الثلاثاء، 25 يونيو 2013

الطفل السعيد في العالم غير المتكامل ..



 
الطفل السعيد في العالم غير المتكامل

 

الرؤية / العرب

 

ذهب " ستيفن هاريسون " في كتابه " الطفل السعيد "  إلى أن أنظمتنا التعليمية التربوية نابعة من أصل النظام البروسي في القرن التاسع عشر ، فقد خضع سكان بروسيا لنابليون ولم يكن ذلك لصالحهم ، فكان عليهم أن يبدأوا بتعلم الفرنسية أو الخضوع والاستسلام ، لم يحارب سكان بروسيا جيدا ولعلهم لم يكونوا مقتنعين بجدوى الحرب ، فكان من أهداف النظام البروسي غرس الطاعة في نفوس الشعب ولكنه أيضا كان مصمما لإيجاد مستوى أقل من الإبداع من أجل قولبة عقول الشباب وتعويدها على الخضوع للسلطة بإجبارهم على عدم التفكير كثيرا ..!

كيف تستطيع أن تخضع المواطنين لفكر معين ..؟ هنا يطرح " هاريسون " أسلوب الذي يخضّه النظام التعليمي جيل المواطنين فيقعون في فخ السلطات ، ويتجلى ذلك الأسلوب في تحطيم حواسهم ورغباتهم القوية واستبدالها بالطاعة للحكومة ، إن الأنظمة السلطوية أكثر فاعلية حتى في التعليم ، ولهذا كان النظام البروسي منظما وقابلا للقياس وبعد فترة من الزمن أصبح مشهورا ، فوصل إلى هذه البلاد حيث تطور وأصبح يشكل نظامنا التربوي الحالي ، إنه نظام لكنه ليس للتعلم بل لتحطيم رغبة الطفل وحبه ، ويكمن هدفه في تطبيع الطفل ليسير في فلك الدولة كما يهدف النظام أيضا إلى إنتاج عمّال ، لذا فإن هدف النظام البروسي في القرن التاسع عشر هو إعداد نسبة ضئيلة من الطلبة ليصبحوا قادة ، أما الأغلبية فهم لخدمة القادة وبقية الطلبة لا يصلحون للتعلم فيتم تحويلهم إلى عمال ، لقد كان النظام التربوي مصمما لإعداد الطلبة لصالح الحكومة والحكومة موجودة بالطبع لخدمة مصالح النخبة الذين يصممون المدارس ..!

بينما الطلبة الذين يستطيعون الجلوس في الصف الأول والإجابة عن أسئلة المعلم هم الذين سيرتفعون إلى القمة ، والنظام بالنسبة لهم يعمل عملا يستحق الإعجاب وسيستمر هؤلاء الطلبة بالدفاع عن النظام طيلة حياتهم التي يتمتعون فيها بالامتياز والسلطة ، أما بالنسبة لعمال المستقبل والشعراء والطلبة غير الممتازين المرتبكين والغاضبين والذين لحق بهم أذى فقد حدث لهم أمر آخر ، لقد أرغموا على العيش في نظام ثقافي يقول " أنت لا تستطيع أن تفعل ما تحب أن تفعله ولكن بوسعك أن تفعل شيئا يمكنك من البقاء " .. !

ونتيجة التعليم الذي لا ينتج في النهاية سوى المزيد من العمال الخاضعين لسلطة ما في مجتمعاتهم ؛ فإن الحكومة اليابانية بدأت بمراجعة نظامها التربوي لخفض عدد الساعات التي يقضيها الطلبة في المدارس بنسبة الثلث وتجنب أسلوب الحفظ غيبا في التعليم ، وعلاوة على ذلك فقد أدخلت الحكومة فترات دراسية قصيرة يوميا يقوم فيها الطلبة بممارسة التفكير الإبداعي ومتابعة اهتماماتهم بأنفسهم من أجل حفزهم لحب الحياة .. لماذا بدأت هذه الدولة التي تحتل المرتبة الأولى في العالم في العلوم والرياضيات بتعديل نظامها التربوي ..؟

لقد ذكرت مجلة وول ستريت أن الرئيس شركة آي بي إم في آسيا قال : " نحن بحاجة إلى نوع من الناس قادر على ابتكار أشياء جديدة وقادر على مواجهة التحديات المعاصرة وقادر على التفكير في كيفية التوصل إلى نتائج جديدة ، ولسنا بحاجة إلى أناس يحصلون على درجات عالية " ..

يوجد في اليابان أيدي عاملة كثيرة ولكنها تعاني من نقص شديد في المفكرين المبدعين ورجال أعمال وحتى الناس العاديين لتلبية احتياجاتها في الاقتصاد في الفترة اللاحقة للتطور الصناعي ، ولا يقتصر الأمر على حاجة الشركات والمؤسسات إلى مبدعين لحل مشكلاتها بدلا من موظفين قد تدربوا على السمع والطاعة والتقليد وعدم التفكير والجلوس دون حركة وكأنهم ينتمون إلى عصر صناعي قديم ..

فمن الواضح أن حياة الفرد تصبح أفضل بفضل التعلم الذي يشجع الإبداع ويطور الثقة بالنفس ويشجع العلاقات بين الناس ، كما أن وجود الفرد المبدع أفضل للمجتمع بشكل عام ..

أما النظام التربوي التعليمي القائم على الخضوع للسلطة وهدم مواهب الطفل وقدراته في التفكير فهي تلفظ طفلا بل تلفظ جيلا غير قادر على كفاح تحديات المستقبل ، بل إنها وكما يرى " هاريسون " فالطفل الذي لم يدرب على مبدأ السلطة فهناك فرصة لأن يكون سعيدا فعلا ومبتهج القلب ومبتسما كل صباح ؛ لأن يوما جديدا آخر مفعما بحب الاستطلاع والإبداع والعلاقات ينتظره ..

ليلى البلوشي

الأحد، 23 يونيو 2013

الرائحة : أبجدية الإغواء الغامضة ..!


 
 
 
الرائحة : أبجدية الإغواء الغامضة ..!

 

يقول الروائي " نيكوس كازانتراكس " في "  زوربا " : " أنا اعتقد أن لكل إنسان رائحة خاصة ، وأننا لا نلاحظ ذلك ؛ لأن روائحنا جميعا تمتزج بعضها ببعض ، فيتعذر علينا تمييزها وردّ كل رائحة إلى صاحبها ، كل ما نعلمه هو أن الروائح في مجموعها تؤلف رائحة واحدة خبيثة هي التي نسميها " البشرية " .." لا أنكر أن اهتمامي بالروائح استفحل يوم قراءة عبارة زوربا هذه التي تحتمل دلالات وتأويلات عديدة ، والشيء المؤكد أن عوالم الروائح غريبة ومدهشة وساحرة في قاعي تمدد مع رواية " العطر " لـ" باتريك زوسكيند " التي فجرت من الروائح عطرا مملوكا بإغواء الموت ..!

 

وقطعا لا يمكن النكران أن ليس فقط للبشر روائح خصوصية بل يتعدى الأمر الحيوانات والنباتات ، وهذا ما يقوله كتاب " الرائحة أبجدية الإغواء الغامضة " لـ " بيت فرون من إصدارات كلمة التابعة لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث للمترجم " د. صديق محمد جوهر " جاء هذا الكتاب الموسوعي ملقيا الضوء وتفاصيل الحكايات على إغواء الرائحة في 383 صفحة ، يستعرضها المؤلف في تسعة فصول بدءا من تاريخ الرائحة والشم إلى الخاتمة التي تختصر قصارى عباراتها الفضفاضة طوال فصول التناول ..

 

في هذا الكتاب سوف يعرف القارئ علاقة " الرائحة " بحياته على مستويات انفعالية وسلوكية وعلاقاته بالآخرين ونفسه وشئون القلب والعاطفة والصحة ، ولا تشمل البشر وحدهم بل تتعدى التأثيرات عوالم الحيوان والنبات ..

 

فمن حيث التاريخ كان القدماء من الفلاسفة وعلى رأسهم " أفلاطون " حمل على العطور حملة شعواء من حيث كونها أداة للتخنث واللذة الجسدية في زمن كان فيه استعمال العطور وقفا على بائعات الهوى ..!

 

ولم ترفع تلك النظرة الجاحدة عن العطور حتى تفشت الأمطار وتوصل بعض الأطباء أن مبعثها الروائح النتنة التي تصدر من الموتى في المستشفيات والتي تخلل من خلال الجلود فتسبب الأمراض فكان لابد من الاستحمام واستخدام العطور ..

 

ومع الزمن تتطور الاكتشافات وتتكاثف علاقة الرائحة والشم بالسلوك والانفعال والعمر والذاكرة ، أما من حيث العمر فالجنين تبدأ حياته الشمية في فترة مبكرة من الشهر الخامس بإلهام رائحة رحم الأم ، ثم تكبر مع البالغين ونضج الرائحي يتم في سن الثلاثين ويتقلص نوعا ما في سني الأربعين والخمسين وما فوق ، حسبما صحة الإنسان وظروفه مع أخذ الاعتبارات أن ثمة فوارق ما بين المرأة والرجل ؛ فالمرأة تفوق الرجل في مضمار الرائحة من حيث الشم وتمييز الروائح ومعرفة أسمائها ..

 

أما من حيث الذاكرة ، فالروائح تنشط الذاكرة العشوائية ، بل أحيانا حاسم الشم تقوم بدور مشغل حركة السيارة والذي من شأنه أن يستثير كل الخبرات التي يلوح لنا أنها راحت طي النسيان وكل الوقائع القديمة في الزمن البعيد ..

 

والروائح تؤثر على التفاعلات بين الناس والتواصل معهم فعلى سبيل المثال في ألمانيا يقال : " أنا لا أطيق رائحته " .. أما على مستوى الصحة فالروائح النتنة تضاعف من حدة شعور الإنسان بالإجهاد والضغط العصبي وناهيك عن الروائح العشبية الزكية التي تريح الأعصاب وتخفف من أعراض الاكتئاب وتضاعف النشاط كرائحة الصنوبر ..

 

ومن غرائب التي عرضها الكتاب ، أن رائحة الإبط التي تفوح من النساء المقيمات في سكن واحد تتزامن فترات الحيض لديهن في الوقت نفسه ..! وثمة ارتباط ما بين حجم الأنف ودرجة فحولة الرجل ، حتى في الأزمنة الغابرة كان الزناة من الرجال يعاقبون ببتر الأنف ، وكان الأطباء ولحد قرون قريبة يعتقدون أن بوسعهم التيقن من عذرية الفتيات بتشمم أنوفهن ..!

 

ومن المدهش أن رائحة الليمون تساعد الكتبة من الموظفين على تقليل أخطائهم في إدخال البيانات إلى الحواسيب الآلية وفي المعالجة اللغوية ، ومن الطقوس المعتادة في اليابان قيام الكثير من الشركات هناك بإضافة روائح مختلفة إلى الهواء طوال اليوم فرائحة الليمون في الصباح ، ورائحة الزهور فيما يلي ذلك ، وفي فترة الظهيرة تقوم بنشر رائحة الغابات رفعا للمعنويات ..!

 

أما الحيوانات فلها رائحتها تلك التي يجذب بها مثيلها للتكاثر وروائح للحماية من الأخطار المحيطة عن طريق ما يسمى بـ " الفيرمونات " بينما مملكة النباتات فمن الغرائب أنها تفرز روائح في حال تعرض إحداها للخطر من الحشرات ، فتنذر الأخرى للمقاومة كشجرة الصفصاف إذا ما أصيبت بآفة علتها حشرات معينة ، فإنها تطلق رائحة من شأنها تحذير قريناتها من الأشجار ..

 

الكتاب زاخر وعبارة عن موسوعة شاملة – نوعا ما – عن عوالم الروائح الغامضة ، ولكن ما يؤخذ على الكاتب تلك التفاصيل الزائدة عن حدها وتكرار بعض المعلومات وتدشينها في أكثر من فصل ومن ثم اختصار أهم نقاطها في الخاتمة ما يسبب نوعا من الترهل والملالة عند القارئ ، لكنه كتاب يستحق أن يطلع عليه القارئ عموما ، ويختصر معلوماته الشاملة في أفكار صغيرة وعناوين متفرقة ليأخذ ما يفي بغرض الإفادة على الصعيد النفسي والشخصي والسلوكي ..

 

ويبدو أن تفاصيل الكاتب المتشعبة عن حدها التي أشبعتني فجرت في قاعي إغواءً من نوع آخر عن أثر الروائح الأخرى فاستلمتني فلسفة من نوع ما : رائحة الخوف ما لونه .. ؟ ورائحة الضمير ما تأثيره ..؟ ورائحة الحرية والكرامة والظلم والاستبداد والفقر والغنى وهلم جرا ..!

 

فآه … ثم آآآآآآآآآآه من إغواء الرائحة الغامض ..!

 

ليلى البلوشي

الثلاثاء، 18 يونيو 2013

الدلو المشقوق ..!


 
 
الدلو المشقوق ..!

 

الرؤية / العرب

 

الحكايات الهندية غنية بالفكر والحكمة التي تزرع في روح الإنسان جمال الحياة ولغزها ، وقد انتقيت لهذه المقالة قصة " الدلو المشقوق " حيث تحكي الأسطورة الهندية عن رجل اعتاد حمل الماء كل يوم إلى قريته مستخدما دلوين كبيرين مربوطين بطرفي عصي كان يحملها على كتفه ، وكان أحد هذين الدلوين أقدم من الآخر ومليئا بالشقوق الصغيرة ، وفي كل مرة كان الرجل يشق طريقه عائدا إلى داره كان نصف الماء يذهب هدرا ، وعلى امتداد عامين قام الرجل بهذه الرحلة نفسها ، وكان الدلو الأحدث على الدوام معتزا بالطريقة التي ينجز بها عمله ومتأكدا أنه على قدر المهمة التي خلق من أجلها ، بينما الدلو الآخر غلبه شعور بالخجل ؛ لأنه لا يستطيع إلا أن ينجز نصف مهمته وذلك على الرغم من أنه يعرف أن الشقوق كانت نتيجة لسنوات طويلة من العمل ..

كان الدلو القديم يحس بالخجل البالغ إلى حد أنه ذات يوم وفيما كان الرجل يتأهب لملئه بالماء الذي استمده من البئر ، عزم أن يصّرح ما بي نفسه فقال بصوت حزين تعلوه نبرة خجل : " أود أن اعتذر لأنه بسبب تقدمي في السن فإنك لا تفلح إلا في نقل نصف الماء الذي تملأني به في الدار وهكذا فإنك لا تروي إلا نصف العطش الذي ينتظرك هناك ..!"

ابتسم الرجل وقال له : " عندما نعود احرص أن تلقي نظرة فاحصة على الطريق " فعل الدلو ما طلبه منه ولاحظ أن عدد من الأزهار والنباتات تنمو على امتداد جانب واحد من الطريق .. قال الرجل : " هل ترى كيف أن الطبيعة على جانبك من الطريق أجمل بكثير ، إني أعرف أن لديك شقوقا ولكنني قررت الاستفادة منها فزرعت بذور الخضروات والأزهار هناك وأنت ترويها على الدوام وقد قطفت دزينة من الورود كي أزين بها داري وحصل الأولاد على البصل والخس والملفوف ليتناولوها في غذائهم ، ولو أنك لم تكن ما أنت عليه لما كان بوسعي أبدا أن أفعل هذا ، إننا جميعا عند منعطف ما نوغل في العمر ونتسم بسمات أخرى وهذه السمات يمكن أن تتحول إلى الدوام إلى ميزة جيدة " ..

" الدلو المشقوق " هي حكاية كل إنسان امتدت به السنوات ووجد أن وجوده قد أصبح عبئا على من حوله ، وهي حالة يعاني منها غالبا الكبار في السن ولا يدركون أن وجودهم بحد ذاته خبرة مجانية يمكن أن يستفيد منها جيل الشباب ، لكن العلة أحيانا في البشر الذين يحيطون بهم ويعملون على غرس الإحباط في قلوبهم عوضا عن إشعارهم بأهميتهم وإدلاء الامتنان لما قدموه طوال أعوام كفاحهم في الحياة حتى أخرجوا جيلا من لدن تجاربهم وخبراتهم ومشوار حياتهم المحفوف بالمشاق ..

" الدلو المشقوق " لا يوجد إنسان على ظهر البسيطة لا أهمية له ولا نفع طالما أنه مؤمن في أعماقه أنه قادر على العطاء رغم عجزه الصحي أو تقدمه الكبير في العمر ، ومما اذكره مسنا يابانيا قد فاق عمره أربعة وتسعون عاما لكنه نبذ التقاعد وحبّذ أن يكون خبرة لجيل الشباب من الأطباء .. كان كبيرا محدودب الظهر ويغطي وجهه عوينات كبيرة إلا أنه كان متوقد الطاقة كشاب عشريني ، إنها الرغبة في الإنتاج .. الرغبة في أن يكون عضوا فاعلا حتى آخر قطرة من روح الحياة في قلبه ، وهذا ما يمارسه معظم المتقاعدين من كبار السن حول العالم حيث إنهم يتطوعون العمل لهيئات معينة لمنح خبراتهم ، ومنهم من يتخذ السفر وسيلة ليجدد روح الحياة في عظامه وليستكشف وجه العالم من منعطفات مختلفة ..

" الدلو المشقوق " يجب ودائما أن نشعر بالامتنان وبأهمية من حولنا من بشر ولا ننس قط أن لولا هؤلاء لما بلغنا هذا الحيز من الوجود ، يجب أن نعي دائما أن في كل إنسان وفي كل مصيبة وفي كل عطب ثمة جانبين .. جانب مضيء وجانب مظلم ، والحاذق وحده يعرف جيدا كيف يشعل حماسة الجانب المضيء ممن حوله من أشخاص ..

 

ليلى البلوشي

الخميس، 13 يونيو 2013

الساندويتش الملفوف ..!


 
الساندويتش الملفوف ..!

 

نشر في الصفحة الأخيرة من مجلة الإعلام والعصر العدد 25 ..

 

لعلنا مدينون لشهوة فضول البكر التي تلتهب في حواسنا إلى حد إخضاعنا لرفع حجر مفخخ بثعبان مسموم أو أم أربع وأربعين متربصة بمن يجس طرفها كي تتحرش به كوليمة شرهة ، لكنه الفضول ومن يجسر على عصيانه ..؟!

الفضول هو ما أثار فكرة الجريدة ببال الصغيرة  وقلبَّ مزاجها في وميض لغز غامض : ما هذا الشيء الملفوف الذي تراه في كل صباح باكر عند الأبواب الناعسة وهي في طريقها إلى المدرسة ..؟ وقبض وحش التساؤلات على عقلها : هل هي قطعة ساندويتش يلتهمونه مع وجباتهم الصباحية ..؟ حفزها فضول أناني : إذا كان كذلك فأنا أريد واحدة .. أرغب في تذوقها .. لابد وأنها لذيذة ولهذا يحرص الجميع في الحصول على واحدة منها في كل صباح..؟

ماكر هو شبق الفضول ..!

الفضول نفسه الذي جعلها تستبق وقت استيقاظها المدرسي وتلهث خارجة بينما صوت أمها خلفها يجلدها : " والفطور يا بنية ..! " سابقت الريح حتى تقابل الهندي الذي سبق وصادفته مرات وهو يضع هذا الطعام الملفوف في صناديق صغيرة عند كل باب عدا باب بيتها ..!

وفي تلك الصبيحة حين لمحت الهندي الذي كان يحمل رزمة من السندويتشات الملفوفة دنت منه مندفعة والفرح الذي أشرق محياها وقتئذ حجب عنها الخجل المعتاد عند مخاطبة غريب عابر وهو تقول بدفعة واحدة متقطعة الأنفاس : أريد سندويتشه ملفوفة ..؟

رد عليها الهندي بعربية مكسرة كانت قد اعتادتها : " أنا ما في معلوم وين في بيع سندويتش ؟"

بسطت كفها اليمنى المقبوضة وهي تريه بنزق : انظر جيدا .. معي ثمنها .. انظر عندي دراهم ..!

وحين تأكدت أن الرجل الأسمر النحيل الواقف أمامها لم يفقه لغتها ، اقتربت من رزمته وانتشلت واحدة وهي تفهمّه  : هذا .. أريد هذا .. أنا جائعة وأريد أن آكل حصتي من الطعام .. خذ كل ما لدي من دراهم ..!

أخذت الشيء الملفوف وعقصتها تضرب ظهرها ، بسطت اللفافة على مصطبة الانتظار حيث تقتعد في كل صباح لموعد الحافلة ولكن اللفافة كانت فارغة .. كانت مجرد أوراق .. أحبطتها رؤية هذا الفراغ وبطنها يحرر عصافير الجوع ..! في اللحظة نفسها تفاجأت بصديقتها تحدق فيها بحيرة وعتاب في آن : " لماذا لم تمري علي .. كنت انتظرك عند باب البيت ..؟ " ولكن بوق الحافلة المنتظرة قطع حبل الحوار قبل أن يطول ..!

لم تكف محاولاتها في الحصول على لفافة لذيذة ولو لمرة واحدة تحوي في جوفها الساندويتش الذي تحلم بتذوقه ، فظلت في كل صباح بمصروفها الخاص تشتري اللفافة وتلتهم صورها المزدحمة ..!

ذاك الفضول كبر مع الأيام ، وفي يوم حين شاهدت من الحافلة المدرسية وعند الإشارة الضوئية هنديا يحمل الرزم إياها ، رجت سائق الحافلة أن يسمح لها بشراء واحدة ، لعل الحظ يسعفها هذه المرة وعند الإشارة الضوئية الحمراء حيث ربضت الحافلة في زحام الشارع ، دنت هي ورفيقاتها عند نوافذ العلبة الصفراء يهتفن بنفس واحد على الهندي المتعرق الذي بهت لوهلة قبل أن يفهم ويناولها اللفافة التي لم تكن ملفوفة وقتئذ بعد أن قبض ثمنها ..! ومشت بعدها الحافلة والسائق يصيح بها : عند انتهائك من قراءتها هاتها لي يا صغيرة  ..!

وحين تفرجن جميعهن على الصور أومأت إلى إحداهن ثم أخرى وفهمن مبتغاها .. كان منظر الأوراق وهي تطير عبر النوافذ أشبه بنوارس محلقة في كبد السماء .. حرة .. خفيفة كغيمة ..!

وعند نزولنا من الحافلة استفهم السائق عن اللفافة ، فأجبّنه بصوت واحد وضاحك : لقد طارت مع الهواء ..!

ووحدي التي لم تضحك وشعرت بأني طرت معها وأنني سأحصل على اللفافة المحشوة بالساندويتش يوما ما ..!

بعد أعوام حين استطالت قامتها وفكرها ضحكت من قلبها على شقاوة فضول شبق وهي ترى صورها متصدرة بعض صفحاتها وشيء من حكاياتها ..!

 

ليلى البلوشي

الثلاثاء، 11 يونيو 2013

أنا وديني والباقي خس ..!


 
 
أنا وديني والباقي خس ..!

 

الرؤية / العرب

 

في كتاب " الآراء والمعتقدات " لمؤلفة " غوستاف لوبون " .. صنّف " لوبون " المنطق من حيث الآراء والمعتقدات الإنسانية إلى خمسة أصناف : 1. منطق الحياة . 2. منطق العاطفي . 3. منطق الجموع . 4 . منطق الديني . 5 . منطق العقلي ..

ستركز المقالة في سردها عن المنطق الديني ، ولكن قبل الحديث عنه سوف نلقي الضوء باختصار على بقية الأصناف ..

منطق الحياة هو الذي يسيطر على بقاء الأنواع وأشكالها تجري حكمه بعيدا عن تأثير إرادتنا ، أما منطق العاطفي يقودنا في أكثر أعمالنا ، ومنطق الجموع يعنى بها مبادئ الجماعة ، أما منطق العقلي فهو التمييز بين الأفكار والتمييز بين ما تشابه منها واختلف ..

أما منطق الديني وهو الذي سنفصل حديثا عنه يعزى لما في الإنسان من روح دينية لأهمية ارتباط الأشياء والحوادث بعضها ببعض عند أولى نفوس دينية ..

وقد تتعاون وتتصاعد وتتحد أنواع المنطق مع بعضها ؛ ففي الحرب كما يرى " لوبون " كان المنطق العاطفي يسوق القائد في أثينا إلى شهر الحرب على خصومه ، والمنطق الديني يدفعه إلى استشارة الآلهة في الزمن المناسب لإجراء حركاته ، أما المنطق العقلي يملي عليه خططه وفي أثناء جميع ذلك كان منطق الحياة يُعيّشه ..!

ولا يختلف المنطق الديني عن المنطق العاطفي بكونه شعوريا اختياريا فقط  ، بل بتسبيبه أعمالا تناقض المنطق العاطفي مناقضة تامة ..!

وتتداخل مفاهيم المنطق الديني مع غيره ، فالمنطق العقلي هو منطق شعوري يعلم الإنسان التعقل والتفكير والبرهنة والاختراع ، والمنطق العاطفي هو منطق لا شعوري يصدر عنه سيرنا ولا تأثير للعقل والذكاء في حلقاته في الغالب ، أما المنطق الديني أعلى من طبقة المنطق العاطفي ؛ فالحيوانات لا تعرف المنطق الديني مع أنها ذات مشاعر كثيرة ..!

أما من حيث المنطق العقلي فإن المنطق الديني أدنى من المنطق العقلي حسب " لوبون " ؛ فالمنطق الديني يرضى كالمنطق العاطفي بالمتناقضات ولكنه ليس كالثاني لا شعوريا وكثيرا ما يتضمن شيئا عن التأمل والتفكير ، ومن خلال الحركة يظهر الفارق ما بين المنطق الديني والمنطق العاطفي ؛ فالمنطق الديني يسوق الإنسان إلى ما لا يسوقه إليه المنطق العاطفي من أعمال تناقض أكثر منافعة صراحة ..!

وحينما نفقد هذه الأصناف التوازن ما بينها فإن المنطق الديني هو غالب عادة ؛ فالمنطق العقلي يسهل تنكيل به واستعباده من قبل بعض المبادئ الصبيانية هذه هو السبب في كون الدليل العقلي لا ينفع في أمر المعتقد دينيا كان أم سياسيا أم أخلاقيا ..

ولا تفعل إقامة الحجة العقلية كما يرى " لوبون " على رأي مصدره العطفة أو التدين سوى استفزازا رب الرأي المذكور وتهيجه ، وكذلك المرء لا يستطيع بعقله أن يتغلب على رأي فيه ناشئ عن المشاعر والعقيدة إلا إذا بلغ هذا الرأي من البلى والدروس مبلغا ذهب بقوته ..!

والمنطق الديني على الخصوص هو الذي يؤدي إلى حدوث انقلابات عظيمة في حياة البشر كمثال لما حدث في الحروب الصليبية والحروب الدينية والثورة الفرنسية ؛ فتقلبات التاريخ بين أنواع المنطق المختلفة ينشأ ما بينها من تصادم فمتى يتغلب المنطق الديني فإنه يعقب ذلك حروب دينية وما تؤدي إليه من قسوة متجبرة ، ومتى تتم الغلبة للمنطق العاطفي فإننا نشاهد حسب الأحوال إما تأهبا للحرب وإما بالعكس انتشارا للمذهب الإنساني أو مبدأ السلم الذين لا يكونان أقل سفكا للدماء من حيث النتيجة ومتى يزعم المنطق العقلي أنه تدخل في حياة أمة فلا تنشأ عن ذلك انقلابات أخف من تلك ؛ إذ لا يكون العقل وقتئذ سوى لباس يستر تحته اندفاعات عاطفية أو دينية ..

والمنطق الديني هو المتفشي حاليا في الساحة العربية وأصبحت كل ثورة عربية يعلو هتافها تطعن بالمعتقدات دينية وتضع الدين والإيمان والمذهب والطائفية في القائمة الأولى من مسببات اندلاع الثورة ، وغدت كالحجة في البدء من أجل تسكيت الأصوات الهتافية بالحرية والعدالة والكرامة والعيش ولكنها اليوم وفي وقتنا الحاضر تشعبت إلى ما هو أخطر ولبست بالطائفية وانقسم الأفراد في الوطن الواحد إلى فرق وتحزبات وجماعات رافعين رايات الدين والطائفة ..!

هذه النبرة الطائفية المغلفة بغلاف الدين جاءت في صالح كل حاكم يريد أبدية العرش في الحكم فيشغل الناس ببعضها ويشعلهم بنار الاختلافات كي يضمن مركزه ومصالحه ومنافعه بعيدة عن انشغالات شعوبها ..!

ولهذا يجب على ثورات الربيع العربي أن تغيّر معتقدات الشعوب ، الشعوب العربية الواقعة في فخ الجهل والغارقة في السذاجة بمفهوم الدين والتدين ، وكما ذهب " غوستاف لوبون " قائلا : " الثورات الحقيقية هي التي تتجدد بها معتقدات الشعب الأساسية غير أنه ينذر وقوع مثل هذه الثورات والذي تأتي به الثورات عادة هو تغيير اسم العقائد فقط ؛ فالإيمان يتبدل موضعا ولكنه لا يموت أبدا ؛ لأن احتياج الإنسان إلى الاعتقاد هو عنصر نفسي مسيطر كاللذة والألم .." ..

في موقف للسياسي السوري " فارس الخوري " الذي رد من الجامع الأموي على مزاعم الجنرال " غورو " حين ادّعى الأخير أن بقاء فرنسا في سوريا حماية وحفظ حقوق المسيحيين فيها .. فقال في كلمة خلّدها له التاريخ : " إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سوريا بحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين فأنا كمسيحي أقول : " أشهد أن لا إله إلا الله ولتخرج فرنسا " ..

 

ليلى البلوشي

الثلاثاء، 4 يونيو 2013

الإطاحة بالرؤوس ..!





الإطاحة بالرؤوس ..!

 

الرؤية / العرب

 

قرأت فيما قرأت مرة أن ثمة قبيلة من القبائل لا تعين زعيما عليها قبل أن تفقأ عينيه وتقطع يديه ورجليه ؛ وكأنهم يقطعون عنه كل شهوات الطمع وما تسوله به نفسه أثناء الرئاسة ، ويطالبون فقط بإخلاصه ومسؤوليته كزعيم يفني حياته للشعب وحده مضحيا عن ترف الحياة ومتعتها ..!

وقد حكى الكاتب الإيطالي الساخر " إيتالو كالفينو " في قصة قصيرة تحمل روحا ساخرة وفي الوقت عينه تطرح العلاقة الجدلية بين السلطة والمسؤولية ..!

تحكي القصة عن عاصمة تحتفل بمهرجان الزعماء ، وهو احتفال تجريه بعد كل بضع سنوات وحين ينتهي حكم الزعماء تقوم بإقامة مهرجان يحمل اسم " رؤوس الحكومة والزعماء " لا لتنصيبهم لحكومة منتخبة جديدة ، بل تصفية زعماء مرت على بقائهم في الحكم مدة من الزمن ، فقاموا بتنصيب عدة منصات ولكل زعيم منصته الخاصة ، حيث يصعد وتقطع رأسه وتتدحرج من على المنصة إلى السلال ويتم ذلك في وجود الزعماء الجدد وفي حضرة الحكومة الجديدة ؛ كي يروا المصير نفسه الذي سيعايشونه بعد أعوام من الحكم ..!

العاصمة بكامل ناسها يستعدون لحدث مهرجان تقطيع الرؤوس ؛ فالزعيم حين يتبوأ منصب الرئاسة يعرف كيف سينتهي به المطاف ومن المستبعد أن يظن نفسه أنه سيلقى حتفه منبطحا على سريره ..!

بل أهالي العاصمة استبعدوا ساخرين فكرة أن يحكم المرء يأمر وينهي ثم يستقيل ويعود إلى بيته وكأن شيئا لم يكن ..!

بل علق أحدهم بسخرية قائلا : " دعني أخبرك ، كل شخص سيتمنى أن يصبح زعيما في هذه الحالة حتى أنا .. أنظر .. كنت سأسعى لهذا الأمر ... ها أنذا " ..! وهتف بقية الأهالي من بعده قائلين : كلنا نريد إذن أن نكون زعماء بهذه الطريقة ..!

لهذا الزعيم لا يكون زعيما إلا حينما يمتلك المهنية والكفاءة ، أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مذبوحين لحظة تقلدهم منصب القيادة ..! وكل زعيم جديد سيراقب عملية الإعدام وكأنها تطبق عليه هو شخصيا ..!

ما أصعب شروط الزعامة في هذه الحكاية ، وعند أولئك القبائل النادرة التي ترغب في زعيم حقيقي يفني روحه وملذاته في سبيل الرئاسة ومن أجل راحة شعبه ..!

بتأكيد نحن لا نطمع بزعيم مثل هؤلاء وبتلك الشروط القاسية واللاإنسانية ربما ، لكن ترغب الشعوب في حكومة مسؤولة بالدرجة الأولى ، حكومة مخلصة في خدمة شعبها لا الشعب يكون في خدمتها ..!

حكومة يريدها الشعب تفكر فيهم وفي راحتهم وفي تحسين ظروف معيشتهم القاسية لا أن تستولي على الأخضر وتخلّف لهم اليباس والقحط والفقر والمجاعة ..!

حكومة يرغب الشعب أن يشعروا في حضرتها بالأمان ، وهم على ثقة أن هذه الحكومة نفسها سوى تفدي بحياتها الشعب والوطن ودائما رشاشاتها وقنابلها ودباباتها وكافة أسلحتها توجه صوب أعدائها الغاصبين من خارج الوطن لا تجاه شعبها ..!

حكومة تريدها الشعوب تحترم كرامتهم وتصون حقوقهم وتحرص على ممارسة العدالة على نفسها قبل شعبها ، حكومة إذا ما شعرت بالتقصير تتراجع عن خطئها وتبذل قصارى جهدها كي تطبق القانون على نفسها قبل أفرادها من الشعب ..!

حكومة تؤمن أنها ليست خالدة أبدية بل هي موجودة وفي عرشها بفضل الشعب وبعملية انتخابية وديمقراطية خاضعة لكافة شروط الانتخاب الصارمة من قبل الشعب ..!

حكومة حين تشعر أنها غير مرغوبة من قبل شعوبها تتراجع عن الحكم بكبرياء وبكرامة وتسلم السلطة بأيد أمينة وذات كفاءة ويكون للشعب الكلمة الأولى لمن يرونه جديرا بحكمهم ..!

حكومة لا تقتل كل شعبها من أجل جاه السلطة ، من أجل رجل كرسي أو رأس حكم ، من أجل يد ثروة أو ركبة مصلحة وهلم جرا ..!

حكومة تقدّر رأي كل صوت يدلي به الشعب ، صوت كل هتاف يطلقه الشعب ..!

في 29 من ديسمبر عام 2011م  استضافت قناة بي بي سي الإذاعية في برنامج إخباري رئيس وزراء البريطاني السابق " توني بلير " قال فيه معلقا على أحداث الربيع العربي خاصة في مصر : " لو نظرنا إلى الماضي لنستمد منه درسا للمستقبل فإن بقاء الأشخاص في مناصبهم لمدة 25 عاما ولأكثر من ذلك في بعض الحالات أمر لا يدوم وحتى من وجهة نظر المصلحة الشخصية يجب علينا أن ننساهم في تغيير متدرج وإلا ستقع الثورة واعتقد أنه كان من الأفضل لو استطعنا تعزيز التغيير التدريجي في هذه البلاد بدلا من الثورات التي اسفرت عن صعوبات جمة .." ..!

امممم ..! طبعا السيد " طوني بلير " اسقط المملكة المتحدة وملكتها التي شاخت وهي ما تزال على عرشها رغم رغبة نسبة كبيرة من الشعب في أن يتخلصوا من حكم العجائز مطالبين بتزعم الحفيد " وليام " سدة الحكم في بريطانيا ولكن من يتنازل عن السلطة في زمن كزمننا ..!

أما بقية الشلة من أصحاب العروش فحدث ولا حرج ..!

 

ليلى البلوشي

قصة حب إيرانية تحت مقص الرقيب ..!


 
 
 
قصة حب إيرانية تحت مقص الرقيب ..!

 

صحيفة البلد

 

حينما انتهيت من قراءة رواية " قصة حب إيرانية تحت مقص الرقيب " للكاتب  الإيراني" شهريار مندني بور " ومض ببالي مباشرة معظم الروايات الإيرانية التي قمت بقراءتها ، والتي كانت معظمها عبارة عن سير ذاتية ولعل أبرزها رواية " أن تقرأ لوليتا في طهران " للكاتبة " آذر نفيسي " ورواية " بنات إيران " لناهيد رشلان .. هذه الروايات الثلاث تلتقي أرواحها فكل منها تسرد تفاصيلها من الثورة الإيرانية وما تلقاها من مواقف أشبه بصدمات عرفت جيدا كيف تحول أزمتها إلى مشروع مبدع سواء أصبح كتاب أو فيلم أو حتى نيل جائزة عالمية ..

وقد أقرت الروائية " آذر نفيسي " في روايتها بذلك حين اعترفت في لحظة صدق : " أريد أن أنجز كتابا أشكر فيه الجمهورية الإسلامية على كل الأشياء التي علمتني ؛ فقد علمتني أن أعشق " جيمس " و" أوستن " والآيس كريم والحرية .." والرواية كتبت نفسها بتجسيد تلك الرغبة المكثفة ..!

مع الإيضاح أن كل من " آذر نفيسي " و " ناهد رشلان " خصصوا الحيز الأكبر من روايتهما للمرأة ؛ الحلقة الأضعف في إيران .. والمحرك الأول والأساسي لكل الفتاوي التي تصدر من الجمهورية الإيرانية التي سعت برغبة عنيفة إلى تغيير المرأة الإيرانية وإعادة خلقها من جديد عما ألفوها في عصر النظام الملكي السابق " شاه " كأنهم يريدون إلغاء كيانها كليا ليعجنوها في صورة أخرى تكون أشبه بالدمية أو التمثال ..! في زمن الشاه حيث المرأة في عصره نالت ما لن تحلم بنيله اليوم قط في ظل حكم المرشد بل حتى مجرد تخيل تلك الحرية تعد إثما..!

بينما رواية " شهريار مندني بور " تناولت مسألتين مهمتين خاصة وشاملة في آن .. حيث إنه يصف معاناة الكاتب في إيران مع الرقيب ، ومن ناحية أخرى معاناته التي تفغر عن رقابة من نوع أشد حين يكون موضوع الكتابة عن المرأة والرجل وعلاقة حب تربطهما في صفحات الكتاب ..!

كما يذيل اعترافه في إحدى السطور : " إن معضلتي هي أنني أريد أن أنشر قصة الحب التي سأكتبها في وطني وبخلاف العديد من البلدان ، فإن كتابة قصة حب ونشرها في بلدي الحبيب إيران ليسا بالأمر الهين " ثم يتابع اعترافه بصعوبة كتابة حب في بلد كإيران بسخرية مبطنة وكأن مقص الرقيب على رقبة كلماته : " ففي أعقاب انتصار إحدى ثوراتنا الأخيرة التي أصمت الكون بصيحاتها للحرية بمساعدة أجهزة الإعلام الغربية للتعويض عن ألفين وخمسمائة سنة من الحكم الدكتاتوري على يد الملوك – كتب دستور إسلامي ويسمح هذا الدستور الجديد بطباعة ونشر جميع الكتب والمجلات ويمنع ممارسة الرقابة عليها بشدة وتدقيقها لكن لسوء الحظ لا يذكر دستورنا ما هي الكتب والمنشورات التي يسمح لها بمغادرة أبواب المطبعة بحرية .." !

هناك رقيب بيده مقص يقطع ألسنة الحروف الطويلة ويقص أطرافها المخلة بالآداب ..! الكاتب هنا سمى رقيبه باسم مستعار هو" بورتفيري بيتروفيتش " المخبر المكلف بفك ألغاز الكلمات التي يقترفها على الدوام الكتاب ؛ فهو يرى أن الكتاب أشخاص لا أخلاق لهم .. مخادعون .. غير مؤمنين عامة وبعضهم بشكل مباشر أو غير مباشر عملاء للصهيونية والإمبريالية الأمريكية ، ويحاولون أن يلحسوا عقول الدراويش بحيلهم وألاعيبهم ولكن هيهات فأمثال السيد " بيتروفيتش " لهم بالمرصاد..!

يسمع صوت نصل المقصلة وهي تهوي على كلمة " رقص " لتكسر رقبتها وتأمر بفتح باب الجحيم لتلتهم بنارها كلمة " الرقص " وتحترق متفحمة وذلك قدرها ومنتهى جزاؤها العادل ؛ فهي كلمة بذيئة وتنم عن أفكار مفسدة لخيالات القراء ..!

إن السيد " بيتروفيتش " دقيق جدا في مهمته ومخلص تماما ولهذا ليس من الاندهاش والغرابة أن يظل الكتاب حبيس مكتب " بيتروفيتش " سنوات طويلة تتجاوز خمسة وعشرين سنة ..!

أما المسألة الشاملة فهي تتشكل بكثافة حول الإنسان الإيراني بوجه عام ، وما يعانيه في ظل حكم إسلامي جاء كثورة مباركة لتفرض نفسها كواقع مستديم مسيطر على كل ما له صلة بالإنسان الإيراني لدرجة حتى اختيار اسم أبنائه ..!

هذا الواقع المتشدد المخيب لآمال الجيل القادم من الشباب والشابات في إيران خلق فضاء متشككا مطبوع بازدواجية تطبعت بها حتى تصرفات الصغار ، ولعل القصة المصورة للكاتبة الإيرانية " مرجان ساترابي " مثلتها بشكل جريء في كتابها الذي اسمته " برسبوليس " أو " بلاد فارس " حيث جسدت فيها مشاهد عايشتها طفلة صغيرة في ظل مجتمع فاقع الإزدواجية ومتعدد الوجوه ..!

نجح الروائي " شهريار مندني بور " في التقاط حبل الشكوك التي تتسلل في روح كل إيراني سواء أكان ليبراليا أو إسلاميا من خلال المشهد الأول من الرواية حيث تقف البطلة " سارا " قرب سياج قريب من جامعة طهران حاملة بيدها لافتة تقول : " الموت للديكتاتورية .. الموت للحرية " .. فيتساءل الشباب الليبراليون عنها بقولهم : " من هي بحق السماء ..؟ ماذا تحاول أن تقول ..؟ " بينما الإسلاميون أعضاء من حزب الله ينظرون إليها شذرا وبعبوس يقذفون تهمهم في حقها : " هذه الفتاة الفاجرة الفاسقة واحدة من هؤلاء الشيوعيين الذين عادوا إلى الحياة مرة أخرى فقد بدأ يشتد عود أخيهم الكبير في روسيا ثانية .." وتتخذ هذه السخرية منحنى مشروخا في روح المجتمع حين يكشف الكاتب اللثام عن الرقيب المسؤول عن الإذن بعرض الأفلام أو منعها ما هو سوى رجل كفيف ومن خلال مراقبين يصفون له المشاهد التي تتراءى أمام حواسهم لينقلوها له كما هي وحينها يدلي برأيه عن المشاهد التي يجب قطعها .. وفي الرواية يعيش رُهاب المشهد الجنسي الذي لا يراه إنّما يسمعه ..!

ناهيك عن ظواهر الريبة الأخرى التي تخنق فيها السلطات الإنسان الإيراني ؛ فينبغي عليك أن تفكر قبل أن تختار تسمية ابنك لئلا يكون اسما له صلة بنظام ملكي سابق مثل " دارا " أحد كبار ملوك إيران قديماً ..!

والنظام الجمهوري الإسلامي بولاية الفقيه معنيٌّ على ما يبدو بتفاصيل احتكار شخصية الطفل الإيراني منذ نعومة تاريخه الشخصي فيسعون إلى زجّه في قالب واحد يمر عبره كل طفل ليخرج منه طفلا مخبوزا بطابع إيراني إسلامي ، وبالتالي يطمئن المرشد الأعظم على جودة جيل أشرف شخصيا على إنتاجه وصناعته ووفق شروطه تماما فهم لا يكتفون بقائمة الأسماء المفروضة على الأب اختيارها ، بل أيضا شمل ذلك مناهجهم الدراسية ويسرد الروائي كيف أن هناك أسماء شخوص اختفت من الكتب المدرسية ؛ لأنها ختمت بجرم تداولها في عصر الشاه ناهيك عن التغيير الجذري الذي طرأ على رسوم كتبهم المدرسية واستبداد اللون الأسود بكل وقاحة على عالمهم الصغير الملون بالبراءة ..!

هذه الرقابة المستمرة جعلت الإيرانيين يبتكرون أساليبا مختلفة يستطيعون من خلالها العيش بفسحة أكبر داخل بلاد تسعى سعيا حثيثا إلى خنق وسحق وإلغاء إنسانيتهم بحجج تحمل في ظاهرها الدين ولكن في باطنها تفرض سلطتها المستبدة عليهم .. لعل أبرزها كما كاشفت الرواية مسألة الصحون التي تلتقط الأقمار الصناعية حيث الشرطة تداهم البيوت بمراقبتها عبر مروحيات إن تجاوز الصحن الفضائي قنواته الأربع التي بثت وفق مباديء أخلاقية صارمة ونتيجة ذلك قامت ورشات إيرانية سرية بتدوير قنوات أخرى وتوفيرها بعشرة دولارات حيث اشتغل العقل الإيراني المبدع والخلاق كما يصف الكاتب في روايته .. هذا العقل الذي يستجيب بسرعة وبفطنة عندما يتعلق الأمر بأشياء غير قانونية فقط استنبط وسيلة لإخفاء الصحون الكبيرة التي تستقبل هذه الأقمار ..ويظل الإيراني يراوغ السلطات ويتصدى لها بخطط وأساليب أكثر مهارة وابتكارا ..!

وبما أن الرواية حديث عن قصة حب ، اختار الكاتب شخصيتين ليجسداها فتاة وشاب .. " سارا " و " دارا " فيلقي الضوء الخافت على تفاصيل حبهما والذي بدأ مع كتاب " البومة العمياء " لــــ" صادق هدايت " حيث يقوم "دارا " بابتكار وسيلة تواصل مع حبيبته " سارا " في وطن يضيق بالعشاق على رصيف واحد ولا ننس طبعا مقص " بيتروفيتش " .. يقوم دارا ببيع كتبه كي تشتري منه " سارا " كتاب البومة العمياء التي رغبت بشدة في قراءته .. وحين يقع بين يديها بفضل " دارا " تجد بين سطوره حروفا مبعثرة تجتمع في رسالة مذيلة تفوح بحب " دارا " ومن هنا تبدأ مغامرات عشق تحت مقص الرقيب ..

الرواية بمجملها بفضائها الإبداعي الساخر تعبّر عن خيبة غائرة في عمق تاريخ كل إيراني لم يسند سقوط نظام مملوكي كفل لهم حريات شاملة في الحياة والخيال والفن والمسرح والموسيقا والرياضة والمرأة كل ذلك وأكثر لم يتوقعوا أن تتلقفها عباءة سوداء عملاقة كأنها أخطبوط ..!

 

ليلى البلوشي