الأحد، 19 سبتمبر 2010

ذاكرة " منصور الصويم " شريرة


ذاكرة " منصور الصويم " شريرة *

" يظهر الشر عندما يسودنا الاعتقاد أن كل شيء يمتلكه الآخرون هو من حقنا " ..

- باولو كويليو -
* * *

هل ثمة بشر متجذرون من نبتة خبيثة وأخرى خيرة ..؟! ولماذا نحكم على زمرة من البشر بأنهم أشرار بينما يغدو بعض الآخر حاملي خير ..؟! من أين وكيف يتوالد الشر والخير في قلب الإنسانية .. ؟! هذه الأسئلة ولدتها في عقلي رواية " ذاكرة شرير " للكاتب السوداني " منصور الصويم " ، فأن تكون أمام ذاكرة متعفنة بالشر ، ليس بأي شر إنها ذاكرة لم تكتف بشرها ، شر الإنسانية بل قفزت إلى عوالم أخرى ؛ كي تستنهض جبروت الشر ، طوفانه ، فرعونه بعد أن اعتقدنا من أنه مات مذ زمن موسى ..
نجد تواطؤا وثيقا ، متناميا ، بين المكان والذاكرة هنا ، إنهما أشبه بتوأمين سياميين ، فالمكان هو مجموع أمكنة والذاكرة تغتذي عليها ، تكبر ، تنمو ، تثقل ، تغدو بشهية حوت وبشساعة صهريج والشر فيه ومنه وعليه أعلاه وأسفله ، كله..
تقول الذاكرة التي تقر بوجودها الخام ، ببراءتها الأولى ، بكينونتها الداخلية قبل وئدها : " أنا كسحي .. آدم كسحي .. أنصت الآن بكياني ومسامي ، بتاريخي ، وذاكرة أيامي الماضية ، أنصت إلى القطار ، إلى صافرة القطار ، إلى اهتزاز عرباته وتوجع وأنين سكته الحديد " ..
هذه ذاكرة آدم كسحي ، الطفل ، قبل أن تضيع في متاهات ذاكرة الآخرين ، قبل أن تؤثثها كل آخر على هواه ، ويختلي فيه وكأنه ملك مدفوع الثمن ، وآدم كسحي لا في العير ولا في النفير ، والذاكرة تنتشله من امرأة إلى امرأة ، وفي شرهن تتماهى ذاكرته ببصمتهن ، وما أجمل شر النساء ..!
كانت أولى نساء الذاكرة ، ذاكرة كسحي هي أمه " مريم الكراتيه " المرأة الفاتنة ذات شعر ناعم ، شبق جنود ورجالات الأمكنة كلها ، حضانته الأولى ، في حجرها والعربة تجرهما والذاكرة هنا درب ، بداية درب .. وحين يبصقها الدرب إلى حتفها يجد كسحي نفسه على ظهر وهيبة .. الأم البديلة ، وهنا الذاكرة تسترخي ، تستطيل ، تتشكل على مهل ، على ثرثرة النساء ، على دفئهن ، على أنوثتهن الطاغية وهن يكبرن حبة حبة ، كما الذاكرة المشتهاة ..
بين كل هؤلاء النسوة بأريج فتنهن هل تبقى " مريم كاراتيه " ذاكرته الأولى متشبثة بجدار ذاكرته وكأنها لم تأفل ولا ثانيه عنها ، وتتوجع الذاكرة حين ترفع صوت اعترافها : " أينسى الطفل سريعا ، يتجاوز الفقد والاحتياج ، ويتحايل على الحياة ؟ هل نسي الطفل ، آدم ، الكائن الوحيد الذي عرفه ، الذي ظل طيلة أعوامه الأولى ملتصقا به ؟ سقطت مريم العظيمة من الذاكرة ، تفرقت في روائح شتى ، وعيون عدة ، وضحكات مباغتة .. صارت ذكرى بعيدة ، تنتمي إلى زمن قديم ومشوش ، آدم ، الطفل الجميل ، ذو الوجه الملائكي ، وهب نفسه لوهيبة .. " ..
" وهيبة " المرأة الحنون انتشلت الكسحي من متاهات شر النهار لتقوده إلى أمان شر آخر ، إلى شر مسقوف ، في بيت كبير إلى غرف وصالات ، بأثاث ثقيل وخفيف ، مستورد وغالي ، المكان مدهش ومبهر ، وذاكرة الشر في بحبوحة العيش تتلمس ثلاجاتها المتعددة وتلفزيوناتها الملونة ، الغريب العجيب من الأجهزة الالكترونية والكهربية ..
وفي القاع ، في مخابئ سرية ، يهجس لسان الشر طلاسم فك السحر ، أسرار طرد الشياطين ، ردء العيش إلى حفظ ورد الأبواب السبعة بمقاطعها الثمانية والثمانين ، إنه شر مصاب بفصام الأمكنة ، فالمكان هو من ولّد هذا الشر ، وهو شر الأقنعة ، شر الشياطين ..
والذاكرة كريمة بالنساء ، خصبة بمرابعهن ، مطلقات يبحثن عن سبل لإعادة أزواجهن ، متزوجات يسعين إلى تقييد أزواجهن برباطهن إلى الأبد ، صبايا وعوانس يحلمن باستجلاب عرسان قبل احتراق العمر ، عواجيز ينقبن في حيوات لا تخصهن ويحلمن باستعادة الضائع من أعمارهن .. وكسحي يسير على خطى نصيحة الشيخ إنه يغرقهن في الوهم ؛ كي تبقى ذاكرته متوقدة بهن .. وبـ " سنية الحلبية " وهي ربق ذاكرة آدم كسحي ، ناره التي إذا ما تأججت من هولها ما انطفأت : " رغبت في تفاصيل جسدها ، مستصحبا حريق أيامي الماضية ، واهبا بعنفوان طليق لذتي لأولى النساء ، وأكثرهن قدرة على الإشباع ، المعلمة الأولى .." ..
وتتراجع ذاكرة النساء ، فالكسحي يهرب منهن ، من الشيخ الذي استهلك جل فحولته لإطعام نسائه الجوعى ، يهرب إلى مكانه الأول ، فالذاكرة والمكان في شراك عناق أبدي ، ولا يتوق الهرب سوى إلى موطنه الأول ، حداثة عهده ، ذاكرة الذاكرات : " هناك عند المثلث أعود مثلما كنت .. منكفئا على نفسي ، عيناي مغمضتان ، أبعدني بطيئا عن أصوات العربات ، وعن الأبواق الهادرة ، وعن روائح الاحتراق ؛ أغوص بداخلي وأنقب بقلب واجف عن صدى أيام غابت إلى الأبد " ..
وهناك في عراء أمكنة الشمس تتقدس ذاكرة النساء في " مريم العذراء " تستغيث بها الأمان المفقود ، فثمة عيون مأفونة بالشر تكاد تلتهمه بل التهمته : " مريم الرسولة تواجهك باسمة وشحوب الزمن قد اعتلى ثوبها الأحمر المتموج .. تبتسم لها قبل أن تلتقي عيناك بالعيون الشريرة المحدقة بك في ظفر .. الحذاء الضخم يضغط بقوة على صدرك .. العصي المكهربة تتأرجح قرب وجهك " ..
إنه شر وليس شر .. شر الطيبين ، العاجزين ، المنكسرين ، الظمأى ، الجائعين ، معاقي الحرب ، المجذومين .. شر يحبل بالنهار على ضوء الشمس لينسى في الليل عتمته و ثقله بغفلة النوم وغفلة اللذة ما استرقه النهار من براءته ، من حريته ، من مبان شاهقة ما كانت قاماتهم لتطولها ؛ فلفظتهم وألقت بهم في حفر الشماسة والطين وعفن السلسيون ، واستجداء لا ينتهي ، يتوالد بأكثر من طريقة ، بألف وجه ، بألف يد ورجل لكنه لا يموت ، يخنق من حرياته كما الأسد عن عرينه بين جدران موصدة الأبواب ، حبس مؤقت عن وطن لا وطن ، عن وطن خلق لهم وحدهم مذ انتشلتهم أمهاتهم من ظلمة الرحم إلى ظلمة العالم الشرير ، ذاكرة الكسحي وذاكرة الشماسة والمتسولين هي ذاكرة عالم ولد ليكون شريرا ؛ لأنه يبغي أن يحيا كما يحيا كل آدمي على سطح أرض صلبة ، ولكن الفارق هي أن أرضهم مذ الوطأة الأولى هشة ورغم ذلك أقدامهم ما انفكت ملتصقة بها حتى آخر رمق رغم هشاشة الموطن ..
والشر ، الشر كله دائما إذا ما وعد وفى ؛ فالشر لا يخلف مواعيده أبدا ، وآدم كسحي أيقونة عالم شرير وعدنا بعوده ، بعد ذاكرة امرأة ملعونة وأدته مؤقتا ..

* * *
" هل يموت الشر ؟
هل للخير
في زحمة الشر
سمات ومزايا ؟ "

_ عبدالله البردوني _

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· رواية " ذاكرة شريرة " للروائي السوداني منصور الصويم ، الحاصلة على جائزة الطيب صالح للرواية في عام 2005م .

الاثنين، 6 سبتمبر 2010

اكتب حلمك قصة



اكتب حلمك قصة / فاصل السباعي

كنت جالسا في شرفة المقهى المطلة على الشارع ، لمحت بين المارة رجلا نبيل السمت ، خيل إلي أنه من أصحابي القدامى .
فجأة اعترضه أحدهم ، وأخذ يجاذبه الحديث ، ولكن الحديث ، الذي تخللته البسمات ، سرعان ما انقلب إلى تجهم وعبوس أبداهما الآخر ، فأذعن له من خيل إلي أنه صاحبي ، وارتد عن طريقه ، ومضى أمامه ، وذاك في إثره على مبعد خطوة أو خطوتين ..
وما هي إلا لحظة حتى انضم إلى المرفق ثان وثالث ، فتوقف صاحبي ، والتفت إليهم يحاورهم ... فإذا الحوار ينقلب إلى مشادة رأيتها غير متكافئة ..!
دخل في روعي ، وأنا أشهد من شرفة المقهى ، أن بريئا قد وقع في محنة ، فاستثيرت نخوتي على نحو متعاظم ، وزين لي أن أفعل من أجله شيئا ..
نزلت إليهم ..
كان الصاحب القديم قد أسس لهم قياده ، هو ذا يمشي أمامهم طائعا ، وهم يحيطون به ، من وراء ، على شكل " قوس " ..
اقتحمت القوس ، لأهمس في أذن صاحبي : ما بالك ؟
أجابني ، دون أن تختلج في محياه خالجة : يريدون أن يقتادوني إلى السجن ..! فتراجعت نحو ثلاثة : بأي حق تقتادونه إلى السجن ..؟
أهاب بي أحدهم : امض في طريقك ، نحن من رجال الأمن ..!
أجفلت بادئ الأمر ، ولكن حذرا استفاق في صدري ، نبهت الصاحب : يقولون إنهم من رجال الأمن ... هل طالبتهم بأن يطلعوك على بطاقاتهم الرسمية ..؟
قهقه عاليا : وكيف يكونون من رجال الأمن ، وأنا نفسي رجل الأمن ..؟!
وإذ سمع الثلاثة ذلك لاذوا بالفرار ..!
شعرت بنشوة الظفر :
ما دمت رجل أمن ، أيها الصاحب ، فلم لم تصرح لهم بذلك من البداية ؟ وأدركت أنه هو الذي كان ينصب لهم شركا ..
أعلن : ولكني لست من رجال الأمن ..!
وفي غمرة ما اعتراني من ذهول ، ألوى علي يسألني منتهرا : وأنت من تكون يا رجل ..؟
فتبدد ظني بأنه صاحب لي قديم ، واندفعت أقول : أنا ....... رجل أمن ..!
فأمرني متجهم الوجه : أرني بطاقتك الرسمية ..!
ومن عجب أني ما كدت أدخل يدي في جيب سترتي ، حتى رأيته يرتد إلى الوراء ، مطلقا ساقيه للريح ..!
ومضيت ، في مواجهة الشرفة الوسيعة ، أمشي مختالا ..
فجأة اعترضني رجل غريب ، شديد البنية : ما حملك على اعتراضهم ..؟
كان يشاهد ، إذن ، من الشرفة كل شيء ..
استهنت به ، وقد دخل في وهمي أني من رجال الأمن حقا : وما خطبك ، يا هذا ..؟
أسألك : من أنت ..؟
أنا .... رجل أمن ..!
هلا أطلعتني على بطاقتك الرسمية ..؟
أدخلت يدي ، ثابت الجنان ، في جيب سترتي ، وأنا أتوقع من الغريب أن يلوذ بالفرار ..
ولكنه ظل يحدجني بنظرة بددت وهمي العظيم ، ولما لم يكن بد من أن تخرج يدي بيضاء ، فقد أدركت أني وقعت ضحية لنخوتي الفضولية ..
أمرني : هيا سر معي ..
سألته بلهجة بعيدة عن الاستهانة : هل تسمح بأن تطلعني على بطاقتك الرسمية ، أيها السيد ..؟
ولكنه لم يحفل بطلبي ، بل تأبط ساعدي ، وعانق بكفه القاسية كفي ، لاويا معصمي حتى أحسسته يتقصف ، مضى بي ، وقد داخلني شك في أن يكون رجل أمن حقيقيا ، وإلا لم َ لم يبرر لي بطاقته الرسمية ..؟!
وكنت ما أزال أمام المقهى ، رفعت عيني إلى الشرفة ، التي غصت الآن بالرواد ، وهم جميعا يتطلعون إلي ..
أعليت صوتي مناديا : يا أهل النخوة ، خلصوني ..!
فانطلقت من صفوفهم ضحكات عالية ..
إني في محنة .... فخلصوني ..
وتعالت ضحكاتهم الصاخبة ، حتى سدت آذان السماء ، فبدوا لي كأنهم نظارة في شرفة مسرح ، يتابعون ، متلذذين ، آخر مشهد من مسرحية هزلية ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاضل السباعي :

ولد في حلب ، عام 1929م ، درس في كلية الحقوق بجامعة القاهرة ، وعمل محاميا بحلب ومدرسا ، بدأ بنظم الشعر ثم تحول إلى القصة منذ منتصف الخمسينات ، وكتب أيضا المقالة والنقد وقصصا عن اللغة الفرنسية والانجليزية والألمانية والروسية ولغات أخرى .. عضو مؤسس في اتحاد كتاب العرب 1969م ، وأسس دار أشبيليا للنشر والتوزيع ..
له مؤلفات كثيرة منها : أزهر الحزن / الألم على نار هادئة / اعترافات ناس طيبين ..