السبت، 20 أبريل 2013

مدرسة الحرية





مدرسة الحرية

 

" مدرسة الحرية " رواية يابانية من تأليف الكاتب الياباني " شيشي بونروكو "  1893 - 1969م وقد اختار الكاتب هذا الاسم الأدبي عوضا عن اسمه الحقيقي " إيواتا تويو " كي تُعرف به معظم أعماله الأدبية ، وكما تقول سيرته الموجزة في مقدمة الرواية بأنه حاز على أعلى جائزة شرف يابانية في نوفمبر 1969م وقد قام بتقديمها له إمبراطور اليابان ..

" مدرسة الحرية " لوهلة اعتقدت بأنني سوف أطالع رواية تجري أحداثها في مدرسة وسوف يسهب الكاتب حديثه عن شخصيات مراهقة ترتدي الزي المدرسي ويسرد علينا مغامراتهم عبر أنفاق الحرية والتحرر ، ولكن الرواية على غير ذلك تماما ، بل العنوان جاء مجازيا ويحتضن في جوفه الكثير من قضايا الحرية ومفاهيمها التي استحدثت في اليابان ما بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية في الخمسينيات من القرن الماضي ، إذ بنى الكاتب روايته على فكرة رئيسة ألا وهي الحرية .. فكما أرادت قوات الاحتلال تحقيق الحرية والمساواة لجميع اليابانيين من خلال دستور جديد صدر 1947م ، أراد بطل الرواية من خلال تركه منزله أن يحرر نفسه من قيود تسلط الزوجة والعمل والنقود ساعيا وراء الحرية وكذلك فعلت زوجته " كوماكو " أثناء غيابه عن المنزل ..

الرواية جاءت مرتبة بفصول وتحت كل فصل عنوان يضفي الكثير على الأحداث ، يأتي في مطلع الرواية الفصل الأول تحت عنوان " اخرج !" .. ومن خلال هذه الكلمة التي تطلقها الزوجة الحانقة " كوماكو " على زوجها البليد " ايوسوكو " تبدأ حكايته مع الحرية والانطلاق في أكثر مدن اليابان غرابة ووحشية من العوز والفساد والجنس وما إلى ذلك ..

ومن اللفظة عينها أيضا يبدأ سجل جديد لمفهوم الحرية عند " كوماكو " التي تجد نفسها في حالة من الاضطراب والوحدة ، ولعل الوحدة هي ما تجعلها تستأنس وجود ثلاث رجال يحومون حول نيل قلبها ولكنها تظل مضطربة حيال غياب الزوج الذي يقبع في ذاكرتها في كل يوم غياب ، فتسعى باحثة عنه بحذر عبر أصدقائه والمقربين ، وحين يتمكن منها اليأس وتتقلص آمالها في عودته تذهب مضطرة إلى خال زوجها " هنيدا " لتستعين به في مهمة البحث ..

برز الكاتب عدة قضايا تتعلق بالحرية عبر هذه الرواية على صعيد مكانة المرأة خاصة ، سنوات الحرب والهزيمة التي منيت بها اليابان بأكملها ثمة شرخ آخر خيّب نساء اليابان ؛ ففي أثناء الحرب أصبن معظمهن بخيبة أمل من أزواجهن الذين كانوا مثالا للرتابة وعدم تحمل المسؤوليات في حين هن وكما يروي الكاتب : " كانت أولئك النسوة من استبدلن الأثواب الفضفاضة بسراويل العمل العريضة ، وهن اللواتي وقفن في طوابير لأجل الحصول على المؤن واندفعن مسرعات كي يلقين بصفائح الماء عندما تشتعل النيران ، ووقفن منحنيات في قطارات تملؤها أكوام الأطعمة التي اشترينها من الريف لإطعام أسرهن في المدينة ، وهن اللواتي نظفن مراحيض الثكنات .."

فالمرأة اليابانية التي تعودت الاعتماد على الرجل وكانت هي مجرد - ربة منزل - تنتظر هبات الزوج أدركت وعبر مساعيها الشخصية خلال الحرب أنهن يستطعن الاعتماد على أنفسهن بل لقد كان اهتمام نساء اليابانيات بأنفسهن " ثورة " ومن هنا أدركن بحقهن في الحرية وبتعبير الكاتب " الحرية ... شكلت صرختهن في الحرب " ..!

جاءت شخصية " كوماكو " في الرواية تجسد منتصف ما بين جيلين ، جيل ما قبل الحرب وما بعد الحرب ، بينما شخصية " يوري " وهي فتاة في الثامنة عشرة من عمرها مثال على الفتاة اليابانية التي حررتها الحرب وأباحت لها أمورا ما كانت ترضاها المرأة اليابانية لنفسها وما كانت تمر مرورا عابرا على الصعيد الاجتماعي لليابان ..

وفي الرواية بعض وقفات مقارنة تثيرها فكر " كوماكو " عن نمط شخصية المتحررة لـ" يوري " كعلاقتها بخطيبها وتدخينها وطرق ارتدائها لملابسها .. كما جاء في أحد المقاطع يحكي عن موقف خطيب يوري منها : " بينما هو لحق بها مسرعا وهو يحمل بيده ما يشبه العلبة الثقيلة ، راح يذكر بحال المرأة في عهد الإقطاع التي كانت تسير خطوات خلف زوجها ، لقد كان المنظر يشبه إلى حد ما منظرا هزليا .." ..

أما حرية " إيوسوكي " فجاءت أكثر فجاجة وأعمق تأثيرا على مستوى التلقي ، ففي اليوم الأول لـــ" إيوسوكي" يتسكع لا مباليا عبر شوارع كان قد عرفها سابقا ، ولكن متعة اكتشافها بعد خروجه من منزل الزوجية غدت لها لذة أخرى يرافقها تبديد المال على مسارح معظمها تستعرض نساء عاريات لم تلفت نظر " إيوسوكي " سوى وسيلة لتزجية الوقت ..!

لكن حياة " إيوسوكي " تتغير عبر صدفة مقابلته لعجوز جامع النفايات ، ومن خلاله يعاقر المهنة عينها جامع للنفايات يحصل من خلالها على مال يبدده لشراء الطعام ، ومن ثم يرافقه إلى بيئة وحياة أخرى يشهدها أناس يقطنون تحت الجسر ، في تلك المنطقة يتعرف " إيوسوكي " على وجه اليابان الحقيقي ووجوه الحرية المختلفة حينما يجد نفسه صديقا لرجل غريب الأطوار يقطن في الطرق المحاذية تلك الجسور يدعى " كينجي " الذي يقدم الوجه الآخر للحرية والتحرر في اليابان لصديقه ويبدو ضيقه واضحا للحال الذي آل إليه اليابان بعد الحرب ، فيأخذه في جولات إلى أكثر شوارع طوكيو ممارسة للفحش والرذيلة بأنواعها المختلفة كـالشذوذ والجنس الثالث وعاهرات مسعرات ..

والذي سرعان ما يثق بـ" إيوسوكي " فيعرض عليه عملا يجني من وراءها أموالا طائلة دون أن يفعل شيئا سوى الارتداء أفخم الملابس واعتبار نفسه شخصية مهمة في المجتمع ، يندهش " إيوسوكي " ويوافق على مضض بعد أن يخبره " كينجي " الهدف من وراء ممارسة تلك الأعمال هي رفع من مستوى الدخل القومي لليابان ولكن الحقيقة تنفقع حينما تطارد المجموعة ..

إنها رواية تحفل بالكثير ، وكما سيجس القارئ حين يتعّرف على سيرة كاتب الرواية أن ثمة خيوط تكاد تتواصل مع حياة الكاتب وشخصياته فـ" إيوسوكي " في الرواية هو رجل لا يحب العمل ويفضل في نهاية الرواية كوجه آخر للحرية التي فرضها المجتمع المتناقض أن يبقى في البيت مديرا شؤون الطبخ والغسيل ، بينما تتولى زوجته " كوماكو " توفير المال من خلال عملها خارج البيت .. وهذا يتوافق مع شخصية كاتبنا في بداية حياته كمؤلف حيث لم يكن له مورد للمال سوى زوجته التي كانت تقوم بإعطاء دروس خصوصية في اللغة الفرنسية .. وهذه الزوجة بدورها تتعرض لمرض عضال ويسافر بها إلى باريس حيث تكون في رعاية والديها هناك ، وفي الرواية نجد تجسيدا لهذا المعنى عند شخصية " السيد هنمي " الذي تكون زوجته في الرواية مريضة في رعاية أهلها ..

كانت رواية " مدرسة الحرية " .. كما يشير غلافها الخلفي الرواية الأكثر مبيعا في الخمسينيات من القرن الماضي ، وقد اختيرت ضمن البرنامج الياباني للنشر والدعاية الأدبية ؛ لأنها تمثل أحد نماذج الهزل الراقي في الأدب الياباني الحديث ..

 

ليلى البلوشي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق