الاثنين، 15 أبريل 2013

تصيين العالم ..!


 
 
تصيين العالم  ..!

 

الرؤية / العرب

 

أصبحت " الصين " من الدول التي تجذب أنظار العالم نحوها وبقوة تعادل قوة اقتصادها العملاق الذي غدا هو بحد ذاته بؤرة اهتمام كثير من الباحثين في مجالات شتى على رأسها بتأكيد - المجال الاقتصادي - في وقت الذي فيه - العالم الأمريكي - غارق حتى أذنيه في الديون بينما الأوروبي متأرجح في اقتصادياته ..!

صدر من وقت قريب كتاب يدعى " قرن الصين .. كيف أعادت بكين رسم العالم على صورتها " للمؤلفان " هربرتو آرخو"  و" خوان بابلو كاردنل " الذين حاولا فيه باعتبارهما مستقرين في الصين نفسها ، تقديم رؤية دقيقة لخلفيات نموها الاقتصادي ، وقدرتها غير العادية على الانتشار التجاري ، وغزو الأسواق ، وتحويل ميزات عصر العولمة كلها إلى دوافع وروافع لماكينة التصدير الصينية عبر القارات الخمس ، وينطلق الكاتبان في عملهما الاستطلاعي من تتبع مستويات حضور الصين والصينيين خاصة في الدول النامية ضمن ما يسميانه جعل العالم كله صينيا أو " تصيين العالم " إن صح التعبير..

ومن خلال عملهما الاستقصائي المُركز على دور الدياسبورا الصينية في الخارج يقول الكاتبان إنهما سافرا طيلة عامين متتابعين إلى بلدان العالم التي يلعب فيها حضور المهاجرين الصينيين دورا كبيرا في النسيج الاقتصادي ، وقد شملت خمسة وعشرين بلدا ناميا من مختلف القارات ، وهذا ما سمح لهما بتسجيل خمسمائة شهادة من قبل صينيي الدياسبورا الذين "غادروا بلادهم مع أنها اليوم بمثابة ورشة العالم ولكن، لكي يحولوا كله إلى ورشة"! ولذلك نلحظهم في كل مكان يمكن تخيله من قطاع تجارة الأقمشة في مصر إلى استغلال ثروات البترول في آسيا الوسطى والسودان، مرورا بمناجم المعادن في بورما والبيرو ، وفي كل تلك البلدان يسير الفاعلون الخواص الصينيون جنبا إلى جنب مع توسع أنشطة القطاع العام الاستثماري والتجاري التابع لبلادهم الأم " و حين يتجرع الغرب مرارة تداعيات الأزمة المالية الأخيرة تستفيد الصين من الشلل الغربي لكي تزيد كثافة حضورها التجاري والاستثماري على أوسع نطاق، مع تركيز خاص على الدول البازغة، التي تعرف بكين كيف تتعامل معها من خلال خطاب مناهض للاستعمار والأحادية القطبية وبدبلوماسية مرنة ، ترفع شعارات عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ، وكلها هذه شعارات تلقى عادة قبولا وارتياحا في الدول البازغة والنامية ..

ظاهرة " تصيين العالم " اليوم تدفعنا إلى الرجوع إلى الوراء لمعرفة أسباب القوة الصينية وتزعمها ، وقد رصد كتاب " اختلال العالم " لمؤلفه " أمين معلوف " بعض جوانب هذه القوة وهذا النهوض الاقتصادي الذي صدم بدوره الدول الغربية ، فمع انتهاء الحرب الباردة بدا أن أعلوية الدول الغربية ارتقت إلى مستوى جديد فقد برهن نظامها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في الحال عن تفوقه وراح بعضهم يتحدث عن " نهاية التاريخ " ، لأن العالم بكامله يزمع أن يذوب سلميا في قالب الغرب الظافر ولكن على ما يبدو أن انتصار النموذج الغربي في الميدان الاقتصادي وياللمفارقة أدى إلى إضعاف هذا الغرب ..!

فقد انطلقت قوتان لم تكونا في الحسبان هما " الصين " و " الهند " بسرعة وقوة وفي الوقت نفسه بصمت بلا ضجة إعلامية هائلة ، بعد أن انعتقت من نير الاقتصاد الموجه حصلت ثورتان هادئتان ودون ضجيج على يد شخصيات مختلفة ولكنها ماضية الآن في تعديل توازنات العالم بشكل مديد ..

" النموذج الصيني " بدأ نهوضه الحقيقي في العام 1978م بعد مرور سنتين على وفاة " ماو تسي تونغ " انتقل الحكم إلى رجل قصير القامة في الرابعة والسبعين من عمره كان نجا بأعجوبة من حملات تطهير الثورة الثقافية التي تفشت وبشكل كبير عهد " ماو تسي تونغ " ، وهذا الرجل كان يدعى " دنغ كسياو بنغ " بادر بأمرين مهمين وكان لهما عميق التأثير على الاقتصاد والنهوض الصيني ، تلخص الأمر الأول في توزيع أراض كانت ملكية جماعية على بعض الفلاحين وسمح لهؤلاء بأن يبيعوا قسما من غلاتهم ، وجاءت النتيجة مثبتة لصوابية هذا التدبير ، فقد ازداد الانتاج مقدار الضعف أو الضعفين أو الثلاثة أو الأربعة حسب القرى ..

