الاثنين، 30 مايو 2011

واعلني الصرخة في وجوههم : حرية









وأعلني الصرخة في وجوههم : حرية







" جريدة الرؤية العمانية "







إنها " سوريا " ، سوريا " غادة السمان " و" نزار قباني " و" الماغوط وسنية " و" ممدوح عدوان " وغيرهم الكثيرين ؛ أولئك الذين اجبروا على تركه خلفهم كذكرى موجعة ؛ الوطن الذي عانى ويعاني وما يزال عليلا لنقص في الأكسجين ؛ غادروه بعد غصّة في القلب ، ليكونوا منفيين إلى سموات أوطان بديلة احتوت بحب حرياتهم وإنسانيتهم ..!




لكل من يتابع الوضع السوري سيخرج بأن المشهد يمر بثلاث مراحل ، والتي أرى أنها تتماهى مع نظرية " آرثر شوبنهاور " الذي قال بأن : " الحقيقة الكاملة تمر خلال ثلاث مراحل ، أولا : ستُبعث على السخرية ، ثانيا : ستُعارض بقوة ، ثالثا : ستُقبل باعتبارها فرضت نفسها " ..




قبل اندلاع الثورة السورية ، كنت قد سألت _ صديقتي السورية _ سؤالي هذا : " هل تتوقعين وضعا مشابها في سوريا كما في تونس ومصر ..؟ "




فردت قائلة : " ربما ؛ ولكن السياسة السورية قمعية جدا ؛ لدرجة أن المرء يلجأ إلى منع تنفسّه إن اضطر ..! "




وسردت لي عن ممارسات وحشية ، قام بها " رأفت الأسد " شقيق الرئيس السابق " حافظ الأسد " في سنوات ماضية ؛ حينما فرض قرارا بمنع تحجب المرأة السورية ، بل تماهى في غيّه حين أمرّ بنزعه نزعا من رأسها في الأسواق والشوارع العامة ، وإن تم اعترض من قبل الزوج أو ولي الأمر ؛ فإن عملية قتله أمام أهله تتم دون أي مناقشة ، وقد تأزمت الأحداث في سوريا في هذه الفترة ، وحبس الكثيرون نساؤهم في البيوت خشية من بطش السلطة ، ولكن ثائرة بعض الأهالي الغيورين على عرضهم لم تهدأ ؛ فخشي الرئيس " حافظ الأسد " من غضب الشعب وقتئذ ؛ مما دعاه إلى إصدار قرار بنفي أخيه بعيدا عن سوريا ، ولكنه كان قرارا " صوريا " ؛ لتهدأ النفوس الجامحة لا أكثر ولا أقل ..!




وإذا ما كان الرئيس " بشار الأسد " حينما سئل عن فرضية تعرض بلاده لثورات مشابه كما في تونس ومصر واليمن ، فنفى هذا القول بثقة ..




و سوريا اليوم تغتسل بدماء الثوار الأحرار ؛ ومع تعتيم الأحداث بمنع الصحفيين والإعلاميين من نقل الحقائق ، ولجسّ نبض الوضع الحقيقي سألت صديقا صحفيا سوريا عن ما يجري في سوريا ؛ فلا أحد يعرف بلاد الشام قدر معرفة أهلها بها ..؟




ورد بعبارة واحدة واضحة : " لم أجد من يكره سوريا كما يكرهها كل من يحب بشار الأسد ، ولا أقول هذا الكلام ؛ لأني على الطرف المقابل لهؤلاء ، بل لأن سوريا لا تهمهم إذا لم يكونوا حكامها .." .




ما يجري من أحداث في الأراضي السورية مرعب ، وهو رعب يعرفه جيدا أولئك الذين عايشوا سوريا وأزماتها منذ زمن طويل ، وبعد تفجر مأساة " المقابر الجماعية " التي تماثل الأحداث القمعية الوحشية التي كانت تجري في العصور الوسطى لا زمن التكنولوجيا المعاصرة ..! إضافة إلى نزوح الآلاف عبر طرق برية ما بين الأحراش والبساتين هربا وأطفالهم من جرائم النظام السوري ، الذي لا يميز ما بين الصغار والكبار وكأنهم جرافات تبتلع كل شيء ، والمعبر نفسه الذي يتسلل منه السوريون إلى الحدود اللبنانية معرض للتسليح من قبل قناصة ، وهذا يشير إلى أن هؤلاء الأهالي الفارين من بطش السلطان يجازفون بحياتهم وأطفالهم ..




و" تلكلخ " مأساتها مأساة وهي محاصرة من قبل الجيش السوري ، الذين يقومون بعمليات دهم واعتقالات عشوائية فارضين الإقامة الجبرية على الأهالي ، وتجري فيها أعمال تأباها بشدة النفس البشرية من قتل العوائل العزل مع أطفالهم بهمجية ، وقتلى وجرحى مرميين في الطرقات والشوارع العامة دون أن يجسر أحد ما من الدنو منهم خوفا على نفسه من القناصة المتعطشين للدماء على كل الجبهات ، مع قصف المباني ذوات طوابق عديدة لضمان قتل جماعي وعلى دفعة واحدة ، أي أن النظام السوري يقوم بعمليات إبادات جماعية ، " تطهير" إن صحت التسمية ..!




إن سوريا حاليا حبيسة في المرحلة الثانية ؛ مرحلة " فرض القوة "؛ إنها تتعذب تحت نير القوة القمعية للسلطة التي تريد بكل ما تملك في أن تحافظ على مركزها ، بكافة طرق القوة : قصف ، إبادة ، قطع وسائل الاتصالات الكافة مع الماء والكهرباء ، مداهنة البيوت وخاصة أماكن السكن الطلابية للتنكيل بالشباب ، عمليات اعتقالات جماعية ..!




الشعب السوري لم يتجاوز بعد من كابوس الخوف الجماعي من السلطة ؛ فمعظم الشهود العيان الذين يتحدثون يمتنعون عن ذكر أسمائهم ؛ خوفا من بطش السلطة بهم ، هذا الخوف الدهري الذي تعمق في شرايينهم عبر أجيال متعددة جعلهم مخنوقين ؛ لدرجة أن صفحة " الثورة السورية " على الفيس بوك حينما دعت إلى إضراب جماعي من أجل الضغط على السلطات وتزامنا مع العقوبات التي فرضتها السياسية الأمريكية على الأسد وأعوانه المقربين ، جعلت البعض يمتنع عن الإضراب بشهادة شاهد عيان وهو - رجل أعمال - الذي رفض ذكر اسمه موضحا السبب : " من سيجرؤ على القيام بإضراب سيخاطر بفقدان عمله أو أن يستهدف من قبل السلطات ، فإذا ما أغلق أي شخص متجره فسيتم توقيفه على الفور وسيفقد لقمة عيشه ..؟" ..




ترى هل ستنتهي المرحلة الثانية ، وتلج سوريا إلى بشائر المرحلة الثالثة بموافقة كافة الأطراف في داخل وخارج سوريا ..!؟




يترقب الداخلون المعذبون المرحلة النهائية المؤزرة بالنصر أكثر مما تهم أولئك المتفرجين الصامتين وكأن على رؤوسهم الطير في خارج البقاع السورية ..!




وعلى " سوريا الجديدة " حتى تحتفي بمرحلتها الثالثة أن تفرض نفسها ؛ بكل ما تملك من قوة وإصرار وعزيمة في نيل ربق حريتها وكرامتها ... وكوني كما قال فيك شاعر الحرية " أحمد مطر " في قصيدته الطازجة : قفي كسنديانةٍ / في وجهِ كلِّ طلقةٍ و كلِّ بندقية / قفي كأي وردةٍ حزينةٍ / تطلعُ فوقَ شرفةٍ شاميّةْ / و أعلني الصرَّخةَ في وجوههمْ .. حريّة/ و أعلني الصَّرخةَ في وجوههمْ .. حريّةْ .. " .









ليلى البلوشي



الأحد، 22 مايو 2011

من " عادل إمام " إلى " دريد لحام " ..!






من " عادل إمام " إلى " دريد لحام " ..!







" جريدة الرؤية العمانية "






هي " ثورة " كانت طفلة وغدت مكتملة ، وفي اكتمالها قطعت عهدا على نفسها وهي تتأمل هتافات الآخرين من أجل إحيائها بالتضحية في سبيلها ، على أن تبذل هي الأخرى جل طاقاتها ؛ كي تقدم لهم قرابين حبهم وثقتهم ووفائهم وتضحيتهم مثلما تعاهدت قوانين الحب في الكون ، وعدت وفعلت ، وجرفت من جرفت ، واقتلعت من اقتلعت من رؤوس الفساد والفتنة ، ورميت من رميت في شرور أعمالهم ومازالت تواصل دربها للخلاص ، وأنفار آخرون لهم حكايتهم مع " الثورة " حينما كانت طفلة لم يربتوا على كتفها بحب ، لم تثر اهتمامهم والبعض شكك في قدرتها على جرف ما تراكم من قرون ، والبعض حقن فيها سموم اتهاماته واتخذها سخرية يتندر عليها وعلى من كان سببا في وجودها ، ولكن حينما استطالت أفعالها الآمال ، غسلوا وجوههم وأزالوا أقنعتهم والبسوها أقنعة أخرى تلائم الوضع الجاري ، كما حدث مع أصحاب الشهرة والملايين والفنانين ، الذين كانوا ما بين كر وفر وخسر من خسر وربح من ربح ..!




على رأس قائمة الفنانين الذين قال وقيل عنهم الكثير الفنان " عادل إمام " الذي يجر خلفه أضواء الشهرة حيثما مشى على السجادات حمراء يفرشها له محبيه من العالم العربي والعالمي ، " عادل إمام " تستعيد الذاكرة العربية أفلامه في فترة السبعينات وهي وامضة في ذاكرة العرب حتى هذه اللحظة ، ذاك الشاب النحيل الذي أضحك الملايين بنقاء قلب ، الشاب المعدم الذي كان مع الغلابة وقضاياهم حبا بحب ، المواطن الصالح في فيلمه " إرهاب وكباب " الذي احتل المبنى الحكومي مع بعض رهائن وظل يضخ فيهم الأمنيات طوال فترة الرهن لعرض مطالبهم على الحكومة ، وفي النهاية لم يطلبوا سوى الكباب ، فقد كان حلم أولئك - المعدومين - تناوله ولو لمرة واحدة في حياتهم على الأقل ..! ومثله مثل أفلامه الأخرى ذات النزعة السياسية الاجتماعية كما في " الإرهابي " و" طيور الظلام " وغيرها ، وكلها كانت تناصر المصري المظلوم الواقع بين أنياب المتوحشين في مجتمع يستبد فيه أسياده ..




لكن ماذا عن " عادل الإمام " خارج شاشة السينما والتلفزيون وخشبة المسرح ..؟!حين كانت الثورة في مناهضتها الأولى صرّح " عادل إمام " واصفا الشباب في ميدان التحرير أنهم مجرد غوغائيين والمظاهرات بأنها " قلة أدب " ، وقد بعث بعقولهم وعليهم العودة إلى بيوتهم ، فسياسية الحاكم المتنحي " حسني مبارك " كانت جيدة ولا تشكو من أي نقصان ..!وحينما هجم محبّوه من الملايين في صفحات الفيس بوك قائلين له بصوت متفق : " عيب يا زعيم " ، عاد " عادل إمام " قافزا من شاشة إلى شاشة ؛ كي يمسح كل لفظة جاحدة من فمه في حق الثورة ، ليسجل عوضا عنها عبارات تصفق في صالح الشعب ، مضيفا أن من حق الحكومة الاستماع للشباب ومطالبهم في الحرية والكرامة والعدل والديمقراطية ، ليؤوّلها إلى قوله المصرح أخيرا : " أنا معكم وفي صفكم " ، بعدما رأى بأمّ عينيه " سقوط التمثال " الذي اتكأ عليه ..!




إلى " دريد لحام " الفنان السوري الذي جسّد شخصية " غوار الطوشة " التي ألصقت بجلده رغم حشد الشخصيات التي مثلها هذا الفنان ، " غوار الطوشة " الشخصية التي رمزت إلى الشخص السوري العادي الذي كان يكافح من أجل لقمة عيشه ، ويتحدث عما يصادفه من مشاكل في حياته كلها ، هذه الشخصية التي من تأثيرها في مجال التمثيليات اعتلت منصة المسرح ، وعرف عنه في الماضي بأنه يكتب ويخرج ويمثل أفلامه ، وينقد ما هو خطأ في المجتمع العربي ، ويبصر المشاهد بمآسي الإنسان البسيط ، حيث كان غوار يجمع في سياق حديثه المصائب الشخصية للمواطن ، والمآسي التي تواكبت على الإنسان العربي في كل بقعة من أرجاء المعمورة ، بل من ينسى الفنان في مسرحيته " كأسك يا وطن " التي كانت دعوة لإيقاظ المواطن العربي من سباته العميق.. وتنتصب أيضا هنا " لكن " الاستدراكية ، وهي هنا تحتمل معان عدة ضمنية إضافة إلى معناها الحقيقي هي هنا " تستنكر " و" تندهش " و" تثور " و" تحتار " وأشياء أخرى كثيرة ..!




في قصيدة " ترميم قضية أو مجد الصغائر " يقول مؤلف مسرحية " كأسك يا وطن " الشاعر " محمد الماغوط " : " تصرخ أدوات تعبيري في وجه القدر والطغيان / كما لم يصرخ ثائر من قبل .." وكلنا يعرف جيدا أن " ماغوطا " كان جسدا من قول معجون بفعل وكان سيسقطها ثائرا صارخا في وجه الطغيان حتما إن كان قلبه ما يزال ينبض كما كلماته تنبض ..




وندرك كما سيدرك الآخرون أن " دريد لحام " ما هو سوى ممثل وكم فاتنا ذلك ، وأن صرخاته الثائرة طوال تلك الأعوام على أنظمة القمع والطغيان ، لم تكن سوى سطور حفظها من سيناريوهات التمثيل ، خطها غيره بدم كرامته وحريته ورغباته المتأججة في نيل المستحيل للمعدمين في كل مكان ، ما كانت سوى أصوات كاتبيها ، وما كانوا هم سوى ممثلين.. ولهذا هل على معجبي ومحبيّ الفنانين " عادل إمام " و" دريد لحام " وما يماثلهما أولئك الممثلين على إلقاء اللوم عليهم أو حتى محاسبتهم .؟!




الحقيقة تقول : إنهم " ممثلون " يا سادة ، يا أيها المعدمين ، يا من تركتم أحلامكم الفقيرة على أبوابهم ، يا من منيتم أنفسكم المهزومة على نيل ربق انتصاراتها منهم .. إنهم " ممثلون " يقومون بأعمال يأخذون عليها أجرا ماليا وقدره .. وتلك المبالغ هي نفسها حولتهم من شابين لا يملكان قرشا إلى أصحاب الملايين ، ألبستهم الكرافتة والبذلة الأنيقة ووجه منفوخ الخدين مع كرش متدل ، ومنزل فخم مفروش بالسجاد الفاخر وسيارات فارهة ، خدم وحشم وأحلام لا تصاغر أبدا أحلام الفقراء ، التي نسوها تماما إلا في أدوار مكتوبة النص بقلم كاتب حالم عن المعدمين .. !




وكأن أوضاعنا العربية في هذا العام بالتحديد ليست قضية ما " قبل " و" بعد " وحدها بقدر ما هي قضية مأزومة ما بين " لكن " و" لكن " ..! لكن الناس ، محبيهم ، لم يقنعوا بفكرة أنهم " مجرد ممثلين " ، خصوصا في وزن فنانين كـ " عادل إمام " و" دريد لحام " ، فهذين الممثلين أضحكوهم ، أبكوهم ، جسوا معاناتهم بعمق ، ربتوا على أكتافهم بمحبة ، صرحت أدوارهم عن المكشوف في عوالم الفساد والطغاة ، حرضوا العقول على بعث الوعي وإيقاظ الضمائر وهتافات المنادية بالكرامة والحريات والقيم النبيلة والقومية والوطنية ، حتى غدا كليهما رمزين لامعين من رموز الوطن والمواطن العربي في كل قلب وعقل ، وهو السبب العميق والكبير الذي جعل وجود اسميهما على أفيش أي فيلم هو صك الضمان لجماهيرية الفيلم ونجاحه ، وهو السبب عينه الذي راكبهما في مكانة عالية من النجومية ، بقيت حتى آخر رمق دون أن يأفل قمرها ولو للحظة ، رغم جمهرة الممثلين آخرين في مضمار التمثيل ..




وهنا تحتشد الأسئلة القلقة الحائرة : فهل مهنة التمثيل هي " حمالة أدوار " فقط ؟ لأنهم يخاطبون أكثر العقول بساطة ، فهي تؤمن بهم وتصدق كل ما يعرضونه على أنه واقعهم هم ، على أنهم داخل وخارج الشاشات يناصرون القضايا نفسها ، ولكن أليس " الفن " رسالة " كالكتابة وكالفن التشكيلي بأنواعها المختلفة ..؟! لماذا يحاسب الكاتب على كل كلمة وعبارة يسجلها ، أليست القصص والروايات حكايات على ورق من الخيال ..؟! وتلكم الرسوم التي تستصرخ ألوانها على شراسة الواقع الموجع ، هل هي مجرد فنون للتعبير ليست من الضرورة أن تمثل مبادئ راسميها ..؟!




ليس من حقنا أن نلومهما أو حتى نلوم غيرهم ، وهذا المقال خارج مبدأ التأنيب أساسا ، لكن ونعود للفظة " لكن " على هذين الرمزين الكبيرين إقناع الناس " الدراويش " أن كل ما كانوا يفعلونه طوال سنوات تمثليهم ، كان ضمن التمثيل لا أقل ولا أكثر ؛ كي لا يرجمهم جمهورهم بعد الآن بقول : " ما يصحش كده يا زعيم " و قول : " يا عيب الشوم يا غوار الطوشة " ..! عليهم أن يقنعوا العالم الذي صفق لهم من قلوبهم المحبة ، أن ما كانوا يمارسونه مجرد دور سلطت عليه كاميرا شاشاتهم الصغيرة ، لا تمت إلى شخصياتهم الواقعية بصلة في شاشة العالم الواقعي ..! فليعلنوا أنهم أحرار كبشر ، في تعاطي مواقفهم ، من السلطة ومن الشعب ومن كل شيء ، ولكن أيضا عليهم بألا يطالبوا أولئك الشعوب بتصديقهم بعد الآن مطلقا ، وأنهم مجرد " أراجيز " خيوطها بيد السيناريو في النص ، وبيد المصالح في خارج النص ..!




أولئك البسطاء ، كم صدقوهم حد السذاجة ، دون أن يدوّرا طاحونة الرحى في عقولهم ولو لمرة واحدة أن ما كانوا يذرفونه تلكم الرموز من دموع ، كان مجرد دموع " مسلسلات " ..!







ليلى البلوشي










الجمعة، 20 مايو 2011

ليلى في مهب هويات






ليلى .. في مهب هوّيات






إنه يومك الأول حديث الولادة لك وحدك ، وستدركين لحظتئذ أن كل شيء في أرجائك متلون باللذة الأولى ، والدهشة الأولى ، والتلهف الأول ، والسر الأول ، والسؤال الأول ؛ وهي أشياء كفيلة أن تتيه بك في مغارة تلجينها شئت أم أبيت ؛ فلا خيار إلى حياة ممهّدة بقدر غامض هو لك كما لبقية الخلق ؛ فهناك أجوبة إن رغبت تصيّدها حقا ، بالمجازفة وحدها تسعفك وتسعف كل كيان تتأجج فيه رغبات متلهفة في حياة متوحدة ، يمضي منها ما يمضي بلا أجوبة شافية وبضجيج الأسئلة المطلسمة ..




عندما تشرعين ظلال أجفانك عن نافذة عينيك الضئيلتين في ذاك الليل البهيم ، وأنت بعد طفلة صغيرة في قماط رقيق معصوم حول أطرافك الهزيلة ، في يومك الأول في لحظتك الأولى مع الكون بعد أن قاومت بشدة للتزحلق من نفق ضيق هو وطنك الأول وبلادك الأولى إلى فضفاض عالم ، كم ترينه رغم غشاوة الرؤية كبيرا جدا عليك ..




تحدقين حواليك في رؤية ضبابية ، لا تميزين سوى هسيس أصوات تتعالى و تنخفض ، حينا تشتد باحتفالية وهي تشدك إليها في حضن ممتد ، وحينا تغيب تلكم الأصوات والأحضان والقبل المنفلتة متداعية خلف روائح فوضوية ..




وأنتِ لا تجيدين سوى لغة التحديق ، في الخارج من زجاج المشفى العاري تتفرجين على غيمات مشاكسات يسكبن بشقاوة حافلة ماؤهن الرقراق على وجه الأرض ، بينما هي تتشربها ببهجة وهو المنظر الذي ظل يغسل نفسه طوال شهر كامل كما أبلغت فيما بعد : " يوم ولادتك هطلت الأمطار بغزارة لمدة شهر كامل دون تعب ؛ لدرجة فكرنا جديا لو أنك كنت صبيا ؛ لأسميناك " مطر " " ..




وصوتان آخران مميزان جدا ينفجران من بلعومك بتناوب يكاد يكون منتظما : البكاء والصراخ ، ولا تدركين أهميتهما إلا حينما تتمدد فيك الحياة ، تمططك لدرجة تنسيك حنجرتك تلك التي تعالت في شلال أصوات مختلطة بالمطالبة فقط ، أنها أمست مع تكاثر الأعوام بلا أصوات ولا مطالب ، رغم زخم الكلمات وضخامة الأحداث وسعة الأشخاص والمسميات ..!




وحدها تلفك في حضنها بحميمية وفيرة ، لم تتذوقِ مثلها ولن ، تسير بك في خطوات متمهلة إلى طريق محفوف لا تعرفين إلى أين تقودك .. ؟ لكن الاطمئنان يسري في شريانك ؛ فالرائحة التي تتضوعين في كنف حضنها الناعم هي رائحة إنسانة تحبك ، هكذا تتوقعين بل تؤمنين ، والمحبة كفيلة برسم دفء الراحة في جنبات أحاسيسك الصغيرة التي أخذت تتغضن .. منزل ذويك ، هو ذا أول مكان تطئينه بحواسك المتزاحمة ، التي استلمتك لتطبخك مضغة مضغة ، ومن عالم أصوات مبهمة وخليط من الروائح القريبة والغريبة إلى عالم المرئيات أشبه بشاشة سينمائية عريضة ، وهو أول عالم يلعب معك لعبة الإثارة ، تبدئينها بالتحديق ، فالشقلبة ، فالحبو ، فالتعثر في الخطوات ، ثم قدمين ثابتتين ، تسلمانك بخجل إلى أقران في مثل طولك ، تلك هي أول صداقات الحياة وألذها براءة ، يدفعك شيء لا تعرفينه في طلّة اللقاء ، وكم هي البدايات شاقة بهدير مفاهيمها دون أن نحظى ما يروي ريقنا منها ، لكن شيئا ما يتهافت فيك نحوهم ودافعان يومضان في حواسك هما بلا شك : الفضول ، ورغبة التوحد مع الآخر ..




في تلك السنة في عامك الخامس ، قيل لك أنك ستزورين وطنك ، ورسمت لفظة استفهام ضخمة في مخك الطفل حول لفظة " وطن " ..؟ وسؤال بريء تخضض في داخلك فيما بعد مضي قطار السنوات : أليس المرء إلى حيث يولد يستقبله موطنه وتحفّ به هويته ..؟!




وقبل هذا السؤال الذي تأخر صببت فهمك في مصب استفهام ، و ركنتيه حيث هو ينتفخ كبالون في خبايا عالمك دونما تفسير واضح ، ولم تبال بمعرفة شيء وقتئذ ، ففكرة السفر خضخضتك ، أخيرا تستحيلين إلى نورس كذاك الذي صادقتيه رغم لقاؤكما الفارغ من الأصوات بدنو شاطئ صادقك هو الآخر مع محاراته ورماله المبتلة بقصور أحلامك التي كثيرا ما سلبتها الأمواج في مزاج متعكّر ، الترحال إلى مكان آخر مجهول أغرى آمالك بسعات مكثفة ، وفي اللحظة الحاسمة حين وطأ قدماك ذاك المكان المجهول الذي قيل لك أنه وطنك ، لا تعرفين ما الذي خربطك وانتشل ثباتك على حين فوضى ..؟




لكن رائحة المكان التي تشعبت في صميم رئتيك نفختهما في حمّة أقعدتك الفراش ، في ليلة وصولك الأولى حد التوهان في خليط من أشياء وأماكن وشوارع وحلة لم تعتد على مثلها ، وطالت الليالي تسقطك الحمّى من كابوس إلى آخر ، وأبت مفارقتك كرفيقة وفية ، وكأنها تشاطرك نبذ أشياء لا خطوط موصولة بينكما ؛ حتى قطع ذويك بقية أيام السفر بمقص العودة إلى ديار تألفك جيدا وتألفينه ..




مذ يومها ربطت عقلك الساذج برباط محجج عقدته أن الذهاب إلى ذاك المكان لا يواتيك ؛ فهو من افترشك في ظلمتين الغثيان والحمى ، حتى الكبار ساروا على ما تحججت ؛ بل اقعدوا بجانب اعتقادك تفسيرهم الخاص : لكل وطن رائحة ، وهي لم تواتيها رائحة وطنها ..




والتبس عليك هنا لفظتا " وطن " و" وطنها " ، دون أن تعرفي مدى خاصية تلك " الهاء " ، ولا غرضها في قلب أحاديث يتراشقها الكبار من حواليك ..؟!




طمست فكرة السفر وذكرى المكان كليا ، فتظلين مع من يظل من أهلك ، بينما يطير البقية إلى هناك في إجازاتهم ..




عدّت السنوات على هذه السيرة المطموسة عنك ، حتى طالت قامتك بأشبار، لتجدي نفسك في الثانية عشر إلا قليلا ، في تلك السن اقترح عليك والديك أن ترافقيهم في سفرتهم إلى وطنك ، مراهقتك التي لم تنضج بعد استحسنت الفكرة ، في هذه الرحلة ، كان كل شيء مختلفا ، الروائح ، الأحاسيس ، صخب الأماكن ، غدت رائحة ذاك المكان الذي يقال أنه وطنك مختلفة جدا ، رائحة لا رائحة تشعبت في كيانك ؛ لتمزجي منها تركيبة عطرك الاستثنائي ، و بروح تحد مراهقة وعدت تحديك بأن تتخذيه رفيقا ، وحين فعلت وتصالحت مع الرائحة الجديدة تجددت معك حكايا الأشياء المتهافتة ، وأمسى وطنك في عينيك وطنا ، تنتمين إليه بكل أطرافك ، الماضية والآنية ، وغدا للوطن معنى ونشيد وذاكرة بانورامية على أماكن وصداقات ومسميات وروائح أخرى ، بلا شك أحببتها وأحبتك ، بل دللتك في سفرتك أيما تدليل ..




في هذه الرحلة أدركت معنى الوطن الحقيقي ، الوطن الذي ننتمي إليه ونحمله معنا حيثما ولدنا وكنا ، هو الوطن عينه الذي سيشرع لنا كل أبوابه ونوافذه وشرفاته في أي وقت شاء هوانا ، حتى إن كنا مكفنين في بياض موت ؛ فإنه لن يبخس علينا بشبر من لحد يحرسنا فيه ثراه حتى أفول شمس الإنسانية ؛ وإن لم تغرس نطفتنا في تربته ، وإن خبزتها بمحبة تربة أخرى .. وفي ذكرى هذه الحادثة قرأتْ بعد مدة طالت حوارا للأديبة " غادة سمان " قالت فيه : " ثمة نقطة مضيئة أسجلها للأهل في سوريا بوجه عام ، لديهم عادة تعريف الطفل ببلادة ، واعتقد إن أبي طاف بي دمشق التاريخية منذ صغري ، ضمن إطار هذا التقليد المتوارث لتربية الأولاد ، بعد انقراض عادة إرسالهم إلى البادية لتعلم الشعر والفروسية ، لقد عرفني على الطبيعة والوطن ، والماء والنار ، العنصرين اللذين صنعت منهما مادة حياتنا بأكملها تقريبا .." عادة " تعريف بالوطن " في بحبوحة الطفولة ؛ يالأهميتها ، هو أول وأهم درس على عاتق كل أسرة مسؤولية ممارستها مع أطفالهم ؛ فحب الوطن حب يتأثث بأصالة مذ نعومة الحياة في أعطافنا ..




وفي تلك المرحلة الحاسمة ما بين الطفولة والبلوغ ناهض داخلها رائحتان ، متماسكتان ، قويتان ، مترابطتان ، محبتان ، عميقتان ، كبيرتان .. كانتا تباغتانها على هيئة سؤال وظلتا ملتصقتين بها في حلها وترحالها ، كمصيران لا تنفكان عن بعضهما مطلقا : أنت عمانية أم إماراتية ..؟




وتجيب بتوضيح مفصّل تسبقها بابتسامة : أنا عمانية ، ولدت وترعرعت ومازلت مقيمة في الإمارات ..




هويتان ، حملتهما مبكرا جدا في حياتها ، تفرعا بهدوء حتى نضجا على أتم نضج ، وعلى أتم حب ، وعلى أتم انتماء ..




وطني " عمان " هو معشوق ثقيل وزنه في فؤاد الفؤاد ، في البعد يتحلى في لوعة الحنين ، وفي الأزمات يثقل وزن هذا الوطن يثقل حد كبرياء عاشق جفته الصحة في علل تواكبت عليه ، تواكب ما تواكب عليه وهو بعد قوي ، متماسك .. في نظر محبوبته ؛ كي لا يثقب بـ " آهة " الشكوى خاصرة قلبها ، قد تسقطها في نفق حزن غائر ..




وطني " الإمارات " و معشوقة غالية ، لها حكاية معها تطول كحكايات شهرزاد ، تتأبط يدها في كل فسحة ، وعندما تفرقهما المسافات في طارئ سفر ؛ تتشابك خطوط اللهفة إليها ، لتعيدها إلى مسقط رأسها " رأس الخيمة " ؛ وكم يشعرونها أولئك العابرون ، كأن هذه المدينة الشامخة بتاريخها تحتويها وحدها : " مررنا بالقرب من رأس الخيمة ، وكانت روحك في سماواتها " وآخرون من الطرافة يبلغونها : " ستزور ابنتي قريبا رأس الخيمة ، كم يسرني استقبالك لها في المطار " وهم ليسوا سوى غرباء لا تعرف عن تفاصيلهم شيئا ، لكنها كم تبتهج للطف رسائلهم في صندوق بريدها الافتراضي ، وهي الوفية لا للروائح فقط ، بل يتسامق وفاؤها الأماكن ؛ ولهذا لم يدهشها مطلقا حينما أشار - المحلل الفسيولوجي- في إحدى محاضرات تحليل الخطوط ، حين أمعن النظر في تركيبة حروفها قائلا لها : " ليلى ، تجدين مشّقة في مغادرة الأمكنة " ؛ لدرجة تدعوها أحيانا إلى ممازحة رفقتها الطيبين من حولها : جدوا لي منطقة حدودية تفصلني عن هذين المعشوقين المعذبين ، اللذين أجهداني في هواهما الشاسع ، كلوحة السوريالي " سلفادور دالي " وحياة زهرته الحمراء المعلقة ما بين لا سماء ولا أرض ..




وأعود متخوّفة انقبض من اقتراحي هذا ؛ فماذا إن وقعت في غرام تلك المنطقة الحدودية لتضيف ثقلها على ظهر قلبي .. !




في الكتابة من هي ..؟!




هكذا واجهتني بفلاش هذا التساؤل الكبير والمهم ، من هي ليلى في الكتابة ..؟!




في الكتابة ، كما في كل يوم إنسانة هي ، لكن وحدها الكتابة حملتهّا عدة هويات ، وعدة مذاهب وأديان ..




في الكتابة هي متعددة ، مجموع ، يستقيل الرقم واحد عن أصله ، في الكتابة اعتقد المصريون إنها مصرية ، وذهب السودانيون إنها شربت من نيلهم ، واللبنانيون أجمعوا على قرار لبنانيتها ، ورفيقاتها الفلسطينيات لا يصدقن سوى كونها واحدة منهن تشاطرهم نبض القدس وأكثر ، ما أكثر الأوطان التي استكانت في أعماقها ، متخبطة مع أتراحها وأفراحها ، تلك المقيدة والمحررة ، المتحضرة والمتخلفة ... تلك وتلك وتلك .. في الكتابة عالميون ، كونيون ، الآخرون ، كل رفقاء القلم وهي ..




ليلى البلوشي




الاثنين، 16 مايو 2011

ما من موهبة تمر بلا عقاب ..!





ما من موهبة تمر بلا عقاب ..!





" الرؤية العمانية "







للكلمات تاريخ طويل في تأثيرها العميق على الحس البشري مذ عرف الإنسان لغة الكتابة باختلاف أشكالها وألغازها المعبرة ، ولعل هذه الحكاية القصيرة عن رجل أعمى تؤكد لنا ذلك ، فقد جلس رجل أعمى على رصيف شارع ومعه لافتة مكتوب عليها : " أنا أعمى أرجوكم ساعدوني " ولكن المارة لم ترم إليه سوى بضعة قروش ، ومرّ أمامه شخص لم تنل إعجابه العبارة ، فأخذ لوح الأعمى دون استئذان منه وكتب عبارة أخرى وأعادها إلى مكانها ومضى في طريقه ، بعد قليل شعر الأعمى أن قبعته بدأت تمتلأ بالنقود وأدرك أن شيئا قد تغير ، فسأل أحدهم عن العبارة المكتوبة على اللوحة ، فقرأ المحسن العبارة التي كانت تقول : " نحن في فصل الربيع ، لكنني لا أستطيع رؤية جماله " ..




إنها حكاية كلمات أكثر من كونها حكاية رجل أعمى ، بضع كلمات جعلت من المتشرد في موضع الاحترام والتقدير والتعاطف من الآخرين ، ولهذا لم يفاجئني مطلقا حينما تناهى إلي حادثة " قطع اللسان " التي تعرض لها مؤخرا الشاعر اليمني " وليد الرميشي " بعد أن خطفته جماعات مجهولة ، أقدمت على احتجازه وقطع لسانه وإلقائه في شارع تعز وسط العاصمة صنعاء ، وذلك في حادثة تعد الأولى من نوعها في تاريخ اليمن ، في ظل تواصل مسلسل الاعتداءات ضد الشعراء والمثقفين اليمنيين ، حيث سبق وأن تعرض عضوا اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الشاعر " محي الدين جرمه " والقاصة " بشرى المقطري " للاعتداء بالضرب المبرح في إحدى الساحات بالعاصمة صنعاء ، كما تعرضت الأديبتان " هدى العطاس " و" أروى عثمان " للاعتداء في ساحة التغيير ، وهو ما دفع الأمانة العامة لاتحاد الأدباء إلى إعلان التضامن الكامل مع هؤلاء الكتاب ، وإدانة كل ما يتعرض له الأدباء والكتاب والصحفيين ..




هذه الاعتداءات التي لوحق بها الكتاب اليمنيون ، هي عينها التي لوحقت بها مئات بل آلاف الكتاب والشعراء والرسامين والصحفيين ، بل حتى حاملي كاميرات كحادثة المصور القطري التابع لقناة الجزيرة الذي لقي حتفه في ليبيا على أيدي كتائب القذافي ، وبتدوير الذاكرة سنجد حشدا من الأسماء في تاريخ الكتابة فقدوا أرواحهم في سبيل إعلاء كلمة الحق التي يريد جماعات معينة تواريها خلف قدر مدلهم ، فالفيلسوف " سقراط " الذي كان نصيبه سم الشكران الذي تشربه ومات ، ظنا من قاتليه أن بموته تموت الفلسفة ..! والكاتب " عبدالله المقفع " الذي ضربت أصابعه حتى تشنجت ، فلم تعد صالحة للكتابة ، والصحافي اللبناني " سليم اللوزي " الذي وجد مقتولا وقد دس القتلة أصابعه في فمه بعد اغتياله ، فالأصابع هي التي كانت تكتب .. ! اغتيال " غسان كنفاني " ؛ لأنه كان فحلا في الكتابة ..! والرسام الكاريكاتوري " ناجي العلي " وهو أول شهيد للكلمة المرسومة في العالم الأجمع ، وإلى هؤلاء يضاف أولئك الذين زجّ بهم في زنازين مجهولة لا يعرف الطريق إليها إلا الله وحده ..!




إن ظاهرة الاعتداءات في تاريخ الأدب والكتابة يضعنا أمام تساؤلات مهمة : هل بإبادة الجسد تبيد الكتابة ..؟! هل ينتهي مطاف الكلمات حين يفنى صاحبها شهيدا في سبيل قضية تبناها ..؟! هل كفّت المحابر عن النزيف في سبيل مطالبها المشروعة ..؟!




لم يحدث شيء كهذا ولن يحدث ، فمازلنا نتشرب تعاليم " سقراط " ومازالت روح عبارات " غسان كنفاني " تهيم في أراضيه المحتلة ، لكن ما حدث أن للكلمة أصبح ثمن ، ما حدث أن الكلمة ستظل ملاحقة من قبل كلاب عنيفة لتطمس حقائقها بوحشية ضارية ، والحقيقة المثلى هي أن قيمة الكلمة أصبح يوازي قيمة الخبز جنبا إلى جنب ؛ فكلاهما يحمل التأثير نفسه ؛ ولعل تاريخ الثورات العربية عزز هذا التوازي بشكل كبير عن طريق لغة الكتابة ورسم الشعارات والفن الكاريكاتوري التي غدت طعاما معنويا يغذي الفكر والروح كما يغذي الخبز الجسد تماما ..




و كما يلي الربيع الشتاء فلا شيء يمكن أن يتوقف ، وطريق المحارب بلا نهاية ، وبعد أن يصل إلى مراده فإنه يجد تحديا آخر ، ومن المهم البدء من جديد واستخدام كل شيء تعلمه في غمار تحديه للعالم ، واضعا نصب عينيه هدفه الأسمى مدينته العظمى تلك التي يسود فيها العلم والحرية والإخاء والعدل ؛ وهذا ما لم يدركه سفاحي الحروف والكلمات طوال تلك القرون ..!




نحن أمام حقيقة كبيرة وكاشفة بأبعادها كما أقرها الكاتب " محمد الماغوط " قائلا : " ما من موهبة تمر بلا عقاب ..! " ؛ لهذا يوم طولب بجلد الشاعر " والت ويتمان " أمام جمهرة الناس ؛ عقابا له على ديوانه " أوراق العشب " اكتفى ويتمان بالقول : " توقعت الجحيم ونلته " ..!




وعلى هذا ، فإن كل كاتب سيجر ضريبة عباراته خلفه ؛ وبحجم كلمات الكاتب تقدر حجم محاكمته ؛ وهذا أساس الاختلاف بين كل كاتب وكاتب عبر الحياة ، صراع الكتابة لاهث في بقاعات شتى ؛ أفلم تكلف رواية " آيات شيطانية " لسليمان رشدي رقبته في حقبة ما ، كما فعلت الكلمات مع الروائي الايطالي " روبيرتو سافيانو " ؛ ليكون مطاردا من المافيا في كل بقعة من العالم حتى الآن .. ؟!




الكتابة صراع جبار ، لا يطيقه إلا المؤمنون بحرية أنفسهم قبل إيمانهم بحرية الكتابة ؛ فلا إيمان حقيقي إن لم ينبثق من تربته الأصلية ، نحن لا نستعيد الإيمان من الآخرين كما الحرية تماما ؛ لهذا فالمطاردة تظل دائرة طالما ظلت مجتمعات تسحب أكسجين الحياة الكريمة من أفرادها ، المطاردة مستمرة طالما عالمنا خاصة - العربي - يقف على أرض هشة يحكمها مصاصي الحرية والعدالة والإنسانية قبل أن يكونوا مصاصي دماء بشرية ..!




والكاتب مناضلّ ، قدّره أن يدفع جسده ما صاغه بدم فكره وإيمانه بمبادئه في الحياة ، التي خلفت له جلادين - فارغي الوفاض - سوى من قلوب حاقدة وعقول متجبّرة لا تدين سوى بدين هواها المستبد وكل من يصفق لمنافعها الشخصية فقط ..!







ليلى البلوشي




الأحد، 15 مايو 2011

ليلى البلوشي في حديث عن المشهد القصصي الجديد في الإمارات






المشهد القصصي الجديد في الإمارات




عثمان حسن / جريدة الخليج القسم الثقافي




14 / 5 / 2011م




الإطلالة على المشهد القصصي الجديد في الإمارات يحمل في طياته كثيراً من الأسئلة القلقة لجهة تعدد مصادره وتنوع تناولاته وانشغالاته، ولجهة ما يحمل من هموم خاصة بوعي الجيل الجديد الذي اختزل العالم في بوتقة مشكلاته الكونية من سياسية واقتصادية واجتماعية، وأيضاً بتلك المعرفة التي ازدحمت إلى حد طرح الأسئلة المقلقة .







وإذا كان هذا الاستطلاع اقتصر على بعض الأسماء الجديدة من القاصات الشابات، فإن الموضوع على تشعبه يكاد يلخص مرحلة أخذت حيزاً كبيراً من اهتمام المبدعين بصرف النظر عن جنسهم سواء كان الكاتب رجلاً أو امرأة، وهو ما التفتت إليه الناقدة الأكاديمية زينب الياسي التي قدمت مداخلة مهمة في نهاية الاستطلاع .







تروي ليلى البلوشي تجربتها منذ إصدار مجموعتها القصصية الأولى “صمت كالعبث” التي صدرت قبل ثلاثة أعوام في مصر، بنوع من التشويق فتؤكد أن هذه المجموعة كانت تحمل حال إعدادها هاجساً يمر به معظم الكتاب الشباب، وهو هاجس إصدار “كتاب”، وقالت اعتلى هذا الهاجس فكري كما توسمت مسألة مكانة هذا الكتاب الذي أصدره وقيمته وسط زوبعة تأليفية إصدارية تضخها أقلام جمة، ولهذا حينما طبع الكتاب اتبعت طريقة الكاتب “بورخيس” حينما نشر أول إصدار له في حياته، بتوزيع معظم النسخ مجاناً، بوضعها في جيوب معاطف الموظفين والعاملين في المكاتب، وفي يوم سأله مديره الذي وجد في جيب معطفه كتاباً: لا تقل إنك تبيع هذا الشيء؟ فرد عليه بورخيس: لست مجنونا، كي أبيع كتابي الأول .




وتضيف البلوشي “في الكتابات الأولى، غالباً ما يضخ الكاتب معظم القضايا التي كانت تلح عليه، أو يسعى حثيثاً في رحلة البحث عن أجوبة لتساؤلات أرقت عالمه، والوسائل تتفاوت عن طريق جرعات من الخيال يتكئ عليها الكاتب، كي يضع أفكاره أو حفنة من المبادئ أو فضاء فلسفياً مشرعاً هو الآخر على فضاءات عدة لا نهاية لها” .






وتعرّف البلوشي الفن القصصي فترى أن الزمن سيكشف للكاتب أن الفن القصصي هو فن اختزال، يطرح قضية ما، من دون أن يضطر إلى تقديم حلول أو نتائج أو حتى تحليل موسع، بل يكتفي في كثير من الأحيان بالدوران حول القضية كأنها متاهة من دون أن تقوده إلى نهاية النفق، وهذا ما يربك القارئ، وما يثير فيه انفعالات متكاثرة، تعطّش لديه مغزى العمل الفني المعروض عليه، وعندها تكون القصة قد فعلت مفعولها فيه، وهو ما يريد الكاتب أن يصل إليه من وجهة نظري الشخصية .





وتعتقد البلوشي أن “حياة الكاتب هي عبارة عن مخزون غني بالتفاصيل، ما يعيشه الكاتب على أرض الواقع سرعان ما يتحول تلقائيا إلى خبرات، تتكاثف فيه، تعصره، تقوّلبه، تكسره شظايا ثم تعيد لمّ نفسها، مثله مثل أي شخص لديه مخزون تجارب، لكن الفارق هو أن الكاتب يوثق تجاربه في سجل كتابي، بينما العادي يكتفي بعبورها لقسط من الزمن، ثم تنتهي ليكمل من بعدها مشواره في الحياة كأن شيئا لم يكن، بل إن علاقة الكاتب مع الأشخاص ليست كعلاقة الأشخاص العاديين بأشخاصهم، فالأشخاص في قائمة حياة الكاتب هم “حقول تجارب” إن عني بذلك على وجه التحديد أم لم يعن” .





وتضيف البلوشي: “ليست القراءة وحدها تكفل للكاتب ثقافته عن الأشخاص، بل غوصه في خضمهم، التقرب منهم، التحدث معهم والنزول إلى مستواهم، فالذي يكتب عن المعدمين لا يكتب عنهم بالطريقة الجيدة، إلا إذا نزل إلى مستوى تلك الحالة الشخصية التي يسجل عنها شواهده، وتضيف “ألم يقر البعض بأن المرأة الكاتبة إن لم تتحرر من دائرة جنسها، فإنها لن تستطيع الكتابة عن الرجل . .! نعم، الأمر على هذا النحو المرأة الغارقة في عالمها لا يمكن لها الكتابة عن الرجل إلا بالتبحر حول طبيعته وسماته وخصائصه التركيبية، تتحرر من ذاتها وتتقمصه والعكس صحيح، كما حدث مع “غوستاف فلوبير” حينما كتب “مدام بوفاري”، وكما عايش “ليو تولستوي” رائعته “آنا كارنينا” وهو يعرضها لقرائه في صورة مشوقة، لدرجة يصعب على المرء التصور أن “آنا كارنينا” كاتبها رجل وليس امرأة” .






أما بشأن القواسم المشتركة ما بين جيلها والأجيال السابقة، فترى البلوشي أنه يمكن القول إن القصة تأتي منكّهة بتوابل، وتوابل اليوم تختلف عن توابل الأمس، فالعالم تتضارب فيه الاختلافات، وهذا يعكس هويتين مهمتين يتكون منهما كيان الإنسانية هما المجتمع والأفراد المنتمون فيه، واليوم كل شيء من حولنا ارتدى طابع التغيير حتى أطعمتنا لم تعد كما كانت في عهدها السالف لا في مذاقها ولا في رائحتها، وإن اتبعنا طريقة الإعداد والمقادير عينها، وهنا سيقف الفرد من الجيل السابق معترضاً واجماً على الطبق الأصيل الذي فقد أصالته العتيقة التي طالما تعودّ عليه لسانه، والاعتراض ليس منه على وجه الخصوص، بل من ذاكرته التي راكمت ما راكمت من سنوات فظل وفياً يحن ويتقبل فقط ما توافق عليه جيله، في المجال القصصي من الممكن أن أتبع أسلوب القدامى في كتابة نص قصصي فغالبا عناصر القصص هي نفسها، لكن لا ولن يأتي على الشاكلة نفسها، لاختلاف الرائحة والذاكرة، فلكل جيل رائحته وذاكرته، ومن هذين العنصرين تتشكل عوالمنا الداخلية انطلاقا إلى عوالمنا الكتابية” .





عائشة عبد الله التي صدرت لها مؤخرا مجموعة قصصية تحت عنوان (اعتراف، اعتراض، رجل) التي تبحث في هموم وقضايا الإنسان الذاتية، كما سبق لها إصدار مجموعة بعنوان (أوراق امرأة) اعترفت بأنها استفادت مما كتبته القاصات الإماراتيات الأوائل على الأقل ما نشر في غضون السنوات العشر الماضية، وهي تؤكد أن تجربتها في الكتابة وازنت بين حفاظها على الموضوعات والثيمات التي سبق طرحها، ولكنّ ذلك تم توظيفه أو إسقاطه على الواقع الراهن وبوعي من تجربتها الشخصية في تناول الموضوعات وبناء الشخصيات واختيار الحبكة والحلول الدرامية، كما أكدت عبدالله أن الهموم الجمعية لا تزال من الموضوعات التي تحفز الكاتبة المرأة على تناولها، وأن التحدي الجديد يستوجب عدم الاستغراق في المحلية، التي كانت ضاغطة “ربما” في سنوات سابقة، وقالت آن الأوان للاستفادة من هامش الحرية المتاح .






أما عن انشغالاتها الجديدة فهي تدور حول موضوع طريف يتعلق بمشروب القهوة، الذي تعتبر أنه بمثابة “هوس” يسيطر على الأغلبية العظمى من الناس وبالأخص الكتّاب، حيث ستقدم صورا متعددة من القصص المصاغة برؤية جديدة في هذا المجال .





في السياق ذاته، ترى صالحة عبيد أن الزمن الحالي قد اقترح موضوعاته بصورة طبيعية فنحن قلما نجد أدباً معاصراً لا يكترث بالتفاصيل البسيطة التي تتعلق بهموم الناس المعاصرة، بل يجب على الكاتب والقاص بوجه خاص أن يتمتع برؤية ثاقبة تجاه ذلك الجانب المخفي في مجتمعه، أما بالنسبة لاشتغالاتها هي، فترى عبيد أنها معنية بترجمة مثل هذه التفاصيل في قصصها، كما تلتفت لما سبق تناوله من موضوعات اجتماعية ولكن، بمعالجة مختلفة وبأسلوب جديد يعير اهتماماً أكثر لبنية السرد، وترى عبيد أن المعالجة القصصية تختلف عما تعالجه الأجناس الأدبية الأخرى مثل قصيدة النثر، فهي تهتم بالحادثة وتغوص في تفاصيلها وتتحرى أن تكون المعالجة بلغة جديدة، من وحي قراءاتها لمدارس عدة، فاللغة بالنسبة لها ليست جامدة ويجب أن تتطور، فهي استفادت من تقنية الصورة التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة وغالبا ما تقترح أكثر من توجه تجريبي في صياغة القصة، وفي إطار رصدها للأحداث المعاصرة بوصفها أحداثاً جديدة في الساحات العربية فإن عبيد ترى فيها ما يمكن أن يشكل مادة قصصية تستثمرها في كتاباتها اللاحقة .


وقد أصدرت عبيد مجموعتها القصصية الأولى “زهايمر” عن مشروع قلم كما تعد لواحدة جديدة ستصدر قريباً .





وتعبر القاصة مريم الساعدي عن وعي مبكر في كتابة القصة، ويشعر من يقرأها بأنه أمام كاتبة مثقفة معنية بتناول التفاصيل في هامش إنساني غير محايد، ومثل هذا المنحى الفلسفي بدا جلياً في مفتتح مجموعتها القصصية (أبدو ذكية) حيث قالت “ما هذه الحياة سوى سطح أملس هائل، نمضي العمر محاولين السير عليه بثبات واستقامة، فإذا بنا نقضي الوقت منزلقين متدحرجين متسلقين . . إلخ) .





(أنا والكتابة) واحدة من مقالات مريم الساعدي المنشورة على أحد المواقع الإلكترونية تقول فيها: (الكتابة . . . هي المكان الوحيد الذي أعرف إني أستطيع أن أكون فيه على حقيقتي . من دون رتوش، من دون أقنعة، من دون محاولات لأن أبدو أجمل لأكون مقبولة ومحبوبة ومرغوبة، في الكتابة أكون كما خلقني الله من دون أن يجعلني هذا شخصاً منبوذاً، مترهلاً، صادماً وخارج السياق ومن دون أن أهتم لو جعلني كذلك .أعتقد من المهم جدا أن يجد الإنسان مكانا ما يستطيع فيه أن يكون نفسه، فقط نفسه من دون أن يتلفت في كل الاتجاهات خوفاً من عيون تحدق مستنكرة أو شفاه تُقلّب مستهجنة، بالنسبة لي وجدت الكتابة مكانا أنسب، ولكن ما أهمية أن أكون نفسي بالنسبة للقارئ، ربما فقط من خلال كينونتي على الورق يجد القارئ نفسه أيضاً، وأعتقد هذا أمر بالغ الأهمية) .

الثلاثاء، 10 مايو 2011

حين يكون الحاكم مثقفا ..!



حين يكون الحاكم مثقفا ॥!



" جريدة الرؤية العمانية "



عرفنا فيما عرفنا ؛ والأنباء بهولها ، العالمية منها والمحلية ، بفرعيها الفضائي والأرضي تشع حول رجل نال عن استحقاق ألقابا متكاثرة كالجراد ، ولعل من أشهرها من - وجهة نظري الشخصية - لهذا العام هو لقب " أكثر شخصية دكتاتورية دموية لعام 2011م " ..!
ولا أدري لِمَ نوبل لَمْ تخصص لهؤلاء المستثنين في أفعالهم ، جوائزها المعترفة بها في أصقاع العالم ..؟!
فكم هؤلاء أحوج من غيرهم بكثير لمثل هذه الجوائز التي تنفخ مقاديرهم الحقيقية في قلب الجمع ، فذاكراتهم تثمّن الأمور بالكسب الثقيل ، واللقب الأعلى ، والجائزة الأعم ..!
عرفنا فيما عرفنا أن العقيد " القذافي " ، بعد أن احتشد وجرّ خلفه ما جرّ من أعجب وأعلى الألقاب رنينا في الكون ، لم يكتف بما أضافته إليه ماضي تلك النياشين ، ولم تشفع طموحاته كتاب واحد رغم قدسيته ، المدعو بجلال قدره " الأخضر " ؛ فها هو يفتح النار على وجه مشتعل من جوانبه التي ألهبها أكثر بقنابل وصواريخ ومدرعات موجهة فوهتها لرأس الشعب الليبي العازل بشبابه وشيوخه ونسائه وأطفاله الرضع ، ها هو اليوم يذّكر العالم أنه كان " كاتبا مثقفا " ؛ فلقد قدم للعالم في عام 1993م كتابه القصصي المعنون بـ " القرية .. القرية .. الأرض .. الأرض " ، لاحظوا أن اسم المجموعة طنانة على وزن كلماته الشهيرة " زنقة زنقة .. شبر شبر " ، هذا الكتاب الذي نفخ فيه النقاد في وقت صدوره حتى غدت موهبته خارقة بحجم صهريج ضخم ، ومن تباهي كماله أقعد على ظهر القمر ، بينما تحاط به وصيفات من النجوم البراقة ..!
ولأن الأديب " القذافي " صاحب الحسب والنسب والمجد والثورة والمؤلف والمثقف ؛ فقد ترجمت هذه المجموعة إلى لغات عالمية عدة ، دون أن يفوتنا إخباركم أن رجلنا من كرمه الطافح المشهود به في محافل ممتدة بامتداد خارطة هذا العالم ، ترجم تلك الكتب على نفقته الخاصة ووزعها ..!
ويا لها من مصادفة ، حين نعلم أن الزعيم الصيني " ماو تسي تونغ " كان هو الآخر شاعرا مرهف الحس ، و" زين العابدين " كان فيلسوفا وصاحب فكر ونظريات وثقافة ..!
هذه الجوقة وغيرها ؛ ممن جامعوا وخالطوا ما بين " الحكم السياسي " و" الفكر الثقافي " ؛ كيف كان العلم ومعارف الفكر في عهودهم ..؟! هل كانت حالة الفكر والأدب بشتى فنونه في أتم وأكمل حالات انتعاشها ..؟!
لدرجة يمكن أن تعيدنا إلى عهود رخاء العلوم والمعارف والفلسفة مما كان عند الخلفاء العباسيين والأندلسيين حينما كان وزن الأدب يماثل وزن الماس بل و أغلى ؛ " بغداد " زمن العباسيين وحكامهم ؛ كانت أهم مدينة في العالم العربي ، إذ بنيت بها مئات المساجد وعشرات القصور الفخمة وتكاثر بها التجار والصناع ، وكان لكل طائفة منهم شارع خاص أو سوق خاصة ، فهذا سوق العطارين ، وذاك سوق الصيارفة مستبدلي النقود ، وذاك سوق الوراقين ، وهذا سوق بائعي الحلى والطرف المعدنية وغيرها ، وأمّها المغنون والمغنيات ، ونزلها الأدباء والعلماء من كل صنف وعلى كل لون ، فزخرفت الحياة هذا في عهد " المعتصم " ، بينما في عهد " المأمون " الذي كان شغوفا بالفكر والمعرفة ؛ غدت الدولة العباسية من أزهى العصور ، ولم يكد يستقر مقامه في بغداد ؛ حتى جعل من مجلسه ندوة علمية كبيرة يتحاور فيها ويتناظر الفقهاء والمتكلمون والعلماء من كل صنف ، وكان يستدعيهم من أقطاب مختلفة فلم يكن يعيبهم اختلاف الآراء والمذاهب والمثل ؛ بل كان ينعش فكرهم ويثري أفئدتهم ، وفي عهد " الرشيد " أقامت الدولة مكتبة ضخمة هي دار الحكمة وعنيت فيها أشد العناية بالكتب المترجمة التي تحمل كنوز الثقافات الأجنبية ، وكانت جامعة كبرى لطلاب العلم والمعرفة ..
لأن حكامهم آمنوا بأهمية العلاقة ما بين تطور المجتمع والمثقف والمفكر والعالم في مجتمع واحد تتوحد فيه قيم المعارف المتباينة كأنهار متفرقة في مجاريها فتصب في محيط واحد ويغتذي من خيرها كافة الخلق على اختلاف مشاربهم ، تلك المعارف التي شرعت لها جموع الأبواب والشرفات والنوافذ ؛ كي تستنشق هواء نقيا ، كفيل في معافاة رئاء الحروف وانتعاش أدمغة الكلمات ، ودفع العبارات بحيوية في عمق النفوس ..
لكن المدهش حقا ؛ بالوقوف على أحوال فكرنا العربي وثقافتها ؛ فلن نرى سوى خرائب متداعية ؛ تثبت حقيقة مفزعة هي أننا أمة تتراجع زمنيا إلى الوراء في تخلفها الفكري والديني والاجتماعي والسياسي ..!
فنحن لم نشهد في عهود " القذافي " أو " ماو تسي تونغ " وغيرهم ؛ هؤلاء الحكام السياسيين المثقفين الأدباء سوى ركلا لكل ثقافة من شأنها أن تعلي من همم الشعب ، وتثري من حماسة الشباب وتناهض قيم المجتمع بكافة طوائفه ، لم نجد سوى مشاحنات ، وجدالات عقيمة عن اختلاف الشعوب في وطن واحد بمذاهبهم وقبائلهم ، وكأن هؤلاء كان يحضّرون ثقافاتهم من أجل توسيع هاوية الاختلافات بين أبناء الشعب الواحد ..!
وبما أن الوضع الليبي على أشده من الاحتراق ؛ فقد حشدت مجلة " بانيبال " ملفا خاصا في عددها تناولت فيه مدى معاناة الكتاب الليبيين الذين زّج معظمهم في سراديب مظلمة ، استطالت أعوام حبسهم من عشر إلى عشرين عاما بتهمة " قلم حق " خاصة الكاتب " راشد السنوسي " والذي لقبه البعض بـ " أمير الثورة الليبية " وهو شاعر كان سلاحه مداد ، حيث رأى فيه نظام القذافي سلاحا خطيرا يهدد وجوده ، فكان القرار بعزله وسجنه ومحاولة قتل قلمه ..!
" حكام في مرتبة مثقفين وأدباء " ؛ يالها من نكتة سمجة فاغرة السخرية ..! وهم أنفسهم كانوا أعداء الفكر والثقافة ، سهام مرمية بمهارة إلى فؤاد كل مثقف ، كان يناشد قلمه صوت الحق والحرية والكرامة وأحقية كل مواطن في خبز شريف وإرساء العدالات الاجتماعية ، وعلى مدى حكمهم المغبون طوال تلك السنوات ما تزال أصوات الحق نفسها تتعالى في مشارق الأرض بمطالب ظلت بذورا ما شامخت أشجارها بعد ؛ فكلما استطالت الحياة فيها قليلا قطعتها فؤوس حاقدة ، فؤوس جنّدت لأداء هذه الخدمة خصيصا دون أن يشغلها أي شاغل سواها ؛ فكم كانت شعوبهم أسلاخ جثث مدلية من قطافها فقيرة اللحم والكرامة والعدالة والحرية والثقافة ؛ يصدق عليهم قول شاعرنا العربي " نزار قباني " الذي قال : " مضت قرونٌ خمسةٌ / ولا تزال لفظةُ العروبة / كزهرة حزينةٍ في آنية .." ..!
ولا مثال أقرب من دولة شاطرت بنبل ما بين سياستها وفكرها المثقف في عصرنا الحاضر المعاصر من إمارة " الشارقة " العاصمة الثقافية لدولة الإمارات العربية المتحدة ، فهذه الإمارة تعطي لكل عابر وزائر ومقيم ومواطن شكلا من أشكال الثقافات الممتدة المتجذرة بعمق في أراضيها ، تحت راية حاكمها صاحب السمو الشيخ " سلطان بن محمد القاسمي " عضو المجلس الأعلى حاكم إمارة الشارقة الذي كرم مؤخرا الفائزين بجائرة الشارقة للثقافة العربية في دورتها التاسعة بباريس ، هذه المدينة التي زاوجت ما بين السياسية والثقافة في أرض واحدة ، في عصر قلّ أن نجد حاكما عادلا ما بين فكره المثقف وما بين فكره السياسي ، لكن تجربة الشارقة ، وهي المدينة التي تهتف مرحبة لكل زائريها قائلة لهم بحب : " ابتسم وأنت في الشارقة " ، ولا نملك سوى أن نبتسم في وجه مدينة حاضنت بصدق كبير وإيمان عميق الفكر والثقافة الكرامة والحرية والعدالة والإنسانية ..
ولا نقول : الشعب يريد حاكما كاتبا مثقفا ..!
كي لا نزيد الكال ما لا يحتمله من مطالب ، بعدما تعثّر أكثرها في مصب الوعود ..
بل نقول : الشعب يريد حاكما يحترم الفكر والثقافة ..
بلا مصادرة ، ولا حجب ، ولا حبس على ذمة كتاب ، أو نشيد حق ، أو معزوفة عن الحرية من مزمار شيخ كبير وسط حشد من الأطفال ..!

ليلى البلوشي

السبت، 7 مايو 2011

عاهة صينية تجتاح عشاق القذافي !2





عاهة صينية تجتاح عشاق القذافي !2


" جريدة الرؤية العمانية "



كما عرفنا أن للزعيمين " ماو تسي تونغ " و" القذافي " ولاءات مفصّلة من أمزجة أهوائهم ، التي لا يمكن نعتها سوى كونها " مجنونة " و" مهلوسة " وكما توصل علماء النفس أن الشخص حينما يعاني من عاهة ما في صفة من الصفات ؛ فإنه غالبا ما يقوم بإسقاط عاهته على الذين من حوله ، إنه يسقط ما يتجشمه من شعور مستبد على الآخرين ، كيفما كانت النتائج ؛ فـ" لا وعيه" لا يجس هذه الإسقاطات ، سوى كونها وسائل تعامل لا اختلاف بينها وبين غيرها من أساليب التعاطي مع الناس ॥!

ولهذا ما يبديه الموالين لهؤلاء إنما يدعى بالوصف الدقيق بـ " الهوس " الموروث من السابقين ؛ هوس رموز تغلبت عليهم " أناهم " ؛ لتكون هي الآمرة والناهية ، وهي الثرية والمرثية ، وحتى يتحقق هذا ؛ فإن على الآخرين أن يقتلوا " أناهم " ذاك المخلوق الصغير الذي يردد داخلهم في كل مرة هوس " أنا " ؛ يسحق أناه كليا ، فهي ليست ملكه ، إنها ملك " أنا القذافي " أو " أنا ماو تسي تونغ " ، كما أبدت عند الصينيين في عهده السالف ..!
ووزن تقلص " أنا القذافي " في دواخلهم يبعث مخاوف عن خواء يستملكهم إن كفّوا عن الإيمان به لفظا وفعلا ؛ فليس من السهل عليهم بعد أن تشربت تعاليمه في دمهم ، وتنفستها رئائهم أن يربضوا هامدين على خواء عميق ، يؤكد لهم عن موتهم الكلي متنازلين عن حقوقهم كبشر يملكون قلوبا وعقولا وضمائرا ؛ فهم لم يتعودوا على توظيفها وتوجيهها سوى لرجل واحد وتآلفوا مع الأمر على هذا النحو منذ سنوات ..!
في ترديد واسع وشامل طوال تلكم اثنان وأربعون عاما ؛ نشيد وطني مقدس يعززه تعاليم كتاب أكثر تقديسا ؛ تلك الجماعات وهي خليط من القبائل ، مترامين في صحراء لبيبا ، في خيامهم وفي أنفار من البيوت استحدثت من الطوب في عهد الألفية ، سقوف تحمل الوجوه نفسها والطراز العتيق نفسه في عهد يفكر فيه الغرب بتحويل مريخ كوكبا للعيش ؛ ولبيبا ما تزال صحراء مترامية بلا اعمار حقيقي ، وعجلة التطوير مبتورة نسيها صاحبها في حضرة تعاليمه وغفل عنها شعبها في ترديد أناه المتعالية ، التي تستنفر التقديس منهم في صباحها ومسائها ..!
وانقشعت الحقيقة الصينية عن الصينيين ، حينما مات زعيمهم " ماو " ؛ ليدركوا مدى المهزلة الوحشية التي قبعوا في مستنقعها ، حتى جعلت الكثيرين ممن تكالبت عليهم مشاعر من الخزي والمرارة والأسى بتركه خلفه دياره إلى وطن منفي ، وطن يطهرهم أكثر مما تنسيهم مآسيهم في عهد الظلام ..!
إن الخاصية المشتركة ما بين شعبي " ماو " و" القذافي " ؛ أن كلاهما فرضا الطاعة والولاء بطرق تمويهية ، غاياتها الكاشفة في نظر الشعبين هي في سبيل رقيهم ، ولكن غاياتها المتوارية الحقيقية هي في سبيل مصالحهم الشخصية المريضة بعاهة الأنا - وحده بلا شريك - ، لهذا اكتفى الشعبين طوال سنوات ببذل الولاء المقدس ؛ فأهدافه نبيلة كما يرون ، لهذا كان كل تمرد يصدر من جوقة ما ، الويل وحده كان يترصدهم وسجن " بوسليم " وغيرها من السجون المدفونة تحت جوف الأرض كفيل بتحويلهم إلى جثث ؛ ليس في ستر الليل بل في أصبوحة الظهيرة حيث الجميع على أتم إيقاظ ؛ كي يشهدوا مهزلة إعدامهم عن وجه الأرض ..! وهو تنبيه في غاية الشفافية ؛ لأولئك المتفرجين المرعوبين في هيئة دم طازج على قطع لسانه إن جسر - لا سمح الله - على مده خارج فمه بالحدود التي وجبتها السلطة ؛ وإلا فهو إرهابي ، عميل خائن ، خارج من أنظومة التقديس السامية ، وملعون من صكوك الغفران ..! ولهذا عندما طالب الشعب الليبي بمطالبه ، كان بدهيّا أن ينتصب القذافي في باب عزيزيته يلقي خطاباته التهديديه لسحق الشعب العاصي الخارج عن ملته ، فالمطالب بل المطلب الأساسي والفعلي الذي يجب أن يفرض ويبقى أبديا هو تقديم الولاء له ، لكل ما يخصه وحده ، شعب ليس من حقه سوى اكتفاء بعبادة حقوق وليّ نعمتهم ..!
ويبدو أن جيلا فتيا في ليبيا ، بذرة نسيها ملك ملوك إفريقيا في تربة مأهولة بالأشواك ؛ حتى اطمئن أن أحراشه السامة كفيلة بوأد تلكم البذرة النقية ، التي انبثقت من دم شيخ المجاهدين " عمر المختار " ، من " بنغازي " مدينة الشهيد انطلقت صرخة الحرية الأولى ، واستبان الحق ، جيل من أحفاد عمر المختار تسلحوا بالإيمان ، قبل أن يتخذوا من حواسيبهم أسلحة ، لتعينهم على رسم خريطة النصر والمقاومة الضارية ..
هؤلاء الذين لم يتمكن " أنا القذافي " من تسميمهم بأفكاره ، لم يثقبهم بتعاليمه كما ثقب من قبل الأولين تحت نير الرعب الوحشي والظلم ، جيل وعى جيدا أن " الله " – جلّ وعلا – وحده الذي يستحق التقديس عن جدارة ، وعن حب ، وعن إيمان ، وعن تضحية ، لهذا ما تزال ليبيا تغسل أرضها المترامية بدمها الذي يطفح وما يزال يطفح فيضانا ، وما يزال " أنا القذافي " يلوح عليهم بشياطينه ؛ وهو من باع أناه للشيطان ، بعدما تيقن أن العالم بأسره كشف سر " أناه " ، التي تكرر صداها بصوت متحشرج لا يخلو من كلفة التعالي المتعجرف ؛ ليؤكدها مرارا : " أنا أنا أنا ، أنا هنا " ..!
علا وعسى هذا التكرار لا ليعلم الشطار ؛ فهو استباحهم وقضم لحومهم الطاهرة نيئة بدمائها بلا وخزة ضمير ؛ بل ليستعيد تلكم الأرواح التي تمردت عن صفوفه التضليلية من وباء عبوديته ، واستطالت بحرياتها وكرامتها آماد السماء ، بينما يكتفي مهووسوه الغاوين مصفقين من وراءه : " الشعب يريد بقاء معمّر العقيد " ؛ لأن " أنا القذافي " أحكمت هواها على هواهم ؛ فحذفوا من قائمة نشوزهم ما هو مقدس أصلا لفظتي " الله " و" ليبيا " بس ..!
دون أن يعقد الكون هذه المرة حاجبيه ؛ فلقد بددّتها شمس الحقيقة .




ليلى البلوشي

الثلاثاء، 3 مايو 2011

عاهة صينية تجتاح عشاق القذافي ..!1





عاهة صينية تجتاح عشاق القذّافي 1!



جريدة الرؤية العمانية ، تتمة الجزء الثاني من المقالة يوم الأربعاء




لا تكتّفوا أيديكم على قامات رؤوسكم ؛ حين يتراءى أمام صدمتكم مشهد سجود أحد الموالين للقذافي أمام صورته المؤطرة ، ولا تضربوا أخماسا بأسداس حين تهتف تلكم الجوقة : " معمر وليبيا وبس " ، ثم من أجل تطبيل الجملة فقط بنغم متناسق ليصدح جرس كلمة " معمر " على نحو أوضح على تلك الألسنة الملعلعة التي تتفرقع مبتورة في فضاء طرابلس ؛ نكّهوا الجملة بلفظة الجلالة " الله " فتغدو : " الله ومعمر وليبيا وبس " والباقي على - مفهوميتكم - يا من أنتم خارج طرابلس ، وخارج ليبيا ؛ إما " خس " ، أو " خيار " أو " ......" ؛ رشحّوا أنتم الخضار أو الفاكهة التي تتذوقونها ، هذا باللفظ الواضح ، أما اللبيب الذي بالإشارة يفهم فسوف نخاطبه بالضمني ؛ فهنا تعني الجملة في خفاء معناها : " رشحّوا الإهانة التي تلائم مقامكم الوضيع " ؛ في أحداق الثاقبين من الموالين للعلم الأخضر ॥!




ونواصل بعد ذاك الفاصل الهتافي أعلاه ؛ لتشمر الحكاية عن حقائقها المخبأة مع شاهد عيان صحفي يدعى " غيث عبد الأحد " ؛ الذي اعتقل مع صحافي برازيلي زميل له يدعى " اندري نيتو " ؛ كانا بمعية الثوار حين شقوا دربهم إلى منطقة الزاوية ، ولكن لأن الكتائب كممت الطرق بلغم سيطرتهم ؛ اضطروا للانحراف نحو صبراته ، والتي هي الأخرى كانت تئن جريحة تحت نير العلم الأخضر ، افترق الصحفيان عن الثوار الأحرار ، وولجا منزلا تحت التشييد للاحتماء به ، ولكن في وقت متأخر هبّ الاثنان على أربعة رجال يدنون منهم ، مرتدين بزاة سوداء ، ومقلدين عصيا تلوح كالأفاعي عدا واحدا منهم كان يحمل بندقية ، طوقوا المنزل وكمموا منافذ الهرب ، وبعد أن انتشلوا عدة الصحفيين ، أرعدوهم آمرين بأن يسيروا قفزا كالضفدع كما أشار - الصحفي في اعترافه - مع خفض الرؤوس نحو السيارة ، بينما أقذع الشتائم تنفث في وجهيهما : " أنتم يا أولاد الحرام ، تريدون أن تطيحوا بالقذافي ؟ سنريكم إذا .." ..!
والبقية الباقية من حكايات الاعتقال الصحفيين وغيرهم تفاصيلها أشهر من نار على علم ، لكن ما أريد أن أنقله من تلك الزنزانة الضيقة التي كانت أشبه بصندوق صغير بلا نوافذ ، والتي قبع في زواياها المتراصة الصحفي " غيث عبد الأحد " والناتنة بروائح كريهة قلّ أن يتحملها آدمي ، هي تلك العبارات ، وذاك الولاء المقدس الذي ردده بيقين أولئك الجنود الموالين في الزنازين ، فمما رواه الصحفي أنه تناهى إليه في إحدى أيام محبوسيته أحدهم يغني أنشودة النصر للقذافي " إننا نحبه " ، مكررا " نحبه ونريده ، إننا نحن الليبيين من اختاره وليس الغرب " ، وواصل " معه رأينا الكثير من الأحداث وعشنا الكثير من التجارب وتجاوزنا الكثير من الأزمات وسوف نتجاوز هذه المحنة أيضا ، عشنا معه 42 عاما لا أعرف أحدا إلا هو ، ويريدون منا أن نتحول ضده ، إنه ليس زعيمنا فحسب وإنما فيلسوفنا ومفكرنا وكل شيء " ..
هذه الاعترافات واقعية جدا ، وليس علينا أن نحشد أدوات الاستفهام و التعجب ؛ لأن هذا العهد تكرر ؛ وهذه العاهة ، عاهة هوس هذه الجماعة بـ " القذافي " نابع من تعاليم ضجت في نفوسهم مذ كانوا أطفالا ؛ وهي عينها الأزمة التي ظللت الصينيين في عهد الزعيم الصيني " ماو تسي تونغ " ؛ الذي ضخ كل تعاليمه في كتاب اسماه في ذلك الوقت بالكتاب " الأحمر " كان هذا الكتاب مقدسا ؛ فهو من يحرر العالم ، وهو من يثري السلام في روح الكون ، وكان على الأطفال وجميع الناس اصطحابه معهم في حلهم وترحالهم وحفظه عن ظهر قلب ، وإن حدث إن سها أحدهم عن حمله ؛ فهو شخص معاد للثورة ويجب معاقبته بأشد تنكيل ..!
ما أعظم الحوادث الغرائبية التي نمت من وفي هذه الشعوب ..!
تدفع لشدة اعتراف إحداهن كوسيلة لإظهار ولائها لـزعيمها " ماو " قائلة : " إنني لا أمانع في أن أكون خرقة تستخدم لمسح أكثر زوايا المطبخ قذارة من أجل زعيمنا ماو .." ..! ؛ لندرك بهذا حجم وكثافة التظليل الفظيع الذي كان فيه هؤلاء ..! بل وصل الولع المرضي إلى حد جعل حركة المرور في عهده ثورية هي الأخرى ؛ ليكون " الأحمر " هذا اللون المقدس عند الزعيم " ماو " هو لون الانطلاق خلافا لباقي الدول وقتذاك ..!
وما كانت حركة الثورة الثقافية الصينية التي فرضها على جيل الشباب ؛ إلا تكميما لعقول كانت من الإمكان والقدرة دون شك إن تركت دون قطع حناجرها بالعمل الشاق ؛ منارة لتحرير العقول والنفوس الضالة ..!
هذا الزعيم بعد أن غسل عقل شعب بأكمله بفرقه الشيوعية ؛ والذين أوهمهم بقيادة أنفسهم بأنفسهم ؛ لم يجانب هدفه في النهاية سوى الحفاظ على مركزه القيادي ضد منافسين له على السلطة ، وهي خدعة تفجرت في وجه الصينيين حين وفاة زعيمهم ..!
بينما في ليبيا فكل شيء أخضر سوى ليبيا ؛ فصاحبنا العربي ، زعيم الكتاب " الأخضر " لا يتباين في شيء عن نظيره الصيني وقد كان في وقت ما صديقا عظيما لبكين ؛ فكلاهما يبديان تضاد ما يضمرون من نيات ؛ في حق شعوب كانوا قد أبدو لهم الولاء من أجل الولاء ، والمحبة من أجل المحبة ، والسلام من أجل السلام ..!
لكن هؤلاء أرادوا ولاء مفصّلا على قياس أهدافهم ، و محبة تستثنيهم في مرتبة العبودية وحدهم ، وسلاما يستدعي أفكارهم ؛ فتنجب كل فكرة من معين فكره الخالص فتاوي سلامه الخاص ..

ليلى البلوشي

الأحد، 1 مايو 2011

فتاة الوشاح الأحمر وتاريخ ماو



فتاة الوشاح الأحمر وتاريخ ماو



" فتاة الوشاح الأحمر " رواية صينية وهي سيرة موجزة عن المؤلفة ، كما كتب عنها المترجم : " ولدت في شنغهاي في الصين في عام 1945م ، كانت طالبة متفوقة عام 1966م تحلم بمستقبل مشرق عندما أطلق الزعيم ماو ثورته الثقافية ، فتغير كل شيء وأصبح الذكاء جريمة كما هو السيرة الخاصة بالعائلة إن كانت ميسورة الحال "



واستوقفتني لوهلة عبارة المترجم : " كانت طالبة متفوقة " ، فما علاقة هذا بالرواية التي أنا في خضم قراءتها ؟! ولكن حال انتهائي من قراءة الرواية ، التي لم تستغرق مني سوى نصف يوم ، فهمت مدلول هذه العبارة التي ركز عليها المترجم ।



الرواي، الذي عاش في كهف ة التي بين أيدينا هي رواية صينية ، وإذا ما كانت الروايات الصينية التي مرت علينا سالفا روايات خصصت في مضامين سطورها حديثا موجزا عن الزعيم الصيني " ماوتسي يونغ " والثورة الثقافية كما في رواية " بلزاك الخياطة الصينية الصغيرة " للكاتب " داي سيجي " والكاتبة " آنتشي مين " في روايتها " الأزاليا الحمراء " ، فإن هذه الرواية كان لها نصيب الأسد ؛ ولا أبالغ إن وجهت نصيحة لكل من يرغب بالتعمق في جذور الثورة الثقافية والصين في عهد الزعيم ماو ، فإن هذه الرواية من أكثر الروايات التي فصلت في هذه الأمر ؛ لأنها سيرة حياة كاتبة عاصرت وهي ما تزال تلميذة صغيرة في الثانية عشرة من عمرها ، التاريخ التفصيلي لكل ما مرت به الصين من محن ، وهي مخزون ذكرة الثورة الثقافية ।



رغم أن الرواية سيرة الكاتبة ، لكنها استطاعت سرد أحداثها بموضوعية كبيرة ، قوامه الصدق والبراءة والنظرة المحايدة للأمور ॥



" ماو تسي يونغ " قليلة جدا المعلومات حول هذا الزعيم * ، الذي عاش في كهف في مدينة شنسي ، ظل فيه لأربعة عشر عاما ، رغم شهرته وتأثيره الكبير على أقوى شعب من حيث تضخم العدد السكاني ، لم يكن من عادة " ماو " أن يحكي عن نفسه في حضرة الصحفيين ، بل كان رجلا هادئا يميل للصمت ، والصحفي الوحيد الذي استطاع أن يجري مقابلتين التي أجرت الأولى قبل تزعمه ، والثانية بعد تزعمه إلى كتابين من تأليف هذا المراسل الصحفي ।



تولى " ماو " قيلدة الصين في عام 1949م حتى وفاته 1976م ، ولا يمكن القول سوى أن هذا الرجل الذي كان مفكرا وشاعرا ، تمكن من القبض المحكم على العقول الصينية من خلال أفكار تزعمها ، ومما لا شك فيه أن هدفه في جعل الصين في مصاف الدول الكبرى كان هما من همومه ، واستطاعت بالفعل الصين في عهده أن تحرز تقدما في منشآت عدة ، ولكن في الوقت نفسه سنجد أن هذا الزعيم بعد أن غسل عقل شعب بأكمله بفرقه الشيوعية ؛ لم يجانب هدفه في الناهية سوى الحفاظ على مركزه القيادي ضد منافسين له على السلطة ، وهي خدعة تفجرت في وجه الصينيين حين وفاة زعيمهم ، ولكن يحسب له بالتأكيد العبقرية الفذة في أن يمسك الشعب بقبضة واحدة مطمئن البال ، حيث جعل كل شيوعي يحكم نفسه بنفسه ।



في إبان الثورة الثقافية تغيرت أحوال الصين تغييرا جذريا ، هذه الثورة التي تعرف رسميا بالثورة البروليتارية العظمى ، وهي الحركة الاجتماعية والسياسية العنيفة التي سادت في الصين خلال عامي १९६६ و1967م ، وخلالها تعرض الكثيرون من الأبرياء للملاحقة العنيفة ، أطلق " ماو " هذه الثورة للتخلص في الغالب من التأثيرات المعادية للشيوعية ، ولكن تبين في وقت لاحق أن " ماو " أطلق العنان لهذه الفوضى من أجل حماية موقعه السياسي كما أشرنا آنفا ، فهذه الحركة رفعت من مستوى الفلاحين والمعدمين ، في حين قمعت طبقة الملاكين الذين حوكموا لمجرد أنهم أغنياء برجوازيين ، أو لأن قبائلهم سلالة كانت أجدادها من الملاكين ।



نتج عن ذلك ظهور حشد من المفاهيم والمصطلحات ، وقد عرضت جزءا كبيرا منها في هذه الرواية ، ويشكر للكاتبة بأن خصصت في ختام روايتها تفصيلا لكل مفهوم من تلك المفاهيم ؛ كي تزيل أي لبس في عقل القارئ ।



ولأن الحكاية تجري على لسان تلميذة صغيرة في الثانية عشرة من عمرها تدعى " يانج " ، فإنها تنطلق في حديثها عن مدرستها الابتدائية ، وهي في الصف السادس ، حيث جاءت الأجواء تلائم الأحداث الجارية وقتئذ ؛ ففي الفصل في أعلى السبورة صورة للزعيم " ماو " ، وثمة ورقة موازية لأسفل الصورة دونت عليها عبارة من عبارات " ماو " " ذاكروا بهمة وتقدموا في كل يوم " بينما التلاميذ يرتلون في حصة الموسيقى نشيد رواد الشباب محاولين ضبط الايقاع المربك : " نحن رواد الشباب ، وارثوا الشيوعية ، وعلى صدورنا ترفرف الأوشحة الحمراء "



انقسم الشعب الصيني في عهد " ماو " إلى قسمين ، قسم يحمل الملف الأسود وهم طبقة الملاك أولئك الإقطاعيين الذين نال على أيديهم الفلاحين أشد التنكيل كما آمن الشيوعيون بذلك ، وقسم آخر أولئك الحاملين للملف الأحمر وهم طبقة الفلاحين والموظفين والمعدمين ।



وعلى طول الرواية سرد عن التظلم الذي تعرض له هؤلاء الحاملين للملف الأسود ، وهو ضغط قاس كابده الصغار في المدارس ، والكبار في وظائفهم ، فالصغار المنتمين لطبقة الأثرياء منعوا من الترشيح في جيوش أشبال الأحمر ، أولئك الذين يملكون امتيازات عدة ، ومنعوا من الانتماء لمركز التثقيف الصحي ، وكانت نظرة التلاميذ الباقين حاملي الملف الأحمر للآخرين نظرة تحمل ثقلا من الكراهية ، فهؤلاء أذلوا في زمن غابر الفلاحين والفقراء في أرجاء الصين ، وكانت الكاتبة مصنفة ضمن تلك الطبقة الملطخة بالسواد ।



وكان للطلبة في المدارس على كافة مراحلهم ، دورا تزّعم معظم الحركات التي قام بها الشيوعيون ، فالطلبة في المدارس الابتدائية ، كانوا يدأبون على إرساء أنظمة فرضها زعيمهم المقدس" ماو " وهو تدمير القديمات الأربع لتحل محلها الجديدات الأرضع ، وكانت تشمل هذه القديمات الأربع الأفكار والثقافة والعادات والمفاهيم القديمة البالية ؛ ففي هذه الرواية تقوم فرقة من الجديدات الأربع تحطيم لافتة مكتوب عليها سوق الازدها العظيم ، ويسعى هؤلاء إلى تكسيرها ؛ لأن عنوانها يحمل نوعا من الاستغلال للناس ، وفي الحافلات حرص المنتمون للحرس الأحمر من طلبة المدارس الثانوية على ملاحقة كل من يرتدي ثيابا تمثل القديمات الأربع خصوصا السراويل الضيقة والأحذية المدببة ، ونرى في الرواية كيف أن رجلا تمزق هذه الفرقة ثيابه وحذاءيه على ملاءى من الناس ؛ نتيجة لمخالفته لأفكار ماو !



ومن جانب آخر ظهر ما يسمها بكتابة " دا - زي - باو " ويعنى بها كتابة ينقذ بها طلبة المدارس هيئات التدريس ومعلميهم ، وقد حفل الطلبة بهذا القرار ، غير أن " يانج " حين أرادت أن تكتب نقدا تذكرت معلمتها " غو " التي كانت بمثابة أم حازمة ، ولكنها محبة لها ، فقد كانت مخلصة في عملها ، فلم تستوعب فكرة ربطها بالأشرار ।



بينما الكبار المنتمين لطبقة الملاكين ، فقد تعرضت منازلهم للتفتيش ، وقد صودرت كل ممتلكاتهم التي كانت تمثل نوعا من القديمات الأربع ، والمدهش في أن المرأة في عهد " ماو " التي تتبرج وتبالغ في ملابسها وتزين نفسها ، تعد امرأة برجوازية تستحق أن تتعرض للنقد اللاذع وفوق هذا تعاقب بكنس الشوارع ، كما حدث مع العمة " تشي - وين " التي كانت على قرابة مع عائلة " يانج " ؛ فتعاليم " ماو " تقول : " الجمال الداخلي أهم كثيرا مما يبدو على السطح " ।



كما تعد وجود خادمة في البيوت جريمة ، وعليه تقوم عائلة " يانج " بالتخلي عن خادمتهم " بوبو " التي كانت معهم مذ كانت طفلة وليس لها مكان محدد تذهب إليه ، ولكن تعاليم الزعيم ترى أن وجود خادمة هو نوع من استغلال بشري فظيع ।



وأنكل صراع تتعرض له " يانج " وهي تسرد ذكرياتها حين ألقي القبض على والدها وتعرضه للتحقيق في مقر عمله في المسرح حيث يعمل ، وقد أجبرت الطفلة على الإدلاء بشهادتها في محاكمة والدها على أنه معاد للثورة ؛ وإن أبت تكون هي ضمن أشد المنكلين لتعاليم الزعيم !



ونرى كيف أن هذا الصراع يتفاقم في داخلها ، وتتعرض لضغوط كثيرة ، فعديدون حين تعرضت عائلاتهم لموقف مشابه تخلوا عن أسماء عائلاتهم ، وطهروا أنفسهم من الطبقة التي ينتمون إليها ، كان هذا بمثابة فرصة جديدة منحها الشيوعيون لكل من يريد أن يتطهر من ماضي طبقته غير المشرف ، وتحشد الرواية مواقف رهيبة تعرضت لها معظم الأسر الحاملين للملف الأسود في عهد " ماو " ।



فحمى التنكيل بهذه الطبقات اشتاحت الشعب بأكمله ، حتى أن المنتمين للطبقة البرجوازية يتخلون عن أسماء عوائلهم وعن والديهم لتطهير أنفسهم ؛ كي ينعموا بالسلام ؛ فقد كانت تعاليم الزعيم الصيني مقدسة جدا ، وجمعت في كتاب كان يدعى وقتذاك بـ " الكتاب الأحمر الغالي " يردده عن ظهر قلب كل صيني آنذاك ।



ورغم مرارات التي ذاقتها المؤلفة حينما كانت طفلة وعائلتها وكل إقطاعيين في عهد " ماو " على أيدي الشيوعيين من أشكال التنكيل ؛ لمجرد أن أجدادهم كانوا من أصحاب الملاكين ، نجد اعترافا في مختتم الرواية حيث تقول الكاتبة : " سألني الكثير من الأصدقاء عن سبب عدم كرهي للزعيم ماو أو الثورة الثقافية في تلك الفترة ، بعد كل ما عانيته ، وإجابتي على ذلك بسيطة تماما : كانت أدمغتنا مغسولة ॥" وتضيف : " بالنسبة لنا كان الزعيم ماو عبارة عن إله ، فهو يسيطر على كل ما نقرأ ، وكل ما نسمع ، وكل ما نتعلم ، ومن ثم كنا نصدق كل ما يقول ، بطبيعة الحال لم يصل إلينا إلا كل ما هو جيد عن الزعيم ماو وعن الثورة الثقافية ، وما غير ذلك كان خطأ الآخرين ؛ أما ماو فلا لوم عليه "


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



* لمزيد من المعلومات عن الزعيم " ماو " يمكن قراءة كتاب " ماوتسي تونغ " للمؤلف جورج مدبك ، سلسلة عالم مشاهير




ليلى البلوشي