الاثنين، 28 سبتمبر 2009

الرجل الذي لم يكن يبتسم



الرجل الذي لم يكن يبتسم ..
للكاتب الياباني " ياسوناري كاواباتا " *
ترجمة دانيال صالح


كانت السماء قتمت , بدت كسطح قطعة بورسلين رائعة , من سريري نظرت إلى الخارج متأملا نهر كامو حيث اصطبغت المياه بلون الصباح .منذ أسبوع يجري تصوير الفيلم حتى ما بعد منتصف الليل لأن الممثل الذي يلعب الدور الرئيسي كان عليه أن يظهر على خشبة المسرح بعد عشرة أيام , لم أكن سوى الكاتب , و بالتالي كل ما كان يتوجب علي القيام به حضور التصوير عرضا , غير أن شفتي تشققتا و خارت قواي فلم أعد أقوى على فتح عيني و أنا واقف قرب مصابيح الكربيد البيضاء الملتهبة .كنت في ذلك الصباح عدت إلى غرفتي في الفندق في وقت بدأت فيه النجوم تتوارى .


لكن زرقة السماء أنعشتني , أحسست و كأن حلم يقظة بديعا على وشك أن يتجسد .في بادئ الأمر تبادر إلى ذهني مشهد شارع شيجو , كنت تناولت الغداء في اليوم السابق في مطعم كيكو سوي و هو مطعم على الطراز الغربي قرب أوهاشي , تراءت لي الجبال , كان في وسعي مشاهدة اخضرار أشجار هيغاشياما عبر نافذة الطابق الثالث , كان هذا متوقعا بالنسبة إلي أنا القادم لتوي من طوكيو , فقد بدا الأمر مدهشا بنضارته , تذكرت قناعا شاهدته في واجهة متجر تحف , كان قناعا قديما يبتسم .ها هي .. - وجدت حلم يقظة جميل .همست مبتهجا و أنا أجذب صوبي بعض الأوراق البيضاء و أجمع حلم اليقظة في كلمات , أعدت كتابة المشهد الأخير من سيناريو الفيلم , عندما انتهيت أضفت رسالة إلى المخرج : (( سأجعل المشهد الأخير حلم يقظة , ستظهر أقنعة باسمة عذبة و تعم الشاشة , و بما أنه لا يمكنني حتى التفكير في إظهار بسمة مشعة في ختام هذه القصة السوداوية , في وسعي على الأقل تغليف الواقع في قناع جميل يبتسم )) .


أخذت المخطوط إلى الأستديو , لم يكن في المكتب سوى صحيفة الصباح , كانت عاملة الكافيتيريا تنظف النشارة أمام مستودع الديكورات و الملابس .(( هلا وضعت هذا قرب سرير المخرج إذا سمحت ؟ )) .يجري الفيلم في مصح عقلي , كان يؤلمني أن أشاهد حيوات المجانين البائسة الذين كنا نصورهم كل يوم .كنت قد بدأت أفكر في أنني أشعر بالتعاسة إن لم أضف بطريقة ما نهاية سعيدة لشخصيتي الكئيبة جدا .إذاً كنت مغتبطا لإيجادي فكرة الأقنعة , انتابني شعور سار عندما تصورت جميع المرضى في المصح العقلي يضعون أقنعة ضاحكة .


شع السطح الزجاجي للأستديو بنور أخضر , كان لون السماء أشرق مع طلوع النهار , عدت مرتاحا إلى مسكني و نمت نوما عميقا .الرجل الذي ذهب لشراء الأقنعة عاد إلى الأستديو حوالي الحادية عشرة تلك الليلة .(( منذ الصباح و أنا أهرع إلى جميع متاجر الألعاب في كيوتو , لكنني لم أجد أقنعة جيدة في أي مكان . ))(( دعني أرى ما لديك )) خاب ظني عندما فتحت الرزمة .... (( هذا ؟ ... حسنا )) (( أعرف , ليست مناسبة , ظننت أنني سأجد أقنعة أينما كان , أنا واثق من أنني شاهدتها في كل أنواع المتاجر , لكن هذا ما تمكنت من جمعه طوال النهار )).

(( ما تصورته أشبه بقناع نو , إن لم يكن القناع بجد عملا فنيا فسوف يبدو بكل بساطة مثيرا للسخرية على الشاشة )) .شعرت أنني سأبكي عندما أمسكت في يدي قناع المهرج الورقي المعد للأولاد .(( أولا سوف يبدو اللون و كأنه أسود باهت عند التصوير , ثم إن لم تكن الأقتعة تبتسم ابتسامة أعذب و تشع برونق مائل إلى البياض ف...... ))خرج اللسان الأحمر من الوجه الأسمر .

(( إنهم يحاولون الآن صبغه بالأبيض في المكتب )) .كان التصوير توقف بصورة مؤقتة , فخرج المخرج بدوره من ديكور المصح العقلي , حدق في الجميع و أخذ يضحك , لم يكن من سبيل لجمع كمية كافية من الأقنعة , كان عليهم أن يصوروا المشهد الأخير في اليوم التالي , و إن لم يكن من الممكن إيجاد أقنعة قديمة فعلى الأقل إيجاد أقنعة من السيلوليد .(( إن لم تكن هناك أقنعة فنية , فيجدر بنا الاستسلام )) قال الرجل من فريق السيناريو , ربما تعاطفا مع خيبتي (( هل نخرج لإلقاء نظرة أخيرة ؟ لم تتجاوز الساعة الحادية عشرة , و سوف يكون الجميع مستيقظا على الأرجح في كيغوكو )).

(( هلا فعلتم ))أسرعنا إلى السيارة بمحاذاة ضفة نهر كامو , ترقرقت على سطح الماء الأضواء المتلألئة على شبابيك المستشفى الجامعي على الضفة المقابلة , لم يكن في وسعي تصور كل المرضى الذين يعانون في مستشفى , وهذه النوافذ تلتمع بديعة , تساءلت عما إذا كان في وسعنا بالأحرى تصوير الأضواء عند نوافذ المستشفى , إن تعذر إيجاد أقنعة مناسبة .جلنا على متاجر الألعاب في شينكيوغوغكو الآخذة بالإقفال , علمنا أن الأمر بدون أمل , اشترينا عشرين قناعا ورقيا على شكل سلحفاة , كانت ظريفة , لكن كان يصعب وصفها بأنها فنية , شارع شيجو كان استسلم للنوم .(( انتظروا لحظة )) انعطف مراقب السيناريو في ممر .

(( ثمة متاجر عدة هنا تبيع تجهيزات مذابح بوذية قديمة , أظن أن لديها كذلك تجهيزات خاصة بمسرح النو )).لكن أحدا لم يكن مستيقظا في الشارع , اختلست النظر من الباب إلى داخل المتاجر .(( سأعود غدا صباحا حوالي السابعة , في كل الأحوال سأظل مستيقظا طوال الليل )) (( سآتي أيضا أرجوك أن توقظني )) قلت , لكنه في اليوم التالي ذهب وحده , عندما استيقظت كانوا قد باشروا تصوير الأقنعة , عثروا على خمسة أقنعة استخدمت في عروض موسيقية قديمة , كانت فكرتي تقضي باستخدام عشرين أو ثلاثين قناعا من الطراز ذاته , لكن الاحساس الذي يمكن أن يجتاحنا و نحن نطفو في عذوبة ابتسامات تلك الأقنعة الخمسة أثر في و شعرت بالارتياح , و شعرت بأنني أديت واجبي تجاه المجانين .

(( استأجرتها لأن ثمن شرائها باهظ جدا , و إن اتسخت فلن يكون من الممكن ردها , لذا انتبهوا ))بعد أن تكلم ملاحظ السيناريو , هم جميع الممثلين بغسل أيديهم و تناولوا الأقنعة برؤوس أصابعهم محدقين فيها كأنهم يتأملون كنزا .(( إن غسلت , يتقشر الطلاء , أليس كذلك ؟ ))(( حسنا إذاً سأشتريها )) الواقع أنني رغبت فيها , راودني حلم يقظة و كأنني أترقب المستقبل عندما يعم الانسجام العالم و يرتدي جميع الناس الوجه الرقيق ذاته كتلك الأقنعة .ما أن عدت إلى منزلي في طوكيو حتى توجهت مباشرة إلى غرفة زوجتي في المستشفى .أخذ الأولاد يضحكون فرحين و هم يضعون الأقنعة الواحد تلو الآخر , انتابني شعور غامض بالارتياح .

(( أبي ضع أنت واحدا ))(( لا ))(( أرجوك ضع أنت واحدا )) (( لا ))(( ضع واحدا ))نهض ابني الثاني و حاول أن يدفع القناع إلى وجهي .(( كفى )) صرخت .أنقذتني زوجتي في تلك اللحظة المربكة (( أعطني سأضع أنا واحدا )) .شحب وجهي وسط ضحك الأطفال . (( ماذا تفعلين ؟ إنك مريضة )) .كان أمرا فظيعا مشاهدة ذلك القناع في سرير مرضها , عندما انتزعت زوجتي القناع أخذت تتنفس بصعوبة , لكن ليس هذا ما روعني , فلحظة أزاحت زوجتي القناع , بدا وجهها بطريقة ما بشعاً , تصبب جلدي بالعرق و أنا أحدق في وجهها المتعب , صعقني اكتشاف وجه زوجتي للمرة الأولى , كانت لثلاث دقائق أسيرة القناع البديع الرقيق الباسم , و صار في وسعي الآن إدراك بشاعة ملامحها هي , بالأحرى لا , لم تكن هذه بشاعة , بل سيماء الأسى لشخص حطمته البلية , بعد أن اختبأ خلف القناع الفاتن , كشف وجهها ظل الحياة البائسة هذا .

(( أبي ضعه أنت )) (( إنه الآن دور أبي )) ألح علي الأولاد من جديد .(( لا )) قاومتهم , إن وضعت القناع ثم انتزعته من جديد , فسوف أبدو كشيطان بشع في نظر زوجتي , كنت أخشى جمال القناع , و ذلك الخوف أثار في شكوكا بأن وجه زوجتي الرقيق الدائم الابتسامة قد يكون بدوره قناعا , أو بأن ابتسامة زوجتي قد تكون خدعة , تماما كالقناع .القناع غير مجد , الفن غير مجد .كتبت برقية لإرسالها إلى الأستديو في كيوتو .(( احذفوا مشهد القناع )) .

ثم مزقت البرقية إلى قطع صغيرة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* " ياسوناري كواباتا " ( 14 يونيو 1899 / 16 ابريل 1972 ) :

روائي ياباني أهله إبداعه النثري المكتوب بلغة شعرية راقية وغامضة للحصول على جائزة نوبل للآداب 1968 م ؛ ليصبح بذلك أول أديب ياباني يحصل على الجائزة العالمية. ولا تزال أعماله مقروءة إلى اليوم.
وُلد كواباتا في أوساكا ، فقد والديه عندما كان في الثانية من عمره ليقوم جداه بتربيته بعد ذلك ، ماتت جدته وعهد الجد بتربيته حتى توفي بينما كواباتا في الخامسة عشرة من عمره فانتقل بعدها للعيش مع آل كورودا ..
مارس الكتابة الأدبية وعمل مراسلا صحفيا لصحيفة ماينيتشي شيمبون من أوساكا وطوكيو ، ولم يشارك في التبعية الحربية في الحرب العالمية الثانية مع ذلك فإنه يتأثر بشيء بالإصلاحات السياسية اللاحقة ومع موت أفراد أسرته في سن مبكرة أثرت فيه الحرب بشكل كبير وبعد انتهاء الحرب فإنه لم يستطع أن يكتب إلا مرائي ..

انتحر كواباتا في عام 1972م بخنق نفسه بالغاز ، وقد قيل عن سبب انتحاره قصة حب رفضها المجتمع ، بينما آخرون نزجوا السبب إلى انتحار تلميذه وصديقه " يوكيو ميشيما " والذي انتحر على طريقة الساموراي ..
من أبرز مؤلفاته : راقصة إيزو ، بلد الثلج ، منزل الجميلات النائمات ، قصص بحجم كف اليد ، سيد الغو وغيرها ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق