من عام 2013 م والعالم السعودي قضيته الأولى اليوم ، القضية التي أحدثت جلبة عالمية وصخبا هي " قيادة المرأة السعودية للسيارة " أين أنت يا " صوفيا جيرمان " ..؟!
ما فعلته " صوفيا جيرمان " عام 1831م هو الفعل نفسه سلكته بشكل مختلف فتاة سعودية في زمننا هذا ؛ اضطرت نتيجة لفقر أسرتها ومرض والدها العائل الوحيد في العائلة إلى أن تسوق السيارة التي يملكها الأب  ، تسوقها لنقل الراكبين وهي متخفية في ملابس رجال ، مع حرصها طبعا على إخفاء ملامح وجهها الأنثوي بلثام والمسكينة ، هذه المرأة المكافحة في مجتمع ذكوري ، كُشفت حين شوهدت أصابعها مخضبة بالحناء ..!
يحدث هذا في السعودية في عام 2013م ... يحدث هذا وغيرها من الحكايات الغريبة والمدهشة والمريرة ، وأسبابها الصوت الذكوري المستبد نفسه : هذا ليس من اختصاص النساء ..!
رغم أنهن أثبتن بجدارة عبر مواقف الحياة كافة بأنهن جديرات لتحمل عبء العالم والأوجاع والدمار الذي خلّفه الرجال ؛ هؤلاء الرجال حكموا العالم ، فانظروا شكل الفساد الذي نراه ، ولون الدم الذي يكبس على روح الحياة  ..؟!
سأضم صوتي لصوت الروائية التشيلية " إيزابيل الليندي " حين صرحت في وسط قاعة مزدحمة بصوت صارم ورافض : " أنا سئمت من السلطة التي يملكها فئة قليلة من الناس على الأكثرية من خلال الجنس والدخل والعرق وحتى الطبقة " ..!
أنا أيضا سئمت ، وكثيرات يعانين من السآمة نفسها ..!

ليلى البلوشي

الأحد، 27 أكتوبر 2013

حوار جريدة عُمان مع الكاتبة ليلى البلوشي عن مشروع متن والحراك الثقافي الإفتراضي ..

ليلى البلوشية: «متن» تسلط الضوء على المهمشين وتستند على النصوص المبدعة
قراءة النصوص وما يتوافق كنص جيد ومكتمل ينشر مباشرة -
الحراك الثقافي الافتراضي مذهل للغاية -
حاورتها: نسيبة المكتومية -
ما بين القوس والقوس .. متن.. وهامش في الأفق يسعى.. يفك وثاق الحرف.. قادم من مدائن الريح والملح.. هنا متن عصي على الغلق..”
هذه الكلمات التي وضعت كتعريفية للموقع الالكتروني “متن” والذي أنشئ ليكون شبكة للمبدعين الادباء العرب، والذي يضم مجموعة من الكتاب المعروفين من بينهم  سعاد العنزي مؤسسة “متن”، سعد الصماني الحارثي، السورية بثينة إبراهيم آلاء منذر، ليلى البلوشية، ود.زهير العمري، ود. ثائر العذارى، وهبة قرشي. وفي حوارنا مع القاصة ليلي البلوشية المسؤولة عن الجانب الثقافي لــ”متن” لتحدثنا عن افكار ومكنونات هذا الموقع الإلكتروني.

* نبدأ من “المتن” بعيدا عن “الهامش”، فلماذا كان الاول دون الاخير انتصارا للنصوص الادبية المهمشة مثل ما ذُكر في “كينونة متن”؟
سأستعير عبارة مؤسسة متن الناقدة الكويتية سعاد العنزي حين وضحت هذه الإشكالية بقولها: «إن مفهوم المتن يقتضي دوما البحث عن الهامش، مثلما المركز له أطراف، والعاصمة تقف بجانبها المدينة الصغيرة والقرية، والحي الشعبي، الأولى تحظى بأن تكون مركزا للرواد، والثانية تكون في حيز اللاموجود في وعي الغالب والمهيمن والمسيطر على المجال، أي مجال في هذا الوجود»..
من هنا كان متن وجاء الهامش ملتصقا به ..!
* في فضاءٍ افتراضي كان “متن”، فعلى اي قاعده يتكئ؟ وما الحاجه الوجودية له؟
يتكئ متن على أي نص مبدع سواء كان لمبدع مغمور أم معروف .. والحاجة الوجودية له هو تقديم جهود الشباب بشكل منظم حتى تأخذ حقها بالقراءة وتقديم معرفة منظمة .

* مع تعدد المدونات والمواقع الإلكترونية الأدبية والنقدية ، أي أفق ينتظره هذا الموقع؟

متن لعل اختلافها يكمن في كونها تسلط الضوء على المهمشين ، متن محاولة لاستعادة الضوء الذي سلب من هؤلاء المهمشين، هناك نجوم براقة في أفق الأدب بشتى فنونه، ولكن الضوء محجوب عنهم في حين ثمة نجوم بريقها باهت ولكن لا تكاد تخلو صحيفة أو مجلة أو منتدى أدبي من أسمائهم.. ولذلك أسباب كثيرة معروفة للجميع ولا داعي لذكرها، في متن الضوء على مقاس كل العقول .. متن تسعى إلى لملمة حزم الضوء لصالح الفكر الأصيل ولصالح الكلمة النبيلة.
* مؤسسو “متن” اسماء متجانسة تشكل وحدة تكوينية متكاملة، فكيف كان اسم ليلى البلوشية ضمن هذه الوحدة التكوينية؟
كان مشروع متن اقتراحا من الناقدة الكويتية سعاد العنزي هذه المرأة النشيطة مضمخة بأفكار مبدعة وكلها تصب في مصلحة الأدب والفكر والثقافة ومد طوق المحبة لفكر الآخر مهما كان مشهورا أو مغمورا، وقد اقترحت علي هذا المشروع كفكرة، فنالت إعجابي كما نالت اعجاب وثقة كل من الأعضاء الذين يشكلون اليوم كوكبة مجيدة من فريق واحد لكل منهم مهام معينة وهؤلاء هم: سعاد العنزي ناقدة كويتية وهي التي أسست متن، الأستاذ سعد الصماني الحارثي وهو لجنة الإرشاد والتوجيه النفسي، الكاتبة السورية بثينة إبراهيم وهي مسؤولة اللجنة الإعلامية وتشاركها في مسؤولية هذه اللجنة الناقدة السعودية آلاء منذر، أما مسؤولية اللجنة الثقافية فهي لي ليلى البلوشية ..
وانضم للفريق أيضا كل من الناقدين  السعودي د.زهير العمري والعراقي د. ثائر العذارى ، كما انضمت لمتن الكاتبة السعودية هبة قرشي.
ولعل أكثر ما يميز هذا الفريق هو تنوعهم؛ فلكل عضو من أعضاء متن يوم في التغريد، في هذا اليوم المخصص والمتفق عليه سلفا بين أعضاء الفريق ، يعرض كل واحد منهم أفكاره عن الأدب والفكر والثقافة ووجوه النقد وحوارات حية مباشرة مع كتاب وشعراء، وإثراء القراء بآداب غربية؛ في هذا الكوكتيل المختلف يجد القارئ .. الآخر المتعة والفائدة ، وكل ما يطرح في حساب متن تويتري تجدونه في مدونة متن ..!
* اي نوع من  الرقابة تفرض “متن” على كتابات المشاركين؟
متن لا يفرض رقابة ، متن تمضي على آلية قراءة النصوص وما يتوافق كنص جيد ومكتمل ينشر مباشرة في مدونتها ويناقش أيضا بين الأعضاء والنقاد وينشر له قراءات من قبل النقاد، أما بقية النصوص تحرص متن على مناقشتها بين الأعضاء والتغريد عنها في حسابها التويتري لتعم الفائدة، وأيضا مراسلة أصحابها لتقوية بعض جوانب القصور والنقص.
في متن لكل نص وقته وأهميته .. في متن لكل فكر احترامه.
*  وجودك الدائم في الفضاء الافتراضي ومع وصول عدد زوار مدونتك “اتنفس بهدوء ” لــ60  الف زائر تقريبا، كيف تنظرين للحراك الثقافي في العالم الافتراضي؟

الحراك الثقافي الافتراضي مذهل للغاية..! كسر العالم الافتراضي بطرق تواصله المختلفة جليد الذي كان جدارا ما بين الكاتب والقارئ، كما أنه أخرج الكاتب من عزلته؛ هذا التواصل غذى الحياة الثقافية للكاتب كما غذى مخزون أفكاره ، ولهذا نرى اليوم أصبح لكل كاتب حساب تويتري أو فيسبوكي ويطل على قرائه ويتواصل معهم ، وهذا يقلص من حجم الحدود والمسافات التي كانت رابضة ما بين الكاتب والآخر.
كما أنه يوسع من دائرة النقاشات حول كتابه وآراء القراء فيه، وفتح مجالا شاسعا أمام الكاتب ليعرض أحدث كتبه ويروج عنها بطريقة سلسة كما يروج الكتّاب في الغرب عن كتبهم وأحدث إصداراتهم ويذهبون في جولات كثيرة نتيجة لذلك، طبعا الكاتب العربي مايزال سجين خجله أو احراجه ربما فيجد نوعا من الحساسية في عرض أفكار مشاريعه وكتبه، ولكن العالم الافتراضي أتاح له سبل ذلك بأريحية وبساطة وكتواصل محب بينه والقارئ ..!
والأهم أنه أتاح حرية مختلفة للكاتب كي يعبر عن أفكاره وهمومه ومشاغله كإنسان أولا ثم ككاتب؛ رغم القوانين واللوائح التي شمعّت بها العوالم الافتراضية في الأعوام الأخيرة وهذا يعني أن الكلمة معرضة للمساءلة والعبارة التي تكتبها من 140 حرفا قد تكلفك حياتك وحريتك كإنسان وككاتب … وكما يقول الشاعر محمد الماغوط :” ما من موهبة تمر بلا عقاب “..!
* ما هي طموحاتك المستقبلية والتي تودين تحقيقها من خلال هذا العالم الافتراضي؟
لدي شجرة أحلام كبيرة.. أسقيها على مهل ، تكبر هذه الأحلام … تكبر شجرتي وأنا الطفلة التي تمد يدها إلى ثمارها لعلها تحظى بأكثرها نضجا ولذة ...
 

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

حكايات منازل أجرّها أبي ...

حكايات منازل أجرّها أبي ..

نشر في البلد ..

 كان دائم السفر .. تتجدد وطأة قدمه وأنفاسه وأماكنه في السنة الواحدة مرات ، فارغا إلا من حقيبة بحجم مخدة صغيرة والتي لا تحوي في جوفها سوى بضع دشاديش ومصران ( يا للغرابة كان سفره عكسيا فعادة الانسان يسافر من وطنه إلى أوطان أخرى لكن والدي كان يسافر من وطن بديل من منفاه الاختياري إلى وطنه الأم كل شهر تقريبا وأحيانا في الشهر الواحد مرتين وهذه إحدى غرابات هذه الشخصية التي تدعى أبي ) ..
 أندر محتويات حقيبة أبي بالنسبة له رفيقته الوفية أبدا في كل أسفاره " مسجلة " بحجم كف اليد ذات لون طماطمي أحمر ، دون أن يترك ظله وابتسامته العميقة التي قل أن تأفل عن تقاطيعه المريحة ، أما عن تجارته فلم نكن نفقه بشأنها شيئا ، لم يكن يناقش أمرها مع أحد ، ولم يفكر قط أن يكيل المهمة حتى حين شاخت سنواته إلى أحد من ذكوره ، كان هذا التاجر يقدس عمله وكأنه شأن خاص به ، والأهم إنه سيد نفسه ، الآمر والناهي لها ، وحيث تشاء مشيئته يعزم أو يركن ، كان فقط يحدثنا حين يعود من السفر عن الأجانب الأوروبيين الذين صادفهم في جولاته ودخل معهم في حوارات بانكليزيته وكانوا يفهمون عليه ويفهم عليهم ، يعود مع حكاياته التي تبهر عوالمنا الضئيلة دون أن تفوته الهدايا المتنوعة التي يحضرها كل على اسمه وما يناسب عمره الزمني ، دمى متنوعة للفتياته الصغيرات ولعب من السيارات بتشكيلة ألوان مختلفة لصبيته الأشقياء ، وحيثما أطوالنا مع الأيام كانت الهدايا تتشكل في أشياء أخرى يغري ذوات أطفال مع أبيهم الدائم السفر ..
وجعلنا نسافر بطريقة أخرى ، بالانتقال من مسكن إلى آخر ، نحزم أمتعتنا وطريق طال أم قصر يحمل على كتفيه حقائبنا الكبيرة ، الصغيرة ، المربعة ، المستطيلة .. واللاحقائب ، كان سفرا ذا لذة غريبة ، فكل مسكن وطئنا عالمه كان لسقوفه وجدرانه وأبوابه وممراته حكايات معجونة بالغرابة والدهشة المفرطة ، كل مسكن كان يعني بالنسبة لنا نحن الصغار مدرسة جديدة وحافلة جديدة وأصدقاء جدد ، وحي غامض في البدء ليكون الأقرب من حبل الوريد في النهاية ، بينما الكبار منا فكان هذا الانتقال يعني جيران جدد ومستشفيات وبقالات ..إلى لا آخر من تلك التفاصيل الفضفاضة التي تكتظ بها اهتماماتهم ..
في الليل حين موعد النوم ، كان لأول ليلة من كل انتقال إلى بيت جديد له وهجه الخاص ، وسحره ، وربما خوفه المستتر عن أمنيات تتسلق الجدران المحيطة بنا ، أو عن أحلام موردة تتوهج روح الحياة في أوصالها في فسحة هذا البيت الكبير، هكذا كانت أفكاري تتداعى ، الطفلة القلقلة من مغبة مغادرة أشياء قد لا نملكها يوما قط إلى أشياء أخرى تحتمل في أعماقها السحيقة ما لا يمكن إدراكه ، دون أي مبالغة أو غلو في التباهي كانت ثمة روح تسبر أعماقي بدفء لذيذ عن أيام رائقة لا تخلو من حس الفرح ، حس زئبقي لا يمكن سبره ، لكنه كان يضخ دم العنفوان في روح تلكم الطفلة المشوشة غالبا من ضجة حياة أخرى هائلة جدا بالنسبة لها ..!
كانت بيوتنا كبيرة ؛ والأب كبير العائلة كان شديد الحرص على انتقاء بيوت ذات مساحات واسعة ؛ لتتسع ضجة صغار أشقياء ينبههم الديك الشرس منذ صرخة الفجر الأول ، وتظل حواسهم مدركة حتى تتخدر تدريجيا وبفوضى كل في فرشته كيفما كان ، لتمتد يد رؤوم فتغطي تعبهم البارد في مساء صقيعي استدعاء لأحلام دافئة ..
الغاية في الإمتاع هي تفاصيل تلك الحكايات التي كنا نحن الصغار نستدعيها من عقولنا الغضة ، فكل بيت كنا نغادره لا يفوتنا أن نلطخ جدرانه بأسمائنا وهي عادة كانت سيئة - كما كان يراها الكبار - من حولنا وتحتمل عواقب لا تحمد عقباه إن وقع أعينهم على فعلنا المشين ، لكن قطع الفحم مع جدار مصقل نقي الطلاء كان يغرينا بالخربشة ، وتلك الخربشات كانت لها أهميتها الأشمل في دواخلنا ، فمن جانب كانت حربا خفية على أطفال أسرة جديدة تستولي على منزل كنا فيه قبلهم لنبرهن لهم أننا أشداء ولا نخافهم مطلقا ، وأن هذا البيت يظل لنا وإن غادرناه ، فهو يحمل كم ذكرياتنا الحميمة ، والتي لم نكن نسمح لأي كان قط أن يشوهها أو يلغيها ، لهذا كان البعض منا يكتب اسمه بطريقة توحي بأنه سيد المكان وزعيمه والبعض الآخر لا يفوته رسم أشكال هزلية ، كنا فقط نسمح للمطر بشطب ذكرياتنا من على الجدران ، وعندما كانت تمر غيمات من على أسطح بيوتنا الجديدة ، كنا ندرك أن المطر قد أذنّ لغيماته بمسحها وكنا نرضخ للأمر فلا حيلة لنا أمام جبروتها .. !
يقال : إن الغيمة لا أصدقاء لها ..!
وكان لانتقالنا من مكان إلى آخر يعني أصدقاء ، وجوه وتقاطيع وخلفيات وقيم وأفكار وشقاوة متباينة ، ربما غدت صداقاتنا كالسحب ولكنها لم تغيب يوما قائمة تلكم الأصدقاء من حفنة من الذكريات تخللتنا معهم في فترة من الصداقة ، حيز الأصدقاء كان كبيرا ؛ ففي الفترة الصباحية كنا نتبادل المرح مع الذين نلتقي بهم في سقف مدرسي واحد ، ونكاد نتشاطر في اهتمامات جمة ، تضمنا تفاصيل مماثلة كالكتب المدرسية ، والملابس ، والحصص الدراسية ، وقائمة المعلمين ، والفروض المدرسية المضنية التي لا تنتهي أبدا هذا ما كنا نعتقده ..!
بينما أطفال الحي فعصريات أيامنا كانت تخصص لهم ، نتحاور ونمرح ونتجادل وكل يصنع متعته في هيئة رفيق واحد أو شلة ، ومعظم المغامرات كانت تشتمل الذكور مع الإناث جنبا إلى جنب ، نادرا ما كانت متعنا في اللهو تفترق إلا في بعض مناسبات كحق الليلة ..

