الثلاثاء، 22 فبراير 2011

ديمقراطية تتنفس بهدوء على طريقة " جين شارب " ..


ديمقراطية تتنفس بهدوء على طريقة " جين شارب "

إذا أردتم أن تحققوا حرية ، عدالة ، إنسانية ، حقوق مدنية ، ديمقراطية عامة بلا عنف ،فعليكم بهذا الكتاب المعنون بـ " من الدكتاتورية إلى الديمقراطية " وهو عبارة عن إطار تصوري للتحرر يتحدث المؤلف " جين شارب " في عشرة فصول مضغوطة من سبعين صفحة مع أخذ الاعتبار أن كل كلمة فيه ، وكل عبارة بين سطوره تشكل خطة وفكرة ودربا لتحقيق أيديولوجية ديمقراطية ، وببساطة أعمق لن تجد في صفحاته هذرا أو مساحة فارغة للثرثرة التي لا معنى لها ॥
في الفصل الأول : ( جميع أنواع النضال لها تعقيداتها ولها ثمنها ) ..
يطرح المؤلف عن مواجهة الدكتاتورية بأسلوب واقعي ؛ فالحرية التي تحقق عن طريق العنف تضعنا أمام حقائق بشعة منها : حرب عصابات ، انقلابات عسكرية مستمرة ، تبرير سياسية العنف من خلال الحكومة الدكتاتورية ، اختيار المنفى من قبل الثوريين للهرب من البطش ، ظهور قوى خارجية لها أهدافها ومصالحها الشخصية ..!
وكل ما سبق يؤدي إلى تفشي دكتاتوريات أعتى قسوة من سابقتها ؛ أما بشأن الضغوطات الخارجية التي يستعان بها للتنكيل بالحكومة الدكتاتورية فهي جيدة كما يرى المؤلف ويتبدى عملها في المقاطعات الاقتصادية ، أو فرض حصار ، أو قطع علاقات دبلوماسية ، ولكن المهم جدا هنا هو وجود حركة مقاومة داخلية قوية ؛ لأن غياب هذه الحركة لن يكون هناك ردود فعل دولية ..
في الفصل الثاني : ( ليس كل من يستخدم " سلام " يريد السلام الحر العادل ) ..
في هذا الفصل يسرد المؤلف عن خطورة المفاوضات التي تحاول من خلالها الحكومة الدكتاتورية فرضها على الشعب المناضل ؛ فعندما يكون نظام الحكم الدكتاتوري قويا ولكن يعاني من وجود مقاومة تقلق مضاجعه فإنه يعرض تفاوضا على المعارضة ؛ لكي يجرها نحو الاستسلام تحت شعار : " صنع السلام " ..
فلحكام الدكتاتوريين دوافع مختلفة مضمرة في هيمنتهم ، وهم يسعون لفعل ما بوسعهم للحفاظ عليها ، مهما كانت الوعود التي يقدمونها فهي تصب في اتجاه تأمين خنوع خصومهم من الحركات الديمقراطية ..!
بالمقاومة يتم تحقيق الأهداف لا التفاوض الذي يأتي أهميته حين انسحاب أو سقوط الحكم السابق ، وقد يستغرق هذا وقتا حتى تضعف الأنظمة الدكتاتورية ، فعبر التاريخ كما يرى المؤلف استغرق انهيار الحكم الشيوعي في بولندا عشر سنوات ، في حين انهار في ألمانيا خلال أسابيع ..
في الفصل الثالث : ( يحكم بعض الرجال شعوبهم بإتباع الخدع ، لا المبادئ الأخلاقية ، هؤلاء الحكام يشبهون سيد القردة ، فهم لا يعون تشوش أذهانهم ولا يدركون أنه في اللحظة التي يدرك الناس أمرهم ينتهي مفعول خدعهم ) ..
القصة " أسطورة سيد القرود " يحكيها المؤلف في هذا الفصل ، وهي أسطورة صينية من القرن الرابع عشر كتبها " ليو جي " ، فقد كان هناك رجل إقطاعي عجوز يعيش بفضل قردته الذين يقدمون له الولاء والخدمة ، فكان يجمع القردة كل صباح في ساحته ويأمر أكبرها أن يقودهم إلى الجبال لجمع الفاكهة من الأجمة المختلفة ، وكان سيد القرود يفرض على قردته قاعدة وهي أن يقدم كل قرد عشر ما جمع إليه ، والويل لكل من يتخلف بجلده دون رحمة ، كانت معاناة القردة جسيمة ولكنها لم تكن تجسر على الشكوى ، وفي يوم طرح قرد صغير سؤالا على القرود الآخرين قائلا لهم : هل زرع الرجل جميع أشجار الفاكهة والأجمة ؟ فأجابوه : لا ، إنها تنمو وحدها .. فقال القرد الصغير : لماذا إذا نعتمد على الرجل العجوز ، ولماذا علينا أن نخدمه ..؟! .. ففرت القردة من أقفاصها التي مزقتها ليلا إلى الغابة ، وفي النهاية مات العجوز جوعا ..
في الفصل الرابع : ( فبالرغم من مظهرها القوي إلا أن أنظمة الحكم الدكتاتورية لديها نقاط ضعف وتعاني من عدم الكفاءة وهناك منافسات شخصية بين أفرادها وتعاني مؤسساتها من عدم الفعالية وهناك نزاعات بين منظماتها ودوائرها ) ..
سرد المؤلف هنا قصة " كعب أخيل " المعروفة عبر التاريخ ، الذي كان لديه مناعة ضد كل أنواع الأسلحة بفضل المياه السحرية التي استحم بها في مياه نهر ستايكس ، وهو بعد طفلا صغيرا ولكن أمه فاتتها وضع كعبيه في الماء ، وحينما علمت إحدى القوى بذلك استطاعت ضربة قاتلة منها أن تستقر في كعبه ..
حشد المؤلف نقاط ضعف كثيرة ولعل من أهمها هو سحب التعاون ما بين العامة والمجموعات والمؤسسات وهي مهمة لتشغيل النظام ..
في الفصل الخامس : ( الخيار العسكري واستخدام الأسلحة والذخائر والتكنولوجيا العسكرية وما إلى ذلك ضد الأنظمة الدكتاتورية لا تؤثر في مواطن ضعف هذه الأنظمة ، إنما يبرر لها استخدام قوتها الآتية ويضع حركات المقاومة في موقف ضعف لا تحسد عليه ؛ لأن الأنظمة الدكتاتورية غالبا ما تتمتع بالتفوق العسكري والتكنولوجيا العسكرية .. الحل هو " التحدي السياسي " ..)
السؤال : ما هو التحدي السياسي ..؟
يجب ألا ننسى أن هذه الكتاب يدعو إلى " اللاعنف " والتحدي السياسي هو من أهم أساليب اللاعنف ؛ حيث أنه يستخدم الأسلحة النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمواطنين ولمؤسسات المجتمع ، وقد أطلق على هذه الأساليب عدة أسماء مثل : الاحتجاجات ، والإضرابات ، واللاتعاون ، والمقاطعات ، وسحب الولاء وسلطة الشعب .
وقد عرض الكتاب عدة أساليب أخرى لتحقيق سياسات اللاعنف ، إضافة إلى آليات للتغيير وأهمها أربعة وهي : ( التحول / اللاعنف والتفكك / التأقلم / تفكك ) ، ويعنى بـ" التحول " وهي الآلية أقل ترجيحا بالرغم من حدوثها ، وهي عندما تتحرك عواطف الخصوم من خلال تأثرهم بالمعاناة والاضطهاد المفروضين على المقاومين الشجعان الذين يناضلون من خلال أساليب اللاعنف ، بينما عندما ينظر إلى مطالب المعارضة أثناء حملة محدودة بأنها غير خطيرة لهذا توضع على المحك وهو ما يسمى بـ " التأقلم " ، ومسميات " اللاعنف والتفكك " و " التفكك " حينما لا يستطيع الخصوم التصرف كما يحلو لهم من خلال تغيير حالة النزاع والمجتمع ..
في الفصل السادس : ( يؤدي افتقاد حركات المقاومة الديمقراطية إلى التخطيط إلى نتائج وخيمة ؛ لأنها جعلت الظروف تتحكم باتخاذ قرارات مصيرية ، فضلا عن ذلك إن افتقار التخطيط في كيفية تسيير التحول إلى النظام الدكتاتوري ساهم في ظهور ديكتاتوريات جديدة حتى بعد القضاء على الأنظمة الدكتاتورية السابقة ) ..
يوضح المؤلف في هذا الفصل المقصود بـ " تخطيط إستراتيجية " بأنه إعداد طريق عمل تجعل من الانتقال من الوضع الحالي إلى الوضع المستقبلي المرغوب أمرا أكثر ترجيحا ، وتتكون الخطة التي تمكننا من الوصول إلى ذلك الهدف من سلسلة من الحملات ، والنشاطات المنظمة ، والأخرى المصممة ؛ لتقوية الشعب والمجتمع الراضخين تحت نير الاضطهاد وإضعاف الدكتاتورية .
فليس وحده الإخلاص للمثاليات ، والأهداف الإنسانية تحقق الحرية وتقضي على الدكتاتورية .
في الفصل السابع : ( الأخذ في الاعتبار بأن لا يوجد وضعان متشابهان تماما ، ولكل نظام حكم دكتاتوري خصائصه الفردية ، وتختلف أيضا قدرات كل شعب يسعى من أجل الحرية عن قدرات الشعوب الأخرى ) ..
هنا على المناضلين الالتفات إلى أهدافهم والعواقب التي في طريقها ، ومعرفة نقاط قوة وضعف السلطة الدكتاتورية التي يواجهونها مع معرفة نقاط قوتهم وضعفهم في هذا النضال .
في الفصل الثامن : ( تحويل مسؤوليات النضال إلى مجموعة مختلفة من السكان وحشد مصادر قوة إضافية وتطوير مسارات جديدة للعمل ) .
هنا يمارس التحدي السياسي عن طريق نشر المسؤوليات ، كل جهة تقوم بمقاومة ، فالطلاب في المدارس يعلنون الإضراب عن مدارسها ، والعمال عن المصانع ، والقادة الدينيون يركزون على الحريات الدينية ، والكتاب والصحفيون يطالبون بفتح باب الحريات وإغلاق القمع .. وهلم جرا . وكلها تستهدف القوة الدكتاتورية ويمكن هنا كسب تحالفات أخرى يكون لها أشد أهمية لعل من أهمها قوة الجيش وجعله يتعاطف معهم .
الفصل التاسع : ( يستمد نظام الحاكم شرعيته من الطاعة والتعاون الذي يحصل عليه ، وعندما ينفذ " اللاتعاون " بواسطة قطاعات كبيرة من السكان فإن هذا يشكل خطرا كبيرا على النظام الحاكم ، فمثلا إذا توقف موظفي الحكومة عن العمل بفعاليتهم المعتادة أو حتى إذا بقوا في بيوتهم فإن هذا يضر بالأجهزة الإدارية بشكل خطير ) ..
يرى المؤلف أنه كلما تضاعفت سيطرة الديمقراطية على مصادر الاقتصاد والأملاك والمواصلات ووسائل الاتصالات كلما ضعفت وانهارت القوة الدكتاتورية ، وفي حال قيام الحكام الدكتاتوريين التهديد بالقوة ضد المتظاهرين ، فإن هذه القوة تضعف من خلال طريقتين مهمتين هما :
1 ـ إذا كان المواطنون مستعدون كما هو الحال في الحرب للمخاطرة بنتائج خطيرة كثمن للتحدي .
2 ـ إذا قامت الشرطة والقوات العسكرية بسحب ولائها ، سواء كان هذا الولاء فرديا أو جماعيا أو عند رفضهم القيام بتجنب أو رفض مباشر لأوامر الاعتقال ، والضرب وإطلاق النار على المقاومين ..
الفصل العاشر : ( يعتبر تفكك نظام الحكم الدكتاتوري سببا لاحتفال عظيم ) ..
مع الاحتفال ينبغي الاهتمام بأن لا يكون ثمة فراغ في السلطة يمكن من خلاله أن يفغر أطماع الكثيرين ، والمهم جدا هو الاستعجال في عمل انتخابات نزيهة ؛ كي يتولى الشخص المناسب المكان المناسب ..
وفي الصفحات الأخيرة من الكتاب ثمة " ملحق لأساليب العمل باستخدام اللاعنف " وقد حشد المؤلف أساليبا كثيرة ومتنوعة مثل :
- تصريحات رسمية : ( خطابات للجهات العليا ، رسائل معارضة أو تأييد ، بيانات تصدر عن مؤسسات ، تصريحات علنية موقعة ...)
- مخاطبة الجماهير العريضة : ( شعارات وكاريكاتيرات ورموز ، لافتات وملصقات ، كتب وكتيبات ....)
- احتجاجات جماعية : ( انتخابات صورية هزلية ، تفويض ، اعتصامات ....) .
- أعمال رمزية عامة : ( رفع أعلام ، الصلاة والعبادة ، عرض لوحات فنية معبرة ...) .
إضافة إلى أساليب أخرى كالمسرح والموسيقى والغناء ، المواكب ، تكريم الموتى ، التجمعات الشعبية ، الإضرابات ، والتدخل السياسي والاقتصادي والنفسي والاجتماعي .....إلى لا آخره .

يضع المؤلف في الختام قولا شائعا : " لا تأتي الحرية مجانا " ، وهو قول يؤكد على صحته .


ليلى البلوشي

الأحد، 13 فبراير 2011

رجاء النقاش في عيد ميلادي



رجاء النقاش في عيد ميلادي ..

ثمة أشخاص لا يعوزهم إدراك مناسبة ما ؛ كي تتعذر الكتابة عنهم ؛ كي تخصص سعة من ذاكرتك المعبأة بضجة الحياة حيزا صغيرا لهم ، دون أن يتخبط في حيزك ذاك مناسبات الحياة أو الموت ، تلوح لهم بحب في أي وقت لا سبب ولا غاية من وراء ذلك سوى محض حب خام ، أو وصل إنساني شفيف تترع ذاكرتك بذكراهم ، وذاك القدر الضئيل الذي أبقيته لهم لا يضاهي بالتأكيد مكانتهم الكبيرة في قلبك وقلب الأدب جبنا إلى جنب ..
في الثامن من شهر فبراير في عام ألفين وثمانية ، تصادف في هذا اليوم أن احتفل بيوم ميلادي مع زمرة من صديقاتي ، وكما هي الحال في مثل هذه اللحظات الأنفاس تتلهف على الدقائق الباقية التي تعلن الثانية عشر بعد منتصف الليل ، فأن تدخل في عام جديد يعني أن تدخل حياة أخرى ، ونمت ليلتها بينما أمنيات العمر الجديد تتصدر قائمة أحلامي ، وفي صبيحة يوم التالي قرأت في الجريدة أن الناقد " رجاء النقاش " غادرنا إلى عالم آخر بعد صراع مرير مع مرض السرطان ، وجاء هذا الخبر الفجيع لينتشل كل الأمنيات التي كانت تتحفز بصمتها في صدري ويستبقي على شعور واحد مكثف لا يمكن أن يوصف سوى بحزن من نوع عميق ، وقلت في نفسي لحظتئذ : " إذن من سيحتضن المواهب الحقيقية " ..!
فمذ سنوات وأنا اسمع عن رجاء النقاش ، عن ناقد مبدع محنك في تفسير النص بإبداعية خاصة وسلسة في ذات الوقت ، وكنت قد قرأت له دراسات متفرقة هنا وهناك ، ولعل موقفه مع الشاعر " أحمد مطر " هي أكثر المواقف الأدبية والإنسانية التي شدتني إلى هذا الإنسان الجميل ..
وفي غضون فترة ما ، عدت إلى قراءة رجاء النقاش بعد أن حصلت على بعض من كتبه ، غصت في غورها باستمتاع بالغ ، وبشراهة دودة ألفيتني أقرأ مقالاته ، فعرفت أن " سافو " هي أول شاعرة في التاريخ الإنساني ، وأن ثورة العاشقين اندلعت في روما في عصر الإمبراطور " أغسطس " ، وأن الإمبراطور " كاليجولا " كان إمبراطور الدماء والعطور رغم أن اسمه يحمل معنى " الحذاء الصغير " ..! وخشيت على " بودلير " من دلال الأم المفرط له ، بالمقابل بغضت أم " بلزاك " التي كانت سببا في كل المآسي التي لحقت به ليموت في النهاية في فنجان قهوة ، واكتشفت علاقة " آينشتين " بالبيانو ، ووقفت مع " إبراهام لينكولن " للقضاء على ايدولوجيا التفرقة العنصرية وفك العتق عن رقبة السود ....، إلى لا نهايته ..
وطوال تلك المدة كنت أقول لنفسي سأكتب عن رجاء النقاش ، بينما رصيدي الداخلي يتدفق من بئر مقالاته العميقة ، لكنني عدلت عن الفكرة ، وقلت رجاء النقاش أكبر من أن اكتب عنه ، فتركت كتبه على رف المكتبة وملفات الالكترونية التي عكفت على جمعها على سطح المكتب ، وطال الهجر ، وزحفت خيوط العناكب وتطفلت الأغبرة على الفكرة كلها ..
.. وأخذتني الحياة ، ومن ضمن انشغالات تلك الحياة تكاثفت قوة غريبة تحثني على تجريب كتابة مقالات ، تاركة كتابة القصة القصيرة خلف ظهري ، هاجرة الشعر - إن كان ما اكتبه شعرا - ، وركنت اهتماماتي في مجال أدب الطفل على رف الانتظار ..!
ولم يكن سهلا قط كتابة مقالات جديدة ، تتناول الكيف الثقافي قبل الكم ، تستأصل المعاني من محيط النص ، تقوم باقتناص فوائد تضاف إلى الإبداع والأدب ككل شيئا ذا معنى ، والأهم من ذاك كله لا يخرج المتلقي ذاك المبدع الآخر للنص فارغا ، بل تضيف إلى رصيده الفكري أو الأدبي أو الإنساني أو الحسي نزعة ما ..

وخلال مدة قصيرة وأنا الغضة في سور غور فن المقالات ، وجدت أمامي كمًّا لا بأس به منها ، وثمة مقالات لم تكتمل ، ومقالات أخرى تتريث نضجها على نار هادئة ، وأدركت جيدا أن كتابة المقال كحال الفنون الأدبية الأخرى كما قال عنها رجاء النقاش " مثل الاشتغال في الحرب لا يستطيع المشتغل فيها أن يقول : إنني أرفض المعارك وإلا فعليه أن يخرج من الميدان " ..
قلت : لم اكتب عن رجاء النقاش ، ولكن يالغرابة القدر ..!
فطوال تلك المدة لم اعرف تفسير اللغز الحقيقي الذي حفزني على كتابة المقالات ، ولم أكن أدري أن رجاء نقاش هو وراء اتجاهي إليه بقوة ، هو الذي أخذ بيدي كما أخذ من قبل بيد الشاعر " محمود درويش " حين أدخله إلى قلب القاهرة الإنساني ، هو من حفز قلمي على الكتابة المقالية بذاك الدفق الحماسي المفرط ..
فالإبداع المفرط في مقالات رجاء النقاش هو السر الذي سحبني شيئا فشيئا إلى دهشة فنية المقالية ؛ لأنك حين تقرأ له لا تخرج خالي الوفاض أبدا ، ولن تكون قط حنين الذي رجع بخفيه .. ولأن رجاء النقاش بمشاعره الإنسانية السامقة في مكمن صدره تجاه الأدب والأديب هي ما جعلته يكتب عن الآخرين وكأنه يكتب لنفسه ، يقدم النص على منبر الطرح بعطف أب حاني على أبنائه وبمحبة أخ مسؤول عن أخوته الصغار ، وبضمير حي وحس أدبي نبيل استطاع خلال خمسة عقود أن يواكب الأدب وعالمه عن حنكة حقيقية وفي كل مرة يبدي للعيان ما خبأه الظل خلفه ..
لم يكن متزمتا ولم يسع إلى وضع النص تحت مجهر ، أو تصنيفه على مكعبات ومربعات بمقاييس بحته ، تلك التي تكون على النص والفكر قبل أن يولمه من غموضه ..
ولعل أعظم سمة عرفت عنه هو " اكتشاف المواهب " ؛ ليس أولئك الذين تطاردهم الأضواء أينما كانوا بل كان همه أنأى من ذلك بكثير ، وجعل الساحة العربية تعقد دهشتها في كل مرة ينتخب فيها النقاش بمقالاته كاتبا مغمورا لم يسمع عنه ، كاتبا كان مهمشا خلف الأضواء الوامضة على جهات معينة دون غيرها ..
في ظل ظروف بعض النقاد ووضع النقد في وقت الحالي ، ويخال للبعض أن في أيديهم موازين يقيسون بها النص ، وإذا ما عزموا كتابة نقد ، فإن أغلب أقلامهم لا تتجه سوى إلى كاتب كتب عنه آلاف المرات على سبيل المثال لا حصر كتب معظم نقاد الوطن العربي عن الكاتب السوداني " الطيب صالح " وهو كاتب يستحق كل تلك الكتابات والإشادات دون شك ولكن بالمقابل أهمل وغاض هؤلاء النقاد عن مئات من المبدعين كانوا من وطن المبدع الطيب صالح .!
أو كاتب حاز على جائزة ما ، ولكن شرية البلية هنا حين يكتشف النقد عن طريق جائزة موهبة ما ، لتكون اليوم معظم الجوائز الأدبية هي التي تقدم مواهب على طبق من ذهب إلى النقاد دون أن يكلف الناقد نفسه تفتيش عن المواهب ..!
بينما بعض الأقلام تتحين فرص التأبين كي تمرر شهرتها الرخيصة عن كتاب لا تذكرهم إلا وهم مفترشين قبورهم ، فتعلن موقفها النهائي كصوت سبّاق ؛ لتستعجل وضع نقطة في نهاية حياتهم كتبرئة ذمة .. !
ولكن مهمة الناقد في داخل رجاء النقاش كان على نقيض من ذلك تماما ، فهو الذي كان يسعى إلى البحث والتمحيص ، ولعل موقفه مع الشاعر العراقي " أحمد مطر " خير دليل على ذلك ، فقد قرأه رجاء نقاش من خلال بعض الصحف التي كانت لا تمانع من نشر قصائد الشاعر الممنوعة ، فأعجب به وبموهبته الفذة ، وهذا ما دفعه إلى أن يحتفظ بتلك القصاصات المتفرقة التي تحوي معين شعره ، فأراد أن يكتب عنه ، ولم يكن في حوزته سوى تلك القصاصات وكتاب واحد له يدعى " لافتات " ، وكانت الصدفة الجميلة بأن التقى بالشاعر في الكويت عام 1984م ، في بيت أحد الأصدقاء وكون يومها بلماحة ناقد انطباعا قصيرا عنه ولكن لم يتسع لا اللقاء ولا الوقت في أن يحاوره ، و لم يستسلم فحين تهيأ له اتصاله وهو في لندن طلب منه أن يكتب شيئا موجزا عن نفسه ؛ كي يوثق كتابته عنه ، ويومها بعث الشاعر أحمد مطر له رسالة قشيبة يقول له فيها الشيء الكثير من ضمنها : " أسعدني جداً أن أسمع صوتك ، غير أنني لم أُدهش من كيفية عثورك علي ، ذلك لأنك ناقد ومهمتك هي العثور على الشاعر بين ملايين وملايين الكلمات .. وكذلك تفعل عندما تبتغي العثور على شاعر بين قارتين !" ..
وموقفه من الأديبة " غادة سمان " حينما نشرت رسائل التي بادلتها مع الأديب " غسان كنفاني " ففي الوقت الذي هاجمها الكثير من النقاد باللغط الواسع والصخب الكبير مفندين حقها في نشر مثل تلك الرسائل ، لكن ما كتبه رجاء نقاش عام 1978م يلخص أدبها المليء بالتحدي والمقاومة والإصرار على شق العالم وعبر عن عالمها بأنه " عالم التعبير والفن والبوح والتفكير بصوت مرتفع ومناقشة قضايا الإنسان والدنيا بلا خجل " ، مع احترامه للخصوصيات حين الخوض لسير الآخرين وذلك حين تناول عرض سيرة حياة " غسان كنفاني " تحدث عن العلاقة العاطفية التي ربطته بالكاتبة " غادة سمان " بتكتم محترم قائلا : " وقد تعرض غسان كنفاني في أواسط الستينات لتجربة عاطفية عنيفة جدا وكان الطرف الآخر في هذه التجربة أديبة عربية معروفة ولا أحب أن أشير إلى اسمها فقد أصبحت زوجة وأم ...." .
وكان رجاء النقاش " مطلق النجوم " ولكن حفنة من النقاد اليوم من خلال عرض دراساتهم همهم أن يطلقوا أنفسهم قبل النص وكاتبه ..!
وغاب الناقد الحقيقي حكمه الضمير قبل كل شيء ، لنرى أمامنا على أبعاد عدة نقاد " شلليون " ينتخبون أذواقا ما دون أن يكون للنص وجماليته أدنى قيمة ، لتتكشف أسباب أخرى وراء ذاك الانتخاب ؛ كون الكاتب هو صاحب مكانة في المجتمع ، أو كاتب تربطه به صلات شخصية ..!
رجاء النقاش كان يختفي خلف النص ، يضيء زوايا الإبداع التي طرحها الكاتب ، و ينسى نفسه في حضرة الآداب التي تسيطر بجمالها على لبّه ، ليقدمه بدوره للمتلقي بلغة تحترمه ، دون أي مكابرة ولا أستاذية منه ..
بينما تأتي بعض الدراسات بأقلام بعض النقاد ، ليجد المتلقي كمّاً من مصطلحات غامضة يغيب عن فهمها بل يخرج من العمل الأدبي بغصة عدم إدراك مقصد الناقد ، ويتخم بعضهم دراساته بهوامش مكثفة لتغيب معها لذة الاستمتاع ..
وإذا ما تحدثنا عن المبدعين الذين انتخبتهم مقالات رجاء نقاش ، سنرى سمة جميلة أخرى تضاف إلى سماته الكثيرة فهو لم يتقيد بإبراز جنس على جنس ، ولم يكن همه وضع أدباء مصر على القائمة دون أدباء آخرين من أرجاء الوطن العربي ، لتجد من مصر ومن العراق ، وتجد من سوريا وفلسطين والسودان والكويت ... هلم جرا ، كتابات مفتوحة على كل الجهات ، مسافرة بلا نهاية إلى آفاق شاسعة ، فقد كان يؤمن من أن " قيمة المثقف ليس كشخص وإنما كتأثير ، مثقفا على الهامش ، علينا أن نأخذ برأي المثقف الذي ثبتت صحته لا أن نترك الآراء على الرصيف الحياة نمر بها مرور الكرام " ..
أين هم نقاد اليوم من كل هذا ..؟!
فمعدودون أولئك الذين يواكبون في مسيرتهم النقدية تجارب أخرى من خارج الأقطار التي ينتمون إليها ، ويقنعون القراء عن تقصيرهم بحجج واهية ، لعل من أكثر تلك الحجج شيوعا هو تذمرهم عن عدم وصول معظم الإصدارات إليهم ، رغم أنه ومن خلال التطور السائد الذي عززه شبكة الانترنت يستطيع أي ناقد أن يتعامل مع أي كاتب مهما غدت بُعد المسافة فاصلا بينهما ، ولكن فقط الناقد الحقيقي هو الذي يعرف جيدا كيف يشق طريقه إلى درب الأدب الشاق والحقيقي ..! اذكر على سبيل المثال لا الحصر - الناقد " إحسان عباس " - الذي كان يسافر إلى بغداد والى غيرها من الدول وراء كل أدب أصيل ؛ لاقتناصه من منبت أرضه ..
ناهيك عن أعذار أخرى والتي أسبابها تعود إلى الناقد نفسه ، الذي عجز عن متابعة حركة التطور السائدة في الأدب بشتى أنواعها ، والتي تستدعي تطورا مماثلا له في أدوات النقد ، ومعه ظهرت أسماء واعدة غزت الساحة الأدبية بقوة كبيرة عجز معظم النقاد عن مجاراتها مكتفين بأسماء مخضرمة لتمثل تلك الأسماء باعتقادهم الواجهة الأدبية الوحيدة ، ليقضي هذا التظلم على أسماء عديدة كان من حقها الانتشار ..!
مازال النقد بحاجة ماسة لرجل محنك وأمين وبضمير حي كـ" رجاء النقاش " ، ومازلت في كل من التاسع من فبراير يعتصرني في يوم ميلادي غصّة فراقه ..
ليلى البلوشي
Lailal222@hotmail.com

الخميس، 10 فبراير 2011

ثوّار الفيس بوك



ثوّار الفيس بوك

" أنا لست بطلا ، أنا كنت وراء حاسوبي فقط ، أنا مناضل " الكيبورد " .. الأبطال هم الذين نزلوا واستشهدوا في شوارع مصر .. "
- وائل غنيم -
* * *
ثورة حديثة من نوعها ، استحدثتها جوقة من الشباب خلف حواسيب شخصية ، كل واحد منهم يتواصل مع الآخر بأريحية عصرية ، معدمين من خلالها عدوان المسافات الفاصلة والجدران الشاهقة والأسلاك العازلة ، شباب يحملون رتب غير التي يتباهى بها معظم حاملي الرتب والألقاب ، إنهم فقط متحمسون ، مناضلون ، ناشطون ، كيفما اختلفت التسمية اتفق المغزى والحلم والهدف ؛ فهي متوحدة بتوحدهم ، كبيرة ، شاهقة بشموخ أحلامهم ، تلك التي تغدو في نظر التاريخ أبسط ما طالب به الإنسانية طوال تلك القرون ..
كانت في البدء يدا واحدة ، ثم يد ثانية ، وثالثة ، فعاشرة ، حتى تفاقمت عدد الأيدي تشابكت وتكاتفت مع بعضها وهي تنقر بهمة وحماسة مفرطة على " كيبورد " ، كانت نقرة واحدة ثم مئات النقرات ، آلاف ثم جاء أوان احتشاد الملايين في قلب الحدث حيث الحواس كلها مدفوعة بعزيمة نقية صادقة ، ومن هنا كانت الحكاية التي أثبتت جدارة مفكرها ثم منفذوها وشخوصها الماثلين للعيان ..
في الشرارة الأولى للثورة اندهشت الأعين والأذان والأفواه ، كانت مباغتة لم يتوقعها الكثيرون من داخل وخارج الثورة ، حتى أن إحدى الأمهات المتظاهرين عبرت بحرارة قائلة : " لم أعتقد يوما أن هؤلاء الشباب الذين كنت أقول إنهم شباب انترنت ودلع وهيافة من الممكن أن تشكل أصواتهم عاصفة عاتية في وجه الاستبداد والظلم ، أهلا بشباب الانترنت إذن " ..
وفي وسط الحشود المتجمهرة حيث الأصوات تتعالى وتتداخل ، مسلمون ومسيحيون يدا في يد والله واحد أحد .. تسلل على الخط المستقيم " أصوات نشاز " تطالب المتظاهرين بـ " العودة إلى منازلهم " ؛ بحجة حفظ النظام وعدم إشاعة الفوضى ..!
لكن ماذا يمكن ..؟ أو ما الذي يمكن أن يوقف هذا الصهر البشري الممتد ..؟! فهؤلاء لا يعيشون في أبراج عاجية كالذين يطالبونهم بالكف ، و لا تدثر لياليهم القارصة مدافئ ، ولا كرامة في أكل العيش ، ولا سكن صحي صالح للإقامة ، بل إن معظمهم شبان عاطلون عن العمل مازالوا ضمن طابور الانتظار الدهري الذي طال وانفقأت مرارته ، فأي توقف هو متوقع من هؤلاء الشباب في وجه نظام كان واقفا في وجوههم طوال تلك الأعوام ..؟!
" العودة إلى منازلهم " فأي عودة هذه ..؟! وإلى أي منازل هي تلك التي يتحدثون عنها ، " قبور " ، " مزابل " ، أم إلى " احباطات " ما فتأت ترافقهم في ذهابهم وإيابهم ، وهم محسوبون على حياة ضمن شعب متكون من أكثر من ثمانين ألف مليون ، كأرقام فقط أما عن الحقوق ؛ فهم محذوفون من القائمة تماما ..!
إنهم الآن على الأقل في - الوقت الراهن - غير عاطلين عن العمل من أجل الشعب بعد أن خذلتهم الحكومة ، إنهم الآن يعملون بموجب حق كمواطنين وإنسانيين ، بحرية وكرامة كانتا مخنوقتان ومسلوبتان في مخابئ الرعب والوجل كانت ما بين الفينة والفينة تدلي برؤوسها رغم القمع ، ورغم تعرضها في أي لحظة و على الدوام للشنق ، إنهم يحاربون الحياة العاطلة التي كانت من أبرز سجانيهم .. هنيئا لتونس و هنيئا لمصر بشابها وأطفالها ، والعقبى لشباب الآخرين ، شباب الظلم والطغيان والاستبداد ..
أحد المسنين علق بحزن : " الآن أنا كبير في السن والحياة فاتتني ، لكني لا أريد مطلقا أن تفوت الآخرين من الشباب .."
الكاتب " محمد الماغوط " كان قد أشار فيما مضى إلى حقيقة تاريخية أثبتت نفسها على الدوام : " كل طبخة سياسية في المنطقة ، أمريكا تعدها ، وروسيا توقد تحتها وأوروبا تبردها وإسرائيل تأكلها والعرب يغسلون الصحون " ..
اعتقد أن هؤلاء الشباب ضجروا من اكتفاء وزهد من سبقوهم بغسل الصحون فقط ..! فخرجت وجوه أصيلة ملفوفة بالضمادات ومغطى بالجروح والقطب والمراهم والاعتقالات في سبيل الحرية التي لم تمنح نفسها يوما عبر التاريخ دون ثمن ، ودون استحقاق خالد ، حرية عمر المختار وغيفارا وغسان كنفاني وناجي العلي و جميلة بوحيرد ولوركا ونيلسون مانديلا .... الحرية عينها التي تظل أبدا تترقب الفارس الانترنت هذه المرة ؛ كي يحررها من الجبن والحرب والذل والعبودية ، من كل خناق ، الأعناق والأيدي والحواس ..
* * *
" أنا وزير منذ سبعة أيام فحسب ، وحققتم مكاسب ما كان أحد يتخيلها ، كيف فعلتم هذا ..؟ جميعنا ومن هم داخل الحزب وداخل النظام السياسي اندهشوا وذهلوا من هذه المفاجأة .."

- وزير الداخلية المصرية للناشط السياسي وائل غنيم -

ليلى البلوشي