الاثنين، 24 سبتمبر 2012

نساء بيكاسو ..!


 
نساء بيكاسو ..!

 

نشر في جريدة البلد

 

لم يكتف بواحدة .. رغباته أوسع من جسد امرأة .. إحساسه بالمتعة الجسدية كان ممزوجا بمساحة الحضور المريح .. هل أحبّ بيكاسو كل نسائه ..؟ أم أن الرغبة غلبت الحب وهل ينوجد الحب بلا رغبة ..؟

هكذا بدأ الكاتب " جوزف أبي ضاهر " يتساءل في مؤلفه " نساء بيكاسو " .. فلا يمكن أن تتناول حياة الفنان العالمي " بيكاسو" بمعزل عن نسائه .. كوكتيل نسوي كل منها كان موديلا للوحاته .. كل لوحة هي امرأة أحبها ثم بهت اهتمامه بها فضجرها ناقبا في كل مرة عن امرأة جديدة تضخ فيه الشباب والحيوية وجنون الريشة ومجموع لوحات ثمينة لا تقدر بثمن .. وهو القائل عن نسائه : " المرأة عود ثقاب يشعل رغبتي في الرسم أريدها دائمة الحضور متجددة ونارها لا تنظفيء " ..

السؤال هنا : من هو بيكاسو ..؟

" بيكاسو " هذا الفنان " الماجن " كما وصفه صديقه الشاعر " ماكس جاكوب " .. ولد في تمام الساعة الحادية عشر من ليل 25 تشرين الأول / أكتوبر سنة 1881م وفي قرية " مالاقا " الإسبانية سمعت حركة غير عادية : " ولد لجوزيه روينر بلاسكو طفل ميت " .. أجريت له الإسعافات اللازمة وظل الجسد الطري هامداً تقدم منه عمه الطبيب " سلفادور روينر بلاسكو " وحمله بين يديه نافخاً في وجهه دخان سيجاره وعلى حين فجأة تحرك الجسد وانتفض وصرخ وصرخ من كان حاضراً : إنه حيّ ..!

من هذه البداية الغريبة ولد " بابلو بيكاسو" .. الغرابة هنا تلقي الضوء على معتقدات كانت سائدة في القرون الوسطى ذات صلة بالأسد وأشباله من أنها كانت تولد ميتة وتبقى كذلك ثلاثة أيام إلى أن ينفث الأسد فتدب الحياة في أوصالها والأسد والأشبال هنا رمز الانبعاث ، والمخلوق الطفل يخرج هامداً من رحم أمه ثم يبعث بإرادة الأب وهذه الأفكار كان لها تأثير ضبابي في حياة " بيكاسو " ولوحاته ..

ولادة " بيكاسو " حسب علماء الفلك جاءت في برج العقرب وهو حمل صفاته : عدائي ومتسلط ، مدمر وأناني ، يعد نفسه محور الكون كله ، ومنتج لا يتعب ومحول للطاقات هائل ، وفي كل حركة من حركاته تظهر السلطة حتى في نومه لا يعرف الراحة أو السكون ..

كان والده رساما فكان من الطبيعي أن يتأثر الإبن بالأب ، ولكن ما ليس طبيعي أن يقتدي ويتعلم الأب من ابنه العبقري الذي استطاع في سن صغيره أن يبهر من حوله برسوماته .. مما جعل الأب يقول عن ابنه : " لا أخجل من نفسي عندما أقول أنني أتعلم الرسم من ابني الصغير " ثم تخلى عن ممارسة الرسم نهائيا قائلا لإبنه : " ليس لدي ما أتركه لك سوى ريشتي ودعاء قلبي الذي أحبك كثيرا " ..

أما أمه " ماريا لوبيز " فقد أحبته حبا أعمى وكانت تمنحه الثقة والمحبة الشاسعة والاهتمام .. ويبدو أن " بيكاسو" كان له حظ وافر جداً من حب واهتمام النساء ؛ حيث بدأت وجوه النساء تحنو على سريره منذ ولد بدءاً من فرط حنان أمه وأختيه ونسيباته .. واسترخى في دفء تدليلهن حتى آخر امرأة التقاها وبقيت معه وكانت أرملته " جاكلين " ..

والحديث عن مراحل لوحات بيكاسو لا يمكن أن تتم دون ضج نسائه فيها وعبرها فهن كل لوحات وكل ألوانه .. والنقاد الفنانين قسموا مراحل الرسم عند بيكاسو إلى أريع مراحل .. أولها كان المرحلة الزرقاء التي بدأت مع سكنه باريس في ربيع 1904م .. ثم المرحلة الوردية التي كانت عام 1906م حيث التأمل بعدها انتقل إلى المرحلة الزنجية التي اتصفت بالإنفعال والعنف .. ثم إلى أهمها المرحلة التكعيبية والتي كانت مع " جورج باراك " حيث وضعا نهاية دورة مهمة في تاريخ الفن ..

وكما أسلفنا كل لوحة هي وجه امرأة وقلبها وعقلها وكل ما فيها .. فرناند ، إيفا ، ماري تريز ، دورا مارا ، فرنسواز ، جنفياف ، وصولا إلى جاكلين .. واثنتان تزوجهما هما " أولغا " و " جاكلين ".. واثنتان انتحرتا " ماري تريز"  أسفا على حياتها معه و" جاكلين"  أسفا على رحيله ميتا .. واثنتان دفعهما إلى الجنون كـ" أولغا " و" دورا مار" .. أما " إيفا " فماتت قبل أن يملها أو تتركه .. وأمه كانت تدرك هذا الجنون الذي يتمّلك نساء بيكاسو وحاولت نقل شعورها هذا إلى " أولغا " قبل زواجها من " بيكاسو " حيث خاطبتها قائلة : " يا صغيرتي المسكينة لو كنت صديقتك لأقنعتك بالابتعاد عنه ، وتركه ونسيانه ؛ لأنه لا يستطيع أن يحب امرأة مهما كانت جميلة وطيبة ومخلصة .. لن يكون لها .. لن يكون ملكاً سوى للرسم والرسم فقط " ..!

وحدها " فرنسواز"  كانت أكبر من الكارثة هجرته وسط استهجانه حين أعلن بتحدي : " لا تستطيع امرأة أن تهجرني .. أنا أقرر هجرها " ..

ولكن"  فرنسواز"  هجرته ولم يطق ذلك ؛ لأن المرأة هي مزيج من الحب والرغبة وهي مضخة للعمل والإنجاز والإبداع كما عبر ذات يوم : " أنا بحاجة إلى الحب لأتمكن من العمل ، الحب هو الجدار الواقي وهو الدرع الذي يرد الصدمات والخيبات والقوة التي يلقاها كل فنان ناشئ في محيط لم يعرفه تمام المعرفة .." لهذا كلما بهت ضوء إحدى نسائه راح يطارد غيرها ؛ كي يظل ضوؤه الداخلي مشتعلا أبدا ..!

وتظل أكثر نسائه حظاًّ الأخيرة وهي " جاكلين " تزوج منها وظلت معه حتى آخر لحظة من حياته وهو لم يتعب أو يضجر منها ، وتفانى اهتمام " بيكاسو" بها حتى أنه كان يهدي إليها لوحاته فيوّقعها باسمها وقال لها ذات يوم : " الأخريات كن زوجاتي .. أما أنت فستكونين أرملتي " وقد رسمها في لوحة تحمل عنوان " جاكلين الأرملة " ..

هناك امرأة أخرى ولكن صلة " بيكاسو" بها مختلفة وكان يقول إنها مجرد " أخت " .. وهذه المرأة هي الأمريكية " جرترود شتاين " التي عرفها من خلال علاقته بــ" فرناند أوليفيه " .. فساعدته فنيا واجتماعيا وماليا واشترت أولى لوحاته وتم عبرها التعارف ما بين " بيكاسو" وفنانين كثر وعلى رأسهم " هنري ماتيس " وبواسطتها انفتحت أمامه أبواب السوق الأمريكية ثم الأسواق العالمية ..

كان لــ" بيكاسو" قواعده وتعريفاته وانطباعاته عن المرأة ، غالبها انفعالات تنم عن غطرسة وثقة عمياء بعاشق يهيم به كل نساء الكون .. كمثل عبارته : " كل مرة أتعرّف فيها إلى امرأة جديدة ، يجب أن أحرق التي مرت قبلها .. هكذا أكون حرا .. طليقا من غير قيود .. ولن تستطيع واحدة .. أية واحدة أن تشغلني طيلة حياتي أو تمتلكني .. أترك المرأة وأنسى الماضي كل الماضي وربما هذا يعيدني إلى الشباب الدائم " ..

من يقرأ سيرة حياة " بيكاسو " أو يشاهد فيلما عنه سوف يكتشف دون شك في أنه فنان عبقري وعظيم خلّف تاريخيا راسخاً وخالداً في تاريخ الفن وعوالمه ، ولكن سيكتشف في الوقت نفسه أنه ليس إنسان بل ما هو سوى كتلة من الأنانية المنفوخة بالغطرسة تذكرني – شخصياً- بالسمكة البالونة وهي سمكة معروف عنها أنها خطيرة على القرش وسامة للبشر .. " بيكاسو " عبقري الذي حوّل الريشة تاريخياً كان بخيلا في الإنسانية بمعناه العاطفي والمادي كذلك ..!

في الثامن من نيسان / أبريل 1973م سقطت الريشة من يد بابلو " بيكاسو " .. رحل لكن شمس شهرته لم تأفل يوما ومايزال هذا الأناني المنفوخ بالغطرسة الطفولية كأنما يردد للعالم من حوله .. لكل ما له صلة بالفن والجمال والنساء .. يردد بثقته المعهودة : أنا بيكاسو .. بيكاسو أنا ..!

الجدير بالذكر والملفت للنظر أنه ولد في الساعة الحادية عشر وغادر الحياة في الساعة نفسها .. رحل كذّرة غبار ولكن من دون حاجة إلى ضربة مكنسة كما عبّر عن نفسه ذات مرة أمام " جاكلين " ..!

ليلى البلوشي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق