الاثنين، 27 أغسطس 2012

هيمنة أمريكا واختلال العالم ..!2


 
 
هيمنة أمريكا واختلال العالم ..! 2
 
نشر في جريدتي : الرؤية  / العرب

 

قال الروائي الأمريكي " هنري ميللر " مرةً عن أمريكا : " أنا أرى أمريكا مثل مرض منتشر .. أنا أرى أمريكا لعنة سوداء على العالم " ..!

" العرب فرحوا كثيراً بسقوط الاتحاد السوفياتي، لكنهم حزنوا عندما وجدوا أن العالم أصبح في يد قطب متحكم وحيد وهو أمريكا، فترحموا على الحرب الباردة. والآن يعود التوازن إلى الساحة الدولية بصعود قوى جديدة تنافس القطب الأمريكي. أيهما أفضل أن يكون العالم بيد قوة مهيمنة واحدة أم أن يكون هناك توازن قوى كي يمنع توحش وانفراد قوة واحد بالعالم؟ "

هذا ما عرضة الإعلامي في قناة الجزيرة الدكتور " فيصل قاسم "على صفحات تواصل الإجتماعية في التويتر والفيس بوك ؛ وهذا يدفعنا للتساؤل : لماذا وكيف ومتى أصبحت أمريكا على رأس زعامة العالم اليوم ..؟!

ذهب " أمين معلوف " في كتابه " اختلال العالم " إلى عرض منشور للمؤرخ البريطاني " أرنولد توينبي " والذي قسم العالم من خلال نظرة شاملة للبشرية إلى ثلاث مراحل وعرضها بالتفصيل في اثني عشر مجلدا ضخما تحت عنوان " دراسة التاريخ " ؛ أما المرحلة الأولى ما قبل التاريخ كانت حياة البشر وحيدة النمط في كل مكان لأن الاتصالات كانت بطيئة ووتيرة التغير أكثر بطئا أيضا .. أما المرحلة الثانية والتي دامت حوالي أربعة آلاف وخمسمائة سنة من آخر مرحلة ما قبل التاريخ حتى السنة 1500م قبل الميلاد كان التغير أسرع من الانتقال مما أحدث تفاوتا شديدا في المجتمعات البشرية .. أخيرا مرحلة الثالثة منذ القرن السادس عشر تزايدت سرعة الاتصالات وبالتالي سرعة التغير وتوحدت البيوت على الأقل تكنولوجيا واقتصاديا .. ومنذ توقف الحرب الباردة في آخر الثمانينات أخذ التطور الذي وصفه توينبي نحو حضارة إنسانية موحدة يجري على وتيرة مختلفة تماما وفي بيئة استراتيجية متبدلة بوضوح فقد وجدت حكومة ، هي حكومة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها مكلفة في الواقع بأداء دور سلطة عالمية وباتت منظومة قيمها القاعدة المسكونية وأمسى جيشها الشرطي العالمي وحلفاؤها تابعين وأعداؤها خارجين على القانون وهو وضع لا سابق له في التاريخ ..

ما الذي أهلّ أمريكا لتصبح حكومة عالمية ..؟! مما لا شك أن تطور وسائل الإتصالات دور قوي جدا في تغير شامل في بنية العالم ؛ وقديما كانت ثمة أمم وحضارات تحكم العالم كالإمبراطورية الرومانية وكانت تمتد بعيدا بحيث لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها والإمبراطورية الإسبانية في القرن السادس عشر والإمبراطورية البريطانية في قرن التاسع عشر وغيرها والمعروف أن الإمبراطوريات السالفة لم تحز على وسائل تقنية التي كانت تسمح لها بأن تتدخل كما تشاء في طول الكرة الأرضية وعرضها ولا بأن تعيق قيام دولة منافسة ..

وبات اليوم مع تطور وسائل الاتصالات العالم بكامله تحت فضاء سياسي موحد ، تحت جناح أمريكا ، وهناك عوامل ساهمت بقوة في تزعم أمريكا عرش العالم وذلك من خلال قدرتها الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية هذه العوامل في زمن ما اكسبتها شرعية عالمية ، ولكن هذه الشرعية نفسها بدأت اليوم تتراجع خاصة بعد حرب أمريكا على العراق وأفغانستان .. وهنا نشير إلى أن أمريكا قبل 11 من ستمبر ليس كما بعد 11 من ستمبر في رؤية العالم على الأقل ، ولكن إذا رجعنا للواقع سوف نرى أن أمريكا جرت على يديها عدة حروب ومجازر قبل أحداث 11 من ستمبر ؛ ففي ديسمبر عام 1989 م بعد مرور ستة أسابيع على سقوط جدار برلين تدخلت أمريكا عسكريا في باناما ضد الجنرال نورييغا ثم حرب العراق الأولى عام 1991م والتدخل في الصومال وهايتي وحرب البوسنة غيرها من المداهنات العسكرية ؛ فعلتها أمريكا في ذاك الوقت لتثبت للعالم الأجمع أنها الآمر في هذا الكوكب وعلى الجميع إطاعتها ..!

بينما جاءت أحداث 11 من ستمبر لتكون حجة تشجب عليها جرائمها ؛ فلقد ألقي قفاز فتاك في وجه أمريكا وقد شهد العالم ردود فعل المتسلسلة على ذلك غزوات وانتفاضات وإعدامات ومجازر وحروبا أهلية واعتداءات صارخة أنهكت دولا وحضارات ..!

وأمريكا اليوم مضطرة للحروب وغير قادرة على التراجع عن ذلك ؛ فبعد أن صرعت عدوها العالمي الرئيسي وجدت نفسها تخوض غمار مشروع هائل ينهكها ويدفع بها إلى التيه وذلك أن تروض بمفردها كوكبا يستحيل ترويضه كما يرى " معلوف " ..

وأسباب حروب أمريكا اليوم هي حصة تدني الغرب النسبية في الاقتصاد العالمي حسبما ابتدأ قبيل انتهاء الحرب الباردة وحمل عواقب خطيرة والذي جعل الدول الغربية على رأسها واشطن تحافظ بواسطة التفوق العسكري على ما لم يعد يمكن أن تحافظ عليه بواسطة التفوق الاقتصادي ولا بواسطة السلطة المعنوية .. واليوم مع التراجع الإقتصادي غدا استخدام السلاح أمرا عاديا ؛ كي تحافظ على هيمنتها وسيطرتها ، فالملاحظ للعيان أن تدخلات أمريكا جعلها تنحدر اقتصاديا ولا تكف عن الاستدانة وتعيش بشكل واضح على مستوى يفوق طاقتها ولكن لأنها تحوز تفوقا عسكريا فقد عمدت إلى استغلال هذه الورقة الرابحة كي تعوض فقدان قدرتها في الميادين الأخرى .. فهي لا تنفك تهيمن على العالم رغم كل الظروف التي تمر بها ولا مجال للتراجع فهي لن تسمح لغيرها في إحكام قبضته على العالم خاصة موارد النفظ وأهميته لنهوض اقتصادها ، وهي لديها قاعدة تسير على منوالها لو أنها تخلت عن الهيمنة وفسحت المجال لقوى منافسة فلسوف تخسر زعامتها وتنساق في سيرورة من الإضعاف والإقفار ..!

بعد حرب العراق بغض معظم العالم أمريكا بقيادة الرئيس بوش فقد أفلست أخلاقيا وبغضوا إعادة ترشيح بوش ولكن الشعب الأمريكي أعاد ترشيحه ، وبعد أعوام مضت ظهر رجل نال مبدئيا رضى العالم ورشحه الأمريكان .. في قضايا الترشيح تبادر إلى ذهن الكاتب " أمين معلوف " معظلة انتخاب رئيس الولايات المتحدة اليوم ؛ فبما أن أمريكا تتحكم في وضع العالم وتمس مصيرهم وبالتالي فالذين ينتخبونه يجدون أنفسهم مكلفين بأداء دور لا يخصهم قانونا ؛ لأن خياراتهم تتبدى غالبا ذات تأثير حاسم في مستقبل الآسيويين والأوروبيين والأفارقة والأمريكيين الجنوبيين .. " معلوف " عرض الفكرة .. فكرة مشاركة الآخرين من العراقيين والكولمبيين والصينيين وغيرهم في انتخاب رئيس أمريكا ثم استبعد الفكرة .. ولكن ذلك لا يمنع أن نفكر نحن كقراء وكمتابعين في هذه الفكرة وطرحها على مستوى العالم ؛ فأمريكا اليوم تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في شؤون غيرها وعلى مستوى عالمي ؛ فلماذا لا يكون من حق العالم نفسه والذي تحت جناح أمريكا في أن يكون لهم حق كالأمريكيين في انتخاب رئيس أمريكا ..!

ولو ألقينا نظرة شاملة على عالمنا اليوم لرأينا أن معظم الحكومات أول غاياتها هي أن تجعل نفسها مقبولة عند الدول العظمى على رأسها أمريكا ورضاها أهم من مصالح شعبها ورضاه ؛ كي يحتفظ بالحكم لهذا فقدت هذه الحكومات اليوم شرعيتها في نظر شعوبها بينما أمريكا هي أيضا تعاني من المشكلة نفسها فقدان شرعية من عدم اقتناع العالم بأعلويتها وزعامتها ؛ ولهذا البشرية في حالة حصار ولكن الفارق أن شرعية أمريكا لا تشكل فارقا ذات تأثير عليها مقارنة ببقية حكومات الدول والتي إن فقدت رضى أمريكا وموافقتها عنها لسقطت سقوطا مدوياً ..!

ويرى " معلوف " أن أمريكا لن تستعيد شرعيتها من قبل العالم كله إلا إذا فلحت في أن تعمل في مصلحة العالم الأجمع وليس في مصلحتها فقط ؛ فالمطلوب هذه المرة لا يقتصر على تنشيط الاقتصاد وإعادة الاعتبار إلى بعض الاهتمامات الاجتماعية بل المطلوب بناء واقع عالمي جديد وعلاقات بين الأمم جديدة ونمط لأداء العالم جديد يضع حدا للاختلالات الستراتيجية والمالية والأخلاقية والمناخية ولكي تتمكن القوة العظمى من الاضطلاع بهذه المهمة العملاقة ينبغي لها أن تستعيد شرعيتها ؛ قطعا لأمريكا اليوم منافسون وأعداء ؛ لهذا إن أرادت الحفاظ على مركزيتها العظمى فعليها أن تكون متصالحة مع ذاتها وعليها أن تمارس دورها العالمي في حدود احترامها للآخرين وأن تسعى إلى غرس مفهوم التعايش بينها والأمم الأخرى بشكل حقيقي وفاعل أي بمعنى أكثر أناقة " اختراع رؤية جديدة للعالم " ..

فهل ستبقى الهيمنة الأمريكية كما هي أم تتراجع فوق ما بها من شرعية متأرجحة ..؟! أقول هذا وأنا اقرأ خبر صدور كتاب الرئيس الأمريكي " أوباما" الجديد  " اخدعني مرتين " والذي كتبه كي يمنحه الأمريكيون فرصة إعاد ترشيح أخرى وكي يكسب شرعية العالم ؛ فالكتاب يضمن مخططاً عاماً لاستخدام ما يسمى " بالأجندة الخضراء" لإعادة توجيه التمويل المخصص للدفاع، فوفقا لدراسة بعنوان " تغير المناخ والهجرة، والصراع " هناك عدة سيناريوهات للتصدي للأزمات المعقدة في القرن الــ 21 ويتضمن هذا مبادرة لإعادة توجيه واستخدام ثروة أميركا بإعادة توزيع الموارد إلى البلدان النامية ؛ كي تستفيد من تجارب أمريكا .. وبالتالي هذا اعلان صارخ عن زعامة أمريكا وسعيها الحثيث لضّخ هيمنتها بشكل قاطع ولكن هذه المرة بحجة اختلال البيئة المناخية وتأثيره على العالم الأجمع فهل نيتّها صادقة هذه المرة أم أنه مجرد ركوب الأمواج ونهب ثروات العالم الآخر ..؟!

التاريخ القادم وحده سيأتينا بالخبر اليقين وإنا منتظرون ..!

 

 

ليلى البلوشي

 

 

الاثنين، 13 أغسطس 2012

نوارييل ومعلوف يتحدثان عن أوروبا واختلال العالم ..



نوارييل ومعلوف يتحدثان عن أوروبا واختلال العالم

نشر في جريدتي الرؤية العمانية / العرب الدولية

تحيلنا مسألة الهوية واثبات الذات حتما إلى إشكال أعمق وربما أخطر هو الصراع بين الشعوب لتكريس الثقافات، الأمر الذي أنتج نوعا من الإزدراء الناجم عن نظرة البعض إلى الآخر وتصنيفه في سلم متعدّد الدرجات.

في كتاب " شوكولا مهرّج أسود " للمؤلف جيرار نوارييل وهو مؤرخ فرنسي عمل لعدة سنوات في مجلس إدارة شؤون الهجرة ثم استقال منها في عام 2007 ، وجاءت استقالته احتجاجا على إنشاء وزارة فرنسية جديدة باسم " وزارة الهوية الوطنية " وتحددت مهمة هذه الوزارة بكيفية المحافظة على صفاء الهوية الوطنية الفرنسية وهذا يعني بدقة عدم السماح للمهاجرين وخاصة للسود والمسلمين المساس بالهوية الوطنية الفرنسية!

و" شوكولا " هنا هو مهّرج أسود مسرحي بارز لم يكن سوى أحد العبيد السود الذين كانوا يعيشون في الجزيرة الكوبية وقرر الهرب منها إلى أوروبا و المؤلف نوارييل يحكي تارخ ظلم العنصرية الفرنسية من خلال شخصية " شوكولا " وأبسط أشكاله دفن " شوكولا " في مقبرة أحد الأحياء المهاجرين السود ولم تتم اللحظة الراهنة بينما المهرج الأبيض المدعو "فوتيت" فإنه دفن في مقبرة " بيرلا شيز " والتي تضم رفات أكبر أدباء وفناني فرنسا ويجد ذكره في جميع الكتب التي تهتم بعالم المسرح والسيرك.

وقبل إنشاء وزارة " الهوية الوطنية " الفرنسية أشار الكاتب " أمين معلوف " في كتابه " هويات قاتلة " إلى أن الفرنسيين باتوا لا تثيرهم العولمة ولا انترنت وذلك ناجم عن خوف أن هذا يؤثر على مكانتهم غدا وثقافتهم ولغتهم ومنهم يرون أن العولمة مرادفة اليوم للأمركة ؛ لهذا يمتعضون من افتتاح مطعم للوجبات السريعة في حيّهم وحانقون على هوليوود والـــ" NN " وديزني والميكروسوفت ويطاردون في الصحف أية صيغة يُشتبه أنها تتسم بالطابع الإنجليزي.

كل ما سبق عن " فرنسا " وهي جزء مهم في قارة أوروبا كأهميتها في الإتحاد الأوروبي ؛ لهذا يدفعنا تساؤل حاد ومتشعب : ما الذي أوصل فرنسا كمثال لمجمل أوروبا إلى هذا المستوى الحضيض من القلق تجاه كل ما هو خارجي؟ ما مبعث الحساسية المفرطة تجاه كل منتوج لا يمثلها شخصيا ؟ وهل هذا قلق واقعي وحقيقي أم عابر وما تأثير هذا القلق؟

في كتاب " اختلال العالم " يطل علينا الكاتب " أمين معلوف " ليحكي لنا في بدء فصول الكتاب عن تخوّفه الشديد تجاه ما يحدث في قارة أوروبا ؛ فهو يرى أن أوروبا ضيعت معالم طريقها لحظة انتصارها فحين انهار جدار برلين انتهت المجابهة بين الغرب والاتحاد السوفياتي وذلك أبعد خطر حصول زلزال نووي كان جاثما برعب طوال أربعين عاما!

أوروبا مذ حينها غدت حلما يطوق إليه كثير من الشعوب يدنون منها مبهورين كما لو أنها جنة الله على الأرض؛ فهاجر إليها كل ما هب ودب وهنا أمين معلوف يركز بقوله:" كان عليها أن تسأل عن من تضم ولأي غرض ؟ ومن كان عليها أن ترفض ولأي سبب ؟ " هذا القبول العشوائي جعل أوروبا اليوم تسأل عن هويتها وخصوصيتها .. والقلق الأوروبي وضياع وجهتها يرى معلوف أنها جديرة بالقلق وهذا القلق شامل ويفسر لنا أسباب قلقه على قارة أوروبا تحديدا دون غيرها ؛ وأولى تلك التفسيرات هي أن أوروبا تقدر خيرا من غيرها ضخامة التحديات التي يجب أن تواجهها البشرية ؛ لأنها حاملة مشروع تجميعي وانشغال أخلاقي شديد وإن كانت كما يرى معلوف تترك بعض الأحيان انطباعا بأنها تضطلع بها دون اكتراث ..

أما بقية العالم العربي – الإسلامي يغوص أكثر وأكثر في بئر التاريخية يبدو عاجزا عن الصعود منها ؛ وهو حاقد على الأرض كلها الغربيين والروس والصينيين والهنود واليهود إلى آخره وعلى ذاته بالدرجة الأولى كما ذهب " معلوف"!

أما البلدان الأفريقية هي باستثناء حالات نادرة .. غارقة في حروب أهلية وأوبئة ومتاجرات قذرة وفساد شامل وانحطاط للمؤسسات وتفكك للنسيج الاجتماعي والبطالة الكثيفة والقنوط ..

وتعمل روسيا بشق النفس على الإبراء من سبعين سنة من الشيوعية ومن الطريقة الفوضوية لخروجها منها ويحلم قادتها باستعادة قدرتهم فيما لا يزال سكانها يذوقون طعم الخذلان ..

أما الولايات المتحدة فبعد أن صرعت عدوها العالمي الرئيسي وجدت نفسها تخوض غمار مشروع هائل ينهكها ويدفع بها إلى التيه وإلى أن تروض بمفردها أو تقريبا بمفردها كوكبا يستحيل ترويضه.

حتى الصين التي تصعد لديها أسباب للقلق ؛ ومن خلال ما عرضه " أمين معلوف " يجعلنا ندرك تبئير الوضع العالمي ؛ فجميع شعوب الأرض في مهب العاصفة بشكل أو بآخر سواء كنا أغنياء أو فقراء .. مستكبرين أو خاضعين .. محتلين أو تحت الاحتلال .. فجميعنا على متن زورق متصدع سائرين إلى الغرق معا .. لكن الجميع مشغول بالمشاحنات ولا يكفون عن تبادل الشتائم والتهم غير آبهين بتعاظم أمواج البحر.

ثم يضعنا معلوف بين مأساتين إحداهما شرقية والثانية غربية؛ أما الشرقية تسلط المشكلة على مأساة العرب في كونهم فقدوا مكانهم بين الأمم وشعورهم بعدم القدرة على استعادته ..

أما المأساة الغربية هي اضطلاعهم بدور عالمي مبالغ فيه باتوا على المضي في ممارسته بشكل كامل ولكنهم عاجزون عن التخلي عنه .. وهذا الغرب بحد ذاته أعطى البشرية أكثر مما منحتها أي حضارة أخرى في حقول عديدة في المعرفة والإبداع والانتاج والتنظيم الاجتماعي وهلم جرا .. وقد برهن نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي عن تفوقه ولكن انتصار " النموذج الغربي " في الميدان الاقتصادي هو في حد ذاته أدى إلى إضعافها كما ذهب معلوف.

فقد برز نموذجان متعاظمان اقتصاديا كـ" الصين" و" الهند " وهما في موقع متنافس نهضتا كلاهما بصمت وبلا ضجيج ، وهما ماضيتان لتغيير توازنات العالم بشكل مديد وكلاهما يشكلان مزاحمين مخيفين وعدوين محتملين ؛ فهاتين الحضارتين مع مرور الزمن وفي مدى جيل أو جيلين سوف ينتقلان من التقليد إلى التكييف ثم الإبداع وهما متأهلتان لذلك وقادرتان بعد احتكار التفوق الأوروبي الغربي على مدى قرون.

بل إن هذا التفوق واللجوء إلى التقليد الأروبي خلال تلك السنوات الطويلة جعل أوروبا تفقد خصوصيتها وهذا يشكل مأزقا حقيقيا ليس في تجاوز حضارة بقدر ما هو فقدان خصوصية وتفوق.

وهذا سوف يزعزع عرش " الرجل الأبيض " بصورة جدية وعلى يد شعوب كان الغرب يراها متأخرة وأقل ابتكارا وعلى يد عالم كانت تسميه بالعالم الثالث.

أوروبا اليوم بين نارين .. بين نار آسيا ونار أمريكا وعليها أن تتقدم بسرعة وسط المنافسة التجارية والمنافسة الاستراتيجية من جانب أمريكا المتفوقة في القطاعات الطليعية كالطيران ومجمل الصناعات التي تنتج أدوات حربية ناهيك عن عجز أوروبا في الهيمنة على مصادر التموين بالنفظ والغاز المتمركزة في الشرق الأدنى وفي روسيا بصورة أساسية.

أمين معلوف في كتابه " اختلال العالم " يضع قارة أوروبا في قارورة ضوئية مشعة يوّد لو يحكم عليها الغطاء ؛ كي لا تشملها عوامل السلبية التي تحدث في بقية العالم وقد بين أسبابه في ذلك ؛ ولكن يبدو أن ذلك محال.

فأوروبا اليوم مثلها مثل بقية العوالم في العالم تعاني مثلها و تسعى إلى الحفاظ على خصوصيتها التي بدأت فعلا في فقدها بعد أن فتحت الأبواب للجميع ؛ ففي الماضي هويتها كانت شاملة ومنحتها بسهولة للجميع ولكن عندما تفشى عدد المسلمين في بقعتها جعلها هذا تراجع حساباتها وبل تخالف الديمقراطية التي تعّود منها العالم خاصة العربي الإسلامي ؛ فأخذت تفرض قوانينا على المسلمين وأخذت تضيق الخناق على الهجرات وأصبحت حذرة من كل ما يأتيها من رياح التغيير ومن مصادر ليست أوروبية خاصة.

وغدت تلملم هويتها وذلك من خلال انشاء وزارات مختصة بالهوية الوطنية؛ أي بالمجمل الواضح مثلها مثل العالم العربي الإسلامي الذي كان يريد التأورب وفي الوقت نفسه لا يريد الخضوع لسيطرة الدول الأوروبية التي كانت مسيطرة على بلدانها.

وأوروبا اليوم لا تريد أن تخسر رهان الديمقراطية التي عرفت بها طوال قرون خروجها من عصور الظلامية إلى نور الانفتاح في أن تضيّقها أو تضعها على أرجوجة غير ثابتة في مبادئها فتمنع وتقمع وتفرض عنصريات تارة وتارة أخرى تقّر للعالم بأحقية الحريات.

مما لا شك أوروبا اليوم تحيا صراعا لم تكن تتخيله يوما .. فهم كانوا يعتقدون أن " نهاية التاريخ " يكون حين يذوب العالم كله سلميا في قالب الغرب الظافر ؛ وتاريخ اليوم يقول ويشهد بغير ذلك ..

ليلى البلوشي

الخميس، 9 أغسطس 2012

من أنت : قارئ جيد أم قارئ سيء ..؟!




من أنت : قارئ جيد أم قارئ سيىء ..؟!



جريدة القدس



  نحن نقرأ .. كلنا يقرأ .. وهنا الحديث خاص بالقراء مهما تباينت طرق ووسائل وأنواع قراءاتهم سواء أكانت من كتب أو صحف ومجلات ورقية أم من قراءات الكترونية ومواقعها المختلفة .. هناك قراء .. جيدون وسيئون .. هل سبق وصنفّت نفسك أو موقفك من القراءة ..؟! بتّ على مستوى الشخصي كثيرا ما أهوّجس نفسي : هل أنا قارئة جيدة أم سيئة ..؟!

وتطور هذا الأمر حتى غدا هاجسا حقيقيا وموقفا تجاه كل ما يقع تحت يدي أو عيني من قراءات ، بدأت الفكرة بشكل فعلي حينما نبهتني صديقة كاتبة وقارئة في آن ، إلى غلطة لا اعرف كيف أصنفها ، لكنها بالنسبة لي كانت أقرب ما تكون " لفظ عقلي " ، وكانت تلك الغلطة دائرة حول اسم الكاتب الجزائري " ياسمينة خضرا " وقد تخفى هذا الكاتب خلف اسم زوجته لظروف سياسية بالدرجة الأولى ، وتناولت مبعث ذاك التخفي في حوار من أجرته معي إحدى الصحف الجزائرية ولفظتها وقتئذ " ياسمينة صالح " ولقد تكرر الخطأ اللفظي نفسه في مقالة حول الموضوع شبيه وتصادف نشر الحوار والمقالة في برهة زمنية قريبة من الأسبوع نفسه ، صديقتي القارئة " الجيدة " نبهتني إلى الخطأ وأشارت إلى تصحيح الاسم فالمعني هو " ياسمينة خضرا " وليست " ياسمينة صالح " وكان مبعث الخطأ هو تعوّد اللسان على اسم ياسمينة صالح رغم أن التي أجرت الحوار معي كانت صحفية جزائرية ولكن انتباهها سقط على ما بدا ..!

كم أغبطني هذا التصحيح ، فهناك قراء جيدون يقرؤون ما تكتبه بعين وعي ويضيئون مصابيح انتباههم على كل لفظة تقولها أو تكتبها .. وهذا يضعنا أمام : " القارئ جيّد " ..

من هو القارئ الجيّد ..؟!

" القارئ الجيّد " هو قارئ يقرؤنا بقلبه وعقله ويحفّز كافة حواسه إلى مادتنا القرائية ، هو قارئ يستشعر أنه كاتب النص ؛ فيربض أمام الحروف بمسؤولية حقيقية .. هو قارئ يعي جيدا أنه يقرأ نصا أو قصة أو مسرحية أو رواية لكاتب هو " إنسان " في النهاية يخطيء ويصيب والأخطاء أنواع كما الأفكار أشكال .. الخطأ إما إملائي أو أسلوبي وهي أخطاء واضحة وثمة أخطاء ضمنية لا يقتنصها سوى القارئ المطلع والماهر والحاذق كخطأ تاريخي أو سياسي أو ديني ؛ هذه الأخطاء شاملة ذات تأثير جمّ على القراء ..

" القارئ الجيّد " يخلق كُتابا حريصين على كل لفظة تخرج من معين وجدانهم أو كل عبارة تمخضها بنات أفكارهم ؛ فثمة قارئ جيّد سوف يحاسبني على إهمالي أو على أي خطأ وارد ، وأعني هنا بالأخطاء الشائعة أم الأساليب الكتابية ومطروح الأفكار وتفاصيل الحكايات فهي أمور قابلة للتباين والتحاور والنقاش والقيل والقال والصمت .. قابلة لكل شيء ؛ فلولا اختلاف الأذواق لبارت السلع ، والقارئ الجيّد يؤمن أن كل نص إبداعي هو آلة مولدة للتأويلات ..

" القارئ الجيّد " يترك مسافة بينه والنص ؛ فضوله من نوع الآخر ينصب على خياله الخلاق ، الذي يبغض التفاصيل الكاملة .. هو قارئ دائما يرمّم الناقص ما تحت السطور وبينها بطريقته كخبير يجسدّ ملابسات قضية ما من معين أدواته ، يكتفي ما يطرحه الكاتب من تفاصيل قليلة ويجد متعة كبيرة في التفاصيل المغيبة التي تعمّد الكاتب في تواريها مؤمنا بوجود قارئ جيد يتلصص على أفكاره ومرايا روحه فاسحا له حرية تناول مطروحه من جهات شتى ؛ فالنص المطبوع والمنشور يضع كاتبه في موقع " المتفرج " على قارئ يجس نبض كتابته ويغدو في محل " المتفرج عليه " من قبل هذا القارئ الذي أصبح كاتبه مادة تلصصه  ..

" القارئ الجيّد " يجد نفسه في كل كتاب جيّد .. ينتقي انفعاله الخاص من إحدى تلك السطور التي قد تمثله شخصية مهمشة أو بطل الحكاية في موقف بعينه ، لكن لا يعتمد على نعات الكاتب ومواصفاته عنها بل يسكب حدسه الفعّال لتبدي الشخصية أقرب ما تكون إلى نفسه أو ذات صلّة بواقعه أو جانب من خياله ..

" القارئ الجيّد " حين يغرم بكتاب يروّجه بين رفاقه .. يضعّه على مقربة منه في مكان أنيق أو على رفٍّ مكشوف فتبدو وكأنها دعوة سرية لانتشاله من قبل قارئ مثله متأهب لكل جميل ؛ يتعشم مشاطرته متعة الحكاية التي انغمس فيها بطلاقة ..

" القارئ الجيّد " حين ينوي قراءة كتاب يسقط اسم الكاتب وينغمس في النص ؛ فلا يهمه مطلقا إن كان ما يقرؤه لكاتب معروف أم مغمور بل جُلّ همّه ينصب على المادة المكتوبة .. على ما فوق وتحت السطور .. على فكرة ملهمة أو عاطفة جيّاشة .. على الكتاب بكل ما فيه وعنه وإليه من الغلاف إلى الغلاف ..

كل هذا وأكثر فلا شك لا يمكننا الإحاطة بكل نعات " القارئ الجيّد " الذي يغّذي النص وصاحبه فكلما قرأ الإنسان أكثر كلما راكمت خبرات شاملة ونعات متباينة عن عوالم الكتب والكتابة وآداب التلقي والاكتساب والنقد .. أما " القارئ السيىء " فقط تناوله بالتفصيل الروائي " عاموس عوز " صاحبة رواية " قصة عن الحب والظلام " فعوز في روايته الضخمة هذه توسعت رؤاه عن موقفه من القراءة والقراء ومدى ارتباطه بالكتب في وقت قريب من حياته الأولية ..

ويبدو أن القراء السيئون أنواع كثيرة وأصناف متعددة .. أما تحديدها فسأضعها على عاتق الكاتب " عاموس عوز " عبر سطور روايته : " القارئ السيىّء يأتي ويطالبني بأن أقشر من أجله الكتاب الذي كتبته ، يجئ إلي كي يطالبني بأن ألقي أنا بيدي ، من أجله ، إلى برميل النفايات عنبي وأن أقدم له النوى " ..

و" القارئ السيىّء " هو نموذج فضولي ككلب بوليسي يشمّم عن التفاصيل الدقيقة والواضحة والشاملة ولن يهدأ له بال قط حتى يعرف البيضة من باضها وهذا ما يؤكده قول " عوز " : " القارئ السيىء هو مثل العاشق المعتوه الذي يهجم على المرأة التي وقعت بين يديه ويمزق ملابسها وعندما تصبح عارية تماما يتابع سلخ جلدها ، وبهدوء وروية يضع جانبا جلدها ويبدأ في تفكيك هيكلها العظمي وفي النهاية وعندما " يجرم " عظمها وينهش لحمها يصل إلى ذورة متعته : هذه هي ، الآن أنا فعلا في الداخل ، لقد وصلت " ..

وفي قاع كل " قارئ سيىّء " متعة تخريبية .. فالنص مادة للتشريح والتشويه والغمز واللمز والثرثرة ما وراء الأبواب المغلقة مع الحرص على أن تكون النوافذ الكبيرة مفتوحة على مصراعيها لتصل الهمهمات الوقحة إلى أصداء الريح : " القارئ السيىء مثله مثل الصحفي اللاهث ، يتعامل دائما بنوع من الريبة العدائية ، بنوع من الكراهية المتزمتة دينيا – القويمة أخلاقيا ، مع الإبداع ، الاختلاق ، التحايل والمبالغة ، وإلى ألعاب اللف والدوران ، إلى الكلمات ذات وجهين وإلى الموسيقى وإلى الإيحائي وإلى الخيال نفسه : قد يتكرم وينظر أحيانا في عمل أدبي مركب ولكن شريطة أن نضمن له مسبقا المتعة " التخريبية " الكامنة في ذبح بقرات مقدسة ، أو المتعة المحمضة – التي تنطوي على التقوى التي أدمن عليها كل مستهلكي الفضائح و" الاكتشافات " على مختلف أنواعها بحسب قائمة الطعام التي تقدمها لهم الجرائد الصفراء " ..

" القارئ السيىّء " لديه اعتقاد مفرط أنه كائن جبار وأن الكاتب المسكين لولا قراءته لكتابه لكان في مكّب الإهمال ..! وفوق هذا هو متشكك ؛ فكل رداءة في الأخلاق وتجاوز في القيم وكل الأفعال المشينة فهي مرتبطة بالكاتب نفسه بل مرتكبها وهاهو يكفّر عن ذنبه في هيئة كتاب أشبه باعتراف : " متعة القارئ السيىّء تنطوي على أن يكون دوستويفسكي المبجل والمشهور ، هو نفسه متهما بشكل غامض ، بميل دنس لسرقة وقتل العجائز ، وليام فوكنر بكل تأكيد كان على هذا النحو أو ذاك ، متورطا قليلا بغشيان المحارم ، ونبوكوف بمضاجعة القاصرات ، وكافكا لا شك أنه متهم في الشرطة " إذ لا دخان بلا نار " ، وأ.ب . يهوشواع بحرق أحراش الكيرن كيمت " يوجد دخان وتوجد نار " ناهيك عما فعله سوفوكليس لوالده وعما فعله هو لأمه ، إذ لولا ذلك كيف نجح في وصف كل ذلك بشكل حي ، لا ليس حيا فحسب بل حيا أكثر مما يحدث في الحياة الواقعية " ..

" القارئ السيىّء " إذن هو القارئ الذي يغيّب عقله ويقضي على خياله وعلى حق حواسه في الحدس والتحليل .. يطفو ولا يحبّذ فكرة الغوص في قاع الأفكار المطروحة في النص والودّ كل الودّ أن ينخر عقل الكاتب ليجس عين الحقيقة في داخلها ليس مبعث اندفاعه ذاك رغبة في خبرة وفيرة عن الحياة أو انتقاء تجربة ينطلق منها بل لرغبة معرفة ماذا حدث في الحقيقة ..؟! فهو قارئ يحب لغة المكاشفة .. أما الطلاسم والشيفرات وقيعان المعنى ترّبك ضآلة فهمه وتضعه أمام اختبارات يهزم أمامها وتكسر عزيمته الفارغة من الصبر ..!

" القارئ السيىّء " ينبذ مبدأ " حريتي وحرية الآخر " بمعنى أدق كالفارق ما بين " ديمقراطية شللية " و" ديمقراطية أصيلة " وهنا البون الشاسع ما بينه و" القارئ الجيّد " ..!





ليلى البلوشي

الاثنين، 6 أغسطس 2012

المثقف " التوي " بين بائع آراء وغاسل أدمغة ..!




المثقف " التوي " بين بائع آراء وغاسل أدمغة ..!



نشر في جريدتي : الرؤية العمانية / العرب اللندنية



" برتولت بريخت " كاتب ألماني يعّد من أعظم كتاب المسرح في القرن العشرين وهو طريدة غير مناسبة للباحثين عما هو خارج الفكر فهو يفكّر في كل شيء ونقيضه .. كما إن لسانه لا يزّلُ بل هو ينتقد من طرف خفي لا على غرار الخبيث – الساخر – الذي يقف مع الحقيقة ونقيضها بوصفها ازدواجية لهذا ينطبق عليه تماما الحكم الذي تطلقه إحدى شخصياته على " هيغل " ..

تطرح مسرحيات " برتولت بريخت " قضايا تمس الوطن والوعي وعلاقة الحكومة مع الشعب ؛ يطرح دلالاته بطريقة رمزية وعابرة ومعظم مسرحياته تطابق والوضع العربي الحالي بعد تفجر الربيع العربي وانطلاق الصوت الإنساني ..

في إحدى مسرحياته والتي بعنوان " الرؤوس المستديرة والرؤوس المدببة " يعرض " بريخت " حكاية بلاد تمر بأزمة وقد سماها باسم خيالي " ياهو " وتعيش فيه جماعتان .. جماعة الرؤوس المستديرة " تشوك " وجماعة الرؤوس المدببة " التشيش " وتعيش كلتا الجماعتين في وئام وسلام إلى أن تؤدي الألاعيب السياسية إلى زرع الشقاق والخلاف بينهما .. ولا يمكن أن تستمر فيها الأمور كما كانت فيما مضى إذ يجد الشعب نفسه أمام خيار صعب ومخيف : الاشتراكية أم البربرية ..؟!

و الحالة هذه تنطبق على معظم دول الربيع العربي ؛ حيث غدا ( الإختلاف ) تهمة وجريمة والكل يريد أن يُجرّ الآخرين إلى اختلافه ؛ كي ينشدوا التماثل المنشود متناسين أن الله تعالى خلقنا شعوبا وقبائلا ومختلفين ولو شاء لجعلها أمة واحدة ..!

يقول " برتولت بريخت " في موقف ما : " هل بعت نفسي ؟ ويأتي الجواب عن هذا السؤال قاطعا : " لا تأتي آرائي من كوني هنا وإنما أنا هنا لأن لدي هذه الآراء .."

من هنا نسدل الستار على مسرحية " في غابة المدن " و" بريخت " المبدع الخلاق يخترع لفظة " التوي " ويعني المثقفين الرسميين الذين يبيعون الأفكار الجاهزة ويتلاعبون مقابل المال بالكلام الأفكار والآراء ..!

وهنا الصفقة تجري بين ثري يدعى " شلينك " وبين موظف في المكتبة يدعى " غارغا " حيث يطلب الثري من الموظف " غارغا " أن يبيعه رأيه ؛ فصورة بائع الآراء بوصفها صِنْو الفنان المنتج وفساد الإنتاج في التبادل هو موضوع يعتبر هاجسا من هواجس " بريخت " منذ إقامته في هولندا حيث لا يتحدث المهاجرون الذين حققوا ثروة فيها إلا " بالصكوك " وحيث الفنان التقدمي كما يرى " بريخت " أنه لا يمكنه أن يعيش إلا إذا صار بائع أكاذيب كما ينص : " أقصد كل يوم ، لأكسب لقمة عيشي ، السوق التي تُشترى فيها الأكاذيب .."

إن المثقف " بائع الآراء " هو من أطلق عليه " بريخت " اسم " التوي " وهو مشروع فكّر فيه " بريخت " طوال عشرين عاما كرواية يسميها " التوي " حيث أراد فيها عرض تلك الشخصيات التي راقبها في الغربة والتي يمثلها بصورة خاصة فلاسفة مدرسة فرانكفورت .. إلا أنه لم يكتب العمل الوحيد المستكمل إلى حد ما والداخل ضمن هذا المشروع إلا في آخر حياته وفي ألمانيا الديمقراطية ويحمل عنوان " توراندوت أو مؤتمر غاسلي الأدمغة " وهنا يظهر غموض شخصية " التوي " أفضل من أي مكان آخر ..

والحق أن " بريخت " يعطي لهذه الشخصية سمتين جوهريتين : فالتوي هو المثقف الذي يعتقد أن الفكر يحدد الواقع ولكنه أيضا الرجل الذي يتاجر بالآراء إلا أن التعريفين لا يتقاطعان ؛ فالأول يحيل على الشكل التقليدي للوهم " البرجوازي الصغير " ويستدعي عمل الحقيقي الذي يكشف عن الوهم .. أما الثاني فلا يعود الحقيقي مجرد الوجه الآخر للوهم إنه موضوع اتجار يختفي فيه الفرق بينه وبين الوهم .. وتبشر تجارة الآراء هذه بعصر جديد لوظيفة الأيديولوجيا .. الوهم باطلا ..!

ما تريد المسرحية قوله هي أن الحقيقة سقطت إلى مستوى " السلعة " وذلك من خلال فصل الحقيقة عن الشعب وبيعها للسلطة ..!

وقد تطوّر مفهوم " التوي " إلى مفهوم " غاسلي الأدمغة " ويوظّف هذا التوي أو غاسلي الأدمغة من قبل الحكومة ؛ ليخدعوا الشعب ويشغلونهم بعيدا عن الحقيقة الكاملة ..!

نحن أمام أمرين : أمام مثقف يتكسب ببيع الآراء .. وأمام حكومة تشتري الآراء من المثقف ؛ لتخدع الشعب ..!

وهذين النموذجين شائعين في الوقت الحالي والتسمية استجدت مع الوقت وصارت " بوق " الحكومة أو " مزمارها "  أو " طبلها " ..!

مع الإشارة أن المثقف من هذا النوع لا يبيع آراؤه فقط ، بل كذلك ضميره ويبيع نفسه ويبيع فكره المستقل ؛ ليكون فكراً موبوءاً وعبداً تابعاً ومتبوعاً للسلطة وحدها ..!

وما أكثر مثقفي ( التوي ) في أوطاننا بائعي الفكر والضمير لحفنة أوهام مؤقتة تهبّ عليهم من قصور الفناء ..!



ليلى البلوشي






السبت، 4 أغسطس 2012

حوار مجلة بنت الخليج ..







( مجلة بنت الخليج ) .. العدد 80 لهذا الأسبوع أجرت حوارا معي ومعظم الكلام المكتوب منقول بأسلوبهم ... ﻻ يشبهني وبه أخطاء..!