كم منزل في الأرض يألفه الفتى     وحنينه أبدا لأول منزل
للمنزل الأول في حياة المرء خصوصيته ، فالخطوات التفكير الأولى وانفعالات الحواس من دهشة وحب ومغامرة وفرح وبكاء وصرخة وشقاوة ووجوه الأشياء ومعالم المكان والزمان كلها تستعر في جدران البيت الأول ، تفاصيله لا تختلف عن تفاصيل البيوت الأخرى التي خلفناها وراءنا ، لكن أكثر ما كان يميز هذا البيت الوسيع هم الآخرون الذين كانوا يتنفسون معنا ، مع مراعاة اختلاف الأوقات ، فإذا ما كنا نتنفس في أطراف النهار كان تنفسهم في آناء الليل ..!
كنا على علاقة ودية نوعا ما ، فما كانوا يؤذوننا ولا كنا نؤذيهم ، اتفاق ضمني على الحياة تحت سقف واحد مع المحافظة على حدود الفاصلة ما بين عالمينا ، عالم الإنس وعالم آخر من الجن ..
كنا نحن الصغار نشعر بوجودهم ، يتماهى دبيب خيالاتهم إلى مستوى شعورنا خاصة حين يستدل الظلام غشاوته ، في ليلة لها حيز من الذاكرة الشيء الكثير ، اذكر تنبهي على أصوات هامسة والكل من حولي نيام ، اصطخب الفضول في أعوامي الست ، ولم تجد روح المغامرة في الطفلة نير يقينها سوى في قدمين يسبقان الظلمة وراء الأصوات الخافتة ، وقرب المطبخ حيث كانت اجتماعات تحفل في كل ليلة - فيما عرفت بعد ذلك من إخوتي الذين فعل الفضول فيهم فعله – ارتسمت صورة زعيمهم ليس فقط في مخيلتي الغضة بل على حائط المطبخ ، في ظل على هيئة تنين ضخم ، مع أشكال أخرى كان يعبر فيهم الآخرون عن وجودهم الظليي ، لكن وحده زعيمهم كان أعظم تلك الظلال وأصخبها همسا ..
 لم يكن المنزل الأول وحده مسكونا بكرنفالات ليلية بل حتى المدرسة الأولى .. العالم في المطبخ كان احتفاليا صاخبا ؛ كل شيء فيه كان مقلوبا رأسا على فوضى ، وكنتني أخاطب نفسي بوجل وأنا أتأمل صخبهم من أن أمي لن تسكت حيال هذه الفوضى العارمة مطلقا ، لكن ما كان يحدث أن تلكم الحاشية كانت تعيد الوضع على ما هو عليه عند بزوغ الشمس ، وتنأى إلى عالمها الغامض عند هجمة النهار وتنفشي رائحة البشر ..!
لكن على ما يبدو أن الحرب الدائرة ما بين الكبار وهؤلاء كان حاميا ؛ وهو السبب الفعلي الذي جعلنا نحمل أمتعنا إلى سقف آخر ..!
لم تكن فكرة شراء منزل والاستقرار فيه أمرا ذا أهمية عند كثير من الآباء في تلك الفترة ، ولعل بخس الإجارات هي السبب الفعلي ، ولكن أهم الأسباب حبا ضمنيا سبر أفراد عائلتي يقوده حب التغيير والمغامرة بالدرجة الأولى ..
لكن لم يكن ضمن هذه الأسباب شيء وارد يدعى " هروب " ، فقد كنا من ذاك النمط الذي يهرب إلى المغامرة وليس منها .. وفكرة القفز مع الأمتعة من مسكن إلى آخر ، بغرض الهروب من أشخاص ، أو من أزمة ما ، أو شبح الماضي الخانق غير واردة مطلقا كما حدث مع بطلة فيلم كنت قد سبق وشاهدته عن  أم عازبة مع ابنتيها..!
وقد دأبت الأم في الفيلم بعد كل علاقة زواج فاشلة مع رجال تلتقيهم بقطع كل الصلات التي تواصلها معهم من خلال الهرب من مدينة إلى أخرى ومن سقف إلى حارة إلى رجل إلى تفاصيل متغيرة تماما ؛ كي تسقط ماضيها المؤلم من ذاكرة تأبى النسيان .. من ذاكرة لا تلغيها المسافات ..!
 وقد استهلك هذا الانتقال المستمر مشاعر ابنتيها ، لتقرر في النهاية أن تغامر هذه المرة بالبقاء في المكان والمسكن نفسه ومواجهة الواقع ، ضوء من الجسارة انبثق في وعيها الحر ؛ كي تواجه قدرا كانت علاقتهما أشبه بمطاردة توم وجيري ، أجل البقاء في كثير من الأحيان يعد بحد ذاته مغامرة تستحق التجريب ، وبوابة لحياة أخرى لها تقاطيعها ، ولعلها تجد نفسها بعد ذلك في حضن قدر لذيذ .. !
عندما تعرفت بعقلي على الكاتبة اليوغوسلافية " إلما راكوزا " في روايتها المنكّهة بسيرتها الذاتية " بحر وأكثر " .. وجدت ثمة روح واحدة ولكن على نقيض تتواصل بيننا ، فطفولتنا كانت دائمة الترحيل والسفر ، هي من موطن إلى آخر .. بينما سفري كان روحيا بالمعنى الأقرب ، سفر في دائرة وطن واحد تنبهت تفاصيل الحياة فيه ، كانت لذاكرتها عقدة من حقائب السفر ، وكانت ذاكرتي تلتذ بحقائب تحوي زخم ذكرياتها من مغامرة إلى مغامرة ، ألبس هذا حيزي الطفولي متعة قلّ أن أتابع مشواري في درب الحياة دونها .. !
والوجه المضاد الآخر أن " إلما " اكتشفت لذة السفر في شبابها ، فغدت كل مدينة هي متع من حياة افتقدت لذتها في سن مبكرة ، وغدا السفر اختيارا وقرارا ذاتيا ، ولعل هذا ما جعل للسفر وحقائبه أهميته الاستثنائية ..
بينما أجدني في أعوامي الشابة هذه ، مشوبة بالتوجس من فكرة الرحيل ، ترك كل ما يمت عالمي الخاص بصلة إلى وطن آخر ، ولسان خوفي : " هل سيحتويني كما احتواني موطني الأول " ..؟ وعالمي لم يكن كعالم " إلما راكوزا " : " دفعتني التنقلات الكثيرة إلى الاعتماد على الذات ، الذي كان الخوف وجهه الآخر . الأب ، الأم ، الحقائب وأنا – ها كان عالمي .."
فالتنقلات العديدة أحالتني غيمة ، عرفت جيدا أن مرورها عابر أبدا ... فالمكان مستقر للجسد وحده ، بينما للروح أسفارها ، وروحي سندباد كروح أبي التي حلقت قبل غيمتي إلى سماء مضيئة بنجمة على خدها ...
ليلى البلوشي

الإنسان ذاكرة أجيال ..!

الإنسان ذاكرة أجيال ..!

الرؤية / العرب

تقول الروائية الأمريكية " مارلين روبنسون " في عبارة من روايتها " جلعاد " : " الكلمات نفسها التي تبث الحماسة في جيل ما تصبح مضجرة ، عديمة المعنى للجيل التالي " ..!
كما ذهب الفيلسوف " أوشو " في كتابه " العلاقات الحميمة " إلى تعليقه عن الأجيال قائلا : " إن كل جيل ينقل أمراضه ويورثها للجيل الذي يليه وبالتالي يصبح الجيل الجديد محملا بأعباء التطيّر والكبت ، لذا حين تلحظ وجود أي مشكلة اذهب إلى جذورها ولا تختلق الأعذار ، وأنصحك بأن تعرف نفسك جيدا ؛ لكي تستمتع بكل شيء في هذا الوجود ، ولكي تنعم بالسعادة وتتخلص من خوفك من الموت " ..!
يا ترى ما مدى تأثير كل جيل على الجيل الذي يليه ..؟ وهل يستطيع الجيل الحديث أن يبني حضاراته ومجتمعه وأسسه الفردية الخاصة منها والعامة دون الاتكاء أو المرور على تجارب الجيل السابق ..؟!
الإنسان لا يمكنه أن ينشأ من فراغ ، ولا أن يولد من غلالة ضوئية لم تسلط نورها على غيره ، ولا أن يتكئ على فعل أو قول لم يوظف من قبل ، الإنسان يأتي إلى هذه الحياة محملا بتجارب وتراكمات وأسماء وأمكنة وأزمنة ورثها عن الجيل الذي يسبقه ، عن جده وجدته عن أبيه عن أمه عن أخيه عن أخته ، حتى طريقة أكله وأسلوب لغته وخروج الكلمات من حنجرته هي أساليب تلقاها تعلما عبر من اعتنوا به ، عبر من تعلموها بدورهم عن من سبقوهم .. الإنسان ذاكرة أجيال وموروث تجاربهم في الحياة ..!
الناقد والروائي الإيطالي " إيتالو كالفينو " في كتابه " السيد بالومار " يعرض جانبا من جوانب تأثير الأجيال وتحامل الشبان من ذلك ؛ فهو يرى أن حل مشكلة التواصل بين الأجيال يكمن استحالتها في أمرين ؛ أولاهما استحالة نقل تجربته الخاصة ، أما الاستحالة الثانية فتكمن في تجنب الآخرين الأخطاء التي سبق واقترفناها ..! ليبررها موضحا : " فالمسافة بين جيلين تبرز من خلال العناصر المشتركة بينهما ، والتي تفرض تكرارا دوريا للتجارب نفسها على غرار سلوك الأجناس الحيوانية التي تنتقل بالوراثة البيولوجية " ..!
ويوسع " كالفينو " حديثه عن الجيل ؛ ليتحدث عن مضمون التغييرات المؤثرة على الجيل الحديث فيقول : " والحال إن عناصر الاختلاف بيننا نحن وبينهم هي حصيلة التغييرات التي لا رجوع عنها ، والتي يحملها كل عصر في كنفه أي إنها ترتبط بالإرث التاريخي الذي خلفناه نحن أنفسنا لهم ، هذا الميراث الفعلي الذي صنعناه نحن بأيدينا وإن بلا وعي كامل ، لذا ليس لدينا إلا أن نلقّنه ، إذ ليس في استطاعتنا أن نؤثر في ما هو أشبه بتجربتنا ولا نملك أن نتعرّف أنفسنا في ما يحمل أثرنا " ..!
تبقى الذات في ذاكرة السلف خلال أمرين أو فئتين وهما :
-       التركيب البيولوجي الذي يتيح لنا نقل هذا الجزء إلى الخلف وهو ما يسمى بالجانب الوراثي ..
-       التركيب التاريخي الذي يتيح عبر ذاكرة ولغة ما يدوم حيا ، هذا القليل الأقل .. هذا الحد الأقصى أو الأدنى من التجربة التي عايشها وراكمها حتى أقل البشر حيلة .. كما رأى " إيتاليو كالفينو " ..!
ذكاء الإنسان الذي جعله قادرا على نقل الخبرة من جيل إلى جيل ، حيث تمكن تدريجيا من أن يحافظ على نوعه أكثر من أي الكائنات الحية على وجه الكون ..!

ليلى البلوشي

الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

حوار مجلة ريحانة البحرينية مع الكاتبة ليلى البلوشي..

ليلى البلوشي : لو لم تكن المرأة موجودة لأخترعها الرجل ..!

أجرى الحوار : فاطمة العمار / مجلة ريحانة البحرينية ...

ليلى البلوشي، أديبة عمانية متميزة، باحثة مهتمة بأدب الطفل، كانتْ لها محاولات في الشعر، لا تتذكرها وتقول (متى كتبت الشعر آخر مرة؟ لا أذكر حقا! ببساطة السرد بكل أنواعه احتلني)، وعن السبب الذي دعاها للاهتمام بأدب الأطفال كان مصادفة تعتبرها من أجمل مصادفات حياتها، هذا التوجه الذي تحوّل مع مرور الأيام إلى شيء تحبه وتفخر بالكتابة فيه.
 هنا نص لقاء مجلة "ريحانة" مع البلوشي.

ما سر نشاطك وحضورك "الالكتروني" اللافت؟

لا سرّ ، وسرّ ربما ..! لكنه نافذني أطل من خلالها على عالم كبير ومختلف ومدهش ، عالم غني بالأفكار الجيدة والمعطوبة وقلوب الكبيرة والصغيرة .. الواسعة والضيقة ... يااااه ، عالم من الانفعالات السوريالية كلوحات سلفادور دالي ..!
عالم يمد لك جسورا من التواصل مع بشر مختلفين نتعاطى معهم بشكل يومي ربما كقهوة صباحية .. كصحيفة .. كمسرحية تتفرج عليها وتتعرف على أبرز ممثليها أو كسوق تقتني فيها ما تريد من كتب ومن أشياء لا تخطر ببالك حتى ..!
المدهش حقا أنك في هذا العالم الكوكتيل تلتقي بأصدقاء حقيقيين وبقراء أوفياء ؛ قد لا تعرف تقاطيع وجوههم .. قد لا تتمكن من معرفة أسمائهم الحقيقية .. تتواصل مع نقرات أصابعهم المتصلة بعقولهم وحفلة أفكارهم الغنية بالمعرفة والثقافة وأرواحهم البضة كالياسمين تغنيك عن بقية تفاصيلهم ..!
أليس كل ذلك كفيل بتحفيز نشاطك وهمتك على الصعيد الإفتراضي ..!

تصفين محاولاتك في الشعر بأنها "فاشلة" لماذا هذا الحكم القاسي؟

الشعر .. الشعر متى كتبت الشعر آخر مرة ..؟!
لا اذكر حقا ..!
يبدو أن السرد سحب كل طاقتي الإبداعية وجل أفكاري نحو ومضاته الفضفاضة ، ببساطة السرد بكل أنواعه احتلني ..!

دائماً هناك شكوى مستمرة من إهمال أدب الطفل، ما سبب توجهك للبحث في هذا المجال؟ هل هو شغف أم رغبة في سد نقصٍ ما؟

توجهي لأدب الطفل كان مصادفة ؛ من أجمل مصادفات حياتي حقا ..!
بدأت الحكاية مع بحث التخرج كان موضوعه عن أدب الأطفال ورشحني بعض الأساتذة في الجامعة أن أختاره لأكتب فيه ؛ لثقتهم ولحسن ظنهم بنشاطي ، على الرغم من إني شككت من قدرتي على الخوض في مجال صعب وغريب عني نوعا ما ، ولكن بحمد الله تعالى كان توجها خيرّا ، وأنا مدين لأساتذتي بهذا التوجه الذي استحال مع الأيام والقراءات والممارسات إلى شيء أحبه وأفخر بالكتابة فيه ..

ما رأيك بالطفل العربي؟ وهل تجدينه شغوفاً بالقراءة؟

الطفل العربي طفل ذكي وقوي ؛ على الرغم من كل الظروف الشاقة والكوارث والحروب والفقر إلى لا آخر من الأزمات التي يمر طفولة هؤلاء الصغار إلا أن كل ذلك شد من عودهم .. وقوى عزيمتهم .. وشرع مداركم على العالم وجعلهم أكثر تصالحا مع واقعهم ؛ نعم لقد نزع هذا الواقع منهم أجمل أعوامهم " الطفولة " فما خبروه حقا بشع ومخيف وأخص هنا أطفال سوريا الجريحة ؛ إنهم يعيشون رعبا يوميا وذبحا داخليا وخارجيا مهددا غير أنهم مازالوا يحلمون بواقع أفضل ومستقبل لوطن يبنونه بفكرهم البناء وجسارتهم النادرة ..!
أما على صعيد القراءة ؛ للأسف مستوى القراءة هابط في الوطن العربي بشكل عام ؛ فإذا كان جزء من أطفال العالم العربي منكوب ومشغول بظروف الحرب وسلب من طفولته السوية في ممارسة حياته ومواهبه بشكل طبيعي ، فإن النصف الآخر من الأطفال يعيش بترف ومدلل وفضّل الألعاب الإلكترونية على كتاب ورقي يقلّبه بين يديه ..!
والكل ملام في ذلك ليس ذنب الطفل وحده بل الأسرة والمدرسة والمجتمع والعالم من حوله أيضا ..!

هل يمكن أن تحدثينا عن قراءاتك منذ سن مبكرة وحتى اليوم، وما التغيير الذي طرأ على ذائقتك في القراءة؟

مدينة لصناديق الكتب ؛ سري الصغير .. كنزي الأروع ..!
وأنا صغيرة كنت أحب قراءة كل شيء قابل للقراءة ، كتب بأنواعها ، المجلات والدوريات بأنواعها ، كنت اقرأ ولكن فهمي كان على قده ضئيلا ، واذكر أن مكتبة أخي التي كانت معظمها من كتب قديمة ومن التراث جعل فضولي يتصفحها ، ولا أكاد أنسى أول إحساس ساورني حين وقعت عيني على كتاب الحيوان للجاحظ كان غلافه بالنسبة لي مخيفا تكلله رهبة كبيرة ..!
كانت القصص والحكايات هي أولى اهتماماتي القرائية ، ومن فضائل القدر الجميل أيضا في طفولتي صادفت مرة عند باب منزلنا صندوقا بحجم متوسط ، وحين فتحه فضولي دهشت بكمية من القصص بعناوين تفوح بالمغامرة كانت أكبر من كف يدي ، فرحت بها كثيرا وصرت ألتهمها يوميا كانت المجموعات القصصية لمؤلف اسمه " محمود سالم " وقد انتخب بطلا واحدا يخوض بطولة سلسلة حكاياته الشيقة يدعى تختخ " مغامرات تختخ " فتحت هذه القصص مداركي الطفولية وجعل خيالي يفكر بطريقة أخرى ..!
الدهشات لم تنضب من حياتي يوما ، في مرحلة المراهقة قدمت لي صديقة صندوقا مكتظا بحكايات تدعى روايات عبير ، وكان المراهقون في ذلك الوقت يقرأونها بنهم ، انبهرنا بها لأول وهلة ، ولكن هناك كتب وجدت لمرحلة معينة وكانت روايات عبير من هذه النوعية تفرغ منها سريعا ولا تكاد تذكرها بعد ذلك ..!

كتاب قرأتيه وجذبك، ولا تستطيعين نسيانه؟

رواية " أن تقرأ لوليتا في طهران " للروائية الإيرانية آذر نفسي ، من الكتب التي تأثرت بها حد كتابة رسالة من 6 صفحات لكاتبتها ، وقرأها القراء لأني قمت بنشرها في صحيفة ..!
ورواية " آلموت " للروائي فلاديمير بارتول .. هذه الرواية العظيمة تحكي عن عالمنا بفكر مرعب وفج وواقعي جدا ..!
قالت الروائية إيزابيل الليندي : " ما ينسى كأنه لم يحدث قط " ..!
وهاتان الروايتان اللتان قرأتهما حدثتا فعلا ؛ ولهذا من الصعب إسقاطهما من الذاكرة بالنسيان ..!
إلى أي حد أنتِ متفائلة بواقع المرأة الخليجية اليوم، هل من تحديات كبيرة تواجهها؟

المرأة الخليجية عبرتها تغييرات العصر كما عبرت غيرها من نساء العرب والعالم ، لم تعد تلك المخملية أو البرجوازية المدللة ، الكسولة ، الفارغة من اهتمامات الحياة سوى النفخ والطبخ والزواج أو مطاردة الموضة وما إلى ذلك من أفكار ومعتقدات عتيقة عفا منها الدهر وشبع ..!
نحن اليوم أمام نماذج نسائية خليجية جديرات بالفخر وفي مجالات عديدة لا يمكن حصرها ، وهذا أمر بالتأكيد يدعو للتفاؤل بشأن مصير المرأة الخليجية وامتدادها التاريخي القادم وبقوة ..!
نعم هناك تحديات وهناك صعوبات والطريق به منحدرات ، لكنني على ثقة بأن المرأة الخليجية قادرة على كسر تلك الصخور الضخمة وعلى تجاوز صعاب الحياة ، إنها أكثر ثقة بنفسها وأكثر اعتمادا أيضا على ذاتها ، فدراستها ، وعملها الخاص .. كوّن منها كيانا إنسانيا أكثر استقلالا في تكامل جيد مع الرجل في المجتمع ..

هل أنت راضية عن كل ما وصلتِ له؟ وما هي حدود طموحاتك؟

في عالم الإبداع بشكل عام أو الموهبة ؛ مهما كان نوع هذا الإبداع وشكله إن نحا إلى حد معين في مشواره ، وثم قال عندها هذا يكفي .. فإن إبداعه يفنى إلى هذا الحد في روحه ، ولن يمنحه مهما فعل من معجزات المزيد بعد أن اقنعه بمعدل معين من الرضا ..!
سأحكي موقفا مر به الإسكندر الأكبر ؛ يروى أنه يوم أصبح قاهر العالم أوصد باب غرفته وبكى ..!
ولقد انزعج جنرالاته وتساءلوا بدهشة كبيرة : ماذا حصل ؟ لم يسبق أن رأوا الإسكندر يبكي ، لم يكن من هذا النوع من الناس إذ كان محاربا عظيما وقد عبره مواقف في غاية الحرج والخطورة وكان الموت فيها محتما ولكن دمعته كانت صامدة ولم تذرف ولو قطرة واحدة .. فماذا حصل الآن وقد أصبح قاهر العالم ..؟!
قرعوا الباب ، ثم دخلوا وسألوه : ماذا حصل ..؟ لماذا تبكي كالأطفال ..؟
فأجاب : الآن وقد نجحت وجدت نفسي خاسرا ، لقد وجدت نفسي الآن في المكان نفسه الذي كنت فيه قبل أن أقهر العالم ، لم يعد أمامي عالم آخر لأقهره ، أي لم يعد لدي شيء آخر لأقوم به وفجأة عدت لنفسي ..!
أن تصل إلى قمة ما يعني أن مسؤولياتك كبرت أمام نفسك .. وأمام من يقرؤك .. وأمام من يدعمك .. وأمام كل أخلص لك ولموهبتك ... هم يريدون منك الاستمرار في انجاب المزيد من الإبداع والأفكار والدهشات ؛ لتساعدهم على الحياة ربما .. لتدعم أرواحهم .. لتبني خيالاتهم ربما .. جلّ ما تقدمه غاياته تتضافر في الآخرين ، وحين تتوقف وتكتفي بالرضا سيتوقف نبعك العظيم وتفنى قبل أن يصاب قراؤك بالجفاف ..!
لا حدود لطموحاتي أبدا ولا لأحلامي ولست راضية و لن أرضى ؛ لأنني دائما سأكون مشغولة بكامل حواسي بما لم أخضّه بعد ...!

كلمة توجهينها للمرأة.
لو لم تكوني موجودة لأخترعك الرجل ..! تأكدي بذلك ...

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2013

تحولات الشحوم ودلال الكسل ..!

تحولات الشحوم ودلال الكسل ..!


الرؤية / العرب

( 1 )

" التبلاح "

    " التبلاح " : مصطلح يستخدمه عائلات منطقة - تندوف - بأقصى جنوب غرب الجزائر ، ويعنى بها تسمين الفتيات المقبلات على الزواج ، كي يغدون يوم زفافهن في أبهى صورة .. وهي عادة موغلة منذ القدم فحين تبلغ الفتاة سن السابعة والثامنة عشرة ، تدخل العائلة في حالة طوارئ ؛ لأن الفتاة تكون على عتبة الزواج ، ويتطلب تجهيزها بدنياً لذلك .. دون أن تقف النصائح الطبية بتفادي السمنة ومخاطرها في وجه بقاءها حتى الآن ..
وتتبع في تسمين الفتيات سلسلة من التدابير التقليدية أهمها اختيار أنواع من الأكل تعتمد على لحم الإبل وشحمها ولبنها ، وخبز الشعير فضلا عن التمر ومواد سكرية ..
ويشرف على هذه المهمة مسنات مجربات وعارفات بخبايا الأغذية التي تفيد في إحداث السمنة وطرق استعمالها ، وتخضع الفتيات المقبلات على الزواج لوتيرة معينة من الغداء كما ونوعا ، ويتناولن عادة طبقا غنيا بالدهون يتكون من شحم الإبل المذوب والبيض المقلي في الزبدة والنشا ، وهو حساء تقليدي خال من التوابل .. وشريحة لحم الإبل المجفف ويسمى باللغة المحلية " تيديكيت " ..
بينما أولئك اللاتي يرغبن بالطرق السريعة لزيادة الوزن ، يتناولن كل يوم خليطا من بيض الدجاج النيئ وزيت الزيتون على مدى أربعين يوما ، من أشد أيام الصيف حرارة وتسمى هذه الأيام بـ " السمايم " ..
ويرجع أهمية تسمين الفتيات عند هذه القبائل إلى رغبة رجالهم في فتيات مملوءات القدّ وموفورات الصحة وكاملات ، بينما النحيفة فلا حظوة لها في الزواج عند هذه القبائل حتى تسمن نفسها ..!


( 2 )

" تحولات الشحوم " *

   مؤرخ الجسد والأستاذ الجامعي الفرنسي " جورج فيغاريللو " في كتابه الصادر حديثا تحت عنوان " تحولات الشحوم " يتحدث عن تاريخ البدانة من العصور الوسطى حتى القرن العشرين ..
فيغاريللو وكما أشار في كتابه إلى أن في العصور الوسطى ظهر ما يسمى بـ " الشخص الأكول " الذي كان يتمتع بحياة اجتماعية ومادية مرفهة ؛ فـ " كرشه " المتدلي دليل قاطع على نأيه عن هوة الفقر ، فالبدينون كانوا غالبا من فئات الإقطاعية في الحالات الطبيعية ..
ولكن النظرة التشككية بدأت حيال البدين منذ القرن السادس عشر – بدايات عصر النهضة الأوروبية – حيث ظهر ما يسمى بـ" غياب مفهوم الاعتدال لدى الأكولين " تبناها نقاد كثيرون .. وقد أشار المؤلف إلى شخصيات شكسبير الهامشية ، والتي كانت تتصف بالبدانة مثل شخصية السكير " فلاستفال " الذي حظي بتوصيفات مثل " صاحب البطن الضخم " و" شحم كبد الإوز " و " الآنية الاسبانية المدورة " .. ومع هذا القرن غدت البدانة نوعا من التخلف ..
و في القرن الثامن عشر ظهرت كلمة " البدانة " في قاموس " فورتيير " الصادر عام 1701م وجاء توصيفها القاموسي باعتبار البدانة حالة مرضية ، وعليه فرض عصر التنوير خطابا يدين فيه صراحة اكتناز الشحوم في الجسد الإنساني ..
واعتبارا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين ، اشتاحت العالم حمى إنقاص الوزن وظهر ما يدعى بـ " دكتاتورية المظهر " ؛ فزيادة الوزن هي " خطيئة جمالية " بمقدار ما هي " خطيئة صحية " ، وغدت البدانة دلالة من دلائل " الفقر " ؛ بسبب تناول كميات كبيرة من النشويات بعد أن كان دلالة ثراء في العصور الوسطى ، ومع طغيان ظاهرة " الكرش البرجوازي " واكبه أهمية " الميزان " في المنازل وظهور برامج غذائية " الريجيم " ، فالبدانة وكما يرى فيغاريللو أصبحت إحدى المشكلات الاجتماعية والصحية والجمالية ، التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار ؛ بسبب آثارها العامة فضلا عن آثارها الفردية ..


( 3 )

 " كرش المثقف "

  من وصايا الكاتب " وليام سارويان " للكاتب الشاب : " تنفس بعمق ، وكل بأقصى ما تستطيع من شهية ، ثم نم نوما عميقا وأضحك كالجحيم " ..
يبدو أن " القراءة والكتابة " سببان رئيسيان لفتح الشهية ، أو لنقل حمل لقب " أصحاب الوزن الثقيل " .. فأن تقبع في مجلسك على أقصى درجات الاسترخاء وبين يديك كتاب ، وأنت في سباق لاهث معه ؛ كي تنتهي منه لتبدأ بوليمة أخرى ، ومن خلال تلك الساعات خصوصا عند المنصرفين تماما عن العالم الخارجي من حواليهم تقديسا لمادة القراءة ، لا يقطعها سوى مواعيد الصلاة لأولئك الملتزمين بها – وما أقلهم – أو ارضاء فطريا لزقزقة عصافير المعدة التي لا تستغني عن حصصها من الطعام بل وتجرّ الكتاب معها لتتشاركا الوليمة ..!
فتكون أشبه بفواصل إعلانية تنأى عينيك المرهقتين قليلا عما استحوذ عليك لبّك .. تلتهم وجباتك ، فالشهية بابها مفتوح على مصراعيه والقراءة تحتاج إلى عقل والعقل يحتاج إلى وقود قوامه في الزاد الذي يتدحرج إلى معدتك بسلاسة لذيذة .. فلا أسهل من عمليات البلع والمضغ والجرش والطحن والقرمشة والفرم والمص حتى آخر نتفة من القصعة التي أمامك ، بهمّة نملة تعد عدتها لشتاء شرير مقبل عليها .. !
وحينما تنتهي من وجبتك الرئيسية الثقيلة ، فإنك تدلل نفسك كما يدلل الدانمارك أبقارهم تماما ،  فأنت ويا للإرهاق ..! قابع في جلستك المجهدة وجسدك يحفر في تربة أفكار غائرة في الكتاب الذي تقرأه أو الذي تعكف عليه تأليفا ، وأفكار ما بين كرّ وفرّ فلا مانع خلال ذلك استدعاءً للأفكار من جرش الفول السوداني المحمص أو طحن المكسرات بأنواعها المتبلة بطريقة عربية ، أو قرمشة برينكوز من عبوات الشبيس الكبيرة أو رقائق " ليز " فميزتها أنها تتلاءم وصفحات الكتاب الضخم الذي تمعن فيه بكل جد ، وإن كان الجو حواليك يغلي على درجة المائة الفهرنهايتية ، فإن آيس " باسكن روبنز " برعشته الباردة تدغدغ طاقتك لمجهود أكبر ، دون أن تحرم نفسك من صرعات الوجبات الجديدة فـ " آندومي " بخلطة الدجاج أو الخضروات هي الوجبة التي تحب أن تسحبها إلى جوفك بسلاسة مطلقة ، بينما أنفاسك تلهث خلف لهفة تخطف أبصارك في موضع مما تقرؤه .. ولا مانع من استرخاء على نحو آخر مع قطع من " الجالاكسي " الذي يذوب في الفم بنشوة مدهشة وقد تتضاعف الكمية ؛ فالدراسات أثبتت أهمية الشوكولاتة لتحسين المزاج وتنشيط الطاقة .. بينما قد يطلق الكتاب المنسجم معه عنان خياله فترتشف " الـ " ريد بول " لتحلق بجناحين من الطاقة مشاطرا بذلك خيال الكتاب ، ناهيك إلى مشروبات حارة ، ليكون " الشاي " مع سكر زيادة أو " النيسكافيه " مع حليب كامل الدسم أو كافيه لاتيه أو موكا وهي وسائل لتنبيه ما لبس على العقل في جرم السهر ..!
مع الأيام تغدو مثقفا حقيقيا وقارئا كبيرا مع شاهدين لا يكذبان أعين الآخرين قط فـ" كرشك " الكبير و" فخذيك " المشحمين خيرا دليل ..! مع رفيقين على ما يبدو سيرافقانك لزمن ممتد " السكري " و" الكوليسترول " وقد لا يغادرانك أبدا كلما فرط تدليلك لعادات القراءة ..!
لكنك تستطيع أن تستيقظ من هذا الكابوس بتخصيص – ساعة يوميا - تطلق فيهما ليس قدميك فقط ، بل عقلك لمتعة الانطلاق والصحة والرشاقة لتغدو كاتبا وقارئا يتمتع بصحة جيدة ..
ومجال الحرية شاسع بين الأخذ بنصيحة الكاتب " وليام سارويان " وبين ما تناوله المقال ، دون أن يفوتني تذكيركم بكابوس مرعب يدعى " شبح السمنة " اجعلوه نصب أعينكم كلما سولت لكم أنفسكم تدليل الكسل .. وما ألذّ تدليله ..!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت قراءة مفصلة عن هذا الكتاب الصادر في باريس للمؤلف " جورج فيغاريللو " في ملحق " مسارات " التابعة لجريدة البيان الإماراتية ، العدد 104 ، 2010م .



ليلى البلوشي