ثم خطى الزعيم الصيني خطوة ثانية فقرر أن من حق الفلاحين بعد الآن تقرير ما يريدون أن يزرعوا بعد أن كان هذا القرار يعود إلى السلطات المحلية وازداد الانتاج مجددا ، هكذا ابتدأ كل شيء بلمسة صغيرة دون إعلانات مدوية ودون حشود جماهيرية وأخذ النظام السابق غير المنتج يتلاشى تدريجيا ولكن بسرعة الضوء حسبما تعبير " أمين معلوف " ..

اليوم حين يتم الحديث عن الصين يخيل لنا أننا نتصفح كتاب أرقام قياسية من ذلك عدد ناطحات السحاب في شانغهاي كان خمسا في سنة 1988م ثم ارتفع بعد ذلك إلى حوالي خمسة آلاف بعد عشرين سنة أي ما يعادل نيويورك ولوس أنجيليس معا ..

إلا أن هناك ظاهرات لا تتوقف على العملقة بل كان من شأن هذه أن تجعلها أكثر مشقة كنمو الانتاج الداخلي الخام هذا الذي ظل ثلاثين سنة يدور حول العشرة بالمئة وسطيا ما أتاح للاقتصاد الصيني أن يتجاوز على التوالي مستوى فرنسا وانكلترا ثم ألمانيا منذ العقد الأول في القرن الواحد والعشرين ..

أكثر خطى إثارة للحماسة في التاريخ أن الصين كانت من البلدان الأكثر سكانا في ما يسمى بالعالم الثالث ، أخذت تخرج من التخلف والتي كان ينظر إليها وكل صيني عامل في أمريكا وأوروبا أنهم غير مبتكرين وغير جديرين بالإنجازات المميزة ، ولكن ما أثبتته " الصين " والشغيلة الصينية غير ذلك تماما وتجاوزوا التصورات الغربية عنهم ، ولهذا ليس من الغريب أن تتخوف هذه الدول الغربية عينها من هذا الصعود الصيني الهائل كمزاحم مخيف وربما كعدو محتمل ..!

" تصيين العالم " : هل ستفلح " بكين " في بسط سيطرتها وعالميتها على العالم القادم ..؟ هل " الصين " قادرة فعلا على أن تكون قوى عظمى كـــ" أمريكا " التي تتهاوى اقتصاديا ..؟!

طرح الصحفي " سمير عطا الله " في عمود له حديثا حول " الصين " ذهب فيه أن الصين غير مؤهلة في المدى المنظور لقيادة العالم وحلول محل ولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وتبريره المقنع ما سطره في ثلاث أسباب ؛ وأولى تلك الأسباب هي صعوبة عبور الحضارة الصينية إلى الآخر وصعوبة عبور الآخر إلى الحضارة الصينية وثقافتها بسبب اللغة ، وهذا أمر استوعبه الهنود مبكرا وتجاوزوه بالإبقاء على لغة مستعمرهم الإنجليزي كلغة مع الآخر وكوسيلة تواصل أيضا ما بين شعوبهم المختلفة ثقافة وأثنية وديانة ، الشيء نفسه فعلته سنغافورة بعيد استقلالها عن بريطانيا في عام 1959م وذلك حينما أبقت الانجليزية لغة رسمية للبلاد وعامل وصل بين قومياتها وثقافتها المحلية ، والعامل الثاني لعدم تأهيل " الصين " للصدارة هو انتشار الفساد وضعف المحاسبة الفاسدين فيها بسبب نظامها الشمولي غير التعددي ، أما العامل الثالث فهو صعوبة تدشين نظام ليبرالي تعددي ذلك تفكك البلاد إذ اعتاد الصينيون منذ خمسة آلاف سنة على حكم رجل الفرد ..!

ورأي " سمير عطا الله " لا يختلف عن رأي مؤلفي كتاب " قرن الصين .. كيف أعادت بكين رسم العالم على صورتها " ففي نهاية الكتاب يرى المؤلفان أنه على الرغم من أن العالم اليوم أصبح يعيش على وقع اللحظة الصينية - بكل معنى الكلمة -  فالصين هي مصرفي العالم اليوم! وهي ورشته! ..

وعلى رغم كونها بلدا ملياريا كثيف السكان واسع الاستهلاك، فقد عرفت كيف تتدبر أمورها، وكيف تدخر فوائض مالية هائلة هي التي جعلتها على رأس مقرضي ودائني الاقتصادات الغربية والنامية على حد سواء ، غير أنهما يعتقدان هنا تحديدا أن الشعب الصيني مثلما أن انتشاره في العالم يمثل رافعة موازية ومساعدة لقصة صعود بلاده ، هو أيضا من يدفع ثمن تطلعاتها الدولية من خلال محدودية الاستهلاك ، وترشيد الإنفاق العمومي ، ومع أن بلوغها عتبة القوة العظمى وتحقق أحلامها الدولية الكبيرة بات مرجحا بل في حكم المؤكد ، إلا أنها أيضا لن تكون قوة عظمى على شاكلة القوى الغربية ، بل سيكون عالم القرن الصيني مختلفا لاختلاف النمطين والثقافيتين إلى حد بعيد ..!

 

ليلى البلوشي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق